لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

هل يقول ما يقول بتعريف منا؟ أم هل اتخذ مع الله عهدا؟ ليس الأمر كذلك.

ودليل الخطاب يقتضى أن المؤمن إذا ظن بالله تعالى ظنا جميلا ، أو أمّل منه أشياء كثيرة فالله تعالى يحققها له ، ويصدق ظنّه لأنه على عهد مع الله تعالى ، والله تعالى لا يخلف عهده.

قوله جل ذكره : (كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠))

كلا .. ليس الأمر على ما يقول ، وليس لقولهم تحقيق ، بل سنمدلهم من العذاب مدا أي سنطيل فى العذاب مدتهم.

(وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ...) لن نمتّعه بأولاده وحشمه وخدمه وقومه ، ويعود إلينا منفردا عنهم.

قوله جل ذكره : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢))

حكموا بظنهم الفاسد أنّ أصنامهم تمنعهم ، وأنّ ما عبدوه من دون الله تعالى توجب عبادتهم لهم عند الله تعالى وسيلة .. وهيهات! هيهات أن تكون لمغاليط حسبانهم تحقيق ، بل إذا حشروا وحشرت أصنامهم تبّرأت أصنامهم منهم ، وما أمّلوا نفعا منها عاد ضررا عليهم.

ويقال طلبوا العزّ فى أماكن الذل ، فأخفقوا فى الطلب ، ونفوا عن المراد.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣))

تؤزهم أي تزعجهم ، فخاطر الشيطان يكون بإزعاج وغمّة ، وخاطر الحقّ يكون بروح وسكينة ، وهذه إحدى الدلائل بينهما.

٤٤١

قوله جل ذكره : (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤))

الأنفاس فى الحكم معدودة ؛ فمن لم يستوف فلا انقضاء لها. وإذا انتهى الأجل فلا تنفع بعد ذلك الحيل ، وقبل انقضائه لا يزيد ولا ينقص بالعلل.

قوله جل ذكره : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥))

قيل ركبانا على نجائب طاعاتهم ، وهم مختلفون ؛ فمن راكب على صدور طاعاته ، ومن راكب على مراكب هممه ، ومن راكب على نجائب أنواره. ومن محمول يحمله الحقّ فى عقباه كما يحمله اليوم فى دنياه. وليس محمول الحقّ كمحمول الخلق!

قوله جل ذكره (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦))

فأولئك يساقون بوصف العزّ ، وهؤلاء يساقون بنعت الذّلّ ، فيجمعهم فى السّوق ، ولكن يغابر بينهم فى معانيه .. فشتّان ما هما!!

قوله جل ذكره : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧))

وذلك العهد حفظهم فى دنياهم ما أخذ عليهم ـ يوم الميثاق ـ من القيام بالشهادة بوحدانية مولاهم.

قوله جل ذكره : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١))

ما أعظم بهتانهم فى مقالتهم! وما أشدّ جرأتهم فى قبيح حالتهم! لكنّ الصمدية متقدّسة عن عائد يعود إليها من زين بتوحيد موحّد ، أو شين بإلحاد ملحد .. فما شاهت إلّا وجوههم بما خاضوا فيه من مقالهم ، وما صاروا إليه من ضلالهم. كما لم يتجمّل بما قاله الآخرون إلا القائل ، وما عاد إلا على القائل مقابل من عاجل أو آجل.

٤٤٢

قوله جل ذكره : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))

أنّى بالولد وهو واحد؟! وأنّى بالولادة ولا جنس له وجوبا (١) ولا جوازا؟!

(لَقَدْ أَحْصاهُمْ ..) : لا يعزب عن علمه معلوم ، ولا ينفكّ عن قدرته ـ مما يصح أن يقال حدوثه ـ موهوم.

(وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) : لا خدم يصحبهم ، ولا حشم يلحقهم ، كلّ بنفسه مشتغل ، وعن غيره منفرد.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦))

يجعل فى قلوبهم ودا لله نتيجة لأعمالهم الخالصة ، وفى الخبر : «لا يزال العبد يتقرب إلىّ بالنوافل حتى يحبنى وأحبه» (٢).

ويقال يجعل لهم الرحمن ودا فى قلوب عباده ، وفى قلوب الملائكة ، فأهل الخير والطاعة محبوبون من كلّ أحد من غير استحقاق بفعل (٣).

__________________

(١) وردت (وجودا) والأرجح ان تكون (وجوبا) لتتلاءم مع (جوازا) اى لا يجب عليه ولا يجوز فى وصفه ـ لتقدسه وتنزهه ـ ان يكون له جنس.

(٢) (... فإذا أجبته كنت عينه التي يبصر بها ، وسمعه الذي يسمع به ، ويده التي يبطش بها) وهو حديث قدسى ورواه البخاري عن أبى هريرة ، واحمد عن عائشة ، والطبراني فى الكبير عن ابى امامة ، وابن السنى عن ميمون ، وقد اخطأ من زعم ان البخاري انفرد بروايته.

