لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

ويقال إذا حاسبهم فى القيامة يتصور لهم كأنهم فى الحال ما فارقوا الزّلة ، وإن كانت مباشرة الزّلة قد مضت عليها سنون كثيرة.

قوله جل ذكره : (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)

يملك الحزن قلبه لأنه يعلم أنه يرى فى عمله سيئة فهو فى موضع الخجل لتقصيره. وإن رأى حسنة فهو فى موضع الخجل أيضا لقلة توقيره ؛ فخجلة أهل الصدق عند شهود حسناتهم توفى وتزيد على خجلة أهل الغفلة إذا عثروا على زلّاتهم.

ويقال أصحاب الطاعة إذا وجدوا ما قدّموا من العبادات فمآلهم السرور والبهجة وحياة القلب والراحة ، وأمّا أصحاب المخالفات فإنما يجدون فيما قدّموا مجاوزة الحدّ ونقض العهد ، وما فى هذا الباب من الزّلة وسوء القصد.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)

أظهر للملائكة شظيّة مما استخلص به آدم فسجدوا بتيسير من الله ـ سبحانه ، وسكّر بصر اللعين فما شهد منه غير العين (١) (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ،) ولا صدق فى قوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) لمّا فسق عن الأمر ، ولكن أدركته الشقاوة الأصيلة فلم تنفعه الوسيلة بالحيلة.

قوله جل ذكره : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ

__________________

(١) أي نظر إبليس إلى الجسد المادي لآدم فقال : خلقتنى من نار وخلقته من طين ، ولم ينظر إلى الجوهر ، والسبب فى ذلك في رأى القشيري أن الله أغلق عليه.

٤٠١

دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)

فى الآية إشارة إلى أنّ من يفرده بالولاية فلا يقتفى غيره ولا يخاف غيره.

قوله جل ذكره : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١))

أكذب المنجمين والأطباء الذين يتكلمون فى الهيئات والطبائع بقوله : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) : وبيّن أن ما يقولونه من إيجاب الطبائع لهذه الكائنات لا أصل له فى التحقيق.

(وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) : أي لم أجعل للذين يضلّون الناس عن دينهم بشبههم فى القول بالطبائع حجة ، ولم أعطهم لتصحيح ما يقولونه برهانا.

ويقال إذا تقاصرت علوم الخلق عن العلم بأنفسهم فكيف تحيط علومهم بحقائق الصمدية ، واستحقاقه لنعونه إلا بمقدار ما يخصّهم به من التعريف على ما يليق برتبة كل أحد بما جعله له أهلا؟

ويقال أخبر أنّ علومهم تتقاصر عن الإحاطة بجميع أوصافهم وجميع أحوالهم وعن كلّ ما فى الكون ، ولا سبيل لهم إلى ذلك ؛ ولا حاجة بهم إلى الوقوف على ما قصرت علومهم عنه ، إذ لا يتعلّق بذلك شىء من الأمور الدينية. فالإشارة فى هذا أن يصرفوا عنايتهم إلى طلب العلم بالله وبصفاته وبأحكامه ، فإنه لا بدّ لهم ـ بحكم الديانة ـ من التحقق بها ؛ إذ الواجب على العابد معرفة معبوده بما يزيل التردد عن قلبه فى تفاصيل مسائل الصفات والأحكام (١).

قوله جل ذكره : (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ

__________________

(١) فى هذا أبلغ رد على من يتهمون الصوفية بمجافاتهم للعلوم ، وكيف يجافونها وطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة؟

٤٠٢

زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢))

علم الحقّ ـ سبحانه ـ أنّ الأصنام لا تغنى ولا تنفع ولا تضر ، ولكن يعرّفهم فى العاقبة بما يصيّر معارفهم ضرورية (١) حسما لأوهام القوم ؛ حيث توهموا أنّ عبادتهم للأصنام فيها نوع تقرب إلى الله على وجه التعظيم له كما قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٢).

فإذا تحققوا بذلك صدقوا فى الندم ، وكان استيلاء الحسرة عليهم ، وذلك من أشد العقوبات لهم.

