لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

مسلوكة بما بيّن على ألسنتهم من هداية المريدين ، وقيادة السالكين ، كما يسّر بهداهم الاقتداء بهم فى سيرهم إلى الله.

قوله جل ذكره : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢))

فى ظاهر الكون السماء منيرة ، والأرض مسكونة .. كذلك للنفوس أراض هى مساكن الطاعات ، وفى سماء القلوب نجوم العقل وأقمار العلم وشموس التوحيد والعرفان. وكما جعلت النجوم رجوما للشياطين جعل من المعارف رجوما للشياطين. وكما أن الناس عن آياتها معرضون لا يتفكرون فالعوام عن آيات القلوب مما فيها من الأنوار غافلون ، لا يكاد يعرفها إلا الخواص

قوله جل ذكره : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣))

كما أن الحق ـ سبحانه ـ فى الظاهر يكوّر الليل على النهار ، ويكور النهار على الليل فكذلك يدخل فى نهار البسط ليل القبض. والبسط فى الزيادة والنقصان. فكما أنّ الشمس أبدا فى برجها لا تزيد ولا تنقص ، والقمر مرة فى المحاق ، ومرة فى الإشراق .. فصاحب التوحيد بنعت التمكين ـ يرتقى عن حدّ تأمّل البرهان إلى روح البيان ، ثم هو متحقق بما هو كالعيان. وصاحب العلم مرة يردّ إلى نجديد نظره وتذكّره ، ومرة يغشاه غير فى حال غفلته فهو صاحب تلوين (١).

قوله جل ذكره : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤))

إنك فى هذه الدنيا عابر سبيل ، لكننا لم نتركك فردا فى الدنيا ، ولذلك قال عليه‌السلام لصاحبه فى الغار : ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!».

__________________

(١) فأهل التمكين كالشمس فى ثباتها ، وأهل التلوين كالقمر في تدرجه وتغير أحواله.

٥٠١

قوله جل ذكره : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)

الموت به آفة قوم ، وفيه راحة قوم ؛ لقوم انتهاء مدة الاشتياق ، ولآخرين افتتاح باب الفراق ، لقوم وقوع فتنتهم ولآخرين خلاص من محنتهم ، لقوم بلاء وقيامة ولآخرين شفاء وسلامة.

قوله جل ذكره : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦))

لو شهدوا بما هو به من أوصاف التخصيص وما رقّاه إليه من المنزلة لظلوا له خاضعين ، ولكنهم حجبوا عن معانيه وسريرته ، وعاينوا منه جسمه وصورته.

قوله جلّ ذكره : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧))

العجلة مذمومة والمسارعة محمودة ؛ فالمسارعة البدار إلى الشيء فى أول وقته ، والعجلة استقباله قبل وقته ، والعجلة نتيجة وسوسة الشيطان ، والمسارعة قضية التوفيق.

قوله جل ذكره : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨))

اعتادوا تكذيب الأنبياء عليهم‌السلام فيما وعدوهم ، فاستعجلوا حصول ما توعدوهم به. ولو علموا ما ينالهم لكان السكون منهم ، فالفزع يدلّ على استعجالهم.

قوله جل ذكره : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ ...)

... لأمسكوا اليوم عن الانخراط فى عذاب (١) الظنون ، والاغترار بمواعيد الشيطان.

__________________

(١) ضبطناها (عذاب) بكسر العين لتكون جمع (عذب) فقد غرهم ما هيأت لهم الظنون فاستعذبوها.

٥٠٢

قوله جل ذكره : (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠))

العقوبة إذا أتت فجأة كانت أنكى وأشد. وسنّة الله فى الانتقام أن يثير ريح البغتة فى حال الانغماس فى النّعمة والمنّة.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١))

تسلية له ، وتعريف بوشك الانتصار على الذين كانوا يؤذونه من أعداء الذين ؛ أي عن قريب ستجدون وبال ما استوجبوه من العقوبة.

قوله جل ذكره : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢))

تقرير عليهم بأن ليس بتداخل المخلوقين نجاتهم ، وقد جرّبوا ذلك فى أحوال محنتهم ، فكيف لا يتبرءون ممن ليس لهم شىء ، ومما ليس منه نفع ولا ضرّ؟ وفى ذلك تنبيه للمؤمنين بأن مآربهم إلى الخيرات من نوعى النفع والدفع من الله عزوجل ، فالواجب دوام اعتكافهم بقلوبهم بعقوة كرمه وجوده.

قوله جل ذكره : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣))

.. بسط القول وكرره فى تعريفهم استحالة حصول الضر والنفع من الجمادات ؛ وأصنامهم التي عبدوها من تلك الجملة ، ولم يرد منهم ـ على تكرار هذه الألفاظ ـ إلّا عجز وانقطاع قول.

قوله جل ذكره : (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤))

طول الإمتاع إذا لم يكن مقرونا بالتوفيق ، مشفوعا بالعصمة كان مكرا واستدراجا ،

٥٠٣

وزيادة فى العقوبة. والحقّ كما يعاقب بالآلام والأهوال يعاقب بالإملاء والإمهال.