(٣) اخرج مسلم والترمذي عن ابى هريرة ان النبي (ص) قال إذا أحب الله عبدا نادى جبريل ؛ إنى قد أحببت فلانا فأحبه ، فينادى فى السماء ثم تنزل له المحبة فى الأرض .. وذلك قوله تعالى : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا).

السيوطي فى إتقانه ص ١٩٩ ج ٢ ط مصطفى الحلبي.

٤٤٣

قوله جل ذكره : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧))

(١) الكلام واحد والخطاب واحد ، وهو لقوم تيسير ، ولآخرين تخويف وتحذير. فطوبى لمن يسّر لما وفّق به ، والويل لمن خوّف بل خذل فيه. والقوم بين موفق ومخذول.

قوله جل ذكره : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

أثبتهم وأحياهم ، وعلى ما شاء فطرهم وأبقاهم ، ثم بعد ذلك ـ لما شاء ـ أماتهم وأفناهم ، فبادوا بأجمعهم ، وهلكوا عن آخرهم ، فلا كبير منهم ولا صغير ، ولا جليل ولا حقير ، وسيطالبون ـ يوم النشور ـ بالنقير والقطمير.

سورة طه

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

بسم الله اسم عزيز من تحقّق بجلال عزّته تمحض (٢) فى خلوص عبوديته ، وإذا وصل إلى ضياء صفوته نزل عن سيماء نعوته.

اسم عزيز من عرفه سمت همّته ، وإذا سمت همته سقطت عن الدارين طلبته.

اسم من عرفه زال كربه وطاب قلبه ؛ دينه ربّه (٣) وجنّته حبّه.

اسم عزيز من وسمه بعبوديته حرّره من رقّ شهواته ، وأعتقه من أسر مطالبه ؛ فلا له لمحبوب طلب ، ولا يستفزّه لمحذور هرب.

__________________

(١) أخطأ الناسخ إذ جعلها (وإنما)

(٢) المحض ـ اللبن الخالص ، وتمحض ـ خلص من الشوائب.

(٣) أي عبادته لربه لذاته ؛ لا طلبا لثواب ولا خوفا من عقاب كما هو الشأن فى العبادة التقليدية.

٤٤٤

قوله جل ذكره : (طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢))

الطاء إشارة إلى قلبه ـ عليه‌السلام ـ من غير الله ، والهاء إشارة إلى اهتداء قلبه إلى الله.

وقيل طأ بسرّك بساط القربة فأنت لا تهتدى إلى غيرنا.

ويقال طوينا عن سرّك ذكر غيرنا ، وهديناك إلينا.

ويقال طوبى لمن اهتدى بك. ويقال طاب عيش من اهتدى بك.

(ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) : أي ليس المقصود من إيجابنا إليك تعبدك ، وإنما هذا استفتاح الوصلة ، والتمهيد لبساط القربة.

ويقال إنه لما قال له : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) (١) وقف بفرد قدم تباعدا وتنزها عن أن يقرب من الدنيا استمتاعا بها بوجه فقيل له : طأ الأرض بقدميك. لم كل هذا التعب الذي تتحمله؟ فزاد فى تعبده ، ووقف ، حتى تقدمت قدماه (٢) وقال : «أفلا أكون عبدا شكورا» أي لما أهلني من التوفيق حتى أعبده.

قوله جل ذكره : (إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣))

فالقرآن تبصرة لذوى العقول ، تذكرة لذوى الوصول ، فهؤلاء به يستبصرون فينالون به راحة النّفس فى آجلهم ، وهؤلاء به يذكرون فيجدون روح الأنس فى عاجلهم.

قوله جل ذكره : (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤))

__________________

(١) آية ٨٨ سورة الحجر.

(٢) نرجح انها (تورمت قدماه) لأن السياق يذكرنا بالحديث :

[انه كان يصلى حتى تورمت قدماه فقيل له : يا رسول اللّه» أليس قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا] الشيخان ، والنسائي. والترمذي عن المغيرة بن شعبة.

(وسيعود القشيري إلى فكرة «طأ بقدميك الأرض» في آخر السورة عند تفسير آية : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ...) آية ١٣١).

٤٤٥

جعل الأرض قرارا لعباده. ونفوس العابدين أرض وقرار لطاعتهم ، وقلوب العارفين قرار لمعارفهم.

قوله جل ذكره :(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥))

استواء عرشه فى السماء معلوم ، وعرشه فى الأرض قلوب أهل التوحيد.

قال تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (١) وعرش القلوب : قال تعالى : (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (٢). أمّا عرش السماء فالرحمن عليه استوى ، وعرش القلوب الرحمن عليه استولى. عرش السماء قبلة دعاء الخلق ، وعرش القلب محلّ نظر الحق. فشتّان بين عرش وعرش!