قوله جل ذكره : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣))

إذا صارت الأوهام منقطعة ، والمعارف ضرورية ، والنار معاينة استيقنوا أنهم واقعون فى النار ، فلا يسمع لهم عذر ، ولا تنفع لهم حيلة ، ولا تقبل فيهم شفاعة ، ولا يؤخذ منهم فداء ولا عدل .. لقد استمكنت الخيبة ، وغلب اليأس ، وحصل القنوط ، وهذا هو العذاب الأكبر.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤))

أوضح للكافة الحجج ، ولكن لبّس على قوم النهج فوقعوا فى العوج.

(وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) الجدل فى الله محمود مع أعدائه ، والجدل مع الله شرك لأنه صرف إلى مخالفة توهم أن أحدا يعارض التقدير ، وتجويز ذلك انسلاخ

__________________

(١) المعارف إما ضرورية أو كسبية ، والضرورية من الحق ، والكسبية من الخلق.

(٢) آية ٣ سورة الزمر.

٤٠٣

عن الدّين. ومن أمارات السعادة للمؤمن فتح باب العمل عليه ، وإغلاق باب الجدل دونه.

قوله جل ذكره : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥))

لا عذر لهم إذا لجأوا إلى ما تعاطوه من العصيان وترك المبادرة إلى المأمور ، ولا توفيق يساعدهم فيخرجهم عن حوار الداعي إلى عزم الفعل ، فهم ـ وإن لم يكونوا بنعت الاستطاعة على ما ليسوا يفعلونه ـ ليسوا عاجزين عن ذلك ؛ ولكنهم بحيث لو أن العبد منهم أراد ما أمر به لتأبّى منه ذلك ، وتعذّر عليه ؛ ففى الحال ليس بقادر على ما ليس يفعله ولا هو عاجز عنه ، وهذا يسميه القوم حال التخلية وهى واسطة بين القدرة والعجز.

قوله جل ذكره : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦))

أرسل الرسل ـ عليهم‌السلام ـ تترى ، وأيّدهم بالحجج والبراهين ، وأمرهم بالإنذار والتخويف ، والتشريف فى عين التكليف ، وتضمين ذلك بالتحقيق ، ولكن سعد قوم باتباعهم ، وشقى آخرون بخلافهم.

قوله جل ذكره : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧))

٤٠٤

لا أحد أظلم ممّن ذكّر ووعظ بما لوّح له من الآيات ، وبما شاهده وعرفه من أمر أصلح أو شغل كفى أو دعاء أجيب له ، أو سوء أدب حصل منه ، فأدّب بما يكون تنبيها له ، أو حصلت منه طاعة وكوفىء فى العاجل إمّا بمعني وجده فى قلبه من بسط أو حلاوة أو أنس ، وإمّا بكفاية شغل أو إصلاح أمر .. ثم إذا استقبله أمر نسى ما عومل به ، أو أعرض عن تذكّره ، ونسى ما قدّمت يداه من خيره وشرّه ، فوجد فى الوقت موجبه .. ومن كانت هذه صفته جعل على قلبه سترا وغفلة وقسوة حتى تنقطع عنه بركات ما وهبه.

ويقال من أظلم ممن يستقبله أمر مجازاة لما أسلفه من ترك أربه فيتّهم ربّه ، ويشكو مما يلاقيه ، وينسى حرمة الذي بسببه أصابه ما أصابه؟ وكما قيل :

وعاجز الرأى مضياع لفرصته

حتى إذا فات أمر عاتب القدرا

قوله جلّ ذكره : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨))

«غفور» : لأنه ذو الرحمة ، ورحمته الأزلية أوجبت المغفرة لهم.

ويقال (الْغَفُورُ) : للعاصين من عباده ، و (ذُو الرَّحْمَةِ) بجميعهم فيصلح أحوال كافتهم.

(لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا) : لعجّل لهم العذاب ؛ أي عاملهم بما استوجبوه من عصيانهم ، فعجّل لهم العقوبة ، لكنه يؤخرها لمقتضى حكمته ، ثم فى العاقبة يفعل ما يفعل على قضية إرادته وحكمه.

قوله جل ذكره : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩))

لمّا لم يشكروا النّعم ولم يصبروا فى المحن عجّلنا لهم العقوبة.

ويقال لمّا غفلوا عن شهود التقدير ، وحرموا روح الرضا وكّلناهم إلى ظلمات تدبيرهم ، فطاحوا فى أودية غفلاتهم.

٤٠٥

قوله جل ذكره : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١))

لما صحّت صحبة يوشع مع موسى عليهما‌السلام استحقّ اسم الفتوة ، ولذا قال : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) وهو اسم كرامة لا اسم علامة.

جعل دخول السمك الماء علامة لوجود الخضر هنالك (١) ، ثم أدخل النسيان عليهما ليكون أبلغ فى الآية ، وأبعد من اختيار البشر.

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢))

كان موسى فى هذا السّفر متحمّلا ، فقد كان سفر تأديب واحتمال مشقة ، لأنه ذهب لاستكثار العلم. وحال طلب العلم حال تأديب ووقت تحمّل المشقة ، ولهذا لحقه الجوع ، فقال : (لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً).

وحين صام فى مدة انتظار سماع الكلام من الله صبر ثلاثين يوما ، ولم يلحقه الجوع ولا المشقة ، لأن ذهابه فى هذا السفر كان إلى الله ، فكان محمولا.

قوله جل ذكره : (قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ

__________________

(١) كان الحوت سمكة مملوحة ، فنزلا ليلة على شاطىء عين الحياة ونام موسى ، فلما أصاب السكة الماء عاشت ووقعت فى الماء (النسفي).

٤٠٦

ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤))

(١) طال عليهما السفر لأنهما احتاجا إلى الانصراف إلى مكانهما ، ثم قال يوشع : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) : الله ـ سبحانه ـ أدخل عليه النسيان ليكون الصّيد من تكلفه ، ثم قال : (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) : يعنى دخول السمك الماء وكان مشويا ؛ فصار ذلك معجزة له ، فلما انتهيا إلى الموضع الذي دخل السمك فيه الماء لقيا الخضر.

قوله جل ذكره : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥))

إذا سمى الله إنسانا بأنه عبده جعله من جملة الخواص ؛ فإذا قال : «عبدى» جعله من خاص الخواص.

(آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) : أي صار مرحوما من قبلنا بتلك الرحمة التي خصصناه بها من عندنا ، فيكون الخضر بتلك الرحمة مرحوما ، ويكون بها راحما على عبادنا.

(وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) : قيل العلم من لدن الله (٢) ما يتحصل بطريق الإلهام دون التكلف بالتّطلّب.

ويقال ما يعرّف به الحقّ ـ سبحانه ـ الخواص من عباده.

ويقال ما يعرّف به الحق أولياءه فيما فيه صلاح عباده.

__________________

(١) قال الزجاج : القصص اتباع الأثر ، فقص قصصا : اتبع الأثر.

(٢) يتخذ الصوفية من قصة الخضر وموسى مصدرا ثريا لاستمداد كثير من أصولهم فيما يتصل بالعلم اللدني وعلم الوراثة ، والولاية والنبوة ، والعلاقة بين المريد والشيخ ، وفكرة الظاهر والباطن ، والملامة على ظاهر مستشنع باطنه سليم .. ونحو ذلك.

وقد نجد خلال إشارات القشيري شيئا من ذلك.

٤٠٧

وقيل هو ما لا يعود منه نفع إلى صاحبه ، بل يكون نفعه لعباده ممّا فيه حقّ الله ـ سبحانه.

ويقال هو ما لا يجد صاحبه سبيلا إلى جحده ، وكان دليلا على صحة ما يجده قطعا ، فلو سألته عن برهانه لم يجد عليه دليلا ؛ فأقوى العلوم أبعدها من الدليل (١).

