لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

قوله جل ذكره : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)

تعظيم الحرمات (١) بتعظيم أمره ؛ وتعظيم أمره بترك مخالفته.

ويقال من طلب الرضا بغير رضى الله لم يبارك له فيما آثره من هواه على رضى مولاه ، ولا محالة سيلقى سربعا غبّه (٢).

ويقال تعظيم حرماته بالغيرة على إيمانه (وما فجر صاحب حرمة قط (٣)).

ويقال ترك الخدمة يوجب العقوبة ، وترك الحرمة يوجب الفرقة.

ويقال كلّ شىء من المخالفات فللعفو فيه مساغ وللأمل إليه طريق ، وترك الحرمة على خطر ألا يغفر .. وذلك بأن يؤدى ثبوته بصاحبه إلى أن يختلّ دينه وتوحيده.

قوله جل ذكره : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ).

فالخنزير من جملة المحرمات ، وكذلك النطيحة والموقوذة ، وما يجىء تفصيله فى نصّ الشرع.

قوله جل ذكره : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).

(مَنْ) هاهنا للجنس لا للتبعيض ، وهوى كلّ من اتبعه معبوده ، وصنم كلّ أحد نفسه.

(وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) : ومن جملة ذلك قول اللسان بما لا يساعده قول القلب ونطقه ، ومن عاهد الله بقلبه ثم لا يفى بذلك فهو من جملة قول الزور.

قوله جل ذكره : (حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ

__________________

(١) هكذا في م وفى ص (الجهات) ونرجح الأول حيث وردت فى الآية.

(٢) هكذا في م وفى ص (نحبه) ونرجح (غبه) بمعنى عاقبته.

(٣) هكذا فى م وفى ص (وما فجر صاحب ظلمة فظ) والعبارة الأولى أقرب إلى المعنى.

٥٤١

يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١))

الحنيف المائل إلى الحق عن الباطل فى القلب والنّفس ، فى الجهر وفى السّرّ ، فى الأفعال وفى الأحوال وفى الأقوال

(غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) : الشّرك جلىّ وخفىّ (١).

قوله (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما ...) كيف لا .. وهو يهوى فى جهنم وتتجاذبه ملائكة العذاب؟ أو تهوى به الريح من مكان سحيق .. وكذلك غدا فى صفة قوم يقول الله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (٢).

قوله جل ذكره : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢))

يقف المؤمن على تعيين شعائر الله وتفصيلها بشهادة العلم جهرا ، وبخواطر الإلهام سرّا. وكما لا تجوز مخالفة شهادة الشرع لا تجوز مخالفة شهادة خواطر الحق فإنّ خاطر الحقّ لا يكذب ، وعزيز من له عليه وقوف. وكما أنّ النّفس لا تصدق فالقلب لا يكذب ، وإذا خولف القلب عمى فى المستقبل ، وانقطعت عنه تعريفات الحقيقة ، والعبارة (٣) والشرح يتقاصران عن ذكر هذا على التعيين والتفسير. ويقوى القلب بتحقيق المنازلة ؛ فإذا خرست النفوس ، وزالت هواجسها ، فالقلوب تنطق بما تكاشف به من الأمور.

ومن الفرق بين ما يكون طريقه العلم وما طريقه من الحق أن الذي طريقه العلم يعلم صاحبه أولا ثم يعمل مختارا ، وما كان من الحق يجرى ويحصل ثم بعده يعلم من جرى عليه

__________________

(١) الشرك الجلى معروف أما الشرك الخفي فهو أن ينازعه منازع فى قلبك من هوى أو حظ أو علاقة تنأى بك عنه.

(٢) آية ٦٧ سورة التوبة.

(٣) فى م وص (والعبادة) وقد رأينا أن تكون (العبارة) بالراء أي أن التعبير عن ذلك بالكلام والشرح قاصر

٥٤٢

ذلك معناه ، ولا يكون الذي يجرّى عليه ما يجرى مضطرا إلى ما يجرى. وليس يمكن أن يقال إنه ليس له اختيار (١) ، بل يكون مختارا ولكنّ سببه عليه مشكل ، والعجب من هذا أن العبارة عنه كالبعيد.

قوله جل ذكره : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣))

لكلّ من تلك الجملة منفعة بقدره وحدّه (٢) ؛ فلأقوام بركات فى دفع البلايا عن نفوسهم وعن أموالهم ، ولآخرين فى لذاذات بسطهم ، ولآخرين فى حلاوة طاعاتهم ، ولآخرين فى أنس أنفاسهم.