وقال : أفلا يرون أنا نأتى الأرض ...» تتوالى القسوة حتى لا يبقى أثر للصفوة ؛ فيتعاقب الخذلان حتى يتواتر العصيان ، ويتأدى ذلك إلى الحرمان الذي فيه ذهاب الايمان.

ويقال تنقص بذهاب الأكابر ويبقى الأراذل ويتعرض الأفاضل. وفى هذا أيضا إشارة إلى سقوط قوى العبد بمرور السنين وتطاول العمر ، فإن آخر الأمر كما قيل] : (١)

آخر الأمر ما ترى

القبر واللّحد والثرى

وكما قيل :

طوى العصران (٢) ما نشراه منى

وأبلى جدتى نشر وطيّ

أرانى كلّ يوم فى انتقاص

ولا يبقى ـ مع النقصان ـ شىّ

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥))

أي بأمر الله أعلمكم بموضع المخافة ، ويوحى إلىّ فى بابكم أن أخوّفكم بأليم عقابه ، ولكنّ الذي عدم سمع التوفيق .. أنى ينفعه تكرار الأمر بالقبول عليه؟!

قوله جل ذكره : (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦))

أي إنهم لا يصبرون على أقلّ شىء من العقوبة ؛ وإنّ الحقّ إذا شاء أن يؤلم أحدا فلا يحتاج إلى مدد وعون.

قوله جل ذكره : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ

__________________

(١) هنا نهاية الجزء الذي أخطأ الناسخ في نقله من أواخر «طه» وأوائل «الأنبياء» إلى مكان آخر من «الفرقان».

(٢) العصران : الغداة والعشى ، أو الليل والنهار.

٥٠٤

فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧))

توزن الأعمال بميزان الإخلاص فما ليس فيه إخلاص لا يقبل ، وتوزن الأحوال بميزان الصدق فما يكون فيه الإعجاب لا يقبل ، وتوزن الأنفاس بميزان (...) (١) فما فيه حظوظ ومساكنات لا يقبل.

ويقال ينتصف المظلوم من الظالم ، وينتقم الضعيف من القوى.

ويقال ما كان لغير الله لا يصلح للقبول.

ويقال يكافئ كلا بما يليق بعمله فمن لم يرحم عباده فى دنياه لا يرحمه‌الله ، ومن لم يحسن إلى عباده تقاصر عنه إحسانه ، ومن ظلم غيره كوفئ بما يليق بسوء فعله.

قوله : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) : أي يجازى المظلومين وينتقم من الظالمين ، وينصف المظلوم من مثقال الذرة ومقياس الحبّة ، وإن عمل خيرا بذلك المقدار فسيلقى جزاءه ، ويجد عوضه.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨))

ما آتاه الحق سبحانه للأنبياء عليهم‌السلام من الضياء والنّور ، والحجّة والبرهان يشاركهم المستجيبون من أممهم فى الاستبصار به ...

فكذلك الأكابر من هذه الأمة يشاركون نبينا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى الاستبصار بنور اليقين.

و «المتّقى» هو المجانب لما يشغله ويحجبه عن الله ، فيتقى أسباب الحجاب وموجباتها.

__________________

(١) نرى انه قد حدث سقوط للفظة فى هذا المكان ، ولا بد انها بمعنى الخلوص لله والتجرد من كل العلائق ، وربما كانت أيضا (الحقوق) أي حقوق الله.

٥٠٥

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩))

صار لهم فى استحقاق هذه البصائر والخشية بالغيب إطراق السريرة ، وفى أوان الحضور استشعار الوجل من جريان سوء الأدب ، والحذر من أن يبدو من الغيب من خفايا التقدير ما يوجب حجبة العبد.

والإشفاق من الساعة على ضربين : خوف قيام الساعة الموعودة للعامة ، وخوف قيام الساعة التي هى قيامة هؤلاء القوم (١) ؛ فإنّ ما يستأهل الكافة فى الحشر معجّل لهم فى الوقت من تقريب ومن تبعيد ، ومن محو ومن إثبات.

قوله جل ذكره : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

وصف القرآن بأنه (مُبارَكٌ) ، وهو إخبار عن دوامه (٢) ، من قولهم : برك الطائر على الماء أي دام.

وإنّ هذا الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؛ وما لا ابتداء له ـ وهو كلامه القديم ـ فلا انتهاء للكتاب الدالّ عليه.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١))

أراد به ما تعرّف إليه من الهداية حتى لم يقل بما يجوز عليه الزوال والأفول (٣) ، لو لا أنّه خصّه فى الابتداء بالتعريف .. وإلّا متى اهتدى إلى التمييز بينه وبين خلقه لو لا ما أضاء. (٤) عليه من أنوار التوحيد قبلما حصل منه من النظر فى المخلوق؟

ويقال هو ما كاشف به روحه قبل إبداعها من تجلّى الحقيقة.