قوله جل ذكره : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦))

له الأشياء على العموم ملكا ، والأولياء تخصيصا وتشريفا. له ما بين السماوات والأرض مما أظهر من العدم ؛ فالكلّ له إثباتا وخلقا.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧))

النّفس لا تقف على ما فى القلب ، والقلب لا يقف على أسرار الرّوح ، والروح لا سبيل له إلى حقائق السرّ والذي هو أخفى من السّرّ فهو ما لا يطّلع عليه إلا الحق (٣).

ويقال الذي هو أخفى من السر لا يفسده الشيطان ، ولا يكتبه الملكان ، ويستأثر بعلمه الجبّار ، ولا تقف عليه الأغيار.

قوله جل ذكره : (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨))

__________________

(١) آية ١٧ سورة الحاقة.

(٢) آية ٧٠ سورة الإسراء.

(٣) يسميه القشيري فى مواضع أخرى من مصنفاته (سر السر) أو (عين السر) الرسالة ص ٤٨

٤٤٦

نفى كل موهوم من الحدثان بأن يكون شىء منه صالحا للإبداع ، وأثبت كلّ ما فى الوجود له باستحقاق القدم.

(لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي صفاته ، على انقسامها إلى صفة ذات وصفة معنى (١)

ويقال (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) : تعريف للخلق بأنّ استحقاق العلو والتقدّس عن النقائص له على وصف التفرّد به.

قوله جل ذكره (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩))

سؤال فى صيغة الاستفهام والمراد منه التقرير (٢) والإثبات. وأجرى ـ تعالى ـ سنّته فى كتابه أن يذكر قصة موسى عليه‌السلام فى أكثر المواقع التي يذكر فيها حديث نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيعقبه بذكر موسى عليه‌السلام.

(إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً)

ألاح له النار حتى أخرجه من أهله يطلبها ، وكان المقصود إخراجه من بينهم ، فكان موسى عليه‌السلام يدنو والنار تنأى ، وقال لأهله :

(امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) فقال أهله : كيف تتركنا والوادي مسبع؟

فقال : لأجلكم أفارقكم ؛ فلعلّى آتيكم من هذه النار بقبس.

ويقال استولى على موسى عند رؤيته النار الانزعاج ، فلم يتمالك حتى خرج. ففى القصة أنه لما أتاها وجد شجرة تشتعل من أولها إلى آخرها ، فجمع موسى ـ عليه‌السلام ـ حشائش ليأخذ من تلك النار ، فعرف أن هذه النار لا تسمح نفسها بأن تعطى إلى أحد شعلة :

__________________

(١) الأرجح ـ حسب الذي ذكره القشيري فى كتابه التحيير فى التذكير ـ أنها (وصفه فعل).

(٢) وردت (التقدير) والصواب أن تكون (التقرير) فهذا هو المصطلح البلاغى الذي يطلق على مثل هذا الاستفهام.

٤٤٧

وقلن لنا نحن الأهلّة إنما

نضىء لمن يسرى بليل ولا نقرى

يا موسى هذه النار تضىء ولكن لا تعطى لأحد منها شعلة. يا موسى هذه النار تحرق القلوب لا النفوس.

ويقال كان موسى عليه‌السلام فى مزاولة قبس من النار فكان يحتال كيف يأخذ منها شيئا ، فبينما هو فى حالته إذ سمع النداء من الحقّ.

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢))

علم موسى أنه كلام الحق ـ سبحانه ـ لمّا سمع فيه الترتيب والتنظيم والتركيب ، فعلم أنه خطاب الحق.

ويقال إنما عرف موسى ـ عليه‌السلام ـ أنه كلام الله بتعريف خصّه الحق ـ سبحانه ـ به من حيث الإلهام دون نوع من الاستدلال.

«قوله : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ..) فإن بساط حضرة الملوك لا يوطأ بنعل.

ويقال ألق عصاك يا موسى ، واخلع نعليك ، وأقم عندنا هذه الليلة ولا تبرح.

ويقال الإشارة فى الأمر بخلع النعلين تفريغ القلب من حديث الدارين ، والتجرد للحقّ بنعت الانفراد.

ويقال (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) : تبرّأ عن نوعى أفعالك (١) ، وامح عن الشهود جنسى أحوالك من قرب وبعد ، ووصل وفصل ، وارتياح واجتياح ، وفناء وبقاء ... وكن بوصفنا ؛ فإنما أنت بحقنا.

أثبته فى أحواله حتى كان كالمجرد عن جملته ، المصطلم عن شواهده.

__________________

(١) ربما حدث سقوط ، فالكلام يحتاج إلى توضيح (نوعى أفعالك) قياسا على ما ذكر فى (جنسى أحوالك) ونرجح أن نوعى الفعل هما الأمر والنهى ، أو المأمور به والمزجور عنه ... أو ما فى هذا المعنى.