قوله جل ذكره : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ)

الشرائع مختلفة فيما كان من المعاملات ، متفقة فيما كان من جملة المعارف ، ثم هم فيها مختلفون : فقوم هم أصحاب التضعيف (٣) فيما أوجب عليهم وجعل لهم ، وقوم هم أصحاب التخفيف فيما ألزموا وفيما وعد لهم. قوله (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ..) وذكر اسم الله على ما رزقهم على أقسام : منها معرفتهم إنعام الله بذلك عليهم .. وذلك من حيث الشكر ، ثم يذكرون اسمه على ما رفقهم لمعرفته بأنه هو الذي يتقبل منهم وهو الذي يثيبهم.

قوله جل ذكره : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ).

أي استسلموا لحكمه بلا تعبيس ولا استكراه من داخل القلب.

__________________

(١) هذه وجهة نظر باحث صوفى فيما يشغل المتكلمين عن الجبر والاختيار.

(٢) أي بحسب ماله من قدر وهمة ، وما هو واقف عنده من حد ورتبة.

(٣) أصحاب التضعيف أي أصحاب التشدد الذين يأبون اتباع الرخص ، لأن الرخص لا تكون إلا لأرباب الحوائج والأشغال وهؤلاء لا حاجة ولا شغل لهم إلا بالحق.

٥٤٣

والإسلام (١) يكون بمعنى الإخلاص ، والإخلاص تصفية الأعمال من الآفات ، ثم تصفية الأخلاق من الكدورات ، ثم تصفية الأحوال ، ثم تصفية الأنفاس. (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) : الإخبات استدامة الطاعة بشرط الاستقامة بقدر الاستطاعة. ومن أمارات الإخبات كمال الخضوع بشرط دوام الخشوع ، وذلك بإطراق السريرة.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)

الوجل الخوف من المخافة ، والوجل عند الذكر على أقسام : إما لخوف عقوبة ستحصل أو لمخافة عاقبة بالسوء تختم ، أو لخروج من الدنيا على غفلة من غير استعداد للموت ، أو إصلاح أهبة ، أو حياء من الله سبحانه فى أمور إذا ذكر اطلاعه ـ سبحانه ـ عليها لما بدرت منه تلك الأمور التي هى غير محبوبة.

ويقال الوجل على حسب تجلى الحق للقلب ؛ فإن القلوب فى حال المطالعة والتجلي تكون بوصف الوجل والهيبة.

ويقال وجل له سبب ووجل بلا سبب ؛ فالأول مخافة من تقصير ، والثاني معدود فى جملة الهيبة (٢).

ويقال الوجل خوف المكر والاستدراج ، وأقربهم من الله قلبا أكثرهم من الله ـ على هذا الوجه ـ خوفا.

قوله جل ذكره : (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ).

أي خامدين تحت جريان الحكم من غير استكراه ولا تمنى خرجة ، ولا روم فرجة بل يستسلم طوعا :

__________________

(١) هكذا فى م ولكنها فى ص (السلام) والصواب الأولى ففى الآية (أسلموا).

(٢) فالخوف إذن أدنى منزلة من الهيبة ، والترتيب هكذا : الخوف والرجاء ثم القبض والبسط ثم الهيبة والأنس (الرسالة ص ٣٥ وص ٣٦).

٥٤٤

ويقال الصابرين على ما أصابهم. أي الحافظين معه أسرارهم ، لا يطلبون السلوة باطلاع الخلق (١) على أحوالهم.

قوله جل ذكره : (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ).

أي إذا اشتدت بهم البلوى فزعوا إلى الوقوف فى محلّ النجوى :

إذا ما تمنّي الناس روحا وراحة

تمنّيت أن أشكو إليك فتسمعا

قوله جل ذكره : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)

عند المعاملة من أموالهم ، وفى قضايا المنازلة بالاستسلام ، وتسليم النفس وكل ما منك وبك لطوارق التقدير ؛ فينفقون أبدانهم على تحمل مطالبات الشريعة ، وينفقون قلوبهم على التسليم والخمود تحت جريان الاحكام بمطالبات الحقيقة.

قوله جل ذكره : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦))

أقسام الخير فيها كثيرة بالركوب والحمل عليها (وشرب ألبانها وأكل لحومها والانتفاع بوبرها ثم الاعتبار بخلقتها كيف سخّرت للناس على قوتها وصورتها ، ثم كيف تنقاد للصبيان فى البروك عند الحمل عليها وركوبها والنزول منها ووضع الحمل عنها) (٢) وصبرها على العطش فى الأسفار ، وعلى قليل العلف ، ثم ما فى طبعها من لطف الطبع ، وحيث تستريح بالحداء مع كثافة صورتها إلى غير ذلك.

__________________

(١) هكذا فى ص ولكنها فى م (بإطلاق الحق) والصواب الأول لأنهم لا يفزعون للخلق طلبا للسلوة فيما يصيبهم من الحق وفى هذا حفظ لأسرارهم.