__________________

(١) اى أرباب الأحوال

(٢) وردت (بيانه) وآثرنا ـ طبقا للسياق ـ أن نجمعها (دوامه)

(٣) إشارة إلى أن إبراهيم لما رأى أفول الشمس والقمر والنجم قال : «إنى (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ»).

(٤) (أضاء) مقبولة فى السياق ولكننا لا نستبعد أنها ربما كانت فى الأصل (أفاء) أي (أنعم).

٥٠٦

قوله جل ذكره (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢))

خاطب قومه وأباه (١) ببيان التنبيه طمعا فى استفاقتهم من سكرة الغفلة ، ورجوعهم من ظلمة (٢) الغلظة ، وخروجهم من ضيق الشّبهة.

ثم سأل الله إعانتهم بطلب الهداية لهم. فلمّا تبيّن له أنهم لا يؤمنون ، وعلى كفرهم يصرّون تبرّأ منهم أجمعين.

قوله جل ذكره : (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥))

ما استروحوا فى الجواب إلا إلى التقليد ، فكان من جوابه الحكم بالتسوية بينهم وبين آبائهم فى الضلال ، والحجة المتوجهة على سلفهم لزموها وتوجهت عليهم ، فلم يرضوا منه بتخطئة آبائهم حتى قالوا : (أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ؟) فطالبوه بالبرهان إلى ما دعاهم إليه من الإيمان فقال :

(قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦))

فأحالهم على النظر والاستدلال والتعرّف (٣) من حيث أدلة العقول (٤) لأنّ إثبات الصانع

__________________

(١) وردت (وأتاه) والصواب أن تكون (أباه) كما فى الآية.

(٢) وردت فى (ظلمة) وفى م (ظل) والصواب أن تكون (ظلمة) فالقشيرى يستعمل الظل للعناية وما فى معناها.

(٣) فى ص (والتعريف) وفى م (التعرف) ونحن نرجح هذه.

(٤) فى ص (القبول) ونحن نرجح (العقول) لتلاؤمها مع السياق.

٥٠٧

لا يعرف بالمعجزات ، وإنما المعجزات علم بصدق الأنبياء عليهم‌السلام ، وذلك فرع لمعرفة الصانع.

ثم بيّن لهم أنّ ما عبدوه من دون الله لا يستحق العبادة ، ثم إنه لم يحفل بما يصيبه من البلاء ثقة منه بأنّ الله هو المتفرّد بالإبداع ، فلا أحد يملك له (١) ضرا من دون الله ، فتساءلوا فيما بينهم وقالوا :

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ)

أي يذكرهم بالسوء. ويحتمل أن يكون من فعله .. فاسألوه ، فسألوه (٢) فقال : بل فعله كبيرهم.

فقالوا كيف ندرك الذنب عليه؟ وكيف تحيلنا فى السؤال عليه ـ وهو جماد؟

فقال : وكيف تستجيزون عبادة ما هو جماد لا يدفع عن نفسه السوء؟!

قوله جل ذكره : (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥))

فقال : شرّ وأمرّ (٣) .. كيف تستحق أمثال هذه .. العبادة؟! فلمّا توجّهت الحجة عليهم ولم يكن لهم جواب داخلتهم الأنفة والحمية فقالوا : سبيلنا أن نقتله شرّ قتلة ، وأن نعامله بما يخوفنا به من النار. فقالوا : (ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) ، فلما رموه فى النار :

(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩))

__________________

(١) الضمير فى (فسألوه) يعود على ابراهيم عليه‌السلام.

(٢) أي أن فى الكلام كما يقول البلاغيون ـ إيجاز حذف.

(٣) أي هذا عذر أقبح من الذنب.

٥٠٨

لو عصمه من نار (١) نمرود ولم يمكنه من رميه فى النار من المنجنيق لكان ـ فى الظاهر ـ أقرب من النصر ، ولكنّ حفظه فى النار من غير أنّ يمسّه ألم أتمّ فى باب النصرة والمعجزة والكرامة.

ويقال إن ابراهيم ـ عليه‌السلام ـ كان كثيرا ما يقول : أواه من النار!

قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (٢)

فلمّا رمى فى النار ، وجعل الله عليه النار بردا قيل له : لا تقل بعد هذا. أواه من النار! فالاستعاذة بالله من الله .. لا من غيره.

قوله : (وَسَلاماً) : أي وسلامة عليه وله ، فإنه إذا كان للعبد السلامة فالنار والبرد عنده سيان.

ويقال إن الذي يحرق فى النار من فى النار يقدر على حفظه فى النار.

ولمّا سلم قلبه من غير الله بكل وجه فى الاستنصار (٣) والاستعانة وسلم من طلب شىء بكلّ وجه .. تعرّض له جبريل ـ عليه‌السلام ـ فى الهواء وقد رمى من المنجنيق وقال له :

هل من حاجة؟

فقال : أمّا إليك .. فلا! فجعل الله النار عليه بردا وسلاما ؛ إذ لمّا كان سليم القلب من الأغيار وجد سلامة النّفس من البلايا والأعلال.

