لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

فقالوا : إنه بحسن خلقه يسمع ما يقال له ، فقال عليه‌السلام : «المؤمن غرّ كريم والمنافق خبّ لئيم» (١)

قوله جل ذكره : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

وقيل : من العاقل؟ قالوا : الفطن المتغافل. وفى معناه أنشدوا :

وإذا الكريم أتيته بخديعة

ولقيته فيما تروم يسارع

فاعلم بأنك لم تخادع جاهلا

إنّ الكريم ـ بفضله ـ يتخادع

قوله جل ذكره : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢))

أخبر أنّ من تزيّن للخلق ، وتقرّب إليهم وأدام رضاهم ، واتّبع فى ذلك هواهم ، فإن الله سبحانه يسقط به عن الخلق جاههم ، ويشينهم فيما توهموا أنه يزينهم ، والذي لا يضيع ما كان لله ، فأمّا ما كان لغير الله فوبال لمن أصابه ، ومحال ما طلبه.

ويقال إنّ الخلق لا يصدقونك وإن حلفت لهم ، والحقّ يقبلك وإن تخلّفت عنه ؛ فالاشتغال بالخلق محنة أنت غير مأجور عليها ، والإقبال على الحقّ نعمة أنت مشكور عليها. والمغبون من ترك ما يشكر عليه ويؤثر ما لا يؤجر عليه.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣))

__________________

(١) فى رواية الترمذي والحاكم عن أبى هريرة «المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم» (والخبّ ـ الخدع) وفى الحديث : «لا يدخل الجنة خب ولا خائن»

٤١

من كفر بالله وأشرك فى توحيده بإثبات موهوم استحق ما هو حقّ لله : تعجّل عقوبته فى الحال بالفرقة ، وفى المال بالخلود فى الحرقة.

فليس كلّ من مني (١) بمصيبة يعلم ما ناله من المحنة ، وأنشدوا :

غدا يتفرّق أهل الهوى

ويكثر باك ومسترجع

قوله جل ذكره : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤))

ظنّوا أنّ الحقّ ـ سبحانه ـ لا يفضحهم ، فدلّوا عليكم ، وأنكروا ما انطوت عليه سرائرهم ، فأرخى (٢) الله ـ سبحانه ـ عنان إمهالهم ، ثم هتك الستر عن نفاقهم ؛ ففضحهم عند أهل التحقيق ، فتقنعوا بخمار الخجل ، وكشف لأهل التحقيق مكامن الاعتبار. ونعوذ بالله من عقوبة أهل الاغترار! (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣).

قوله جل ذكره : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥))

من استهان بالدّين ، ولم يحتشم من ترك حرمة الإسلام جعله الله فى الحال نكالا ، وسامه فى الآخرة صغرا وإذلالا ، والحقّ ـ سبحانه ـ لا يرضى دون أن يذيق العتاة بأسه ، ويسقى كلا ـ على ما يستوجبه ـ كأسه.

قوله جل ذكره : (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ

__________________

(١) وردت (مسنى) وهى خطا فى النسخ وربما كانت (مسته)

(٢) وردت (فأرضى) وهى خطأ فى النسخ.

(٣) آية ٥٤ سورة آل عمران.

٤٢

إن كشف عن طائفة منكم نعذِّبَ طائفةً بأنَّهم كانوا مجرمينَ)

(١) جرّد العفو والعذاب من علّة الجرم ، وسبب الفعل من حجّة العبد ؛ حيث أحال الأمر على المشيئة .. إذ لو كان الموجب لعفوه أو تعذيبه صفة العبد لسوّى بينهم عند تساويهم فى الوصف ، فلمّا اشتركوا فى الكفر بعد الإيمان ، وعفا عن بعضهم وعذّب بعضهم دلّ على أنه يفعل ما يشاء ، ويختصّ من يشاء بما يشاء (٢).