(٢) ما بين القوسين موجود فى م وساقط من ص.

٥٤٥

(فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) : أي سقطت على وجه الأرض فى حال النّحر فأطعموا القانع الذي ألقى جلباب الحياء وأظهر فقره للناس ، والمعترّ الذي هو فى تحمّله متحمّل ، ولمواضع فاقته كاتم.

قوله جل ذكره : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧))

لا عبرة بأعيان الأفعال سواء كانت بدنية محضة ، أو مالية صرفة ، أو بما له تعلّق بالوجهين ، ولكن العبرة باقترانها بالإخلاص (١) ، فإذا انضاف إلى أكساب الجوارح إخلاص القصود ، وتجرّدت عن ملاحظة أصحابها للأغيار صلحت للقبول (٢).

ويقال التقوى شهود الحقّ بنعت التفرّد ؛ فلا يشاب تقرّبك بملاحظة أحد ، ولا تأخذ عوضا على عمل من بشر.

(لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) : أي هداكم وأرشدكم إلى القيام بحقّ العبودية على قضية الشرع.

(وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) : والإحسان كما فى الخبر : «أن تعبد الله كأنك تراه ..».

وأمارة صحته سقوط التعب بالقلب عن صاحبه ، فلا يستثقل شيئا ، ولا يتبرم بشىء.

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨))

__________________

(١) يقال إن سبب نزول هذه الآية أن أهل الجاهلية كانوا إذا تحروا الإبل نضحوا الدماء ـ حبل البيت ولطخوه بالدم ، فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت الآية.

(٢) يرى القشيري ان هذا جوهر العبادات جميعا ، أن تكون خالصة لله ، وقد فصلنا ذلك عند بحثنا عن القشيري المفسر.

انظر كتابنا (الإمام القشيري ومذهبه فى التصوف) ط مؤسسة الحلبي.

٥٤٦

يدفع عن صدورهم نزغات الشيطان ، وعن قلوبهم خطرات العصيان ، وعن أرواحهم طوارق النسيتان.

والخيانة على أقسام : خيانة فى الأموال تفصيلها فى المسائل الشرعية ، وخيانة فى الأعمال ، وخيانة فى الأحوال ؛ فخيانة الأعمال بالرياء والتصنع ، وخيانة الأحوال بالملاحظة والإعجاب والمساكنة ، وشرّها الإعجاب ، ثم المساكنة وأخفاها الملاحظة (١).

ويقال خيانة الزاهدين عزوفهم عن الدنيا (على) (٢) طلب الأعواض ليجدوا فى الآخرة حسن المآل .. وهذا إخلاص الصالحين. ولكنه عند خواص الزهاد خيانة ؛ لأنهم تركوا دنياهم لا لله ولكن لوجود العوض على تركهم ذلك من قبل الله.

وخيانة العابدين أن يدعوا شهواتهم ثم يرجعون إلى الرّخص ، فلو صدقوا فى مرماهم لما انحطّوا إلى الرخص بعد ترقيهم عنها.

وخيانة العارفين جنوحهم إلى وجود مقام ، وتطلعهم لمنال منزلة وإكرام من الحق ونوع تقريب.

وخيانة المحبين روم فرحة (٣) مما يمسهم من برحاء المواجيد ، وابتغاء خرجة مما يشتدّ عليهم (٤) من استيلاء صدّ ، أو غلبات شوق ، أو تمادى أيام هجر.

وخيانة أرباب التوحيد أن يتحرك لهم للاختيار عرق ، ورجوعهم ـ بعد امتحائهم عنهم ـ إلى شظية من أحكام الفرق ، اللهم إلا أن يكون ذلك منهم موجودا ، وهم عنه مفقودون (٥).

__________________

(١) نلفت النظر إلى أهمية ذلك عند دراسة المصطلح الصوفي ، خاصة وأن القشيري لم يتكلم عن ذلك فى رسالته.

(٢) (على) طلب الأعواض معناها لأجل طلب الأعواض.

(٣) (روم) فى ص و (روح) فى م ، ونظن أنها (فرجة) بالجيم كما سبق منذ قليل حين استعمل القشيري (فرجة ، وخرجة) فى سياق مماثل.

(٤) هكذا فى م وهى فى ص مما (يشق عليهم) وكلاهما مقبول فى السياق.

(٥) معنى هذا أن القشيري يسلم بأنه قد يحدث من العبد الواله ما ينبغى أن يعذر فيه ، إن صحّ صدقه فى التوجه ، واشتد وقع المحو عليه.