قوله جل ذكره : (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠))

من حفر لأوليائه وقع فيما حفر ، ومن كان مشغولا بالله لم يتولّ الانتقام منه سوى الله.

__________________

(١) فى م (يد) نمرود وكلاهما مقبول فى السياق.

(٢) آية ١١٤ سورة التوبة.

(٣) هكذا فى من وهى أصح من (الاستبصار) فى ص لانسجام (الاستنصار) مع (الاستعانة).

٥٠٩

قوله جل ذكره : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١))

مضت سنّة الله فى أنبيائه ـ عليهم‌السلام ـ أنه إذا نجّى منهم واحدا أشرك معه من كان مساهما له فى ضرّه ومقاساة مشقته.

قوله جل ذكره : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢))

منّ عليه بأن أخرج من صلبه من كان عابدا لله ، ذاكرا له ، فإنّ مفاخر الأبناء مناقب للآباء ، كما أنّ مناقب الآباء شرف للأبناء.

قوله جل ذكره : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣))

الإمام مقدّم القوم ، واستحقاق رتبة الإمامة باستجماع الخصال المحمودة التي فى الأمة فيه ، فمن لم تتجمع فيه متفرّقات الخصال المحمودة لم يستحق منزلة الإمامة.

قوله جل ذكره (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤))

أكمل له الأنعام بعصمته من مثل ما امتحن به قومه ، ثم بخلاصه منهم بإخراجه إيّاه من بينهم ، فميزه عنهم ظاهرا وباطنا.

قوله جل ذكره : (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥))

بيّن أنه أدخله فى رحمته ثم قال : (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ؛ فلا محالة من أدخله فى رحمته كان صالحا.

٥١٠

وقوله : (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) إخبار عن عين الجمع ، وقوله : (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) : إخبار عن عين الفرق (١).

قوله جل ذكره : (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧))

كان نوح ـ عليه‌السلام ـ أطولهم عمرا ، وأكثرهم بلاء. ففى القصة أنه كان يضرب سبعين مرة ، وكان الرجل الهرم يحمل حفيده إليه ويقول. لا تقبل قول هذا الشيخ وكان يوصيه بمخالفته. وكان نوح ـ عليه‌السلام ـ يصبر على مقاساة الأذى ، ويدعوهم إلى الله ، فلمّا أيس من إيمانهم ، وأوحى إليه : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (٢) دعا عليهم فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٣) فقال تعالى : (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ ....) فأزهق الشّرك وأغرق أهله.

سورة الكهف ...

سورة مريم ...

سوره طه ...

قوله جل ذكره (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً)

أشركهم فى حكم النبوة وإن كان بين درجتيهما تفاوت .. ففى مسألة واحدة أثبت لسليمان ـ عليه‌السلام ـ بها خصوصية ؛ إذ منّ عليه بقوله : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) ولم بمن عليه بشىء من الملك الذي أعطاه بمثل ما منّ عليه بذلك ، وفى هذه المسألة دلالة على تصويب المجتهدين ـ وإن اختلفوا ـ إذا كان اختلافهم فى فروع الدّين ؛ حيث قال : (وَكُلًّا آتَيْنا

__________________

(١) لأن الرحمة من صفات ذاته ـ سبحانه ، وصلاح العبد فيه شىء من كسب العبد.

(٢) آية ٣٦ سورة هود.

(٣) آية ٢٦ سورة نوح.

٥١١

حُكْماً وَعِلْماً) ولمن قال بتصويب أحدهما وتخطئة الآخر فله تعلّق بقوله : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) (١)

قوله جل ذكره : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ)

أمر الجبال وسخّرها لتساعد داود ـ عليه‌السلام ـ فى التسبيح ، ففى الأثر : كان داود ـ عليه‌السلام ـ يمرّ وصفاح (٢) الجبال تجاويه ، وكذلك الطيور كانت تساعده عند تأويبه.

قوله جل ذكره : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠))

سخّر الله ـ سبحانه ـ لداود الحديد وألانه فى يده ، فكان ينسج الدروع ، قال تعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) ليتحصن من السهام فى الحروب ، قال تعالى : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) وأحكم الصنعة وأوثق المسامير .. ولكن لما قصدته سهام التقدير ما أصابت إلا حدقته حين نظر إلى امرأة أوريا ـ من غير قصد ـ فكان ما كان.

ولقد خلا ذلك اليوم ، وأغلق على نفسه باب البيت ، وأخذ يصلى ساعة ، ويقرأ التوراة مرة ، والزبور أخرى ، حتى يمضى وينتهى ذلك اليوم بالسلامة. وكان قد أوحى إليه أنّه يوم فتنة ، فأمر الحجّاب والبواب ألا يؤذن عليه أحد ، فوقع من كوّة البيت طير لم ير مثله

__________________

(١) هذا رأى القشيري فى (الاجتهاد) ومداه ، ويجدر الاهتمام به إذا شئنا أن نبحث فى «أصول الفقه عند الصوفية».