قوله جل ذكره : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ)

المؤمن بالمؤمن يتقوّى ، والمنافق بالمنافق يتعاضد ، وطيور السماء على ألّافها تقع. فالمنافق لصاحبه أسّ (٣) به قوامه ، وأصل به قيامه ؛ بعينه على فساده ، ويعمّى عليه طريق رشاده.

والمؤمن ينصر المؤمن ويبّصره عيوبه ، ويبّغض لديه ويقبّح ـ فى عينه ـ ذنوبه ، وهو على السداد ينجده ، وعن الفساد يبعده.

قوله جل ذكره : (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ).

عن طلب الحوائج من الله تعالى

قوله جل ذكره : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ).

جازاهم على نسيانهم ، فسمّى جزاء النسيان نسيانا .. تركوا طاعته ، وآثروا مخالفته ، فتركهم وما اختاروه لأنفسهم ، قال تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ).

__________________

(١) أخطأ الناسخ إذ أنهى الآية : (بأنهم كانوا مجرمون).

(٢) هذه لفتة هامة تشير إلى المذهب الكلامى عند القشيري فيما يتصل بوجوب الإثابة أو العقوبة على الله وعدم وجوبهما.

(٣) الأس بفتح الألف وضعها وكسرها : أصل البناء.

٤٣

قوله جل ذكره : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨))

وعدهم النار فى الآخرة ، ولهم العذاب المقيم فى الحاضرة ، فمؤجّل عذابهم الحرقة ، ومعجّله الفرقة.

قوله جل ذكره : (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩))

يقال : سلكتم طريق من قبلكم من الكفار وأهل النفاق وقد كافأناهم. ويقال الذين تقدموكم زادوا عليكم فكافأناهم كما نكافئ أهل الشقاق والنفاق ؛ فى كثرة المدّة وقوة العدّة ، والاستمتاع فى الدنيا ، والاغترار بالانخراط فى سلك الهوى .. ولكن لم تدم فى الراحة مدّتهم ، ولم تغن عنهم يوم الشدّة عدّتهم ، وعما قريب يلحق بكم ما لحق بالذين هم قبلكم.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ

٤٤

لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠))

ألم ينته إليهم خبر القرون الماضية ، ونبأ الأمم الخالية كيف دمّرنا عليهم جمعهم ، وكيف بدّدنا شملهم؟ قضينا فيهم بالعدل ، وحكمنا باستئصال الكلّ ، فلم يبق منهم نافخ نار ، ولم يحصلوا إلّا على عار وشنار.

قوله جل ذكره : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١))

يعين (١) بعضهم بعضا على الطاعات ، ويتواصون بينهم بترك المحظورات ؛ فتحابّهم فى الله ، وقيامهم بحقّ الله ، وصحبتهم لله ، وعداوتهم لأجل الله ؛ تركوا حظوظهم لحقّ الله ، وآثروا على هواهم رضاء الله. أولئك الذين عصمهم الله فى الحال ، وسيرحمهم فى المال.

قوله جل ذكره : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢))

وعدهم جميعا الجنة ، ومساكن طيبة ، ولا يطيب المسكن إلا برؤية المحبوب ، وكلّ محب يطيب مسكنه برؤية محبوبه ، ولكنهم مختلفون فى الهمم ؛ فمن مربوط بحظّ مردود إلى الخلق ، ومن مجذوب بحقّ موصول بالحق ، وفى الجملة الأمر كما يقال :

__________________

(١) وردت (يعنى) وهى خطأ فى النسخ.

٤٥

أجيراننا ما أوحش الدار بعدكم

إذا غبتم عنها ونحن حضور!

ويقال قوم يطيب مسكنهم بوجود عطائه ، وقوم يطيب مسكنهم بشهود لقائه ، وأنشدوا :

وإنّى لأهوى الدار لا يستقرّ لى

بها الودّ إلا أنّها من دياركا

ثم قال : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) : وأمارة أهل الرضوان وجدان طعمه ؛ فهم فى روح الأنس ، وروح الأنس لا يتقاصر عن راحة دار القدس بل هو أتمّ وأعظم.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣))

دعا نبيّنا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كافة الخلق إلى حسن الخلق.