٥٤٧

قوله جل ذكره : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩))

إذا أصابهم ضرّ أو مسّهم ـ ما هو فى الظاهر ـ ذلّ من الأعادى يجرى عليهم ضيم ، أو يلحقهم من الأجانب استيلاء وظلم .. فالحقّ ـ سبحانه ـ ينتقم من أعدائهم لأجلهم ، فهم بنعت التسليم والسكون فى أغلب الأحوال ، وتفاصيل الأقدار جارية باستئصال من يناويهم ، وبإحالة الدائرة على أعاديهم. وفى بعض الأحايين ينصبهم الحقّ سبحانه بنعت الغلبة والتمكين من نزولهم بساحات من يناوئهم بحسن الظّفر ، وتمام حصول الدائرة على من ناصبهم ، وأخزاهم بأيديهم ، وكلّ ذلك يتفق ، وأنواع النصرة من الله ـ سبحانه ـ حاصلة ، والله ـ فى الجملة ـ غالب على أمره.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ)

المظلوم منصور ولو بعد حين ، ودولة الحق تغلب دولة الباطل ، والمظلوم حميد العقبى ، والظالم وشيك الانتقام منه بشديد البلوى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) (١). وقد يجرى من النّفس وهواجسها على القلوب لبعض الأولياء وأهل القصة ـ ظلم ، ويحصل لسكّان القلوب من الأحوال الصافية عنها جلاء ، وتستولى غاغة النّفس ، فتعمل فى القلوب بالفساد بسبب استيطان الغفلة حتى تنداعى القلوب للخراب من (٢) طوارق الحقائق وشوارق الأحوال ، كما قال قائلهم :

أنى إليك قلوبا طالما هطلت

سحائب الجود فيها أبحر الحكم

فيهزم الحقّ ـ سبحانه ـ بجنود الإقبال أراذل الهواجس ، وينصر عسكر التحقيق بأمداد الكشوفات. ويتجدّد دارس العهد ، وتطلع شموس السّعد فى ليالى الستر ، وتكنس القلوب وتتطهر من آثار ظلمة النّفس ، كما قيل :

__________________

(١) آية ٥٢ سورة النمل.

(٢) (للخراب من طوارق الحقائق) أي بسبب خلوها من طوارق الحقائق

٥٤٨

أطلال سعدى باللّوى تتجدّد

فإذا هبّت على تلك القلوب رياح العناية ، وزال عنها وهج النسيان سقاها الله صوب (١) التجلّى ، وأنبت فيها أزهار البسط فيتضح فيها نهار الوصل ، ثم يوجد فيها نسيم القرب إلى أن تطلع شموس التوحيد.

قوله جل ذكره : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

يتجاوز عن الأصاغر لقدر الأكابر ، ويعفو عن العوام لاحترام الكرام .. وتلك سنّة أجراها الله لاستنقاء (٢) منازل العبادة ، واستصفاء من اهل العرفان. ولا تحويل لسنّته ، ولا تبديل لكريم عادته.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١))

إذا طالت بهم المدة ، وساعدهم العمر لم يستفرغوا أعمالهم فى استجلاب حظوظهم ، ولا فى اقتناء محبوبهم من الدنيا أو مطلوبهم ، ولكن قاموا بأداء حقوقنا.

وقوله : (أَقامُوا الصَّلاةَ) : فى الظاهر ، واستداموا المواصلات فى الباطن.

__________________

(١) الصوب ـ المطر بقدر ما ينفع ولا يؤذى (الوسيط).

(٢) هكذا فى م ولكنها فى س (لاستيفاء). وقد آثرنا (استنقاء) لملاء منها (لاستصفاء) التي بعدها ولا نستبعد أنها قد تكون (لاستبقاء) فى الأصل على معنى : ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لما بقيت منازل العبادة ؛ لأن الكافرين إذا انتصروا لم يتركوا معابد.

٥٤٩

ويقال إقامة الصلاة الوفاء بأدائها ؛ فتعلم ـ بين يدى الله ـ من أنت ، ومن تناجى ، ومن الرقيب عليك ، ومن القريب منك.

وقوله : (وَآتَوُا الزَّكاةَ) : الأغنياء منهم يوفون بزكاة أموالهم ، وفقراؤهم يؤتون زكاة أحوالهم ؛ فزكاة الأموال عن كل مائتين خمسة للفقراء والباقي لهم ، وزكاة الأحوال أن يكون من مائتى نفس تسعة وتسعون ونصف جزء ومائة لله ، ونصف جزء من نفس ـ من المائتين ـ لك .. وذلك أيضا علّة (١)

قوله (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) : يبتدئون فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بأنفسهم ثم بأغيارهم ، فإذا أخذوا فى ذلك لم يتفرغوا من أنفسهم إلى غيرهم.

ويقال «الأمر بالمعروف» حفظ الحواس عن مخالفة أمره ، ومراعاة الأنفاس معه إجلالا لقدره.

