لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

(وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) لا يعصونه ولا يحيدون عن طاعته.

ويقال خير شىء للعبد فى الدنيا والآخرة الخوف ؛ إذ يمنعه من الزّلة ويحمله على الطاعة.

قوله جل ذكره : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢))

الحاجة إلى إثبات صانع واحد داعية ، وما زاد على الواحد (قالا ...) (١) فيه متساوية. ويقال إثبات الواحد ضرورة ، وقدرة الاثنين محصورة.

قوله جل ذكره : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ)

له الدين خالصا وله الدين دائما ، وله الدين ثابتا ، فالطاعة له واجبة. فلا تتقوا غيره ، وأطيعوا شرعه بخلاف هواكم ، واعبدوه وحده ، واستجيبوا له فى المسرّة والمضرّة.

قوله جل ذكره : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ)

النّعمة ما يقرّب العبد من الحق ، فأمّا مالا يوجب النسيان والطغيان ، والغفلة والعصيان فأولى أن يكون محبة.

ويقال ما للعبد فيه نفع ، أو يحصل به للشر منع فهو على أصح القولين نعمة ؛ سواء كان دينيا أو دنيويا ، فالعبد مأمور بالشكر على كل حال. وأكثر الناس يشكرون على نعم الإحسان ، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٢) على كل حال.

وفائدة الآية قطع الأسرار عن الأغيار فى حالتى اليسر والعسر ، والثقة بأن الخير والشر ، والنفع والضر كلاهما من الله تعالى.

قوله جل ذكره (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ)

إذ ليس لكم سواه ؛ فإذا أظلّت العبد هواجم الاضطرار التجأ إلى الله فى استدفاع

__________________

(١) بقية الكلمة مشتبهة.

(٢) آية ١٣ سورة سبأ.

٣٠١

ما مسّه من البلاء ثم إذا منّ الحقّ عليه ، وجاد عليه بكشف بلائه صار كأن لم يمسه سوء أو أصابه همّ كما قيل :

كأنّ الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى

ولم يك صعلوكا إذا ما تموّلا (١)

وقال :

(ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤))

الخطاب عام ، وقوله (مِنْكُمْ) : لأنّ القوم منهم

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥))

فى هذا تهديد أي أنهم سوف يندمون حين لا تنفع لهم ندامة ، ويعتذرون حين لا يقبل لهم عذر .. ومن زرع شرا فلن يحصد إلا جزاء عمله.

قوله جل ذكره : (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦))

أي يجعلون لما لا يعلمون ـ وهى أصنامهم التي ليس لها استحقاق العلم ـ نصيبا من أرزاقهم ؛ فيقولون هذا لهم وهذا لشركائنا.

(تَاللهِ) أقسم إنهم سيلقون عقوبة فعلهم.

قوله جل ذكره : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧))

من فرط جهلهم وصفوا المعبود بالولد ، ثم زاد الله فى خذلانهم حتى قالوا : الملائكة بنات الله. وكانوا يكرهون البنات ، فرضوا لله بما لم يرضوا لأنفسهم. ويلتحق بهؤلاء فى استحقاق

__________________

(١) تمول أي نما المال له.

٣٠٢

الذمّ كلّ من آثر حظّ نفسه على حقّ مولاه ، فإذا فعل ماله فيه نصيب وغرض كان مذموم الوصف ، ملوما على ما اختاره من الفعل.

ثم إنه عابهم على قبيح ما كانوا يفعلونه ويتصفون به من كراهة أن تولد لهم الإناث فقال :

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩))

استولت عليهم رؤية الخلق (١) ، وملكتهم الحيرة ، فحنقوا على البنات مما يلحقهم عند تزويجهن وتمكين البعل فيهن .. وهذه نتائج الإقامة فى أوطان التفرقة ، والغيبة عن شهود الحقيقة.

ثم قال : (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) أي يحبس المولود إذا كان أنثى على مذلّة ، (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) ليموت؟ وتلك الجفوة فى أحوالهم جعلت ـ من قساوة قلوبهم فى أحوالهم ـ العقوبة أشدّ ممّا كانت بتعجيلها لهم. وجعلهم فرط غيظهم ، وفقد رضائهم ، وشدة حنقهم على من لا ذنب له من أولادهم ـ من أهل النار فى دركات جهنم ، وتكدّر عليهم الوقت ، واستولت الوحشة .. ونعوذ بالله من المثل السوء!