٤٤٨

قوله : (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) : أي إنك بالوادي المقدس عن الأعلال ؛ وساحات الصمدية تجلّ عن كل شين ، وإيمان وزين ؛ عن زين بإحسان وشين بعصيان ؛ لأنّ للربوبية سطعات عزّ تقهر كلّ شىء.

قوله جل ذكره : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣))

وعلى علم منى بك اصطفينك ، وجرّدتك ونقّيتك عن دنس الأوهام وكلّ ما يكدّر صفوك.

ويقال بعد ما اخترتك فأنت لى وبي ، وأنت محو فى فنائك عنك.

قوله جل ذكره : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي)

تقدّست عن الأعلال فى أزلى ، وتنزهت (...) (١) والأشكال باستحقاقى لجلالى وجمالى.

ويقال (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) : الأغيار فى وجودى فقد ، والرسوم والأطلال عند ثبوت حقّى محو

قوله : (فَاعْبُدْنِي) : أي تذلّل لحكمى ، وأنفذ أمرى ، واخضع لجبروت سلطانى.

قوله جل ذكره : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)

إقامتها من غير ملاحظة مجريها ومنشيها يورث الإعجاب. وإذا أقام العبد صلاته على نعت. الشهود والتحقق بأن مجريها غيره (٢) كانت الصلاة بهذا فتحا لباب المواصلة ، والوقوف على محل النجوى ، والتحقق بخصائص القرب والزلفة.

قوله جل ذكره : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥))

الفائدة فى تعريف العباد بقرب الساعة أن يستفيقوا من غفلات التفرقة ، فإذا حضروا

__________________

(١) حدث هنا طمس أفقدنا بقية الجملة ، وربما كانت (عن الأمثال).

(٢) الضمير فى (غيره) يعود على العبد والمقصود أن يتحقق العبد بأن الرب هو الذي يجرى عليه تعبده.

٤٤٩

بقلوبهم ـ ففى حال استدامة الذكر ـ فما هو موعود فى الآجل أكثره للحاضرين موجود فى العاجل ؛ والحاضرة لهم كالآخرة. وكذلك جعلوا من أمارات الاستقامة شهود الوقت قيامة (١).

قوله جل ذكره : (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))

إذا أكرمه الله بحسن التنبيه ، وأحضره بنعت الشهود فلا ينبغى أن ينزل عن سماء صفاته إلى جحيم أهل الغفلة فى تطوحهم فى أودية التفرقة.

قوله جل ذكره : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧))

كرّر عليه السؤال فى غير آية عن عصاه لمّا كان المعلوم له سبحانه فيها من إظهاره فيها عظيم المعجزة.

ويقال إنما قال ذلك لأنه صحبته هيبة المقام عند فجأة سماع الخطاب ؛ فليسكن بعض ما به من بواده الإجلال .. ردّه إلى سماع حديث العصا ، وأراه ما فيها من الآيات.

ويقال لو تركه على ما كان عليه من غلبات الهيبة لعلّه كان لا يعى ولا يطيق ذلك .. فقال له : وما تلك بيمينك يا موسى؟

(قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨))

قال هى عصاى ، وأخذ يعدّد ما له فيها من وجوه الانتفاع فقال له :

(قالَ أَلْقِها يا مُوسى)

__________________

(١) (فالقيامة عند هؤلاء تقوم كل يوم غير مرة بالهجر والنوى والفراق) و (جهنم الفراق أشد هولا من جهنم الاحتراق). اللطائف فى مواضع أخرى.

٤٥٠

فإنّك بنعت التوحيد (١) ، واقف على بساط التفريد ، ومتى يصحّ ذلك ، ومتى يسلم لك أن يكون لك معتمد تتوكأ عليه ، ومستند عليه تستعين ، وبه تنتفع؟

ثم قال : (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) : أوّل قدم فى الطريق ترك كلّ سبب ، والتّنقّى عن كل طلب ؛ فكيف كان يسلم له أن يقول : أفعل بها ، وأمتنع (٢) ، ولى فيها مآرب أخرى.

ويقال ما ازداد موسى ـ عليه‌السلام ـ تفصيلا فى انتفاعه بعصاه إلا كان أقوى وأولى بأن يؤمن بإلقائها ، والتنقى عن الانتفاع بها على موجب التفرّد لله.

ويقال التوحيد التجريد ، وعلامة صحته سقوط الإضافات (٣) بأسرها ؛ فلا جرم لما ذكر موسى ـ عليه‌السلام ـ ذلك أمر بإلقائها فجعلها الله حيّة تسعى ، وولّى موسى هاربا ولم يعقّب. وقيل له يا موسى هذه صفة العلاقة ؛ إذا كوشف صاحبها بسرّها يهرب منها.

