لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) : دلّ ذلك على أن الواجبات إنما تتوجّه من حيث السمع (١).

قوله جل ذكره : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦))

إذا كثر أهل الفساد غلبوا ، وقلّ أهل الصلاح وفقدوا ؛ فعند ذلك (يغمر) (٢) الله الخلق ببلائه ، ولا يكون للناس ملجأ من أوليائه ليتكلموا فى بابهم ، ولا فيهم من يبتهل إلى الله فيسمع دعاؤه ، فيخترم (٣) أولياءه ، ويبقى أرباب الفساد ، وعند ذلك يشتدّ البلاء وتعظم المحن إلى أن ينظر الله تعالى إلى الخلق نظر الرحمة والمنّة.

قوله جل ذكره : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧))

فى الآية تسلية للمظلومين إذا استبطأوا هلاك الظالمين ، و (...) (٤) قصر أيديهم عنهم. فإذا فكّروا فيما مضى من الأمم أمثالهم وكيف بنوا مشيدا ، وأمّلوا بعيدا .. فبادوا جميعا ، يعلمون أنّ الآخرين ـ عن قريب ـ سينخرطون فى سلكهم ، ويمتحلون بمثل شأنهم. وإذا أظلّتهم سحب الوحشة فاءوا إلى ظلّ شهود التقدير ، فتزول عنهم الوحشة ، وتطيب لهم الحياة ، وتحصل الهيبة.

قوله جل ذكره : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨))

__________________

(١) نظن أن القشيري يريد بذلك أن يرد على بعض أهل الكلام الذين يقولون إن الله يعذب الناس على ذنوبهم حتى ولو لم يبعث لهم رسولا لأن عقل الإنسان مطالب بالتكليف قبل سماع الرسل.

(٢) وردت (يعمر) بالعين والصواب أن تكون بالغين لأن السياق يتطلب ذلك.

(٣) وردت (فيحترم) بالحاء والسياق يتطلب أن الله (يخترم) أولياءه أي يأخذهم إليه.

(٤) مشتبهة ، وترجح أنها كلمة تؤدى إلى معنى (وأحسوا) قصر أيديهم عن الظالمين.

٣٤١

من رضى بالحظ الخسيس من عاجل الدنيا بقي عن نفيس الآخرة ، ثم لا يحظى إلا بقدر ما اشتمّه ، ثم يكون آنس ما به قلبا وأشدّ ما يكون به سكونا .. ثم يختطف عن نعمته ، ولا يخصه بشىء مما جمع من كرائمه ، ويمنعه من قربه فى الآخرة .. ولقد قيل :

يا غافلا عن سماع الصوت

إن لم تبادر فهو الفوت

من لم تزل نعمته عاجلا

أزاله عن نعمته الموت

قوله جل ذكره : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩))

علامة من أراد الآخرة ـ على الحقيقة ـ أن يسعى لها سعيها ؛ فإرادة الآخرة إذا تجرّدت عن العمل لها كانت مجرد إرادة ، ولا يكون السعى مشكورا. قوله : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) : أي فى المآل كما أنه مؤمن فى الحال. ويقال وهو مؤمن أنّ نجاته بفضله لا بسببه.

(فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) أي مقبولا ، ومع القبول يكون التضعيف والتكثير ؛ فكما أن الصدقة يربيها كذلك طاعة العبد يكثّرها وينّميها.

قوله جل ذكره : (كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠))

يجازى كلا بقدرة ؛ فلقوم نحاة ولقوم درجات ، ولقوم سلامة ولقوم كرامة ، ولقوم مثوبته ، ولقوم قربته.

قوله جل ذكره (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١))

التفضيل على أقسام ، فالعبّاد فضّل بعضهم على بعض ولكن فى زكاء أعمالهم ، والعارفون فضّل بعضهم على بعض ولكن فى صفاء أحوالهم ، وزكاء الأعمال بالإخلاص ، وصفاء الأحوال

٣٤٢

بالاستخلاص ؛ فقوم تفاضلوا بصدق القدم ، وقوم تفاضلوا بعلوّ الهمم والتفضيل فى الآخرة أكبر : فالعبّاد تفاضلهم بالدرجات ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكم لترون أهل علّيين كما ترون الكوكب الدرىّ فى أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم»