قوله جل ذكره : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ

__________________

(١) أي تشتت رؤيتهم حين لم ينظروا إلى الخالق واستبدلوا ذلك بأن نظروا للمخلوق ... وهذه صفة هل التفرقة والغيبة ـ كما سيأتى بعد.

٣٠٣

يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١))

مثل السوء للكفار الذين جحدوا توحيده فلهم صفة السوء.

ولله صفات الجلال ونعوت العزّ ، ومن عرفه بنعت الإلهية تمّت سعادته فى الدارين ، وتعجلت راحته ، وتنزّه سرّه على الدوام فى رياض عرفانه ، وطربت روحه أبدا فى هيجان وجده.

أمّا الذين وسموا بالشّرك ففى عقوبة معجّلة وهموم محصّلة. (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ ...) أي لو عاملهم بما استحقوا عاجلا لحلّ الاستئصال بهم ، ولكنّ الحكم سبق بإمهالهم ، وسيلقون غبّ أعمالهم فى مآلهم.

قوله جل ذكره : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢))

انخدعوا لمّا لان لهم العيش ، فظنوا أنهم ينجون ، وبما يؤمّلونه يحيطون ؛ فحسنت فى أعينهم مقابح صفاتهم ، ويوم يكشف الغطاء عنهم يعضون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة ، فلا تسمع منهم دعوة ، ولا تتعلق بأحدهم رحمة.

قوله جل ذكره : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣))

أنزل هذه الآية على جهة التسلية للنبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وذلك أنه أخبر أن من تقدّمه من الأمم كانوا فى سلوك الضلالة ، والانخراط فى سلك الجهالة كما كان من قومه ، ولكن الله ـ سبحانه ـ لم يعجز عنهم. وكما سوّل الشيطان لأمّته ، وكان وليا لهم ، فهو ولىّ هؤلاء وأمّا المؤمنون فالله وليّهم ، والكافرون لا مولى لهم.

٣٠٤

قوله جل ذكره : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤))

أنت (١) الواسطة بيننا وبين أوليائنا ، ولك البرهان الأعلى والنور الأوفى ؛ تبلّغ عنّا وتؤدّى منّا ، فأنت رحمة أرسلناك لأوليائنا .. فمن تبعك اهتدى ، ومن عصاك ففى هلاكه سعى.

قوله جل ذكره : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥))

أحيا بماء التوفيق قلوب العابدين فجنحت إلى جانب الوفاق ، وأحيا بماء التحقيق أرواح العارفين فاستروحت على بساط الوصال ، وأحيا بماء التجريد أسرار الموحدين فتحررت من رقّ الآثار ، وانفردت بحقائق الاتصال.

قوله جل ذكره : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦))

سخّرها لكم ، وهيأها للانتفاع بلحمها وشحمها ، وجلدها وشعرها ودرّها ، وأصلها ونسلها. ثم عجيب ما أظهر من قدرته من إخراج اللبن ـ مع صفائه ، وطعمه ونفعه ـ من بين الروث (٢) والدم ، وذلك تقدير العزيز العليم. والذي يقدر على حفظ اللبن بين الروث والدم يقدر على حفظ المعرفة بين وحشة الزّلّة من وجوهها المختلفة.

قوله جل ذكره : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧))

__________________

(١) وردت (آية) وهى خطأ فى النسخ.

(٢) الفرث والروث بقايا الطعام.

٣٠٥

منّ على العباد بما خلق لهم من فنون الانتفاع بثمرات النخيل كالتمر والرطب واليابس .. وغير ذلك.

والرزق الحسن ما كان حلالا. ويقال هو ما أتاك من حيث لا تحتسب ، ويقال هو الذي لا منّة لمخلوق فيه ولا تبعة عليه.

ويقال هو ما لا يعصى الله مكتسبه فى حال اكتسابه.

ويقال هو ما لا ينسى الله فيه مكتسبه.

قوله جل ذكره : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩))

أوحى إلى النحل : أراد به وحي إلهام .. ولما حفظ الأمر وأكل حلالا ، طاب مأكله وجعل ما يخرج منه شفاء للناس.