قوله جل ذكره : (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦))

تلطف فى الخطاب حيث سلك طريق الاستئذان ، ثم صرّح بمقصوده من الصحبة بقوله : (عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً).

ويقال إن الذي خصّ به الخضر من العلم لم يكن تعلمه من أستاذ ولا من شخص ، فما لم يكن بتعليم أحد إياه .. متى كان يعلمه غيره؟

قوله جل ذكره : (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩))

سؤال بذلك العطف وجواب بهذا العطف!

ثم تدارك قلبه بقوله : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً؟) ، فأجابه موسى : (قالَ سَتَجِدُنِي ...) وعد من نفس موسى بشيئين : الصبر ، وبأن لا يعصيه فيما يأمر به ، فأمّا الصبر فقرنه بالاستثناء بمشيئة الله فقال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) فصبر حتى وجد صابرا ، فلم يقبض على يدى الخضر فيما كان منه من الفعل ، والثاني قوله : (لا أَعْصِي

__________________

(١) وسر قوة العلم الذي يبعد عن الدليل أنه من الحق ، وبقدر ما تختفى الجوانب الإنسانية فى العلم وتبرز المنن الإلهية فيه تكون نصاعة برهانه وقوة بيانه.

٤٠٨

لَكَ أَمْراً) : أطلقه ولم يقرنه بالاستنشاء ، فما استنشأ لأجله لم يخالفه فيه ، وما أطلقه وقع فيه الخلف (١).

قوله جل ذكره : (قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠))

فإنه ليس للمريد أن يقول : «لا» لشيخه ، ولا التلميذ لأستاذه ، ولا العامىّ ، للعالم المفتى فيما يفتى ويحكم.

قوله جل ذكره : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١))

لما ركبوا الفلك خرقها وكان ذلك إبقاء على صاحبها لئلا يرغب فى السفينة المخروقة الملك الطامع فى السفن.

وقوله : (لِتُغْرِقَ أَهْلَها) أي لتؤدى عاقبة هذا الأمر إلى غرق أهلها ؛ لأنه علم أنه لم يكن قصد إغراق أهل السفينة.

قوله جل ذكره : (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢))

أي أنت تنظر إلى هذا من حيث العلم ، وإنّا نجريه من حيث الحكم.

قوله جل ذكره : (قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣))

طالبه بما هو شرط العلم حيث قال : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) ؛ لأن الناسي لا يدخل تحت التكليف ، وأيّد ذلك بما قرن به قوله : (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) فالمتمكّن من حقه

__________________

(١) الخلف ـ الإخلاف ، فقد خالف موسى الأمر حين كان ينسى ويتساءل عقب كل حادثة فى القصة ، وكان الحضر فى كل مرة يقول : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً).

٤٠٩

التكليف ، ومن لا يصحّ منه الفعل والترك لا يتوجه () (١) والناسي (٢) من جملتهم.

قوله جل ذكره : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤))

كان بخلق العلم واجبا على موسى ـ عليه‌السلام ـ قصره حيث يرى فى الظاهر ظلما ، ولكن فيما عرف من حال الخضر من حقه التوقف ريثما يعلم أنه ألمّ بمحظور أو مباح ، ففى ذلك الوقت كان قلب العادة.

قوله جل ذكره : (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥))

كرّر قوله : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ ...) لأنه واقف بشرط العلم ، وأمّا فى محل الكشف فشرط عليه موسى عليه‌السلام فقال :

(قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦))

بلغ عصيانه ثلاثا ؛ والثلاثة آخر حدّ القلّة وأوّل حدّ الكثرة ، فلم يجد المسامحة بعد ذلك (٣).

قوله جل ذكره : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧))

__________________

(١) بياض فى النسخة ، ونرجح أن المفقود (عليه لوم) او مؤاخذة.

(٢) وردت (والناس) والسياق يتطلب (والناسي) بالياء إذ جاء فى الآية (... بما نسيت).

(٣) قد تكشف هذه العبارة عن تصور القشيري لأقصى درجات الذنب القابل للتوبة.