وأهل الحضرة تفاضلهم بلطائفهم من الأنس بنسيم القربة بما لا بيان يصفه ولا عبارة ، ولا رمز يدركه ولا إشارة. منهم من يشهده ويراه مرة فى الأسبوع ، ومنهم من لا يغيب من الحضرة لحظة ، فهم يجتمعون فى الرؤية ويتفاوتون فى نصيب كلّ أحد ، وليس كلّ من يراه يراه بالعين التي بها يراه صاحبه ، وأنشد بعضهم (١) :

لو يسمعون ـ كما سمعت حديثها

خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا

قوله جل ذكره : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢))

الذي أشرك بالله أصبح مذموما من قبل الله ، ومخذولا من قبل (من) (٢) عبده من دون الله.

قوله جل ذكره : (وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣))

أمر بإفراده ـ سبحانه ـ بالعبادة ، وذلك بالإخلاص فيما يستعمله العبد منها ، وأن يكون مغلوبا باستيلاء سلطان الحقيقة عليه بما يحفظه عن شهود عبادته (٣)

وأمر بالإحسان إلى الوالدين ومراعاة حقّهما ، والوقوف عند إشارتهما ، والقيام بخدمتهما ،

__________________

(١) البيت لكثير صاحب عزة.

(٢) سقطت (من) والسياق يتطلبها ، والخذلان ناجم عن أنّ أي معبود غير الله لا يملك لمن يعبده نفعا ولا يدفع عنه ضرا.

(٣) فاخلاص العبد فى التحقق يحفظه عن التقصير فى أمور الشريعة.

٣٤٣

وملازمة ما كان يعود إلى رضاهما وحسن عشرتهما ورعاية حرمتهما ، وألا يبدى شواهد الكسل عند أوامرهما ، وأن يبذل المكنة فيما يعود إلى حفظ قلوبهما ... هذا فى حال حياتهما ، فأمّا بعد وفاتهما فبصدّق الدعاء لهما ، وأداء الصدقة عنهما ، وحفظ وصيتهما على الوجه الذي فعلاه ، والإحسان إلى من كان من أهل ودّهما ومعارفهما.

ويقال إنّ الحقّ أمر العباد بمراعاة حقّ الوالدين وهما من جنس العبد .. فمن عجز عن القيام بحقّ جنسه أنّى له أن يقوم بحقّ ربه؟

قوله جل ذكره : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤))

اخفض لهما جناح الذّلّ بحسن المداراة ولين المنطق ، والبدار إلى الخدمة ، وسرعة الإجابة ، وترك البرم بمطالبهما ، والصبر على أمرهما ، وألا تدّخر عنهما ميسورا.

قوله جل ذكره : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥))

إذا علم الله صدق قلب عبد أمدّه بحسن الأمجاد ، وأكرمه بجميل الامتداد (١) ، ويسّر عليه العسير من الأمور ، وحفظه عن الشرور ، وعطف عليه قلوب الجمهور.

قوله جل ذكره : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦))

إيتاء الحقّ يكون من المال ومن النّفس ومن القول ومن الفعل ، ومن نزل على اقتضاء حقّه ، وبذل الكلّ لأجل ما طالبه به من حقوق. فهو القائم بما ألزمه الحقّ سبحانه بأمره.

__________________

(١) أي الاستدامة والاستمرار دون وقفة أو فترة ـ وتلك من أعظم المنن فى نظر القشيري ، وقد قال الرسول (ص) : «خير العمل أدومة وإن قل».

٣٤٤

والتبذير مجاوزة الحدّ عمّا قدّره الأمر والإذن. وما يكون لحظّ النّفس ـ وإن كان سمسمة ـ فهو تبذير ، وما كان له ـ وإن كان الوفاء بالنّفس ـ فهو تقصير.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧))

إنما كانوا إخوان الشياطين لأنهم أنفقوا على هواهم ، وجروا فى طريقهم على دواعى الشياطين ووساوسهم ، ولمّا أفضى بهم ذلك إلى المعاصي فقد دعاهم إخوان الشياطين.

قوله جل ذكره : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨))

إن لم يساعدك الإمكان على ما طالبوك من الإحسان فاصرفهم عنك بوعد جميل إن لم تسعفهم بنقد جزيل. وإنّ وعد الكرام أهنأ من نقد اللئام (١).