ثم إن الله ـ سبحانه ـ عرّف الخلق أنّ التفضيل ليس من جهة القياس والاستحقاق ؛ إذ أن النحل ليس له خصوصية فى القامة أو الصورة أو الزينة ، ومع ذلك جعل منه العسل الذي هو شفاء للناس.

والإنسان مع كمال صورته ، وتمام عقله وفطنته ، وما اختص به الأنبياء عليهم‌السلام والأولياء من الخصائص جعل فيهم من الوحشة ما لا يخفى .. فأىّ فضيلة للنحل؟ وأىّ ذنب للإنسان؟ ليس ذلك إلا اختياره ـ سبحانه.

ويقال إن الله ـ سبحانه ـ أجرى سنّته أن يخفى كلّ شىء عزيز فى شىء حقير ؛

٣٠٦

فجعل الإبريسم (١) فى الدود وهو أضعف الحيوانات ، وجعل العسل فى النحل وهو أضعف الطيور ، وجعل الدّرّ فى الصدف وهو أوحش (٢) حيوان من حيوانات البحر ، وكذلك أودع الذهب والفضة والفيروزج فى الحجر ... كذلك أودع المعرفة به والمحبة له فى قلوب المؤمنين وفيهم من يعصى وفيهم من يخطىء (٣).

قوله جل ذكره : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠))

خلق الإنسان فى أحسن تركيب ، وأملح ترتيب ، فى الأعضاء الظاهرة والأجزاء الباطنة ، والنور والضياء ، والفهم والذكاء. ورزقه من العقل والتفكر ، والعلم والتبصر ، وفنون المناقب التي خصّ بها من الرأى والتدبير ، ثم فى آخر عمره يجعله إلى أرذل العمر مردودا ، ويرى فى كل يوم ألما جديدا.

ويقال (مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) : وهو أن يرد إلى الخذلان بعد التوفيق ؛ فهو يكون فى أول أحوال عمره مطيعا ثم يصير فى آخر عمره عاصيا.

ويقال أرذل العمر أن يرغب فى عنفوان شبابه فى الإرادة ، ويسلك طريق الله مدّة ، ثم تقع له فترة ، فيفسخ عقد إرادته ، ويرجع إلى طلب الدنيا. وعند القوم هذه ردّة فى هذا الطريق.

ويقال أرذل العمر رغبة الشيخ فى طلب.

ويقال أرذل العمر حبّ المرء للرياسة.

__________________

(١) الإبريسم ـ أحسن الحرير (معرب) (الوسيط ح ١ ص ٢).

(٢) هنا معناها أجوع الحيوان ، من قولهم بات وحشا أي جائعا لم يأكل شيئا فحلا جوفه (الوسيط ج ٢ ص ٦ ، ١٠).

(٣) ينسجم اتجاه القشيري فى هذه الإشارة مع السياق القرآنى .. إذ يأتى بعد قليل : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) .. وفضل الله بلا علة.

٣٠٧

ويقال أرذل العمر اجتماع المظالم على الرجل وألا يرضى خصومه.

قوله جلّ ذكره : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١))

أرزاق المخلوقات مختلفة ؛ فمن مضيّق عليه رزقه ، ومن موسّع عليه رزقه ، ومن أرزاق هى أرزاق النفوس ، وأرزاق للقلوب وأرزاق للأرواح ، وأرزاق للأسرار ؛ فأرزاق النفوس لقوم بتوفيق الطاعات ، ولآخرين بخذلان المعاصي. وأرزاق القلوب لقوم حضور القلب باستدامة الفكر ، ولآخرين باستيلاء الغفلة ودوام القسوة. وأرزاق الأرواح لقوم صفاء المحبة ، ولآخرين اشتغال أرواحهم بالعلاقة بينهم وبين أشكالهم ، فيكون بلاؤهم فى محبتهم لأمثالهم. وأرزاق الأسرار لا تكون إلا بمشاهدة الحقّ ، فأمّا من لم يكن من هذه الجملة فليس من أصحاب الأسرار.

قوله جل ذكره : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً))

شغل الخلق بالخلق لأنّ الجنس أولى بالجنس. ولمّا أراد الحقّ ـ سبحانه ـ بقاء الجنس هيّأ سبب التناسب والتناسل لاستيفاء مثل الأصل. ثم منّ على البعض بخلق البنين ، وابتلى قوما بالبنات ـ كلّ بتقديره على ما يشاء.