ويقال لمّا باسطه الحقّ بسماع كلامه أخذته أريحية سماع الخطاب ، فأجاب عما يسأل وعمّا لم يسأل فقال : (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) ، وذكر وجوها من الانتفاع ؛ منها أنه قال تؤنسني (٤) فى حال وحدتي ، وتضىء لى الليل إذا أظلم ، وتحملني إذ عييت فى الطريق فأركبها ، وأهشّ بها على غنمى ، وتدفع عنى عدوّى. وأعظم مأرب لى فيها أنّك قلت : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ؟) وأية نعمة أو مأرب أو منفعة تكون أعظم من أن تقول لى : وما تلك؟ ويقال قال الحقّ ـ بعد ما عدّد موسى وجوه الآيات وصنوف انتفاعه بها ـ ولك يا موسى فيها أشياء أخرى أنت غافل عنها وهى انقلابها حية ، وفى ذلك لك معجزة وبرهان صدق.

__________________

(١) إذا صح نقل هذه العبارة عن الأصل فالقشيرى يقصد بها (فإنك موحد) ، والموحد أعلى درجات العارفين.

(٢) أي تكون لى بها منعة وقوة ، وربما كانت (وأنتفع) وكلاهما صحيح فى المعنى.

(٣) سقوط الإضافات أي لا يقول لى ولا بي ولا منى ـ وهذه آية صحة التوحيد عندهم (أنظر الرسالة ص ١٤٩).

(٤) وردت (تسعى) ، وقد وجدنا (تؤنسني) أقرب إلى المعنى وإن كانت بعيدة فى الرسم ، فآثرناها ونبهنا إلى الأصل. أو ربما سقطت (معى) بعد (تسعى) ويكون السياق آنذاك منسجما.

٤٥١

ويقال جميع ما عدّد من المنافع فى العصا كان من قبل الله .. فكيف له أن ينسبها ويضيفها إلى نفسه ، ولهذا قالوا :

يا جنّة الخلد ، والهدايا إذا

تهدى إليك فما منك يهدى

ويقال قال موسى لما رآها حية تهتز : لقد علمت كلّ وصف بهذه العصا ، أمّا هذه الواحدة فلم أعرفها.

قوله جل ذكره : (قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى)

لا عبرة بما يوهم ظاهر الأشياء ؛ فقد يوهم الظاهر بشىء ثم يبدو خلافه فى المستقبل ؛ فعصا موسى صارت حية.

ثم قال المقصود بذلك أن تكون لك آية ومعجزة لا بلاء وفتنة (١).

قوله : (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ ...) : أشهده ـ بانقلاب العصا من حال إلى حال ؛ مرة عصا ثم ثعبانا ثم عصا مرة أخرى ـ أنّه يثبّت عباده فى حال التلوين مرة ومرة ؛ فمن أخذ ومن ردّ ، ومن جمع ومن فرق إلخ (٢).

قوله جل ذكره : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣))

كما أراه آية من خارج أراه آية من نفسه ، وهى قلب يده بيضاء ؛ إذ جعلها فى جيبه من غير البرص. قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (٣)

__________________

(١) وهذا الكلام يتطبق. ذلك على الكرامة التي تظهر على يدى الولي ، وهذا فرق بين المعجزة الكرامة من ناحية وبين السحر من ناحية أخرى.

(٢) حتى يصلوا إلى حال (التمكين).

(٣) آية ٥٣ سورة فصلت.

٤٥٢

وإنما قال : أدخل يدك فى جيبك ولم يقل كمّك لانه لم يكن لما عليه من اللّباس كمّان.

قوله : «لنريك (١) من آياتنا الكبرى» : الآية الكبرى هى ما كان يجده فى نفسه من الشهود والوجود ، وما لا يكون بتكلّف العبد وتصرّفه من فنون الأحوال التي يدركها صاحبها ذوقا.

قوله جل ذكره : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤))

بعد ما أسمعه كلامه من غير واسطة ، وشرّف مقامه ، وأجزل إكرامه أمره بالذهاب ليدعو فرعون إلى الله ـ مع علمه بأنه لا يؤمن ولا يجيب ولا يسمع ولا يعرف ـ فشقّ على موسى ذهابه إلى فرعون ، وسماع جحده منه ، بعد ما سمع من الله كلامه سبحانه ، ولكنه آثر أمر محنته على مراد نفسه.

ويقال لمّا أمره بالذهاب إلى فرعون سأل الله أهبة النّقل وما به يتمّ تبليغ ما حمل من الرسالة ، ومن ذلك قوله :

(قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨))

ليعلم أنّ من شرط التكليف التّمكّن من أداء المأمور به.

ويقال إنّ موسى لم أخذ فى المخاطبة مع الله كاد لا يسكت من كثرة ما سأله فظل يدعو : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ...) وهكذا إلى آخر الآيات والأسئلة.

قوله (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) : حتى أطيق أن أسمع كلام غيرك بعد ما سمعت منك. (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) : حتى ينطلق بمخاطبة غيرك ، وقوّنى حتى أردّ ما أردّ ... بك لا بي

قوله جل ذكره : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١))

__________________

(١) أخطأ الناسخ إذ جعلها (لنريه).