قال لموسى عليه‌السلام : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) (١).

وقال لنبيّنا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (٢) ويقال إنما قال هذا بعد إظهار الحجج ، وبعد ما أزاح عذرهم بأيام المهلة ؛ ففى الأول أمره بالرّفق حيث قال : (إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) (٣) ، فلما أصروا واستكبروا أمره بالغلظة عليهم. والمجاهدة أولها اللسان لشرح البرهان ، وإيضاح الحجج والبيان ، ثم إن حصل من العدوّ جحد بعد إزاحة العذر ، فبالوعيد والزجر ، ثم إن لم ينجع الكلام ولم ينفع الملام فالقتال والحرب وبذل الوسع فى الجهاد.

قوله جل ذكره : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ)

__________________

(١) آية ٤٤ سورة طه.

(٢) آية ٩ سورة التحريم.

(٣) آية ٤٦ سورة سبأ.

٤٦

تستّروا بأيمانهم فهتك الله أستارهم وكشف أسرارهم.

قوله : (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) : وهى طعنهم فى نبوّة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكلّ من وصف المعبود بصفات الخلق أو أضاف إلى الخلق ما هو من خصائص نعت الحقّ فقد قال كلمة الكفر.

قوله جل ذكره : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ)

أي أظهروا من شعار الكفر ما دلّ على جحدهم بقلوبهم بعد ما كانوا يظهرون الموافقة والاستسلام ؛ وهمّوا بما لم ينالوا من قتل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما سوّلت أنفسهم أنه يخرج الأعزّ منها الأذلّ ، وغير ذلك.

يقال تمنوا زوال دولة الإسلام فأبى الله إلا إعلاء أمرها.

ثم قال : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) : أي ما عابوه إلا بما هو أجلّ خصاله ، فلم يحصلوا من ذلك إلا على ظهور شأنهم للكافة بما لا عذر لهم فيه.

قوله جل ذكره : (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)

وأقوى أركان التوبة حلّ عقدة الإصرار عن القلب ، ثم القيام بجميع حقّ الأمر على وجه الاستقصاء.

قوله جل ذكره : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦))

٤٧

منهم من أكّد العقد مع الله ، ثم نقضه ، فلحقه شؤم ذلك ؛ فبقى خالدا فى نفاقه.

ويقال تطلّب إحسان ربّه ، وتقرّب إليه بإبرام عهده فلمّا حقّق الله مسئوله واستجاب مأموله ، فسخ ما أبرمه ، وانسلخ عما التزمه ، واستولى عليه البخل ، فضنّ بإخراج حقه ، فلحقه شؤم نفاقه ، بأن بقي إلى الأبد فى أسره.

وحدّ البخل ـ على لسان العلم ـ منع الواجب. وبخل كلّ أحد على ما يليق بحاله ، وكلّ من آثر شيئا من دون رضاء ربّه فقد اتصف ببخله ، فمن يبخل بماله تزل عنه البركة حتى يئول إلى وارث أو يزول بحارث. ومن يبخل بنفسه ويتقاعس عن طاعته تفارقه الصحة حتى لا يستمتع بحياته. والذي يبخل بروحه عنه يعاقب بالخذلان حتى تكون حياته سببا لشقائه.

قوله جلّ ذكره : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧))

أعقبهم ببخلهم نفاقا فى قلوبهم ، ويصحّ أعقبهم الله نفاقا فى قلوبهم ، وفى الجملة : من نقض عهده فى نفسه رفض الودّ من أصله ، وكلّ من أظهر فى الجملة خيرا واستبطن شرا فقد نافق بقسطه. والمنافق فى الصف الأخير فى دنياه ، وفى الدّرك الأسفل من النار فى عقباه.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨))

خوّفهم بعلمه كما خوّفهم بفعله فى أكثر من موضع من كتابه.