قوله جل ذكره : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)

والرزق الطيب لعبد ما تستطيبه نفسه ، ولآخر ما يستطيبه سرّه.

فمنهم من يستطيب مأكولا ومشروبا ، ومنهم من يستطيب خلوة وصفوة ... إلى غير ذلك من الأرزاق.

٣٠٨

(أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) ، وهو حسبان حصول شىء من الأغيار ، وتعلّق القلب بهم استكفاء منهم أو استدفاعا لمحذور أو استجلابا لمحبوب.

(وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) والنعمة التي كفروا بها هى الثقة بالله ، وانتظار الفرج منه ، وحسن التوكل عليه.

قوله جل ذكره : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣))

ومن يتعلّق بشخص أو بسبب مضاه (١) لعبّاد الأصنام من حيث إنه يضيّع وقته فيما لا يعينه ، فالرزق ، من الله ـ فى التحقيق ـ مقدّر.

قوله جل ذكره : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤))

كيف تضرب الأمثال لمن (لا) (٢) يساويه أحد فى الذات والصفات وأحكام الأفعال؟ ومن نظر إلى الحقّ من حيث الخلق (٣) وقع فى ظلمات التشبيه ، وبقي عن معرفة المعبود.

قوله جل ذكره :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥))

شبّه الكافر بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شىء ولا ملك له فى الشرع ، والمؤمن المخلص بمن رزقه الخيرات ووفقه إلى الطاعات ثم وعده الثواب وحسن المآب على ما أنفقه.

__________________

(١) فى الهامش هكذا ، بينما هى فى النص (معناه) ، والصواب ما جاء فى الهامش أي مماثل.

(٢) سقطت (لا) والمعنى يتطلبها.

(٣) أي من حيث مضاهاته بالخلق ، ومناظرته بالحدثان.

٣٠٩

ثم نفى عنهما المساواة إذ ليس من كان بنفسه ، ملاحظا لأبناء جنسه ، متماديا فى حسبان مغاليطه كمن كان مدركا بربّه مصطلما (١) عن شاهده ، غائبا عن غيره ، والمجرى عليه ربّه ولا حول له إلا به.

قوله جل ذكره : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦))

هذا المثل أيضا للمؤمن والكافر ؛ فالكافر كالجاهل الأبكم الذي لا يجىء منه شىء ، ولا يحصل منه نفع ، والمؤمن على الصراط المستقيم يتبرأ عن حوله وقوّته ، ولا يعترف إلا بطوله ـ سبحانه ـ ومنّته.

قوله جل ذكره : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧))

استأثر الحقّ ـ سبحانه ـ بعلم الغيبيات ، وسترها على الخلق ؛ فيخرج قوما فى الضّلالة ثم ينقلهم إلى صفة الولاية ، ويقيم قوما برقم العداوة ثم يردهم إلى وصف الولاية .. فالعواقب مستورة ، والخواتيم مبهمة ، والخلق فى غفلة عما يراد بهم.

قوله جل ذكره : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨))

__________________

(١) الاصطلام : نعت غلبة ترد على المقول فيستلبها بقوة سلطانه وقهره (اللمع ص ٤٥٠).

٣١٠

خلقهم من غير أن شاورهم ، وأثبتهم ـ على الوصف الذي أراده ـ دون أن خيّرهم ، ولم يعلموا بماذا سبق حكمهم .. أبا لسعادة خلقهم أم على الشقاوة من العدم أخرجهم من من بطون أمهاتهم؟ فلا صلاح أنفسهم علموا ، ولا صفة ربّهم عرفوا ثمّ بحكم الإلهام هداهم حتى قبل الصبيّ ثدى أمه وإن لم يكن قد تقدمه تعريف أو تخويف أو تكليف أو تعنيف.

(وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ) : لتسمعوا خطابه ، (وَالْأَبْصارَ) لتبصروا أفعاله ، (وَالْأَفْئِدَةَ) لتعرفوا حقّه ، ثم لتشكروا عظيم إنعامه عليكم بهذه الحواس.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩))

الطائر إذا حلق فى الهواء يبقى كالواقف ولا يسقط ، وقد قامت الدلالة على أن الحقّ ـ سبحانه ـ متفرّد بالإيجاد ، ولا يخرج حادث عن قدرته ، وفى ذلك دلالة على كمال قدرته سبحانه.