قوله جل ذكره : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩))

لا تمسك عن الإعطاء فتكدى (٢) ، ولا تسرف فى البذل بكثرة ما تسدى ، واسلك بين الأمرين طريقا وسطا.

قوله جل ذكره : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠))

إذا بسط لا تبقى فاقة ، وإذا قبض استنفد كلّ طاقة (٣).

__________________

(١) وردت (الأيام) وقد أثبتنا (اللئام) فيها يقوى المعنى وتستقيم المقابلة.

(٢) تكدى أي تبخل ، قال تعالى : (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى).

(٣) واضح أن القشيري يوجه الإشارة إلى رزق الأحوال.

٣٤٥

قوله جل ذكره : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١))

من عرف أنّ الرازق هو الله خفّ عن قلبه همّ العيال (١) ـ وإن كثروا ، ومن خفى عليه أنه قسّم ـ قبل الخلق ـ أرزاقهم تطوح فى متاهات مغاليطه ، فيقع فيها بالقلب والبدن ثم لا يكون غير ما سبق به التقدير.

قوله جل ذكره : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢))

ترجّح (٢) الزنا على غيره من الفواحش لأن فيه تضييع حرمة الحقّ ، وهتك حرمة الخلق ، ثم لما فيه من الإخلال بالنّسب ، وإفساد ذات البين (٣) من مقتضى الأنفة والغضب.

قوله جل ذكره : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣))

لا يجوز قتل نفس الغير بغير الحق ، ولا للمرء أن يقتل نفسه أيضا بغير الحق. وكما أنّ قتل النّفس بالحديد وما يقوم مقامه من الآلات محرّم فكذلك القصد إلى هلاك المرء محرّم.

ومن انهمك فى مخالفة ربه فقد سعى فى هلاك نفسه. (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) : أي تسلطا على القاتل فى الاقتصاص منه ، وعلى معنى الإشارة : إن النصرة من قبل الله ؛ ومنصور الحقّ لا تنكسر سنانه ، ولا تطيش سهامه (٤).

__________________

(١) وردت (القيال) بالقاف وهى خطأ فى النسخ.

(٢) ترجح زاد وثقل.

(٣) وردت (اليمين) وهى خطأ فى النسخ

(٤) وردت (شهامه) بالشين وهى خطا فى النسخ

٣٤٦

قوله جل ذكره : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤))

لمّا لم يكن لليتيم من يهتم بشأنه أمر ـ سبحانه ـ الأجنبيّ الذي ليس بينه وبين اليتيم سبب أن يتولّى أمره ، ويقوم بشأنه ، وأوصاه فى بابه ؛ فالصبيّ قاعد بصفة الفراغ والهوينى (١) ، والولىّ ساع بمقاساة العنا ..

فأمر الحقّ ـ سبحانه ـ للولىّ أحظى للصبيّ من شفقة آله عليه فى حال حياتهم (٢).

قوله جل ذكره : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥))

كما تدين تدان ، وكما تعامل تجازى ، وكما تكيل يكال لك ، وكما تكونون يكون عليكم ، ومن وفى وفوا له ، ومن خان خانوا معه ، وأنشدوا :

أسأنا فساءوا .. عدل بلا حيف

ولو عدلنا لخلّصنا من المحن

قوله جل ذكره (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦))

إذا غلبت عليك مجوّزات الظنون ، ولم يطلعك الحقّ على اليقين فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان ، وإذا أشكل عليك شىء من أحكام الوقت فارجع إلى الله ؛ فإن لاح لقلبك وجه من الدليل على حدّ الالتباس فكل علمه إلى الله ، وقف حيثما وقفت.

__________________

(١) الهوينى ـ الخفض والدعة

(٢) ما يقوله القشيري فى حالة اليتيم يتصرف ـ كما هو واضح ـ على حالة المريد بالنسبة لشيخه ؛ فالمريد يجد من شيخه مالا يجده عند ذويه ، ذلك يربى الأرواح وهؤلاء يربون الأشباح.

٣٤٧

ويقال الفرق بين من قام بالعلم وبين من قام بالحق أنّ العلماء يعرفون الشيء أولا ثم يعلمون بعلمهم ، وأصحاب الحقّ يجرى عليهم بحكم التصريف شىء لا علم لهم به على التفصيل ، وبعد ذلك يكشف لهم وجهه ، وربما يجرى على ألسنتهم شىء لا يدرون وجهه ، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهان ما قالوه ، ودليل ما نطقوا به من شواهد العلم (١).