و (سِرَّهُمْ) مالا يطلع عليه غير الله.

و (نَجْواهُمْ) ما يتسارّون بعضهم مع بعض. ويحتمل أن يكون ما لنفوسهم عليه إشراف من خواطرهم (١)

__________________

(١) يقول القشيري فى رسالته فى معنى «السر» هو محل المشاهدة كما ان الأرواح محل للمحبة والقلوب محل للمعارف. وقالوا السر ما لك عليه إشراف ، وسر السر ما لا اطلاع عليه لغير الحق.

٤٨

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩))

عابوا الذين قصرت أيديهم عن الإكثار فى الصدقة وجادوا بما وصلت إليه أيديهم ، فشكر الله سعى من أخلص فى صدقته بعد ما علم صدقه فيها. وقليل أهل الإخلاص أفضل من كثير أهل النفاق.

ولمّا أوجدوا (١) المسلمين بسخريتهم وصف الله ـ سبحانه وتعالى ـ نفسه بما يستحيل فى وصفه ـ على التحقيق ـ وهو السخرية بأحد .. تطبيبا لقلوب أوليائه ، فقد تقدّس عن ذلك لعزّة ربوبيته.

قوله جل ذكره : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠))

ختم القضايا بأنّه لا يغفر لأهل الشرك والنفاق ، فلا تنفعهم الوسائل ، ولا ينتعش منهم الساقط.

ويقال من غلبته شقوتنا لم ينفعه (تضرعه) (٢) ودعوته.

ويقال صريع القدرة لا ينعشه الجهد والحيلة.

__________________

(١) (أوجدوا) أي سببوا لهم حفيظة وألما.

(٢) وردت (تضر) بعدها عين مغلقة وهاء ساقطة وقد أكملناها (تضرعه) لملاءمتها للسياق ، ولانسجامها مع (دعوته) بمعنى دعائه واستغفاره لهم.

٤٩

قوله جل ذكره : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١))

استحوذ عليهم سرورهم بتخلفهم ، ولم يعلموا أن ثبورهم فى تأخرهم وما آثروه من راحة نفوسهم على أداء حق الله ، والخروج فى صحبة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزع الله الراحة بما عاقبهم ، وسيصلون سعيرا فى الآخرة بما قدّموه من نفاقهم ، وسوف يتحسرّون ولات حين تحسّر.

قوله جل ذكره : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢))

بدّل الله مسرّتهم بحسرة ، وفرحتهم بترحة ، وراحتهم بعبرة ، حتى يكثر بكاؤهم فى العقبى كما كثر ضحكهم فى الدنيا ، وذلك جزاء من كفر بربه.

قوله جل ذكره : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣))

يقول : بعد ما ظهرت خيانتهم ، وتقرر كذبهم ونفاقهم ، لا تنخذع بتملقهم ، ولا تثق بقولهم ، ولا تمكّنهم من صحبتك فيما يظهرونه من وفاقك (١). فإذا وهن سلك العهد فلا يحتمل بعده الشّدّ ، وإذا اتسع الخرق لا ينفع بعده الرّقع.

قوله جل ذكره : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً

__________________

(١) سقطت الواو من (وفاقك).

٥٠

وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤))

(١) ليس بعد التّبرّى التولي ، ولا بعد الفراق الوفاق ، ولا بعد الحجبة قربة. مضى لهم من الزمان ما كان لأملهم فيه فسحة ، أو لرجائهم مساغ ، أو لظنّهم تحقيق ، ولكن سبق لهم القضاء بالشقاوة ، ونعوذ بالله من سوء الخاتمة.

قوله جل ذكره : (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥))

يقول لا تحسبنّ تمكين أهل النّفاق من تنفيذ مرادهم ، وتكثير أموالهم إسداء معروف منّا إليهم ، أو إسباغ إنعام من لدّنا عليهم ، إنما ذلك مكر بهم ، واستدراج لهم ، وإمهال لا إهمال. وسيلقون غبّه (٢) عن قريب.