(٢) صفاح جمع صفح ، وصفح الشيء عرضه (مقاييس اللغة ج ٣ ص ٢٩٣).

ويقول القرطبي (قال وهب : كان داود يمر بالجبال مسبحا ، والجبال تجاوبه بالتسبيح ، وكذلك الطير) ويضيف القرطبي شيئا هاما بالنسبة للتفسير الصوفي : (كان داود إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت حتى بشتاتى ، ولهذا قال : (وَسَخَّرْنا) أي جعلناها بحيث تطيعه).

«الجامع لأحكام القرآن ج ١١ ص ٣١٩»

وبهذه المناسبة نود أن نستدرك شيئا لم نشر إليه فى مدخل الكتاب ، وهو أن القرطبي كثيرا ما يستفيد من آراء الصوفية ، وبصفة خاصة من القشيري ، وهو في معظم الأحيان عبد الرحمن القشيري أحد أبناء المصنف.

٥١٢

فى الحسن ، فهمّ أن يأخذه ، فتباعد ولم يطر كالمطمع له فى أخذه ، فلم يزل يستأخر قليلا قليلا حتى طار من كوّة البيت ، فتبعه داود ينظر إليه من الكوة من ورائه ، فوقع بصره على امرأة أوريا ، وكانت قد تجرّدت من ثيابها تغتسل فى بستان خلف البيت الذي به داود ، فحصل فى قلبه ما حصل ، وأصاب سهم التقدير حدقته ، ولم تنفعه صنعة اللّبوس التي كان تعلّمها لتحّصنه من بأسه.

قوله جل ذكره : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١))

سخّر الله له الريح غدوّها شهر ورواحها شهر ، ولو أراد أن يزيد فى قدر مسافتها شبرا لما استطاع ، تعريفا بأنه موقوف على حكم التقدير ، فشهود التقدير كان يمنعه عن الإعجاب بما أكرم به من التسخير ، ولقد نبّه ـ سبحانه ـ من حيث الإشارة أن الذي ملكه سليمان كالريح إذا مرّ وفات ، أو أنه لا يبقى باليد منه شىء (١).

وفى القصة أنه لا حظ ذلك يوما فمالت الريح ببساطه قليلا ، فقال سليمان للريح : استو.

فقالت له الريح : استو أنت. أي إنما ميلى ببساطك لميلك بقلبك بملاحظتك ؛ فإذا استويت أنت استويت أنا (٢).

قوله جل ذكره : (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢))

إنما كان ذلك أياما قلائل فى الحقيقة. ثم إنه أراد يوما أن يعود إلى مكانه فجاءه ملك الموت فطالبه بروحه ، فقال : إلىّ حين أرجع إلى مكانى.

فقال له : ولا وجه للتأخير ، وقبضه وهو قائم يتكئ على عصاه وبقي بحالته ، ولم تعلم الجنّ ،

__________________

(١) فهو كما قيل : باطل وقبض الريح.

(٢) فى ذلك إشارة إلى أصحاب الأحوال بأنه إذا تغيرت أو تعذرت الأمور فالسبب كامن فى نفوسهم.

٥١٣

إلى أن أكلت دابة الأرض ـ كما فى القصة ـ عصاه ، فلما خرّ سليمان علمت الشياطين بموته ، وتحققوا أنّ الذي بالعصا قيامه فقهر الموت يلحقه.

قوله جل ذكره : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣))

أي واذكر أيوب (١) حين نادى ربّه. وسمّى أيوب لكثرة إيابه إلى الله فى جميع أحواله فى السرّاء والضرّاء ، والشّدّة والرّخاء.

ولم يقل : ارحمني ، بل حفظ أدب الخطاب فقال : (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

ومن علامات الولاية أن يكون العبد محفوظا عليه وقته في أوان البلاء.

ويقال إخباره عنه أنه قال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) لم يسلبه اسم الصبر حيث أخبر عنه سبحانه بقوله : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) لأنّ الغالب كان من أحواله الصبر ، فنادر قالته لم يسلب عنه الغالب من حالته. والإشارة من هذا إلى أنّ الغالب من حال المؤمن المعرفة ، أو الإيمان بالله فهو الذي يستغرق جميع أوقاته ، ولا يخلو منه لحظة ؛ ونادر زلّاته ـ مع دائم إيمانه ـ لا يزاحم الوصف الغالب.

ويقال ؛ لمّا لم يكن قوله : مسنى الضرّ على وجه الاعتراض على التقدير ـ بل كان على وجه إظهار العجز ـ فلم يكن ذلك منافى الصفة الصبر.

ويقال استخرج منه هذا القول ليكون فيه متنفّس للضعفاء فى هذه الأمة حتى إذا ضجّوا فى حال البلاء لم يكن ذلك منافى الصفة الصبر.

ويقال لم يكن هذا القول منه على جهة الشكوى ، وإنما كان من حيث الشكر (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) الذي تخصّ به أولياءك ، ولو لا أنك أرحم الراحمين لما خصصتنى بهذا ، ولكن برحمتك أهّلتنى لهذا.