قوله : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ ...) هذه أمانة الحق ـ سبحانه ـ عند العبد ، وقد تقدم فى بابها بما أوضحته ببراهين الشريعة.

ومن استعمل هذه الجوارح فى الطاعات ، وصانها عن استعمالها فى المخالفات فقد سلّم الأمانة على وصف السلامة ، واستحق المدح والكرامة. ومن دنّسها بالمخالفات فقد ظهرت عليه الخيانة ، واستوجب الملامة.

قوله جل ذكره : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧))

الخيلاء والتجبّر ، والمدح والتكبّر ـ كل ذلك نتائج الغيبة عن الذكر ، والحجبة عن شهود الحقّ ؛ فإنّ الله إذا تجلّى لشىء خشع له ـ بذلك ورد الخبر. فأمّا فى حال حضور القلب واستيلاء الذكر وسلطان الشهود. فالقلب مطرق ، وحكم الهيبة غالب. ونعت المدح وصفة الزّهو وأسباب التفرقة ـ كل ذلك ساقط.

والناس ـ فى الخلاص من صفة التكبر ـ أصناف : فأصحاب الاعتبار إذ عرفوا أنهم مخلوقون من نطفة أمشاج ، وما تحمله أبدانهم مما يترشح من مسامهم من بقايا طعامهم وشرابهم .. تعلو هممهم عن التضييق والتدنيق (٢) ، ويبعد عن قلوبهم قيام أخطار للأشياء ، ولا يخطر على داخلهم إلا ما يزيل عنهم التكبر ، وينزع عنهم لباس التجبّر.

__________________

(١) من هذه الوصية وما جاء بعدها يتضح رأى القشيري فى التفرقة بين المعرفة عند أرباب العلوم والمعرفة عند أرباب الحقائق ، ويذهب القشيري فى «رسالته» إلى أن باستطاعة كبار شيوخ أهل هذه الطريقة أن يفتوا في مسائل الفقه إفتاء يعتدّ به حتى لو كان أحدهم أميا (أنظر الرسالة ص ١٩٨ وقصة شيبان الراعي مع الشافعي وابن حنبل).

(٢) دنّق البخيل بالغ فى التضييق فى النفقة

٣٤٨

وأمّا أرباب الحضور فليس فى طلوع الحق إلا انخناس النّفس ، وفى معناه قالوا :

إذا ما بدا لى تعاظمته

فأصدر فى حال من لم يرد

قوله جل ذكره : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩))

إذا سعدت الأقدام بحضور ساحات الشهود ، وعطرت الأسرار بنسيم القرب تجرّدت الأوقات عن الحجبة ، واستولى سلطان الحقيقة ، فيحصل التنقّي من هذه الأوصاف المذمومة.

وقال تعالى لنبيّه : (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) : بالوحى والإعلام ، ولأوليائه تعريف بحكم الإلهام.

قوله جل ذكره : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠))

جوّزوا أن يكون لله ـ سبحانه ـ ولد ، وفكّروا فى ذلك ، ثم لم يرضوا حتى جعلوا له ما استنكفوا منه لأنفسهم ، فما زادوا فى تمرّدهم إلا عتوّا ، وفى طغيانهم إلا غلوّا ، وعن قبول الحقّ إلا نبوّا.

قوله جل ذكره : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣))

بيّن أنه لو كان الصانع أكثر من واحد لجرى بينهم تضادّ وتمانع ، وصحّ عند ذلك فى صفتهم العجز ، وذلك من سمات المحدثات.

ثم قال سبحانه ـ تنزيها له عن الشّريك والظهير ، والمعين والنظير :

٣٤٩

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤))

الأحياء من أهل السماوات والأرض يسبّحون له تسبيح قالة (١) ، وغير الأحياء يسبّح من حيث البرهان والدلالة. وما من جزء من الأعيان والآثار إلا وهو دليل على الربوبية ، ولكنهم إذا استمعوا توحيدا للإله تعجبوا ـ لجهلهم وتعسّر إدراكهم ـ وأنكروا.

قوله جل ذكره : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥))

أي أدخلناك فى إيواء حفظنا ، وضربنا عليك سرادقات عصمتنا ، ومنعنا الأيدى الخاطئة عنك بلطفنا.