٤١٠

كان واجبا فى ملتهم على أهل القرية إطعامهما ، ولم يعلم موسى أنه لا جدوى من النكير عليهم ؛ ولو كان أغضى على ذلك منهم لكان أحسن.

فلمّا أقام الخضر جدارهم ولم يطلب عليه أجرا لم يقل موسى إنك قمت بمحظور ، ولكنه قال له : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) أي إن لم تأخذ بسببك فلو أخذت بسببنا لكان أخذك خيرا لنا من تركك ذلك ، ولئن وجب حقّهم فلم أخللت بحقنا؟

ويقال إنّ سفره ذلك كان سفر تأديب فردّ إلى تحمّل المشقة ، وإلّا فهو حين سقى لبنات شعيب فإنّ ما أصابه من التعب وما كان فيه من الجوع كان أكثر (١) ، ولكنه كان فى ذلك الوقت محمولا وفى هذا الوقت متحمّلا. فلما قال موسى هذا قال له الخضر :

(قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨))

أي بعد هذا فلا صحبة بيننا.

ويقال قال الخضر إنّك نبيّ .. وإنما أؤاخذك بما قلت ، فأنت شرطت هذا الشرط ؛ وقلت : إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى ؛ وإنما أعاملك بقولك.

ويقال لمّا لم يصبر موسى معه فى ترك السؤال لم يصبر الخضر أيضا معه فى إدامة الصحبة فاختار الفراق.

ويقال ما دام موسى عليه‌السلام سأله لأجل الغير ـ فى أمر السفينة التي كانت للمساكين ، وقتل النّفس بغير حق ـ لم يفارقه الخضر ، فلمّا صار فى الثالثة إلى القول فيما كان فيه حظّ لنفسه من طلب الطعام ابتلى بالفرقة ، فقال الخضر : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ).

ويقال كما أن موسى ـ عليه‌السلام ـ كان يحب صحبة الخضر لما له فى ذلك من غرض الاستزادة من العلم فإن الخضر كان يحب ترك صحبة موسى عليه‌السلام إيثارا للخلوة بالله عن المخلوقين.

__________________

(١) ومع ذلك لم يطلب اجرا ، ولم يفكر في ذلك البتة .. لأنه كان بحق الله ؛ ولكنه فى هذا الموقف كان متكلفا ، فهو يفكر بحظ نفسه ، ولذا فكر فى الأجر وطلب الطعام.

٤١١

قوله جل ذكره : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩))

لما فارق الخضر موسى عليه‌السلام لم يرد أن يبقى فى قلب موسى شبه اعتراض ؛ فأزال عن قلبه ذلك بما أوضح له من الحال ، وكشف له أنّ السّرّ فى قصده من خرق السفينة سلامتها وبقاؤها لأهلها حيث لن يطمع فيها الملك الغاصب ، فبقاء السفينة لأهلها ـ وهى مصيبة ـ كان خيرا لهم من سلامتها وهى مغضوبة.

قوله جل ذكره : (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١))

بيّن له أن قتل الغلام لمّا سبق به العلم مضى من الله الحكم أنّ فى بقائه فتنة لوالديه ، وفى إبدال الخلف عنه سعادة لهما.

قوله جل ذكره : (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢))

أما تسوية الجدار فلاستبقاء كنز الغلامين وترك طلب الرفق من الخلق.

٤١٢

قوله جل ذكره : (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢))

أقوام هم أهل مطلع الشمس الغالب عليهم طول نهارهم ، وآخرون كانوا من أهل مغرب الشمس الغالب عليهم استتار شمسهم .. كذلك الناس فى طلوع شمس التوحيد : منهم الغالب عليهم طلوع شموسهم ، والحضور نعتهم والشهود وصفهم والتوحيد حقّهم ، وآخرون لهم من شموس التوحيد النصيب الأقل والقسط الأرذل.