ويقال الأمر بالمعروف على نفسك ، ثم إذا فرغت من ذلك تأخذ فى نهيها عن المنكر ومن وجوه المنكر الرياء والإعجاب والمساكنة والملاحظة.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤))

فى الآيات تسلية للنبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمر حتم عليه بالصبر على مقاساة ما كان يلقاه من قومه من فنون البلاء وصنوف الأسواء (٢).

__________________

(١) لأنه ينبغى الا تكون لك فى نفسك بقية على الإطلاق ، ويجب أن تكون بكليتك للحق.

(٢) أسواء ـ جمع سوء.

٥٥٠

قوله جل ذكره : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها)

الظلم يوجب خراب أوطان الظالم ، فتخرب أولا أوطان راحة الظالم وهو قلبه ، فالوحشة التي هى غالبة على الظّلمة من ضيق صدورهم ، وسوء أخلاقهم ، وفرط غيظ من يظلمون عليهم .. كل ذلك من خراب أوطان راحاتهم ، وهو فى الحقيقة من جملة العقوبات التي تلحقهم على ظلمهم.

ويقال خراب منازل الظّلمة ربما يتأخر وربما يتعجل. وخراب نفوسهم فى تعطلها عن العبادات لشؤم ظلمهم ، وخراب قلوبهم باستيلاء الغفلة عليهم خصوصا فى أوقات صلواتهم وأوان خلواتهم .. نقد (١) غير مستأخر.

قوله جل ذكره : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ).

الإشارة فى (بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) : إلى العيون المتفجرة التي كانت فى بواطنهم ، وكانوا يستقون منها ، وفى ذلك الاستقاء حياة أوقاتهم من غلبات الإرادة وقوة المواجيد ، فإذا اتصفوا بظلمهم غلب غشاؤها (٢) وانقطع ماؤها بانسداد عيونها.

والإشارة فى (قَصْرٍ مَشِيدٍ) إلى تعطيل أسرارهم عن ساكنيها من الهيبة والأنس ، وخلوّ أرواحهم من أنوار المحابّ ، وسلطان الاشتياق ، وصنوف المواجيد.

قوله جل ذكره : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦))

__________________

(١) (نقد) هنا معناها معجّل ، تقابل (وعد) فى المؤجّل.

(٢) الغثاء ـ الفاسد من الماء ، الممتلئ ببقايا الأشياء من وجه الأرض والرغوة القدرة.

٥٥١

كانت لهم قلوب من حيث الخلقة ، فلمّا زايلتها صفاتها المحمودة صارت كأنها لم تكن فى الحقيقة. ثم إنه أخير أن العمى عمى القلب وكذلك الصمم ، وإذا صحّ وصف القلب بالسمع والبصر صحّ وصفه بسائر صفات الحىّ من وجوه الإدراكات ؛ فكما تبصر القلوب بنور اليقين يدرك نسيم الإقبال بمشامّ السّرّ ، وفى الخبر :

«إنى لأجد نفس ربكم من قبل اليمن» وقال تعالى مخبرا عن يعقوب عليه‌السلام : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) (١) وما كان ذلك إلا بإدراك السرائر دون اشتمام ريح فى الظاهر.

قوله جل ذكره : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧))

عدم تصديقهم حملهم على استعمال ما توعدهم به ، قال تعالى : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) (٢) ولو آمنوا لصدّقوا ، ولو صدّقوا لسكنوا. (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ) : أي إنّ الأيام عنده تتساوى ، إذ لا استعجال له فى الأمور ؛ فسواء عنده يوم واحد وألف سنة ؛ إذ من لا يجرى عليه الزمان وهو يجرى الزمان فسواء عليه وجود الزمان ، وعدم الزمان وقلة الزمان وكثرة الزمان.

قوله جل ذكره : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨))

الإمهال يكون من الله ـ سبحانه وتعالى ، والإمهال يكون بأن يدع الظالم فى ظلمه حينا ، ويوسّع له الحبل (٣) ، ويطيل به المهل ، فيتوهم أنه انفلت من قبضة التقدير ، وذلك ظنه الذي

__________________

(١) آية ٩٤ سورة يوسف.

(٢) آية ١٨ سورة الشورى.

(٣) هكذا فى م ولكنها فى ص (الحيل) بالياء جمع حيلة ، وربما تتأيد هذه بقوله فيما بعد (وكيف يستبقى بالحيلة ما حق فى لتقدير عدمه).