قوله جل ذكره : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦))

(٢) صرّح بأنه خالق ضلالتهم ، وهو المثبت فى قلوبهم ما استكنّ فيها من فرط غوايتهم (٣)

(وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ ..) أحبوا أن تذكر آلهتهم ، قد ختم الله على قلوبهم ، فلا حديث يعجبهم إلّا ممّن لهم شكل ومثل.

__________________

(١) وردت (ماله) بالميم والصواب أن تكون (قالة) بمعنى أن تسبيح الأحياء بالقول والنطق.

(٢) يمكن أن تكون (نفورا) مصدرا من نفر ينفر أي ولىّ ، ويمكن أن تكون جمع نافر كقاعد وقعود.

(٣) هذا رأى على جانب كبير عن الخطورة ينبنى على أصل فى مذهب القشيري ـ نوهنا به سابقا ـ وهو أن الله خالق كل شىء ـ على الحقيقة ـ حتى أكساب العباد ، هى له حكما ولهم فعلا.

٣٥٠

قوله جل ذكره : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧))

لبّسوا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أحوالهم ، وأظهروا الوفاق من أنفسهم ، ففضحهم الله تعالى ، وكشف أسرارهم ، وبيّن مقابحهم ، وهتك أستارهم ، فما تنطوى عليه السريرة لا بدّ أن يظهر لأهل البصيرة بما يبدو على الأسرّة.

قوله جل ذكره : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨))

عابوه بما ليس بنقيصة فى نفسه حيث قالوا : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) أي ذا سحر. وأىّ نقيصة كانت له إذا كان ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من جملة البشر؟ والحقّ سبحانه وتعالى متول نصرته ، ولم يكن تخصيصه ببنية ، ولا بصورة ، ولا بحرفة ، ولم يكن منه شىء بسببه وإنما بان شرفه لجملة ما تعلّق به لطفه القديم ـ سبحانه ـ ورحمته.

قوله جل ذكره : (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩))

أقرّوا بأنّ الله خلقهم ، ثم أنكروا قدرته على إعادتهم بعد عدمهم ، ولكن .. كما جاز أن يوجدهم أولا وهم فى كتم العدم ولم يكن لهم عين ولا أثر ، ولكنهم كانوا فى متناول القدرة ومتعلق الإرادة ، فمن حقّ صاحب القدرة والإرادة أن يعيدهم إلى الوجود مرة أخرى .. وهكذا إذا رمدت عين قلب لم يستبصر صاحبه.

قوله جل ذكره : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي

٣٥١

فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١))

(١) أخبر ـ سبحانه وتعالى ـ أنه لا يتعصّى عليه مقدور لأنه موصوف بقدرة أزلية ، وقدرته عامّة التعلق ؛ فلا المشقة تجوز فى صفته ولا الرفاهية. فالخلق الأول والإعادة عليه سيّان ؛ لا من هذا عائد إليه ولا من ذاك ، لأن قدمه يمنع تأثير الحدوث فيه.

قوله جل ذكره : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢))

يدعوكم فتستجيبونه وأنتم حامدون. فالحمد بمعنى الشكر ، وإنما يشكر العبد على النعمة والآية تدل على أنهم ـ وهم فى قبورهم ـ فى نعمته.

قوله جل ذكره : (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣))

القول الحسن ما يكون للقائل أن يقوله. ويجوز أن يكون الأحسن مبالغة من الحسن ، فعلى هذا الأحسن من القول ما لا يجوز تركه. ويقال الأحسن من القول ما يخاف قائله من العقوبة على تركه. ويقال الأحسن من القول إقرار المحبّ بعبودية محبوبه.

ويقال أحسن قول من المذنبين الإقرار بالجرم ، وأحسن قول من العارفين الإقرار بالعجز عن المعرفة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سبحانك لا أحصى ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك».

__________________

(١) يتغضون رءوسهم أي يحركونها تعجيا واستهزاء.

٣٥٢

قوله جل ذكره : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤))

سدّ على كلّ أحد طريق معرفته بنفسه ليتعلّق كلّ قلبه بربه. وجعل العواقب على أربابها مشتبهة ، فقال (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ). ثم قدّم حديث الرحمة على حديث العذاب ، فقال : (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) وفى ذلك ترجّ للأمل أن يقوى.