قوله جل ذكره : (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥))

أي ما كانوا يهتدون إلا إلى لسان أنفسهم ، وما كانوا يفقهون فقه غيرهم فلجئوا إلى عبراتهم فى شرح قصتهم ، ورفعوا إليه ـ فى باب يأجوج وماجوج ـ مظلمتهم ، وضمنوا له خراجا يدفعونه إليه ، فأجابهم إلى سؤلهم ، وحقّق لهم بغيتهم ، ولم يأخذ منهم ما ضمنوا له من الجباية ، لمّا رأى أنّ من الواجب عليه حق الحماية على حسب المكنة.

قوله جل ذكره : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا

٤١٣

جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦))

استعان بهم فى الذي احتاج إليه منهم من الإمداد بما قال : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) فلمّا فعلوا ما أمرهم به ، ونفخوا فيه النار جعل السد بين الصدفين أي جانبى الجبل. ثم أخبر أنه إنما يبقى ذلك إلى أن يأذن الله له فى الخروج ، وتندفع عن الناس عادية (....) (١) إلى الوقت المضروب لهم فى التقدير.

وبعد ذلك يكون من شأنهم ما يريد الله. وبيّن ـ سبحانه ـ أنّ خروجهم من وراء سدّهم من أشراط الساعة.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١))

نظروا بأعين رءوسهم لأنهم فقدوا نظر القلب من حيث الاعتبار والاستدلال ، ولم يكن لهم سمع الإجابة لما فقدوا من التوفيق ، فتوجه عليهم التكليف ولم يساعدهم التعريف.

قوله : (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) : لأنهم فقدوا من قبله ـ سبحانه ـ الإسماع ؛ فلم يستطيعوا لهم القبول.

قوله جل ذكره : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢))

أي توهموا أنه ينفعهم ما فعلوه حسب ظنهم ، واعتقدوا فى أصنامهم استحقاق التعظيم ، وكانوا يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٢) ، (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.

__________________

(١) مشتبهة.

(٢) آيه ٣ سورة الزمر.

٤١٤

قوله جل ذكره : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

ضلّ سعيهم لأنهم عملوا لغير الله .. وما كان لغير الله فلا ينفع.

ويقال الذين ضلّ سعيهم هم الذين قرنوا أعمالهم بالرياء ، ووصفوا أحوالهم بالإعجاب ، وأبطلوا إحسانهم بالملاحظات أو بالمنّ.

ويقال هم الذين يلاحظون أعمالهم وما منهم بعين الاستكثار (١).

قوله جل ذكره : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)

لم يكونوا أصحاب التحقيق ، فعملوا من غير علم ، ولم يكونوا على وثيقة (٢)

قوله جل ذكره : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥))

عموا عن شهود الحقيقة فبقوا فى ظلمة الجحد ، فتفرقّت بهم الأوهام والظنون ، ولم يكونوا على بصيرة ، ولم تستقر قلوبهم على عقيدة مقطوع بها ؛ فليس لهم فى الآخرة وزن ولا خطر ، اليوم هم كالأنعام ، وغدا واقعون ساقطون (...) (٣) الأقدام.

قوله جل ذكره : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦))

__________________

(١) ملاحظة الأعمال واستكثارها من أخطر دعاوى النفس ، كثيرا ما حذّر منهما أهل الملامة فى نيسابور ـ موطن القشيري.

(٢) الوثيقة ما يضبط به الأمر ويحكم.

(٣) مشتبهة ، وقد ضبطنا (الأقدام) بفتح الهمزة مراعاة للانسجام مع (الأنعام) على عادة القشيري فى ضبط الموسيقى الداخلية للجمل والفقرات ، ومع ذلك فإنّ صحة ضبطها تتوقف على معرفة الكلمة المشتبهة.

٤١٥

هم اليوم فى عقوبة الجحد ، وغدا فى عقوبه الردّ. اليوم هم فى ذلّ الفراق ، وغدا فى أليم الاحتراق.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧))

لهم جنات معجّلة سرا ، ولهم جنان مؤجلة جهرا.

اليوم جنان الوصل وغدا جنان الفضل.

اليوم جنان العرفان وغدا جنان الرضوان.