٥٥٢

أراده ، ثم يأخذه من حيث لا يرتقب ، فيعلوه ندم ، ولات حينه ، وكيف يستبقى بالحيلة ما حق فى التقدير عدمه؟

قوله جل ذكره : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩))

أشابهكم فى الصورة ولكنى أباينكم من حيث السريرة ، وأنا لمحسنكم بشير ، ولمسيئكم نذير ، وقد أيّدت بإقامة البراهين ما جئتكم به من وجوه الأمر بالطاعة والإحسان.

قوله جل ذكره : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠))

الناس ـ فى المغفرة ـ على أقسام : فمنهم من يستر (١) عليه زلّته ، ومنهم من يستر عليه أعماله الصالحة صيانة له عن الملاحظة ، ومنهم من يستر حاله لئلا تصيبه من الشهرة فتنة (٢) ، وفى معناه قالوا :

لا تنكرن جحدى هواك فإنما

ذاك الجحود عليك ستر مسبل

ومنهم من يستره بين أوليائه ، لذلك ورد فى الكتب : «أوليائى فى قبائى ، لا يشهد أوليائى غيرى».

«والرزق الكريم» ما يكون من وجه الحلال. ويقال ما يكون من حيث لا يحتسب العبد.

ويقال هو الذي يبدو ـ من غير ارتقاب ـ على رفق فى وقت الحاجة إليه.

ويقال هو ما يحمل المرزوق على صرفه فى وجه القربة. ويقال ما فيه البركة.

ويقال الرزق الكريم الذي ينال من غير تعب (٣) ، ولا يتقلد منّه مخلوق.

__________________

(١) لأن غفر معناها فى اللغة ستر.

(٢) وهذه إحدى الأفكار التي نشط أصحاب الملامة فى العمل بها ، وحثّ أتباعهم عليها.

(٣) (الذي ينال من غير تعب) هنا معناها من غير استعجال ، ومن غير بعد عن التفويض والتوكل ، ومن غير اعتماد على مخلوق. ونحو ذلك مما قد يهدم صرح الاستسلام الكامل للرازق الوهاب سبحانه.

٥٥٣

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١))

فى الحال فى معجّله الوحشة وانسداد أبواب الرشد ، وتغص العيش ، والابتلاء بمن لا يعطف عليه ممن لا يخافون الله.

وفى الآخرة ما سيلقون من أليم العقوبة على حسب الاجرام.

قوله جل ذكره : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢))

الشياطين يتعرّضون للأنبياء عليهم‌السلام ولكن لا سلطان ولا تأثير فى أحوالهم منهم ، ونبيّنا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أفضل الجماعة.

وإنما من الشيطان تخييل وتسويل (من التضليل) (١). وكان لنبيّنا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سكتات فى خلال قراءة القرآن عند انقضاء الآيات ، فيتلفّظ الشيطان ببعض الألفاظ (٢) ، فمن لم يكن له تحصيل توهّم أنه كان من ألفاظ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام وصار فتنة لقوم.

__________________

(١) هكذا فى ص ولكن فى م وردت هكذا (وليس به شىء من التضليل) ونحسب ان هذا أكثر ملازمة للسياق حسبما يتضح من الهامش التالي.

(٢) قيل كان الرسول صلوات الله عليه وسلامه يقرأ بين قومه سورة النجم حتى إذا وصل إلى (ومناة الثالثة الأخرى) جرى على لسانه. تلك الفرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى» فنبهه جبريل لما لم يفطن له ، وحيث إن النبي معصوم من إجراء الشيطان عليه ، ومعصوم من الغفلة ، ولأنه لا يعقل أن يجرى على لسانه مدح للأصنام ـ فقد جاء لتحطيمها ـ فيرى بعض المفسرين انّ الشيطان تكلم بهذه الكلمات ـ وقد وقع ذلك يوم بدر ويوم أحد ـ وتداخلت الكلمات فى قراءة النبي (ص) أثناء سكتة من سكتاته ـ كما نبّه القشيري.

٥٥٤

أما ـ الذين أيدهم بقوة العصمة ، وأدركتهم العناية فقد استبصروا ولم يضرهم (١) ذلك.

قوله جل ذكره : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤))

إذا أراد الله بعبده خيرا أمدّه بنور التحقيق ، وأيّده بحسن العصمة ، فيميز بحسن البصيرة بين الحق والباطل ؛ فلا يظلّه غمام الرّيب ، وينجلى عنه غطاء الغفلة ، فلا تأثير لضباب الغداة فى شعاع الشمس عند متوع النهار ، وهذا معنى قوله :

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ).

قوله جل ذكره : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦))

لم يتخصص ملكه ـ سبحانه ـ بيوم ، ولم تتحدد له وقتية أمر ، ولا لجلاله قدر (٢) ، ولكنّ الدعاوى فى ذلك اليوم تنقطع ، والظنون ترتفع ، والتجويزات تتلاشى (٣) ؛ فللمؤمنين وأهل الوفاق نعم ، وللكفار وأصحاب الشقاق نقم.