ويوصف العبد بالعلم ويوصف الربّ بالعلم ، ولكن العبد يعلم ظاهر حاله ، وعلم الرب يكون بحاله وبمآله ، ولهذا فالواجب على العبد أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ، وهذا معنى : (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) بعد قوله : (أَعْلَمُ بِكُمْ).

قوله جل ذكره : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥))

فضّل بعض الأنبياء على بعض فى النبوة والدرجة ، وفى الرسالة واللطائف والخصائص. وجعل نبيّنا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أفضلهم ؛ فهم كالنجوم وهو بينهم بدر ، وهم كالبدور وهو بينهم شمس ، وهم شموس وهو شمس الشموس.

قوله جل ذكره : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦))

استعينوا فيما يستقبلكم (١) بالأصنام التي عبدتموها من دون الله حتى تتحققوا أنه لا تنفعكم عبادة شىء من دون الله ، ولا يضركم ترك ذلك ، ولقد قيل فى الخبر : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (٢)

__________________

(١) أي ما يستقبلكم من البلايا

(٢) رواه أحمد وأبو يعلى والترمذي وابن ماجه عن أبى هريرة ، وأحمد عن الحسين بن على ؛ والعسكري عن علىّ ، وأوضحه الشيخان فى تخريج الأربعين.

٣٥٣

قوله جل ذكره : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧))

يعنى الذين يعبدونهم ويدعونهم ـ كالمسيح وعزير والملائكة ـ لا يملكون نفعا لأنفسهم ولا ضرّا ، وهم يطلبون الوسيلة إلى الله أي يتقربون إلى الله بطاعتهم رجاء إحسان الله ، وطمعا فى رحمته ، ويخافون العذاب من الله ... فكيف يرفعون عنكم البلاء وهم يرجون الله ويخافونه فى أحوال أنفسهم؟

ويقال فى المثل : تعلّق الخلق بالخلق تعلّق مسجون بمسجون.

ويقال : إذا انضمّ الفقير إلى الفقير ازدادا فاقة.

ويقال إذا قاد الضرير ضريرا سقطا معا فى البئر ، وفى معناه أنشدوا :

إذا التقى فى حدب واحد

سبعون أعمى بمقادير

وسيّروا بعضهم قائدا

فكلّهم يسقط فى البير

قوله جل ذكره : (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨))

العذاب على أقسام : فالألم الذي يرد على النفوس والظواهر يتصاغر بالإضافة إلى ما يرد على القلوب والسرائر ؛ فعذاب القلوب لأصحاب الحقائق أحدّ فى الشّدّة ممّا يصيب أصحاب الفقر والقلة.

ثم إن الحقّ سبحانه أجرى سنّته بأن من وصلت منه إلى غيره راحة انعكست الراحة إلى موصلها ، وبخلاف ذلك من وصلت منه إلى غيره وحشة عادت الوحشة إلى موصلها

٣٥٤

ومن سام (١) الناس ظلما وخسفا فبقدر ظلمه يعذّبه الله ـ سبحانه وتعالى ـ فى الوقت بتنغيص العيش ، واستيلاء الغضب من كلّ أحد عليه ، وتترجّم ظنونه وتتقسّم أفكاره فى أحواله وأشغاله. ولو ذاق من راحة الفراغ وحلاوة الخلوة شظية لعلم ما طعم الحياة .. ولكنّ حرموا النّعم ، وما علموا ما منوا به من النّقم.

قوله جل ذكره : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها)

(٢) أجرى الله سنّته أنه إذا أظهر آية اقترحتها أمّة من الأمم ثم لم تؤمن بها بعد إظهارها أن يعجّل لها العقوبة ، وكان المعلوم والمحكوم به ألا يجتاح العذاب القوم الذين كانوا فى وقت الرسول ـ عليه‌السلام ـ لأجل من فى أصلابهم من الذين علم أنهم يؤمنون ؛ فلذلك أخّر عنهم العذاب الذي تعجّلوه (٣).

(وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً)

التخويف بالآيات ذلك من مقتضى تجمله ؛ فإنّ لم يخافوا وقع عليهم العذاب. ثم إنه علم أنه لا يفوته شىء بتأخير العقوبة عنهم فأخّر العذاب ، وله أن يفعل ما يشاء بمقتضى حكمه وعلمه.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ

__________________

(١) وردت (صام) بالصاد وهى خطأ فى النسخ.