قوله جل ذكره : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠))

للنفوس وطن ، وللقلوب وطن. والناس على قسمين مستوطن ومسافر : فكما أن الناس بنفوسهم مختلفون فكذلك بقلوبهم ؛ فالمريد أو الطالب مسافر بقلبه لأنه يتلوّن ، ويرتقى من درجة إلى درجة ، والعارف مقيم ومستوطن لأنه واصل متمكن والطريق منازل ومراحل ، ولا تقطع تلك المنازل بالنفوس وإنما تقطع بالقلوب ، والمريد سالك والعارف واصل.

قوله جل ذكره : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً

٣١١

وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١))

فى الظاهر جعل لكم من الأشجار والسقوف ونحوها ظلالا .. كذلك جعل فى ظل عنايته لأوليائه مثوى وقرارا.

وكما ستر ظواهركم بسرابيل تقيكم الحرّ وسرابيل تقيكم بأس عدوكم ـ كذلك ألبس سرائركم لباسا يلفكم به فى السراء والضراء ، ولباس العصمة يحميكم من مخالفته ، وأظلكم بظلال التوفيق مما يحملكم على ملازمة عبادته ، وكساكم بحلل الوصل مما يؤهلكم لقربته ، وصحبته.

قوله : (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ..) ، إتمام النعمة بأن تكون عاقبتهم مختومة بالخير ، ويكفيهم أمور الدين والدنيا ، ويصونهم عن اتباع الهوى ، ويسدّدهم حتى يؤثروا ما يوجب من الله الرضاء.

قوله جل ذكره : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢))

إذا بلّغت الرسالة فما جعلنا إليك (١) حكم الهداية والضلالة.

قوله جل ذكره : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣))

يستوفقون إلى الطاعة ، فإذا فعلوا أعجبوا بها (٢).

__________________

(١) وردت (إليكم) والخطاب موجه إلى المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالصواب (إليك).

(٢) فى هذا الصدد ينقل القشيري عن شيخه الدقاق قوله (لما دخل الواسطي نيسابور سأل أصحاب أبى عثمان : بماذا كان يأمركم شيخكم؟.

فقالوا : كان يأمرنا بالتزام الطاعات ورؤية التقصير فيها.

فقال : هلا أمركم بالغيبة عنها برؤية منشيها ومجريها؟) الرسالة ص ٣٤.

٣١٢

ويقال يستغيثون ، فإذا أجابهم مقصّروا فى شكره.

ويقال إذا وقعت لهم محنة استجاروا بربهم ، فإذا أزال عنهم تلك المحن نسوا ما كانوا فيه من الشدة ، وعادوا إلى قبيح ما أسلفوه من أعمالهم التي أوجبت لهم تلك الحالة.

ويقال يعرفون فى حال توبتهم قبح ما كانوا فيه فى حال زلتهم ، فإذا نقضوا توبتهم صاروا كأنهم لم يعرفوا تلك الحالة.

قوله جل ذكره : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤))

إذا كان يوم الحشر سأل الرسل عن أحوال أممهم ، فمن نطق بحجة أكرم ، ومن لم يدل بحجة لا تراعى له حرمة.

قوله جل ذكره : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥))

أي يشدّد عليهم الأمر ولا يسهّل.

قوله جل ذكره : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦))

تمنوا أن ينقموا من إخوانهم الذين عاشروهم ، وحملوهم على الزّلّة ، فيتبرأون من شركائهم ، ويلعن بعضهم بعضا ، وتضيق صدورهم من بعض.

قوله جل ذكره : (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧))

استسلموا لأمر الله وحكمه ، ويومئذ لا تضرّع منهم يرى ، ولا محنة ـ يصرخون من ويلها ـ عنهم تكشف

٣١٣

قوله جل ذكره : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩))

تأتى ـ يوم القيامة ـ كلّ أمة مع رسولها ، فلا أمة كهذه الأمة فضلا ، ولا رسول كرسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رتبة وقدرا.

(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن تبيانا لكل شىء ، فيه للمؤمنين شفاء ، وهو لهم ضياء ، وعلى الكافرين بلاء ، وهو لهم سبب محنة وشقاء.

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠))

العدل ما هو صواب وحسن ، وهو نقيض الجور والظلم.