__________________

(١) ضبطناها هكذا ولا بأس ـ من حيث المعنى ـ أن تضبط (ولم يضرهم ذلك) فما حدث من الفتنة لم يلحق بهم ضيرا ولا ضررا ؛ فقد أدركتهم العناية.

(٢) أي أنه يجل عن التحدد بزمان وقدر فهو المطلق الذي لا يتناهى.

(٣) الدعاوى والظنون والتجويزات هى تهم النفس والعقل.

٥٥٥

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨))

هؤلاء لهم عذاب مهين ، وهؤلاء لهم فضل مبين.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا ...) : للقلوب حلاوة العرفان ، وللأرواح حلّة المحاب ، وللأسرار دوام الشهود.

قوله جل ذكره : (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩))

إدخالا فوق ما يتمنّونه ، وإبقاء على الوصف الذي يهدونه .. ذلك فى أوان صحوهم لينالوا لطائف الأنس على وصف الكمال ، ويتمكنوا من قضايا البسط على أعلى أحوال السرور.

قوله جل ذكره : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠))

نصره ـ سبحانه ـ للأولياء نصر عزيز ، وانتقامه بتمام ، واستئصاله بكمال ، وإزهاقه أعداءه بتمحيق جملتهم ، وألا يحتاج المنصور إلى الاحتيال أو الاعتضاد بأشكال (١).

قوله جل ذكره : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١))

__________________

(١) أي لا يحتاج المنصور إلى حيلة أو أي تدبير إنسانى من جانبه ، بل يسقط تدبيره ؛ لأن النصر له من عند الله ، ولا يحتاج المنصور إلى أن يعتضد بأمثاله من المخلوقين فكفى الله له ناصرا ومعينا.

٥٥٦

كما فى أفق العالم ليل ونهار فكذلك للسرائر ليل ونهار ؛ فعند التجلي نهار وعند الستر ليل ، ولليل السّرّ ونهاره زيادة ونقصان ، فبمقدار القبض ليل وبمقدار البسط نهار ، ويزيد أحدهما على الآخر وينقص .. وهذا للعارفين. فأمّا المحقّقون فلهم الأنس والهيبة مكان قبض قوم وبسطهم ، وذلك فى حالى صحوهم ومحوهم ، ويزيد أحدهما وينقص ، ومنهم من يدوم نهاره ولا يدخل عليه ليل .. وذلك لأهل الأنس فقط (١).

قوله جل ذكره : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢))

إذا بدا علم من الحقائق حصلت بمقداره شظية من الفناء لمن حصل له التجلي ، ثم يزيد ظهور ما يبدو ويغلب ، وتتناقص آثار التفرقة وتتلاشى ، قال : صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أقبل النهار من هاهنا أدبر الليل من هاهنا» فإذا نأى العبد بالكلية عن الإحساس بما دون الله فلا يشهد أولا الأشياء إلا للحقّ ، ثم لا يشهدها إلا بالحق ، ثم لا يشهد إلا الحق .. فلا إحساس له بغير الحق ، ومن جملة ما ينساه .. نفسه والكون كله (٢).

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣))

ماء السماء يحيى الأرض بعد موتها ، وماء الرحمة يحيى أحوال أهل الزّلة بعد تركها ، وماء العناية يحيى أحوال (...) (٣) بعد زوال رونقها ، وماء الوصلة يحيى أهل القربة بعد لضوبها.

__________________

(١) كثير من المصطلحات الصوفية لا يفهم فهما دقيقا إلّا بطريق المقارنة المعتمدة على مظاهر الطبيعة كالليل والنهار والجبال والبحار والسحب ... إلخ.

وقد استغل القشيري ـ فى ظلال القرآن الكريم ـ هذا الجانب.

(٢) تفيد هذه الفقرة فى توضيح مراتب الشهود.

(٣) في م (الناس) وفى ص مكتوبة هكذا (المقاليس).

٥٥٧

قوله جل ذكره : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤))

الملك له ، وهو عن الجميع غنى ، فهو لا يستغنى بملكه ، بل ملكه بصير موجودا بخلقه إياه ؛ إذ المعدوم له مقدور والمقدور هو المملوك.

ويقال كما أنه (١) غنىّ عن الأجانب ممن أثبتهم فى شواهد الأعداء فهو غنى عن الأكابر وجميع الأولياء.

ويقال إذا كان الغىّ حميدا فمعنى ذلك أنه يعطى حتى يشكر.

ويقال الغنىّ الحميد المستحقّ للحمد : أعطى أو لم يعط ؛ فإنّ أعطى استحقّ الحمد الذي هو الشكر ، وإن لم يعط استحق الحمد الذي هو المدح (٢).