قوله جل ذكره : (خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨))

عرّفنا ـ سبحانه ـ أن ما يخوّله لهم غدا يكون على الدوام ، فهم لا ينفكون عن أفضالهم ، ولا يخرجون عن أحوالهم ؛ فهم أبدا فى الجنة ، ولا إخراج لهم منها. وأبدا لهم الرؤية ، ولا حجاب لهم عنها (١).

قوله جل ذكره : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩))

أي لا تعدّ معانى كلمات الله لأنه لا نهاية لها ؛ فإنّ متعلقات الصفة القديمة لا نهاية لها ؛ كمعلومات الحقّ ـ سبحانه ـ ومقدوراته وسائر متعلقات صفاته.

والذي هو مخلوق (٢) لا يستوفى ما هو غير متناه ـ وإن كثر ذلك.

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ)

__________________

(١) القشيري من الباحثين الذين يصرحون بالرؤية بالأبصار فى الآخرة ، أما فى الدنيا فيقول : الأقوى فيه أنه لا يجوز ، الرسالة ص ١٧٥.

(٢) يفصد (البحر) إذا صار مدادا ؛ فالبحر يتناهى. وكلمات الله لا تتناهى.

٤١٦

أخبر أنّك لهم من حيث الصورة والجنسية مشاكل ، والفرق بينك وبينهم تخصيص الله ـ سبحانه ـ إياك بالرسالة ، وتركه إياهم فى الجهالة.

ويقال : قل اختصاصى بما لى من (الاصطفاء) (١) ، وإن كنا ـ أنا وأنتم ـ فى الصورة أكفاء.

قوله جل ذكره : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)

حمل الرجاء فى هذه الآية على خوف العقوبة ورجاء المثوبة حسن ، ولكنّ ترك هذا على ظاهره أولى ؛ فالمؤمنون قاطبة يرجون لقاء الله.

والعارف بالله ـ سبحانه ـ يرجو لقاء الله والنظر إليه

والعمل الصالح الذي بوجوده يصل إلى لقائه هو صبره على لواعج اشتياقه ، وأن يخلص فى عمله.

(وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ) : أي لا يلاحظ عمله ، ولا يستكثر طاعته ، ويتبرأ من حوله وقوّته.

ويقال العمل الصالح هنا اعتقاد (وجود الصراط ورؤيته وانتظار وقته) (٢)

__________________

(١) هنا كلمة منبهمة في الخط ، فوضعنا كلمة (الاصطفاء) من عندنا فهي أليق بالمعنى والسياق.

(٢) هكذا في ص وليس واضحا عودة الضمير في (رؤيته) هل هي على الصراط أم على الحق. فنحن تعلم أن القشيري شافعىّ من حيث مذهبة الفقهي ، ونعلم كذلك أن الشافعي يقول : لو علم ابن إدريس أنه لا يرى ربّه يوم القيامة ما عبده.

٤١٧

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

سورة مريم عليها السلام

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

بسم اللّه ، اسم عزيز من عبده واصل جهاده ، ومن طلبه ودّع وساده ، ومن عرفه أنكر أحبابه. ومن يسّر له أوقفه على محبته.

من ذكره نسي اسمه ، ومن شهده فقد عقله ولبّه (١).

اسم عزيز جبلّت القلوب على محبته ، وكل قلب ليس يوقفه على محبته ، فليس بحيلة يصل.

اسم ما اتصفت أشباح الأبرار إلا بعبادته ، وما اعتكفت أرواح الأحرار إلا بمشاهدته.

اسم عزيز من عرفه اعترف أنه وراء ما وصفه.

قوله جل ذكره : (كهيعص (١))

تعريف للأحباب بأسرار معاني الخطاب ، حروف خصّ الحقّ المخاطب بها بفهم معانيها ، وإذا كان للأخيار سماعها وذكرها ، فللرسول ـ عليه السلام ـ فهمها وسرّها.

ويقال أشار بالكاف إلى أنه الكافي في الإنعام والانتقام ، والرفع والوضع على ما سبق به القضاء والحكم.