أمر الله الإنسان بالعدل فيما بينه وبين نفسه ، وفيما بينه وبين ربه ، وفيما بينه وبين الخلق ؛ فالعدل الذي بينه وبين نفسه منعها عما فيه هلاكها ، قال تعالى : (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) (١) ، وكمال عدله مع نفسه كىّ عروق طمعه.

والعدل الذي بينه وبين ربّه إيثار حقّه تعالى على حظّ نفسه ، وتقديم رضا مولاه على ما سواه ، والتجرد عن جميع المزاجر ، وملازمة جميع الأوامر.

والعدل الذي بينه وبين الخلق يكون ببذل النصيحة وترك الخيانة فيما قل (٢) أو كثر ، والإنصاف بكل وجه وألا تشى إلى أحد بالقول أو بالفعل ، ولا بالهمّ أو العزم.

__________________

(١) آية ٤٠ سورة النازعات.

(٢) وردت (كل) بالكاف وهى خطأ من الناسخ.

٣١٤

وإذا كان نصيب العوام بذل الإنصاف وكفّ الأذى فإنّ صفة الخواص ترك الانتصاف ، وإسداء الإنعام ، وترك الانتقام ، والصبر على تحمّل ما يصيبك من البلوى.

وأما الإحسان فيكون بمعنى العلم ـ والعلم مأمور به ـ أي العلم بحدوث نفسه ، وإثبات محدثه بصفات جلاله ، ثم العلم بالأمور الدينية على حسب مراتبها. وأما الإحسان فى الفعل فالحسن منه ما أمر الله به ، وأذن لنا فيه ، وحكم بمدح فاعله.

ويقال الإحسان أن تقوم بكل حقّ وجب عليك حتى لو كان لطير فى ملكك ، فلا تقصر فى شأنه.

ويقال أن تقضى ما عليك من الحقوق وألا تقتضى لك حقا من أحد.

ويقال الإحسان أن تترك كل مالك عند أحد ، فأما غير ذلك فلا يكون إحسانا. وجاء فى الخبر : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» وهذه حال المشاهدة التي أشار إليها القوم.

قوله : (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) إعطاء ذى القرابة ، وهو صلة الرّحم ، مع مقاساة ما منهم من الجور والجفاء والحسد.

(يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) : وذلك كلّ قبيح مزجور عنه فى الشريعة.

قوله جل ذكره : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١))

يفرض على كافة المسلمين الوفاء بعهد الله فى قبول الإسلام والإيمان ، فتجب عليهم استدامة الإيمان. ثم لكلّ قوم منهم عهد مخصوص عاهدوا الله عليه ، فهم مطالبون بالوفاء به ؛ فالزاهد عهده ألا يرجع إلى الدنيا ، فإذا رجع إلى ما تركه منها فقد نقض عهده ولم يف به. والعابد عاهده فى ترك الهوى. والمريد عاهده فى ترك العادة ، وآثره بكل وجه. والعارف عهده التجرد له ، وإنكار ما سواه. والمحب عهده ترك نفسه معه بكل وجه (١).

__________________

(١) إشارة إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المرء مع من أحب».

٣١٥

والموحّد عهده الامتحاء (١) عنه ، وإفراده إياه بجميع الوجوه والعبد منهىّ عن تقصير عهده ، مأمور بالوفاء به.

قوله جل ذكره : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ)

من نقض عهده أفسد بآخر أمره أوّله ، وهدم بفعله ما أسّسه ، وقلع بيده ما غرسه ، وكان كمن نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا (٢) ، أي من بعد ما أبرمت فتله.

وإنّ السالك إذا وقعت له فترة ، والمريد إذا حصلت له فى الطريق وقفة ، والعارف إذا حصلت له حجبة (٣) ، والمحبّ إذا استقبلته فرقة ـ فهذه محن عظيمة ومصائب فجيعة ، فكما قيل :

فلأبكينّ على الهلال تأسّفا

خوف الكسوف عليه قبل تمامه

فما هو إلا أن تكسف شمسهم ، وينطفىء ـ فى الليلة الظلماء ـ سراجهم ، ويتشتّت من السماء ضياء نجومهم ، ويصيب أزهار أنسهم وربيع وصلهم إعصار فيه بلاء شديد ، وعذاب أليم. فإنّ الحقّ ـ سبحانه إذا أراد بقوم بلاء فكما يقول : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٤) فإنّ آثار سخط الملوك موجعة ، وقصة إعراض السلطان موحشة وكما قيل :

والصبر يحسن فى المواطن كلها

إلا عليك ـ فإنّه مذموم

__________________

(١) القشيري مستفيد من قول بعض الشيوخ : المحبة محو المحب بصفاته وإثبات المحبوب بذاته.