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥))

أراد به تسخير الانتفاع بها ؛ فما للخلق (٣) به انتفاع وميسّر له فى الاستمتاع به فهو كالمسّخّر له على معنى تمكينه منه ، ثم يراعى فيه الإذن ؛ فمن استمتع بشىء على وجه الإباحة والإذن والدعاء إليه والأمر به فذلك إنعام وإكرام ، ومن كان بالعكس فمكر واستدراج.

وأمّا السفينة .. فإلهام العبد بصنعها ووجوه الانتفاع بها ؛ بالحمل فيها وركوبها فمن أعظم إحسان الله وإرفاقه بالعبد ، ثم ما يحصل بها من قطع المسافات البعيدة ، والتوصل بها إلى المضارب

__________________

(١) هكذا في م وهى فى ص (أنت) وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح.

(٢) لاجل هذا نقول فى صلاتنا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي نشكرك فى السراء ، ونمدحك فى الضراء فالحمد أعم والشكر أو المدح أخص.

(٣) وردت هكذا فى م وهى فى ص (للحق) وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح.

٥٥٨

النائية ، والتمكن من وجوه الانتفاع ففى ذلك أعظم نعمة ، وأكمل عافية.

وجعل الأرض للخلق قرارا من غير أن تميد ، وجعل السماء بناء من غير وقوع ، وجعل فيها من الكواكب ما يحصل به الاهتداء فى الظلام ، ثم هى زينة السماء ـ وفى ذلك من الأدلة ما يوجب ثلج الصدر وبرد اليقين.

قوله جل ذكره : (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦))

إحياء النفوس وإماتتها مرات محصورة ، وإحياء أوقات العبّاد وإماتتها لا حصر له ولا عدّ ، وفى معناه أنشدوا.

أموت إذا ذكرتك ثم أحيا

فكم أحيا عليك وكم أموت

ويقال يحي الآمال بإشهاد تفضله ، ثم يميتها بالاطلاع على تعزّزه.

ويقال هذه صفة العوام منهم ، فأمّا الأفاضل فحياتهم مسرمدة وانتعاشهم مؤبّد. وأنّى يحيا غيره وفى وجوده ـ سبحانه ـ غنية وخلف عن كل فائت (١)

قوله جل ذكره : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧))

جعل لكلّ فريق شرعة هم واردوها ، ولكلّ جماعة طريقة هم سالكوها.

وجعل لكلّ مقام سكّانه ، ولكلّ محلّ قطّانه ، فقد ربط كلّا بما هو أهل له ، وأوصل كلّا إلى ما جعله محلا له ؛ فبساط التّعبّد موطوء بأقدام العابدين ، ومشاهد الاجتهاد معمورة بأصحاب التكلف من المجتهدين ، ومجالس أصحاب المعارف مأنوسة بلزوم العارفين ، ومنازل المحبين مأهوله بحضور الواجدين.

__________________

(١) هكذا فى النسختين ، ونحن لا نستبعد أن تكون في الأصل (فان) ؛ فسواء كان الفناء بالمعنى المعروف أو بالمعنى الصوفي فإنها منسجمة مع السياق. ولأن القشيري يستعمل هذا الأسلوب كثيرا : فكفى به خلفا لك عند فنائك عنك.

٥٥٩

قوله : (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ...) الأمر اشهد تصاريف الأقدار ، واعمل بموجب التكليف ، وانته دون ما أذنت له من المناهل.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨))

كلهم إلينا عند ما راموا من الجدال ، ولا تنكل على ما تختاره من الاحتيال ، واحذر جنوح قلبك إلى الاستعانة بالأمثال والأشكال ، فإنهم قوالب خاوية ، وأشباح عن المعاني خالية.

قوله جل ذكره : (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩))

أمّا الأجانب فيقول لهم : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١) ، وأمّا الأولياء فقوم منهم يحاسبهم حسابا يسيرا ، وأقوام مخصوصون يقول لهم : بينى وبينكم حساب ؛ فلا جبريل يحكم بينهم ولا ميكائيل ، ولا نبيّ مرسل ، ولا ملك مقرّب.

(اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) يحكم بينهم فيسأل عن أعماله جميع خصمائه ، ويأمر بإرضاء جميع غرمائه.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠))

يعلم السّرّ والنجوى ، وما تكون حاجة العبد له أمس وأقوى ، وبكلّ وجه هو بالعبد أولى ، وله أن يحمل له النّعمى ، ويزيل عنه البلوى ، ولا يسمع منه الشكوى ، فله الحكم تبارك وتعالى.

قوله جل ذكره : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١))

__________________

(١) آية ١٤ سورة الإسراء.

٥٦٠