قوله جل ذكره : (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦))

إذا توجّه عليهم الأمر بالجهاد ، واشتدّ عليهم حكم الإلزام ، تعلّلوا إلى السّعة (٣) ، وركنوا إلى اختيار الدّعة واحتالوا فى موجبات التّخلّف ، أولئك الذين خصّهم (٤) بخذلانه ، وصرف قلوبهم عن ابتغاء رضوانه.

__________________

(١) وقع الناسخ فى خطأ حين نقل الآية إذ كتب بعد (ورسوله) : (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون).

وقد صوبنا حسب الآية (٨٤).

(٢) وردت (غيه) بالياء وهى خطأ فى النسخ ، والصواب (غبه) أي عاقبته.

(٣) أي إلى نقص وسعهم ومكنتهم.

(٤) اشتبهت علامة التضعيف على الناسخ فظن الكلمة (خصتهم) بالتاء وهى غير ملائمة.

٥١

قوله جل ذكره : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧))

بعدوا عن بساط العبادة فاستطابوا الدّعة ، ورضوا بالتعريج فى منازل الفرقة ، ولو أنهم رجعوا إلى الله تعالى بصدق النّدم لقابلهم بالفضل والكرم ، ولكن القضاء غالب ، والتكلف ساقط.

قوله جل ذكره : (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨))

ليس من أقبل كمن أعرض وصدّ (١) ، ولا من قبل أمره كمن ردّ ، ولا من وحّد كمن جحد ، ولا من عبد كمن عند ، ولا من أتى كمن أبى ... فلا جرم ربحت تجارتهم ، وجلت رتبتهم.

قوله جل ذكره : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩))

تشير الآية إلى أن راحاتهم موعودة ، وإن كانت الأتعاب (٢) فى الحال موجودة مشهودة.

ويقال صادق يقينهم بالثواب يهوّن عليهم مقاساة ما يلقونه ـ فى الوقت ـ من الأتعاب.

قوله جل ذكره : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ

__________________

(١) وردت (سد) بالسين والصواب (صد) لتلائم أعرض.

(٢) اشتبهت على الناسخ فظنها (الألقاب) والصواب الأتعاب لتقابل (راحلتهم) ، ثم إنها تكررت فيما بعد قليل.

٥٢

وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠))

وهم أصحاب الأعذار ـ فى قول أهل التفسير ـ طلبوا الإذن فى التأخر عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى غزوة تبوك فسقط عنهم الّلوم.

أما الذين تأخروا بغير عذر فقد توجّه عليهم اللوم ، وهو لهم فى المستقبل الوعيد.

قوله جل ذكره : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١))

قيمة الفقر تظهر عند سقوط الأمر ، ولو لم يكن فى القلة خير إلا هذا لكفى لهذا بهذا فضيلة ؛ بقوا فى أوطانهم ولم يتوجّه عليهم بالجهاد أمر ، ولا بمفارقة المنزل امتحان. واكتفى منهم بنصيحة القلب ، واعتقاد أن لو قدروا لخرجوا.

وأصحاب الأموال امتحنوا ـ اليوم ـ يجمعها ثم بحفظها ، ثم ملكتهم محنتها حتى شقّت عليهم الغيبة عنها ، ثم توجّه اللوم عليهم فى ترك إنفاقها ، ثم ما يعقبه ـ غدا ـ من الحساب والعذاب يربو على الجميع.

وإنّما رفع الحرج عن أولئك (١) بشرط وهو قوله : (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) فإذا لم يوجد هذا الشرط فالحرج غير مرتفع عنهم.

قوله : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) : المحسن الذي لا تكون للشرع منه مطالبة لا فى حقّ الله ولا فى حقّ الخلق (٢).

__________________

(١) فى النسخة (هؤلاء) وقد آثرنا أن نضع (أولئك) لينصرف الكلام إلى الطائفة الأولى أي الضعفاء والمرضى وأصحاب العذر.