__________________

(١) فى تقدير با أن ما كتبه القشيري فى هذا الموضع عن أيوب عليه‌السلام من أجمل ما كتب فى هذا الموضوع سواء من الناحية الأدبية أو من الناحية الإشارى ة.

٥١٤

ويقال لم يكن هذا القول من أيوب ولكنه استغاثة البلاء منه ، فلم يطق البلاء صحبته فضجّ منه البلاء لا أيوب ضجّ من البلاء .. وفى معناه أنشدوا.

صابر الصبر فاستغاث به الصبر

فصاح المحبّ بالصبر صبرا

ويقال همزة الاستفهام فيه مضمرة ، ومعناه : أيمسني الضرّ وأنت أرحم الراحمين؟ كما قال (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ) (١) أي أتلك نعمة تمنها علىّ أن عبدت بنى إسرائيل؟

ويقال إن جبريل ـ عليه‌السلام ـ أتى أيوب فقال : لم تسكت؟ فقال : ماذا أصنع؟

فقال : إنّ الله سببان عنده بلاؤك وشفاؤك ... فاسأل الله العافية فقال أيوب : إنى مسنى الضّر ، فقال تعالى : (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) والفاء تقتضى التعقيب ، فكأنه قال : فعافيناه فى الوقت. وكأنه قال : يا أيوب ، لو طلبت العافية قبل هذا لاستجبنا لك.

ويقال سقطت دودة كانت تأكل من بدنه على الأرض فرفعها أيوب ووضعها على موضعها ، فعقرته عقرة عيل صبره فقال : مسنى الضر ، فقيل له : يا أيوب : أتصبر معنا؟ لو لا أنى ضربت تحت كل شعرة من شعراتك كذاخيمة من الصبر .. ما صبرت ساعة!

ويقال كانت الدودات التي تأكل منه أكلت ما علا بدنه ، فلم يبق منه إلا لسانه وقلبه ، فصعدت دودة إلى لسانه ، وأخرى إلى قلبه فقال :

(مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ... فلم يبق لى إلا لسان به أذكرك ، أو قلب به أعرفك ، وإذ لم يبق لى ذلك فلا يمكننى أن أعيش وأصبر!

ويقال استعجمت عليه جهة البلاء فلم يعلم أنه يصيبه بذلك تطهيرا أو تأديبا أو تعذيبا أو تقريبا أو تخصيصا أو تمحيصا ... وكذلك كانت صحبته (٢).

ويقال قيل لأيوب عليه‌السلام سل العافية فقال :

عشت فى النّعم سبعين سنة فحتى يأتى علىّ سبعون سنة فى البلاء .. وعندئذ أسأل الله العافية!

__________________

(١) آية ٢٢ سورة الشعراء.

(٢) أي وهكذا كانت صحبة الحق لوليه دائما.

٥١٥

وقيل لمّا كشف الله عنه البلاء قيل له : ما أشدّ مالقيت فى أيام البلاء؟ فقال شماتة الأعداء :

وفى القصة أن تلامذة أيوب كسروا أقلامهم ، وحرّقوا ما كتبوه عنه وقالوا : لو كان لك عند الله منزلة لما ابتلاك بكل هذا البلاء! وقيل لم يبق معه إلا زوجه ، وكانت من أولاد يوسف النبي عليه‌السلام ، فهى التي بقيت معه وكانت تخدمه وتتعهده.

ويقال إنما بقيت تلك المرأة معه لأنها كانت من أهل البلاء من آل يعقوب ـ عليه‌السلام.

وقيل إنما قال : مسنى الضرّ لمّا قال لها الشيطان : إنّ أردت أن يشفى مريضك فاسجدى لى ، ولم تعلم أنه إبليس لأنه ظهر لها فى صورة إنسان ، فأخبرت أيوب بذلك فقال عندئذ : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ).

ويقال لمّا ظهر به البلاء اجتمع قومه وقالوا لها : أخرجى هذا المريض من قريتنا ، فإننا نخاف العدوى وأن يمسنّا بلاؤه ، وأن نعدى إلينا علّته ، فأخرجته إلى باب القرية فقالوا : إنا إذا أصبحنا وقعت أبصارنا عليه ، فنتشاءم به ، فأبعديه عن أبصارنا ، فحملته إلى أرض قفر ، وكانت تدخل البلد ، وتستأجر للخبز والعمل فى الدور ، فتأخذ الأجرة وتحملها إليه ، فلما علموا أنّها امرأته استقذروها ولم يستعملوها.

ويقال إنها كانت ذات ذوائب وقرون ، وكان أيوب يأخذ بذوائبها عند نهوضه ، فباعت ذوائبها برغيف أخذته لتحمله إليه ، فوسوس له الشيطان بأنها فعلت الفحشاء ، وأن شعرها جزّ فى ذلك فحلف أيوب أن يجلدها إذا صحّ حدسه ، وكانت المحنة على قلب تلك المرأة أشدّ مما على بدن أيوب من كل المحن.