«الرسالة ص ١٥٨»

(٢) أنكاثا جمع نكث وهو ما ينكث قتله ، وقيل هى ربطة ، وكانت حمقاء تغزل هى وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن غزلهن.

(٣) وردت (محبة) وهى خطأ فى النسخ ، وقد اخترنا (حجبة) لأنها أقرب إلى السياق ، ومشابهة فى الكتابة لكلمة (محبة) حيث يحتمل أن يحدث الالتباس فى حرف الميم عند النقل.

(٤) آية ١١٠ سورة الأنعام.

٣١٦

هنالك تنسكب العبرات ، وتشق الجيوب ، وتلطم الخدود ، وتعطّل العشار ، وتخرّب المنازل ، وتسودّ الأبواب ، وينوح النائح :

وأتى الرسول فأخ

بر أنهم رحلوا قريبا

رجعوا إلى أوطانهم

فجرى لهم دمعى صبيبا

وتركن نارا فى الضلوع

وزر عن فى رأسى مشيبا

قوله جل ذكره : (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)

بلاء كلّ واحد على ما يليق بحاله ؛ فمن كان بلاؤه بحديث النّفس أو ببقائه عن هواه ، وبحرمانه لكرائمه فى عقباه فاسم البلاء فى صفته مجاز ، وإنما هذا بلاء العوام. ولكنّ بلاء الكرام غير هذا فهو كما قيل :

من لم يبت ـ والحبّ ملء فؤاده

لم يدر كيف تفتّت الأكباد

قوله جل ذكره : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣))

ليست واقعة القوم بخسران يصيبهم فى أموالهم ، أو من جهة تقصيرهم فى أعمالهم ولما ضيّعوه من أحوالهم .. فهذه ـ لعمرى ـ وجوه وأسباب ، ولكنّ سرّ القصة كما قيل :

أنا صب لمن هويت ولكن

ما احتيالى بسوء رأى الموالي؟

قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) : لو شاء الله سعادتهم لرحمهم ، وعن المعاصي عصمهم ، وبدوام الذكر ـ بدل الغفلة ـ ألهمهم .. ولكن سبقت القسمة فى ذلك ، وما أحسن ما قالوا :

شكا إليك ما وجد

من خانه فيك الجلد

حيران .. لو شئت اهتدى

ظمآن ... نو شئت ورد

٣١٧

قوله جل ذكره : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤))

أبعدكم عدم صدقكم فى إيمانكم عن تحققكم ببرهانكم ، لأنكم وقفتم على حدّ التردد دون القطع والتعيين ، فأفضى بكم تردّدكم إلى أوطان شرككم ، إذ الشكّ فى الله والشّرك به قرينان فى الحكم.

قوله جل ذكره : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥))

لا تختاروا على القيام بحقّ الله والوفاء بعهده عوضا يسيرا مما تنتفعون به من حطام دنياكم من حلالكم وحرامكم ، فإنّ ما أعدّ الله لكم فى جناته ـ بشرط وفائكم لإيمانكم ـ يوفى ويربو على ما تتعجلون به من حظوظكم.

قوله جل ذكره : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦))

الذي عندكم عرض حادت فان ، والذي عند الله من ثوابكم فى مآلكم نعم مجموعة ، لا مقطوعة ولا ممنوعة.

ويقال ما عندكم أو ما منكم أو ما لكم أفعال معلولة وأحوال مدخولة (١) ، وما عند الله فثواب مقيم ونعيم عظيم ويقال ما منكم من معارفكم ومحابكم آثار متعاقبة ، وأصناف متناوبة ، أعيانها غير باقية وإن كانت أحكامها غير باطلة (٢) ، والذي يتصف الحقّ به من رحمته بكم ومحبته لكم وثباته عليكم فصفات أزلية ونعوت سرمدية.