(٢) لأنه قد استوفى جميع المطالبات ولم يتبق عليه شىء.

٥٣

ويقال هو الذي يعلم أنّ الحادثات كلّها من الله تعالى.

ويقال هو الذي يقوم بحقوق ما نيط به أمره ؛ فلو كان طير فى حكمه وقصّر فى علفه ـ لم يكن محسنا.

قوله جل ذكره : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢))

منعهم الفقر عن الحراك فالتمسوا من الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يحملهم معه ويهبىء أسبابهم ، ولم يكن فى الحال للرسول عليه‌السلام سعة ليوافق سؤلهم ، وفى حالة ضيق صدره ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حلف إنه لا يحملهم ، ثم رآهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتأهبون للخروج ، وقالوا فى ذلك ، فقال عليه‌السلام : إنما يحملكم الله.

فلمّا ردّهم الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن الإجابة فى أن يحملهم رجعوا عنه بوصف الخيبة كما قال تعالى : (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) كما قال قائلهم :

قال لى من أحبّ والبين قد

حلّ ودمعى مرافق لشهيقى

ما ترى فى الطريق تصنع بعدي؟

قلت : أبكى عليك طول الطريق

قوله : (حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) شقّ عليهم أن يكون على قلب الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بسببهم شغل فتمنّوا أن لو أزيح هذا الشغل ، لا ميلا إلى الدنيا ولكن لئلا تعود إلى قلبه ـ عليه‌السلام ـ من قبلهم كراهة ، ولهذا قيل :

من عفّ خفّ على الصديق لقاؤه

وأخو الحوائج ممجج مملول

ثم إنّ الحقّ ـ سبحانه ـ لمّا علم ذلك منهم ، وتمحضت قلوبهم للتعلّق بالله ، وخلت عقائدهم عن مساكنة مخلوق تدارك الله أحوالهم ؛ فأمر الله رسوله عليه‌السلام أن يحملهم .. بذلك جرت سنّته ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) (١)

__________________

(١) آية ٢٨ سورة الشورى.

٥٤

قوله جل ذكره : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ)

يريد السبيل بالعقوبة والملامة على الذين يتأخرون عنك فى الخروج إلى الجهاد ولهم الأهبة والمكنة ، وتساعدهم على الخروج الاستطاعة والقدرة ؛ فإذا استأذنوك للخروج وأظهروا (١) لم يصدقوا ، فهم مستوجبون للنكير عليهم ، لأنّ من صدق فى الولاء لا يحتشم من مقاساة العناء ، والذي هو فى الولاء مماذق وللصدّق مفارق يتعلّل بما لا أصل له ، لأنه حرم الخلوص فيما هو أهل له ، وكذا قيل :

إنّ الملول إذا أراد قطيعة

ملّ الوصال وقال كان وكانا

قوله جل ذكره : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ)

قيل فى التفسير : مع النساء فى البيوت.

والإسلام يثنى على الشجاعة ، وفى الخبر : إن الله تعالى يحب الشجاعة ، ولو على قتل حية ، وفى معناه أنشدوا.

كتب القتل والقتال (٢) علينا

وعلى المحصنات جرّ الذّيول

ومن استوطن مركب الكسل ، واكتسى لباس الفشل ، وركن إلى مخاريق الحيل حرم استحقاق القربة. ومن أراد الله ـ تعالى ـ هو انه ، وأذاقه خذلانه ، فليس له عن حكم الله مناص.

قوله جل ذكره : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤))

__________________

(١) ربما سقطت هنا «العذر» فهى مطلوبة للسياق.

(٢) وردت (القتل والقتل) والصواب (القتل والقتال).

٥٥

أراد إذا تقوّلوا بما هم فيه كاذبون ، وضللوا عما كانوا فى تخلفهم به يتّصفون ـ فأخبروهم أنّا عرّفنا الله كذبكم فيما تقولون ، واتضحت لنا فضائحكم ، وتميّز ـ بما أظهره الله لنا ـ سيّئكم وصالحكم ، فإنّ الله تعالى لا يخفى عليه شىء من أحوالكم ، وستلقون غبّ أعمالكم فى آجلكم (١).