وقيل إن امرأته غابت ودخلت البلد ، فعافى الله أيوب عليه‌السلام ، وعاد شابا طريا كما قال فى قصته قوله : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) (١). فلما رجعت

__________________

(١) آية ٤٢ سورة ص

٥١٦

امرأته ولم تره حسبت أنه أكله سبع أو أصابته آفة ، فأخذت تبكى وتولول ، فقال لها أيوب ـ وهى لم تعرفه لأنه عاد صحيحا ـ مالك يا امرأة؟

قالت : كان لى هاهنا مريض ففقدته. فقال لها أيوب : أنا ذاك الذي تطلبينه!

وفى بعض الأخبار المروية أنه بقي فى بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات.

وقيل تعرّض له إبليس فقال : إن أردت العافية فاسجد لى سجدة ، فقال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ).

ويقال إن أيوب ـ عليه‌السلام ـ كان مكاشفا بالحقيقة ، مأخوذا عنه ، فكان لا يحسّ بالبلاء ، فستر عليه مرة ، وردّه إليه ، فقال : مسّني الضّرّ (١).

ويقال أدخل على أيوب تلك الحالة ، واستخرج منه هذه القالة ليظهر عليه إقامة العبودية.

ويقال أوحى الله إلى أيوب ـ عليه‌السلام ـ أنّ هذا البلاء اختاره سبعون نبيا قبلك فما اخترته إلا لك ، فلمّا أراد كشفه عنه قال : مسنّي الضرّ!

وقيل كوشف بمعنيّ من المعاني فلم يجد ألم البلاء فقال : مسّنى الصرّ لفقدى ألم الضّرّ.

وقال جعفر الصادق : حبس عنه الوحى أربعين يوما فقال : مسنى الضرّ لما لحقه من الضعف بقيام الطاعة فاستجاب إليه بأن ردّ عليه قوّته ليقوم بحقّ الطاعة.

ويقال طلب الزيادة فى الرضا فاستجيب له بكشف ما كان به من ضعف الرضا.

ويقال إن الضرّ الذي شكا منه أنه بقيت عليه بقية ، وبليته كانت ببقيته ، فلمّا أخذ عنه بالكلية زال البلاء ، ولهذا قال (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) وكانت نفسه ضرّه ، وردّ عليه‌السلامة والعافية والأمل ـ فى الظاهر ـ لمّا ضار مأخوذا بالكلية عنه ، منقّى عن كل بقية ، وعند ذلك يستوى البلاء والعافية ، والوجود والفقد.

__________________

(١) أي ان العبد الواله لا يحس بنفسه وهو فى حال الجمع ، ويحس بها وهو فى حال الغرق. وقد حكى القشيري فى الرسالة أن بعضهم قطعت رجله حيث كانت بها غر غرينة فلم يشعر ، بينما آلت بعضهم قملة .. وهو في حال الفرق.

٥١٧

قوله جل ذكره : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥))

أي واذكر هؤلاء الأنبياء ثم قال : (كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) ، ثم قال :

(وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦))

بيّن الحكم والمعنى ؛ الحكم صبرهم وصلاحهم ، والمعنى إدخاله إياهم فى الرحمة.

قوله جل ذكره : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧))

(مُغاضِباً) : على ملك وقته حيث اختاره للنبوة ، وسأله : لم اخترتني؟ فقال : لقد أوحى الله إلى نبيّى : أن قل لفلان الملك حتى يختار واحدا ليرسل إلى نينوى بالرسالة. فثقل على ذى النون لما اختاره الملك ؛ لأنه علم أن النبوة مقرونة بالبلاء ، فكان غضبه عليه لذلك (١).

ويقال مغاضبا على قومه لمّا امتنعوا عن الإيمان وخرج من بينهم.

ويقال مغاضبا على نفسه أي شديد المخالفة لهواه ، وشديدا على أعداء الدين من مخالفيه.

(فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي أن لن نضيّق عليه (٢) بطن الحوت ، من قوله : (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) (٣) أي ضيّق.

__________________

(١) عن ابن عباس : أراد شعيا النبي والملك حزقيا أن يبعثا يونس إلى ملك نينوى الذي كان قد غزا بنى إسرائيل وسبى الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بنى إسرائيل ؛ وكان الأنبياء فى ذلك الزمان يوحى إليهم ، والأمر والسياسة الى ملك قد اختاروه ، فيعمل على وحي ذلك النبي ، وقد أوحى لشعيا : ان قل لحزقيا الملك أن يختار نبيا قويا من بنى إسرائيل إلى أهل نينوى .. فقال يونس لشعيا : هل أمرك الله بإخراجى؟ قال : لا ، قال : فهاهنا أنبياء أمناء أقوياء ، فألحوا عليه .. فخرج مغاضبا للنبى والملك وقومه ، حتى أنى بحر الروم .. وكان من قصته ما كان ، وابتلى ببطن الحوت لتركه أمر شعبا .. قال تعالى (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ)

(٢) (ان لن نضيق عليه) مفقودة فى ص وموجودة فى م والسياق يقتضى وجودها.