(٢) اختار من الآيات التي اقترحها الأولون ناقة صالح (عم) لأن آثار هلاكهم قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم.

(٣) عن عائشة رضى الله عنها (... نادانى ملك الجبال فسلم علىّ ثم قال :

يا محمد ، إن الله قد سمع قول قومك لك ، وقد بعثني ربى إليك لتأمرنى بأمرك فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين (جبلين يحيطان بمكة) فقال النبي (ص) : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا).

٣٥٥

وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠))

(١) الإيمان بما خصصناك به امتحان لهم وتكليف ، ليتميز الصادق من المنافق ، والمؤمن من الجاحد ؛ فالذين تداركتّهم الحماية وقفوا وثبتوا ، وصدّقوا بما قيل لهم وحققوا. وأما الذين خامر الشكّ قلوبهم ، ولم تباشر خلاصة التوحيد أسرارهم ، فما ازدادوا بما امتحنوا به إلا تحيّرا وضلالا وتبلّدا.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١))

امتنع الشقىّ وقال : لا أسجد لغيرك بوجه سجدت لك به ، وكان ذلك جهلا منه ، ولو كان بالله عارفا لكان لأمره مؤثرا ، ولمحيط نفسه تاركا.

قوله جل ذكره : (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢))

لو علقت به ذرّة من المعرفة والتوحيد لم يحطب (٢) على نفسه بالإضلال والإغواء ، لكنّه أقامه الحقّ بذلك المقام ، وأنطقه بما هو لقلوب أهل التحقيق متّضح.

قوله جل ذكره : (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣)

__________________

(١) الرؤيا المقصودة هى التي سبقت يوم بدر ، وفيها بشر بالنصرة وبأنه سيهزم الجمع ويولون الدبر ، فسخروا منه. وربما كانت رؤيا المعراج عند من قال إن المعراج كان فى المنام.

والشجرة الملعونة هى الزّقوم حيث قالوا كيف يزعم محمد أن الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول إن بها تثبت شجرة! فجعلوها سخرية

(٢) حسطب ـ جنى على نفسه لعدم تفقد أمره وكلامه

٣٥٦

وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤))

هذا غاية التهديد ، وفيه إشارة وبيان بألا مراء ولا تفويت ، ولو ، أخّر عقوبة قوم فإن ذلك إمهال لا إهمال ، ومكر واستدراج لا إنعام وإكرام.

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) : أي افعل ما أمكنك ، فلا تأثير لفعلك فى أحد ، فإنّ المنشئ والمبدع هو الله .. وهذا غاية التهديد.

قوله جل ذكره : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥))

السلطان الحجة ، فالآية تدل على العموم (١) ، ولا حجة للعذر على أحد ، بل الحجة لله وحده.

ويقال السلطان هو التّسلّط ، وليس لإبليس على أحد تسلط ؛ إذ المقدور بالقدرة الحادثة لا يخرج عن محل القدرة الإلهية ، فالحادثات كلها تحدث بقدرة الله ؛ فلا لإبليس ولا لغيره من المخلوقين تسلط من حيث التأثير فى أحد ، وعلى هذا أيضا فالآية للعموم.

ويقال أراد بقوله : (عِبادِي) الخواص من المؤمنين الذين هم أهل الحفظ والرحمة والرعاية من قبل الله ؛ فإن وساوس الشيطان لا تضرّهم لالتجائهم إلى الله ، ودوام استجارتهم بالله ، ولهذا فإن الشيطان إذا قرب من قلوب أهل المعرفة احترق بضياء معارفهم.

ويقال إنّ فرار (٢) الشيطان من المؤمنين أشدّ من فرار المؤمنين ، من الشيطان.

والخواص من عباده هم الذين لا يكونون فى أسر غيره ، وأمّا من استعبده هواه ،

__________________

(١) العموم هنا معناها الكافة أي الخواص وغير الخواص.

(٢) وردت (قرار) بالقاف وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح من السياق.

٣٥٧

واستمكنت منه الأطماع ، واسترقته (١) كل خسيسة ونقيصة فلا يكون من جملة خواصه .. وفى الخبز «تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار» (٢)

ويقال فى (عِبادِي) هم المتفيّئون فى ظلال عنايته ، والمتبرّون عن حولهم وقوّتهم ، المتفرّدون بالله بحسن التوكل عليه ودوام التعلّق به.