قوله جل ذكره : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥))

يريد أنهم فى حلفهم بالله لكم أن يدفع السوء من قبلكم ، وليس قصدهم بذلك خلوصا فى اعتذارهم ، ولا ندامة على ما احتقبوه من أوزارهم ، إنما ذلك لتعرضوا عنهم ... فأعرضوا عنهم ؛ فإنّ ذلك ليس بمنجيهم مما سيلقونه غدا من عقوبة الله لهم ، فإنّ الله يمهل العاصي حتى يتوهّم أنه قد تجاوز عنه ، وما ذلك إلا مكر عومل به ، فإذا أذاقه ما يستوجبه علم أن الأمر بخلاف ما ظنه ، وما ينفع ظاهر مغبوط ، والحال ـ فى الحقيقة ـ يأس من الرحمة وقنوط ، وفى معناه قالوا :

وقد حسدونى فى قرب دارى منهم

وكم من قريب الدار وهو بعيد!

قوله جل ذكره : (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦))

من كان مسخوط الحقّ لا ينفعه أن يكون مرضىّ الخلق ، وليست العبرة بقول غير الله إنّما المدار على ما سبق من السعادة فى حكم الله.

قوله جل ذكره : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧))

__________________

(١) وردت (غب أعمالكم فى أعمالكم) والصواب (فى آجلكم) لأن الآية تشير لذلك.

٥٦

جبلت قلوبهم على القسوة فلم تقرعها هواجم الصفوة ، وكانوا عن أشكالهم فى الخلقة مستأخرين بما (...) (١) من سوء الخلق ؛ فهم من استبانة الحقائق أبعد ، ومن استيجاب الهوان أقرب.

قوله جل ذكره : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨))

خبثت عقائدهم فانتظروا للمسلمين ما تعلقت به مناهم من حلول المحن بهم ، فأبى الله إلا أن يحيق بهم مكرهم ، ولهذا قيل فى المثل : إذا حفرت لأخيك فوسّع فربما يكون ذلك مقيلك!

ويقال من نظر إلى ورائه يوفّق فى كثير من تدبيره ورأيه.

قوله جل ذكره : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩))

تنوّعوا ؛ فمنهم من غشّ ولم يربح ، ومنهم من نصح فلم ليخسر ، فأمّا الذين مذقوا فهم فى مهواة هوانهم ، وأما الذين صدقوا ففى روح إحسانهم.

قوله جل ذكره : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ

__________________

(١) مشتبهة.

٥٧

لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠))

السابقون مختلفون ؛ فمن سابق بصدق قدمه ، ومن سابق بصدق هممه.

ويقال السابق من ساعدته القسمة بالتوفيق ، وأسعدته القضية بالتحقيق ، فسبقت له من الله رحمته.

ويقال سبقهم بعنايته ثم سبقوا بطاعتهم له.

ويقال جمع الرّضاء صفّيهم : السابق منهم واللاحق بهم ؛ قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ...)(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).

ويقال ليس اللاحق كالسابق ، فالسابق فى روح الطلب ، واللاحق فى مقاساة التعب ، ومعاناة النّصب ، وأنشدوا :

السّباق السّباق قولا وفعلا

حذّروا النّفس حسرة المسبوق

ويقال رضاهم عن الله قضية رضاء الله عنهم ؛ فلو لا أنه رضى عنهم فى آزاله ... فمتى وصلوا إلى رضاهم عنه؟!

قوله جل ذكره : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١))

تشاكل المخلص والمنافق فى الصورة فلم يتميّز بالمباني ، وإن تنافيا فى الحقائق والمعاني وتقاصر علمهم عن العرفان فهتك الله لنبيّه أستارهم .. فعرفهم ، وهم بإشرافه عليهم جاهلون ، وعلى الإقامة فى أوطان نفاقهم مصروفون ، فلم ينفعهم طول إمهاله لهم.