(٣) آية ١٦ سورة الفجر

٥١٨

ويقال فظنّ أن لن نقدر عليه من حبسه فى بطن الحوت.

وخرج من بين قومه لمّا أخبر بأنّ الله يعذّب قومه ، وخرج بأهله.

ويقال إن السبع افترس أهله فى الطريق ، وأخذ النّمر ابنا صغيرا له كان معه ، وجاء موج البحر فأغرق ابنه الآخر ، وركب السفينة ، واضطرب البحر ، وتلاطمت أمواجه ، وأشرفت السفينة على الغرق ، وأخذ الناس فى إلقاء الأمتعة فى البحر تخفيفا عن السفينة ، وطلبا لسلامتها من الغرق ، فقال لهم يونس : لا تلقوا أمتعتكم فى البحر بل اطرحوني فيه فأنا المجرم فيما بينكم لتخلصوا. فنظروا إليه وقالوا : نرى عليك سيماء الصلاح ، وليست تسمح نفوسنا بإلقائك فى البحر ، فقال تعالى مخبرا عنه : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (١) أي فقارعهم ، فاستهموا ، فوقعت القرعة عليه.

وفى القصة أنه أتى حرف السفينة ، وكان الحوت فاغزا فاه ، فجاء إلى الجانب الآخر فجاء الحوت إليه كذلك ، حتى جاز كل جانب. ثم لمّا علم أنه مراد بالبلاء ألقى نفسه فى الماء فابتلعه الحوت (وَهُوَ مُلِيمٌ) : أي أتى بما يلام عليه ، قال تعالى : (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) (٢).

وأوحى الله إلى السمك : لا تخدش منه لحما ولا تكسر منه عظما ، فهو وديعة عندك وليس بطعمة لك. فبقى فى بطنه ـ كما فى القصة ـ أربعين يوما.

وقيل إن السمك الذي ابتلعه أمر بأن يطوف فى البحر ، (وخلق الله له إدراك ما فى البحر) (٣) ، وكان ينظر إلى ذلك.

ويقال إن يونس عليه‌السلام صحب الحوت أياما قلائل فإلى القيامة يقال له : ذا النون ، ولم تبطل عنه هذه النسبة .. فما ظنّك بعبد عبده ـ سبحانه ـ سبعين سنة ، ولازم قلبه محبته ومعرفته طول عمره .. ترى أيبطل هذا؟ لا يظنّ بكرمه ذلك!

(فَنادى فِي الظُّلُماتِ ...) يقال ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت ـ هذا بيان

__________________

(١) آية ١٤١ سورة الصافات

(٢) آية ١٤٢ سورة الصافات

(٣) موجودة فى م ومفقودة فى ص

٥١٩

التفسير ، ويحتمل (١) أن تكون الظلمات ما التبس عليه من وقته واستبهم عليه من حاله.

قوله جل ذكره : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨))

استجبنا له ولم يجر منه دعاء ؛ لأنه لم يصدر عنه أكثر من قوله : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، ولم يقر بالظلم إلا وهو يستغفر منه.

ثم قال : (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ ...) يعنى : كلّ من قال من المؤمنين ـ إذا أصابه غمّ ، أو استقبله مهم ـ مثلما قال ذو النون نجيناه كما نجينا ذا النون.

قوله جل ذكره : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩))

سأل الولد ، وإنما سأله ليكون له معينا على عبادة ربّه ، وليقوم فى النبوة مقامه ، ولئلا تنقطع بركة الرسالة من بيته (٢) ، ولقد قاسى زكريا من البلاء ما قاسى حتى حاولوا قطعه بالمنشار ، ولما التجأ إلى شجرة انشقت له وتوسّطها ، والتأمت الشجرة ، وفطنوا إلى ذلك فقطعوا الشجرة بالمنشار ، وصبر لله ، وسبحان الله!

كان انشقاق الشجرة له معجزة ، وفى الظاهر كان حفظا له منهم ، ثم لو لم يطلعهم عليه لكان في ذلك سلامته ، ولعلّهم ـ وقتلوه ـ لم يصبه من الألم القدر الذي لحقه من القطع بالمنشار طول إقامته ، وإنما المعنى فيه أن انشقاق الشجرة كان له معجزة ، فقوى بذلك يقينه لمّا رأى عجيب الأمر فيه من نقض العادة (٣) ، ثم البلاء له بالقتل ليس ببلاء فى التحقيق ، ولقد قال قائلهم : «إنما يستعذب الأولياء البلوى للمناجاة مع المولى».

__________________

(١) هذا النوع من الظلمات ـ وهو المرتبط بالنفس ـ متوقع صدوره عن مفسر صوفى علم بأحوال النفس.

(٢) أي أنه لم يسال الولد لحظ نفسه بل لحق ربه ، وهذه بشرى إجابة الدعاء.

(٣) أي أن المعجزة ليست فقط من أجل القوم الذين فيهم النبي بل فى حسابها تثبيت قلب النبي وترسيخ يقينه.

٥٢٠