__________________

(١) المقصود بفقد العقل واللب هنا غيبة التمييز في حال الشهود.

٤١٨

ويقال فى الكاف تعريف بكونه مع أوليائه ، وتخويف بخفيّ مكره فى بلائه.

ويقال فى الكاف إشارة إلى كتابته الرحمة على نفسه قبل كتابة الملائكة الزّلّة على عباده.

والهاء تشير إلى هدايته المؤمنين إلى عرفانه ، وتعريف خواصه باستحقاق جلال سلطانه ، وماله من الحق بحكم إحسانه.

والياء إشارة إلى يسر نعمه بعد عسر محنه. وإلى يده المبسوطة بالرحمة للمؤمنين من عباده.

والعين تشير إلى علمه بأحوال عبده فى سرّه وجهره ، وقلّه وكثره ، وحاله ومآله ، وقدر طاقته وحق فاقته.

وفى الصاد إلى أنه الصادق فى وعده.

قوله جل ذكره : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢))

تخصيصه إياه بإجابته فى سؤال ولده ، وما أراد أن يتصل بأعقابه من تخصيص القربة له ولجميع أهله.

قوله جل ذكره : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣))

وإنما ذلك لئلا يطّلع أحد على سرّ حاله فأخفى نداءه عن الأجانب وقد أمكنه أن يخفيه عن نفسه بالتعامي عن شهود محاسنه ، والاعتقاد بالسّوء فى نفسه ، ثم أخفى سرّه عن الخلق لئلا يقع لأحد إشراف على حاله ، ولئلا يشمت بمقالته أعداؤه.

قوله جل ذكره : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)

أي لقيت بضعفي عن خدمتك ما لا أحبّه ؛ فطعنت فى السنّ ، ولا قوة بعد المشيب ؛ فهب لى ولدا ينوب عنى فى عبادتك.

قوله جل ذكره : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا).

أي إنى أسألك واثقا بإجابتك ؛ لعلمى بأنى لا أشقى بدعائك فإنّك تحبّ أن تسأل.

٤١٩

ويقال إنك عوّدتنى إجابة الدعاء ، ولم تردّنى فى سالف أيامى إذا دعوتك.

قوله جل ذكره : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦))

إنى خفت أن تذهب النبوة من أهل بيتي ، وتنتقل إلى بنى أعمامى فهب لى ولدا يعبدك ، ويكون من نسلى ومن أهلى.

وهو لم يرد الولد بشهوتة الدنيا وأخذ الحظوظ منها ، وإنما طلب الولد ليقوم بحقّ الله ، وفى قوله : (يَرِثُنِي) دليل على أنه كما سأل الولد سأل بقاء ولده ؛ فقال : ولدا يكون وارثا لى ؛ أي يبقى بعدي ، ويرث من آل يعقوب النبوة وتبليغ الرسالة.

واجعله ربّ رضيا : رضى فعيل بمعنى مفعول أي ترضى عنه فيكون مرضيّا لك. ويحتمل أن يكون مبالغة من الفاعل أي راضيا منك ، وراضيا بتقديرك.

قوله جل ذكره : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧))

أي استجبنا لدعائك ، ونرزقك ولدا ذكرا اسمه يحيى ؛ تحيا به عقرة أمّه ، ويحيا به نسبك ، ويحيا به ذكرك ، وما سألته من أن يكون نائبا عنك ؛ فيحيا به محلّ العبادة والنبوة فى بيتك.

(لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) : انفراده ـ عليه‌السلام ـ بالتسمية يدل على انفراده بالفضيلة ؛ أي لم يكن له سمىّ قبله ؛ فلا أحد كفو له فى استجماع أوصاف فضله.

ويقال لم نجعل له من قبل نظيرا ؛ لأنه لم يكن أحد لا ذنب له قبل النبوة ولا بعدها غيره (١)

__________________

(١) هذا رأى في مذهب القشيري الكلامى يتصل بقضية هامة : هل يكون من النبي ذنب؟

٤٢٠