٥٨

(سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) : الأولى فى الدنيا بالفضيحة فيما ينالهم من المحن والفتن والأمراض ، ولا يحصل لهم عليها فى الآخرة عوض ولا أجر ولا مسرّة ، والثانية عذاب القبر.

وقيل المرة الأولى بقبض أرواحهم ، والثانية عذاب القبر ثم يوم القيامة يمتحنون بالعذاب الأكبر.

ويقال المرة الأولى ظنّهم نهم على شىء ، والمرة الثانية بخيبة آمالهم وظهور ما لم يحتسبوه لهم.

قوله جل ذكره : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢))

إن اتصفوا بعيوبهم فلقد اعترفوا بذنوبهم. والإقرار توكيد الحقوق فيما بين الخلق فى مشاهد الحكم ، ولكن الإقرار بحق الله ـ سبحانه ـ يوجب إسقاط الجرم فى مقتضى سنّة كرم الحقّ ـ سبحانه ، وفى معناه أنشدوا :

قيل لى : قد أساء فيك فلان

وسكوت الفتى على الضيم عار

قلت : قد جاءنى فأحسن عذرا

دية الذّنب عندنا الاعتذار

(خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) : ففى قوله (وَآخَرَ سَيِّئاً) بعد قوله (صالِحاً) دليل على أن الزّلّة لا تحبط ثواب الطاعة ؛ إذ لو أحبطته لم يكن العمل صالحا.

وكذلك قوله : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) : وعسى تفيد أنه لا يجب على الله شىء فقد يتوب وقد لا يتوب. ولأنّ قوله صدق .. فإذا أخبر أنّه يجيب فإنه يفعل ، فيجب منه لا يجب عليه (١).

ويقال قوله : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً) : يحتمل معناه أنهم يتوبون ؛ فالتوبة عمل صالح. وقوله : (وَآخَرَ سَيِّئاً) : يحتمل أنه نقضهم التوبة ، فتكون الإشارة فى قوله : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أنهم إن نقضوا توبتهم وعادوا إلى ما تركوه من زلّتهم فواجب منّا أن

__________________

(١) واضح حرص القشيري على مقاومة المعتزلة فيما يتصل بنفي اى وجوب على الله فقد جلت الصمدية عن ذلك ، وإن كان يرى أنه يجب منه ـ سبحانه ـ الفضل.

٥٩

نتوب عليهم ، ولئن بطلت ـ بنقضهم ـ توبتهم .. لما اختلّت ـ بفضلنا ـ توبتنا عليهم.

قوله جل ذكره : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣)) :

تطهرهم من طلب الأعواض عليها ، وتزكيهم عن ملاحظتهم إياها.

تطهرهم بها عن شحّ نفوسهم ، وتزكيهم بها بألا يتكاثروا بأموالهم ؛ فيروا عظيم منّة الله عليهم بوجدان التجرّد منها.

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) : إن تعاشرهم بهمّتك معهم أثمن لهم من استقلالهم بأموالهم.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤))

تمدّح ـ سبحانه ـ بقبول توبة العاصين إذ بها يظهر كرمه ، كما تمدّح بجلال عزّه ونبّههم على أن يعرفوا به جلاله وقدمه.

وكما توحّد باستحقاق كبريائه وعظمته تفرّد بقبول توبة العبد عن جرمه وزلّته. فكما لا شبيه له فى جماله وجلاله لا شريك له فى أفضاله وإقباله ؛ يأخذ الصدقات ـ قلّت أو كثرت ، فقدر الصّدقة وخطرها بأخذه لها لا بكثرتها وقلّتها ؛ قلّت فى الصورة صدقتهم ولكن لمّا أخذها وقبلها جلّت بقبوله لها ، كما قيل :

يكون أجاجا ـ دونكم ، فإذا انتهى

إليكم تلقى طيبكم فيطيب

قوله تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى

٦٠