__________________

(١) أي مصابة بالدّخل

(٢) لأنها منكم فعلا ومن الله حكما.

٣١٨

ويقال ما عندكم من اشتياقكم إلى لقائنا فمعرّض للزوال ، وقابل للانقضاء ، وما وصفنا به أنفسا من الإقبال لا يتناهى وأفضال لا تفنى ، كما قيل :

ألا طال شوق الأبرار إلى لقائى

وإنى للقائهم لأشدّ شوقا

قوله : (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا ...) : جزاء الصبر الفوز بالطّلبة ، والظّفر بالبغية. ومآلهم فى الطلبات يختلف : فمن صبر على مقاساة مشقة فى الله. فعوضه وثوابه عظيم من قبل الله ، قال تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (١).

ومن صبر عن اتباع شهوة لأجل الله ، وعن ارتكاب هفوة مخافة لله فجزاؤه كما قال تعالى : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) (٢).

ومن صبر تحت جريان حكم الله ، متحققا بأنه بمرآة من الله فقد قال تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٣).

قوله جل ذكره : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧))

الصالح ما يصلح للقبول ، والذي يصلح للقبول ما كان على الوجه الذي أمر الله به. وقوله (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) : فى الحال ، (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) : فى المآل ؛ فصفاء الحال يستوجب وفاء المآل ، والعمل الصالح لا يكون من غير إيمان ، ولذا قال : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ).

ويقال (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي مصدّق بأن إيمانه من فضل الله لا بعمله الصالح. ويقال (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي مصدّق بأن عمله بتوفيق الله وإنشائه وإبدائه. قوله (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً

__________________

(١) آية ١٠ سورة الزمر.

(٢) آية ٧٥ سورة الفرقان.

(٣) صبر العبد مع الله أشد أنواع الصبر ويكون ـ كما يقول عمرو بن عثمان : بالثبات مع الله ، وتلقى بلائه بالرحب والدعة.

وصبر الله مع العبد يصفه الشيخ الدقاق بقوله : فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله تعالى معيته. (الرسالة ص ٩٣).

٣١٩

طَيِّبَةً) : الفاء للتعقيب ، (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ...) الواو للعطف ففى الأولى معجّل ، وفى الثانية مؤجّل ، ثم ما تلك الحياة الطيبة فإنه لا يعرف بالنطق ، وإنما يعرف ذلك بالذوق ؛ فقوم قالوا إنه حلاوة الطاعة ، وقوم قالوا إنه القناعة ، وقوم قالوا إنه الرضا ، وقوم قالوا إنه النجوى ، وقوم قالوا إنه نسيم القرب ... والكل صحيح ولكلّ واحد أهل.

ويقال الحياة الطيبة ما يكون مع المحبوب ، وفى معناه قالوا :

نحن فى أكمل السرور ولكن

ليس إلا بكم يتمّ السرور

عيب ما نحن فيه يا أهل ودّى

أنكم غيّب ونحن حضور

ويقال الحياة الطيبة للأولياء ألا تكون لهم حاجة ولا سؤال ولا أرب ولا مطالبة ؛ وفرق بين من له إرادة فترفع وبين من لا إرادة له فلا يريد شيئا (١) ، الأولون قائمون بشرط العبودية ، والآخرون معتقون بشرط الحرية.

قوله جل ذكره : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨))

شيطان كلّ واحد ما يشغله عن ربه ، فمن تسلّطت عليه نفسه حتى شغلته عن ربه ولو بشهود طاعة أو استحلاء عبادة أو ملاحظة حال ـ فذلك شيطانه. والواجب عليه أن يستعيذ بالله من شرّ نفسه ، وشرّ كل ذى شر.

قوله جل ذكره : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩))

أنّى يكون للشيطان سلطان على العبد والحقّ ـ سبحانه ـ متفرّد بالإبداع ، متوّحد بالاختراع؟.

قوله جل ذكره : (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠))

__________________

(١) فى هذا الصدد يقول القشيري فى رسالته : «والمريد ـ على موجب الاشتقاق ـ من له إرادة كالعالم من له علم لأنه من الأسماء المشتقة ، ولكن المريد فى عرف هذه الطائفة من لا إرادة له ؛ فمن يتجرد عن إرادته لا يكون مريدا. (الرسالة ص ١٠١).

٣٢٠