٤٥٣

سأل أن يصحب أخاه معه ، ولما ذهب لسماع كلام الله حين قال تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) (١) كان بمفرده ، لأن الذهاب إلى الخلق يوجب الوحشة ؛ فطلب من أخيه الصحبة ليخفّف عليه كلفة المشقة.

ويقال إن المحبة توجب التجرّد والانفراد وألا يكون للغير مع المحبّ مساغ ؛ ففى ذهابه إلى فرعون استصحب أخاه ، ولمّا كان الذهاب إلى الميقات لم يكن للغير سبيل إلى صحبته ، إذ كان المقصود من ذهابه أن يكون مخصوصا بحاله.

قوله جل ذكره : (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤))

بيّن أنّ طلبه مشاركة أخيه له بحقّ ربه لا بحظّ نفسه حيث قال : (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً).

قوله جل ذكره : (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦))

أعطيناك ما سألت ، وتناسيت ابتداء حالك حين حفظناك فى اليمّ ونجّينا أمّك من ذلك الغمّ ، وربّيناك فى حجر العدوّ .. فأين ـ حينذاك ـ كان سؤالك واختيارك ودعاؤك (٢)؟

وأثبتنا فى قلب امرأة فرعون شفقتك ، وألقينا عليك المحبة حتى أحبك عدوّك ، وربّاك حتى قتل بسببك ما لا يحصى من الولدان ، والذي بدأك بهذه المنن هو الذي آتاك سؤلك ، وحقّق لك مأمولك.

قوله جل ذكره : (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ)

__________________

(١) آية ١٤٣ سورة الأعراف.

(٢) أي أن فضل الله دائم ، وسابق للدعاء ، وغير مرتبط بالاختيار الإنسانى ولا بالعمل الإنسانى ، وهذه نظرة فى الشمول قلما يفطن إليها غير الصوفية. فأين منهم المعتزلة الذين يوجبون على الله؟! ذلك أحد المرامى البعيدة التي يقصد إليها القشيري.

٤٥٤

كان ذلك وحي إلهام ، ألقى الله فى قلبها أن تجعله فى تابوت ، وتلقيه فى اليم يعنى نهر النيل ، ففعلت ، فألقاه النهر على الساحل ، فحمل إلى فرعون. فلمّا وقع بصر امرأة فرعون عليه باشر حبّه قلبها ، وكذلك وقعت محبته فى قلب فرعون ، ولكنها كانت أضعف قلبا ، فسبقت بقولها (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ ..) (١) ، ولو لا أنها علمت أنه أخذ شعبة من قلب فرعون ما أخذ من قلبها لم تقل : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ).

قوله : (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) : ربّاه فى حجر العدو ، وكان قد قتل بسببه ألوفا من الولدان .. ولكن من مأمنه يؤتى الحذر! وبلاء كلّ أحد كان بعده إلا بلاء موسى عليه‌السلام فإنه تقدّم عليه بسنين ؛ ففى اليوم الذي أخذ موسى فى حجره كان قد أمر بقتل كثير من الولدان ، ثم إنه ربّاه ليكون إهلاك ملكه على يده .. ليعلم أنّ أسرار الأقدار لا يعلمها إلا الجبار.

ويقال كان فرعون يسمّى والد موسى وأباه ـ ولم يكن. وكان يقال لأمّ موسى ظئر (٢) موسى ـ ولم تكن ؛ فمن حيث الدعوى بالأبوة لم يكن لها تحقيق ، ومن حيث كان المعنى والحقيقة لم يكن عند ذلك خبر ولا عند الآخر من ذلك معرفة .. هكذا الحديث والقصة (٣).

ولقد جاء فى القصة أن موسى لمّا وضع فى حجر فرعون لطم وجهه فقال : إنّ هذا من أولاد الأعداء فيجب أن يقتل ، فقالت امرأته : إنه صبيّ لا تمييز له ، ويشهد لهذا أنه لا يميّز بين النار وبين غيرها من الجواهر والأشياء ، وأرادت أن يصدّق زوجها قالتها ، فاستحضرت شيئا من النار وشيئا من الجواهر ، فأراد موسى عليه‌السلام أن يمدّ يده إلى الجواهر فأخذ جبريل عليه‌السلام بيده وصرفها إلى النار فأخذ جمرة بيده ، وقرّبها من فيه فاحترق لسانه ـ ويقال إنّ العقدة التي كانت على لسانه كانت من ذلك الاحتراق ـ فعند ذلك قالت امرأة فرعون : ها قد تبينّ أن هذا لا تمييز له ؛ فقد أخذ الجمرة إلى فيه. وتخلّص موسى بهذا مما حصل منه من لطم فرعون.

__________________

(١) آية ٩ سورة القصص.

(٢) الظئر. المرضعة لغير ولدها.