قوله جل ذكره : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦))

تعرّف إلى عباده بخلقه وإنعامه ، فما من حادث من عين أو أثر أو طلل أو غبر إلا وهو شاهد على وحدانيته ، دالّ على ربوبيته.

قوله جل ذكره : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧))

جبل الإنسان على أنه إذا أصابته نقمة ، أو مسّته محنة فرع (٣) إلى الله لاستدفاعها ، وقد يعتقد أنهم لن يعودوا بعدها إلى ما ليس فيه رضاء الله ، فإذا أزال الله تلك النّقمة (٤) وكشف تلك المحنة عادوا إلى ما عنه تابوا ، كأنهم لم يكونوا فى ضرّ مسّهم ، وفى معناه أنشدوا :

فكم قد جهلتم ثم عدنا بحلمنا

أحباءنا كم تجهلون! وتحلم!

__________________

(١) وردت (ويسرقة) ولا معنى لها هنا.

(٢) فى رسالة القشيري ص ٩٩ جاء هذا الخبر مضافا إليه (.. تعس عبد الخميصة).

(٣) وردت (فرغ) بالراء والأفضل أن تكون بالزاي.

(٤) وردت (النعمة) وهى خطأ فى النسخ.

٣٥٨

قوله جل ذكره : (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩))

الخوف ترقّب العقوبات مع مجارى الأنفاس ـ كذلك قال الشيوخ (١). وأعرفهم بالله أخوفهم من الله. وصنوف العذاب كثيرة ؛ فكم من مسرور أوّل ليله أصبح فى شدّة! وكم من مهموم بات يتقلب على فراشه أصبح وقد جاءته البشرى بكمال النّعم! وفى معناه قالوا : إن من خاف البيات لا يأخذه السّبات. ووصفوا أهل المعرفة فقالوا :

مستوفزون على رجل كأنهمو

يريدون أن يمضوا ويرتحلوا

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠))

المراد من قوله : (بَنِي آدَمَ) هنا المؤمنون لأنه قال فى صفة الكفار : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) (٢). والتكريم التكثير من الإكرام ، فإذا حرم الكافر الإكرام. فمتى يكون له التكريم؟.

ويقال إنما قال : (كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) ولم يقل المؤمنين أو العابدين أو أصحاب الاجتهاد

__________________

(١) هذه العبارة للجنيد كما جاء فى رسالة القشيري ص ٦٥ فى رواية أبى عبد الله الصوفي عن على بن ابراهيم العكبري.

(٢) آية ١٨ سورة الحج.

٣٥٩

توضيحا بأن التكريم لا يكون مقابل فعل ، أو معلّلا بعلة ، أو مسببا باستحقاق يوجب ذلك التكريم.

ومن التكريم أنهم متى شاءوا وقفوا معه على بساط المناجاة.

ومن التكريم أنه على أي وصف كان من الطهارة وغيرها إذا أراد أن يخاطبه خاطبه ، وإذا أراد أن يسأل شيئا سأله.

ومن التكريم أنه إذا تاب ثم نقض توبته ثم تاب يقبل توبته ، فلو تكرر منه جرمه ثم توبته يضاعف له قبوله التوبة وعفوه.

ومن التكريم أنه إذا شرع فى التوبة أخذ بيده ، وإذا قال : لا أعود ـ يقبل قوله وإن علم أنه ينقض توبته.

ومن التكريم أنه زيّن ظاهرهم بتوفيق المجاهدة ، وحسّن باطنهم بتحقيق المشاهدة.

ومن التكريم أنه أعطاهم قبل سؤالهم ، وغفر لهم قبل استغفارهم ، كذا فى الأثر : «أعطيتكم قبل أن تسألونى ، وغفرت لكم قبل أن تستغفرونى».

ومن تكريم جملتهم أنه قال لهم : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (١) ولم يقل ذلك للملائكة ولا للجن.

وكما خصّ بنى آدم بالتكريم خصّ أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ منهم بتكريم مخصوص ، فمن ذلك قوله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (٢) و (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (٣) وقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (٤).

ومن التكريم قوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) (٥).

__________________

(١) آية ١٥٢ سورة البقرة.

(٢) آية ٥٤ سورة المائدة.

(٣) آية ١١٩ سورة المائدة.

(٤) آية ١٦٥ سورة البقرة.

(٥) آية ١١٠ سورة النساء.

٣٦٠