(٣) يقصد بالحديث والقصة التصوف وأهله ؛ فلقب العبد مرتبط بقلبه وحقيقة باطنه لا بما يستفاد من ظاهره ورأى الناس فيه ، وهذا أصل من أصول أهل الملامة النيسابورية.

٤٥٥

ويقال إنهم شاهدوا ولم يشعروا أنه لم يحترق من أخذ الجمرة وهو صبي رضيع ، ثم احترق لسانه ، فعلم الكلّ أن هذا الأمر ليس بالقياس. فإنه سبحانه فعّال لما يريد.

قوله جل ذكره : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)

أي أحببتك. ويقال فى لفظ الناس : فلان ألقى محبته على فلان أي أحبّه. ويقال (أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) : أي طرحت فى قلوب الناس محبة لك ، فالحقّ إذا أحبّ عبدا فكلّ من شاهده أحبّه. ويقال لملاحة فى عينيه ؛ فكان لا يراه أحد إلا أحبّه.

ويقال (أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) : أي أثبتّ فى قلبك محبتى ؛ فإن محبه العبد لله لا تكون إلا بإثبات الحق ـ سبحانه ـ ذلك فى قلبه ، وفى معناه أنشدوا :

إنّ المحبة أمرها عجب

تلقى عليك وما لها سبب

قوله جل ذكره : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي)

أي بمرأى منى ويقال لا أمكّن غيرى بأن يستبعدك عنى.

ويقال أحفظك من كل غير ، ومن كلّ حديث سوى حديثنا. ويقال ما وكلنا حفظك إلى أحد.

قوله جل ذكره : (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ..)

البلاء على حسب قوة صاحبه وضعفه ، فكلما كان المرء أقوى كان بلاؤه أوفى (١) ، وكلما كان أضعف كان بلاؤه أخف. وكانت أمّ موسى ضعيفة فردّ إليها ولدها بعد أيام ، وكان يعقوب أقوى فى حاله فلم يعد إليه يوسف إلا بعد سنين طويلة.

قوله جل ذكره : (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ)

__________________

(١) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» رواه الترمذي ، وابن ماجه والحاكم عن سعد بن أبى وقاص.

٤٥٦

أجرى الله عليه ما هو فى صورة كبيرة من قتل النّفس بغير حق ، ثم بيّن الله أنه لا يضره ذلك ، فليست العبرة بفعل العبد فى قلّته وكثرته إنما العبرة بعناية الحقّ ، بشأن أحد أو عداوته.

ويقال قد لا يموت كثير من الخلق بفنون من العذاب ، وكم من أناس لا يموتون وقد ضربوا ألوفا من السياط! وصاحب موسى عليه‌السلام ومقتوله مات بوكزة! إيش (١) الذي أوجب وفاته لو لا أنه أراد به فتنة لموسى؟ وفى بعض الكتب أنه ـ سبحانه ـ أقام موسى كذا وكذا مقاما ، وأسمعه كلامه كل مرة بإسماع آخر ، وفى كل مرة كان يقول له : (وَقَتَلْتَ نَفْساً).

(فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ) : أريناك عين الجمع حتى زال عنك ما داخلك من الغمّ بصفة مقتضى التفرقة ، فلمّا أريناك سرّ جريان التقدير نجيّناك من الغم.

قوله جل ذكره : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً).

استخلصناك لنا حتى لا تكون لغيرنا. ويقال جنّسنا عليك البلاء ونوّعناه حتى جرّدناك عن كل اختيار وإرادة ، ثم حينئذ رقّيناك إلى ما استوجبته من العلم الذي أهلناك له.

قوله جل ذكره : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ).

وكنت عند الناس أنك أجير لشعيب ، ولم يظهر لهم ما أودعنا فيك ، وكان يكفى ـ عندهم ـ أن تكون ختنا (٢) لشعيب.

(ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى).

أي عددنا أيام كونك فى مدين شعيب ، وكان أهل حضرتنا من الملائكة الذين عرفوا شرفك ومحبّتك منتظرين لك ؛ فجئت على قدر.

__________________

(١) أي (أي شىء) وهى لفظة ترد فى مصنفات القشيري من حين إلى آخر. وجاء فى الوسيط ج ١ ص ٣٤ أن العرب تكلمت بها.

(٢) أي زوجا لابنته ، وفي الحديث «علىّ ختن رسول الله»

٤٥٧

ويقال إنّ الأجل إذا جاء للأشياء فلا تأخير فيه ولا تقديم ، وأنشدوا فى قريب من هذا المعنى :

بينما خاطر المنى بالتلاقى

سابح فى فؤاده وفؤادى

جمع الله بيننا فالتقينا

هكذا بغتة بلا ميعاد

قوله جل ذكره : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١))

استخلصتك لى حتى لا تصلح لأحد غيرى ، ولا يتأتّى شىء منك غير تبليغ رسالتى ، وما هو مرادى منك.

ويقال أفردت سرّك لى ، وجعلت إقبالك علىّ دون غيرى ، وحلت بينك وبين كل أحد ممن هو دونى.

ويقال (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) : قطعه بهذا عن كلّ أحد ، ثم قال له : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ).

قوله جل ذكره : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣))

تعلّل موسى عليه‌السلام لمّا أرسله الحقّ إلى فرعون بوجوه من العلل مثل قوله : (يَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) (١) ، (إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (٢). إلى غير ذلك من الوجوه ، فلم ينفعه ذلك ، وقال الله : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) ، فاستقل (٣) موسى عليه‌السلام بذلك ، وقال : الآن لا أبالى بعد ما أنت معى.

قوله جل ذكره : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤))

__________________

(١) آية ١٣ سورة القصص.

(٢) آية ٣٣ سورة القصص.

(٣) الاستقلال هنا معناه الاكتفاء.

٤٥٨

إنما أمرهما بالملاينة معه فى الخطاب لأنه كان أول من دعوه إلى الدّين ، وفى حال الدعوة يجب اللّين (١) ؛ فإنه وقت المهلة ، فلا بدّ من الإمهال ريثما ينظر (٢) ؛ قال الله لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٣) : وهو الإمهال حتى ينظروا ويستدلوا ، وكذلك قال : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) (٤).

ثم إذا ظهر من الخصم التمرّد والإباء فحينئذ يقابل بالغلظة والحتف.

ويقال علّمهما خطاب الأكابر ذوى الحشمة ؛ ففرعون ـ وإن كان كافرا ـ إلا أنه كان سلطان وقته ، والمتسلّط على عباد الله.

ويقال إذا كان الأمر فى مخاطبة الأعداء بالرّفق والملاينة .. فكيف مع المؤمن فى السؤال؟

ويقال فى هذا إشارة إلى سهولة سؤال الملكين فى القبر للمؤمن.

ويقال إذا كان رفقه بمن جحده فكيف رفقه بمن وحده؟

ويقال إذا كان رفقه بالكفّار فكيف رفقه بالأبرار؟

ويقال إذا كان رفقه بمن قال : أنا .. فكيف رفقه بمن قال : أنت؟

ويقال إنه (٥) أحسن تربية موسى عليه‌السلام ؛ فأراده أن يرفق به اليوم فى الدنيا على جهة المكافأة.

وقيل تفسير هذا ما قال فى آية أخرى (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) (٦).

وقوله : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) : أي كونا على رجاء أن يؤمن. ولم يخبرهما أنه لا يؤمن

__________________

(١) وردت (التمكين) وهى خطأ فى النسخ وقد انتبه أحد القراء إلى هذا الخطأ فوضع علامة استفهام صغيرة.

(٢) النظر هنا معناها التفكر فى الأمر.

(٣) آية ١٢٥ سورة النحل.

(٤) آية ٤٦ سورة سبأ.

(٥) أي فرعون.

(٦) آية ١٨ سورة النازعات.

٤٥٩

لئلا تتداخلهما فترة فى تبليغ الرسالة علما منه (١) بأنه لا يؤمن ولا يقبل.

قوله جل ذكره : (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥))

فى الآية دليل على أنّ الخوف (٢) الذي تقتضيه جبلة الإنسان غير ملوم صاحبه عليه ، حيث قال مثل موسى ومثل هارون عليهما‌السلام : (إِنَّنا نَخافُ).

ثم إنّه سبحانه سكّن ما بهما من الخوف بوعد النصرة لهما.

ويقال لم يخافا على نفسيهما شفقة عليهما ، ولكن قالا : إننا نخاف أن تحل بنا مكيدة من جهته ، فلا يحصل فيما تأمرنا به قيام بأمرك ، فكان ذلك الخوف لأجل حقّ الله لا لأجل حظوظ أنفسهما.

ويقال لم يخافا من فرعون ، ولكن خافا من تسليط الله إياه عليهما ، ولكنهما تأدّبا فى الخطاب.

قوله جل ذكره : (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦))

تلطّف فى استجلاب هذا القول من الحق سبحانه ، وهو قوله : (إِنَّنِي مَعَكُما) بقولهما : (إِنَّنا نَخافُ) ، وكان المقصود لهما أن يقول الحق لهما : (إِنَّنِي مَعَكُما) وإلا فأنّى بالخوف لمن هو مخصوص بالنبوّة؟! ويقال سكّن فيهما الخوف بقوله : (إِنَّنِي مَعَكُما) ، فقويا على الذهاب إليه ؛ إذ من شرط التكليف التمكين.

قوله جل ذكره : (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ)

__________________

(١) وردت (منهم) وهى خطأ فى النسخ لأن المقصود : مع انه سبحانه عليم بانه لن يؤمن ولن يقبل.

(٢) فى هذه الإشارة توضيح هام لاصطلاح (الخوف).

٤٦٠