لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

تذكّر ما سلف من النّعم يوجب تجديد ما سبق من المحبة ، وفى الخبر :

«جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها» ؛ فالحقّ أمر موسى عليه‌السلام.

بتذكير قومه ما سبق إليهم من فنون إنعامه ، ولطائف إكرامه .. وفى بعض الكتب المنزلة على الأنبياء ـ عليهم‌السلام : «عبدى ، أنا لك محبّ فبحقى عليك كن لى محبا»

قوله جل ذكره : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧))

إن شكرتم لأزيدنكم من إنعامى وإكرامى ، وإن كفرتم بإحسانى لأعذبنكم اليوم بامتحانى ، وغدا بفراقى وهجرانى.

لئن عرفتم وصالى لأزيدنكم من وجود نوالى إلى شهود جمالى وجلالى (١).

ويقال لئن شكرتم وجوه توفيق العبادة لأزيدنكم بتحقيق الإرادة.

ويقال لئن شكرتم شهود المكافي لأزيدنكم بشهود أوصافى.

ويقال لئن شكرتم صنوف إنعامى لأزيدنكم بشهود إكرامى ثم إلى شهود إقدامى.

ويقال لئن شكرتم مختص نعمائى لأزيدنكم منتظر آلائي.

ويقال لئن شكرتم مخصوص نعمى لأزيدنكم مأمول كرمى.

ويقال لئن شكرتم ما خوّلناكم من عطائى لأزيدنكم ما وعدناكم من لقائى.

ويقال لئن شكرتم ما لوّحت فى سرائركم زدناكم ما ألبسنا من العصمة لظواهركم.

ويقال لئن كفرتم نعمتى بأن توهمتم استحقاقها (٢) لجرّعناكم ما تستمرّون مذاقها.

قوله جل ذكره : (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨))

__________________

(١) أي إن الوجود والشهود ـ عند هذا الصوفي ـ يرتبطان بالأوصاف لا بالذات ، فقد جلت الصمدية عن أن يستشرف العبد من الذات.

(٢) أي ينبغى أن تنظروا لأعمالكم بعين الاستصغار وأن ما تنالون من نعمة فضل من الله وليس نظير أعمالكم.

٢٤١

إن اجتمعتم أنتم ومن عاضدكم ، وكل من غاب عنكم وحضركم ، والذين يقتفون أثركم ـ على أن تكفروا بالله جميعا ، وأخذتم كل يوم شركاء قطيعا ـ ما أوجهتم لعزّنا شينا ، كما لو شكرتم ما جعلتم بملكنا زينا. والحقّ بنعوته ووصف جبروته علىّ ، وعن العالم بأسره غنىّ.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩))

استفهام فى معنى التقرير. أخبره أنه لما جاءتهم الرسل قابلوهم بالكنود ، وعاملوهم بالجحود وردوا أيديهم فى أفواههم ، وحذوا سبيل أمثالهم فى الكفر ، وبنوا على الشك والريبة قواعدهم ، وأسسوا على الشّرك والغىّ مذاهبهم.

قوله جل ذكره : (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى)

استفهام والمراد منه توبيخ ونفى. سبحانه لا يتحرك نفس إلا بتصريفه.

وكيف يبصر جلال قدره إلا من كحلّه بنور برّه؟

ثم قال : (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) : ليس العجب ممن تكلف لسيده المشاق وتحمل ما لا يطاق ، وألّا يهرب من خدمة أو يجنح إلى راحة .. إنما العجب من سيد عزيز كريم يدعو عبده ليغفر له وقد أخطأ ، ويعامله بالإحسان وقد جفا.

٢٤٢

والذي لا يكفّ عن العناد ، ولا يؤثر رضاء سيده على راحة نفسه فلا يحمل هذا إلا على قسمة بالشقاء سابقة .. وإن أحكام الله بردّه صادقة. ثم أخبر أنهم قالوا لرسلهم :

(قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)

نظروا إلى الرسل من ظواهرهم ؛ ولم يعرفوا سرائرهم ، ومالوا إلى تقليد أسلافهم ، وأصروا على ما اعتادوه من شقاقهم وخلافهم.

قوله جل ذكره : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١))

قالت لهم الرسل ما نحن إلا أمثالكم ، والفرق بيننا أنه ـ سبحانه ـ منّ علينا بتعريفه ، واستخلصنا بما أفردنا به من تشريفه. والذي اقترحتم علينا من ظهور الآيات فليس لنا إلى الإتيان به سبيل إلّا أن يظهره الله علينا إذا شاء بما شاء ـ وهو عليه قدير.

قوله جل ذكره : (وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢))

(ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) : وقد رقّانا من حدّ التكليف بالبرهان إلى وجود روح البيان بكثرة ما أفاض علينا من جميل الإحسان ، فكفانا من مهان الشان. (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) : وقد حقّق لنا ما سبق به الضمان من وجود الإحسان ، وكفاية ما أظلّنا من الامتنان. (ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) ولم نخرج إلى التقاضي على الله فيما وعدنا الله.

٢٤٣

قوله : (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) : والصبر على البلاء يهون إذا كان على رؤية المبلى ، وفى معناه أنشدوا :

يستقدمون بلاياهم كأنهم

لا ييأسون من الدنيا إذا قبلوا

قوله جل ذكره : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣))

لما عجز الأعداء عن معارضة الأنبياء عليهم‌السلام فى الإتيان بمثل آياتهم أخذوا فى الجفاء معهم بأنواع الإنذار ، والتهديد بفنون البلاء من الإخراج عن الأوطان ، والتشريد فى البلدان. وبسط الله على قلوبهم بوعد نصره ولقائه ما أظلّهم من الأمر ، ومكّن لهم من مساكن أعدائهم بما قوّى قلوبهم على الصبر على مقاساة بلائهم فقال :

(لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) ، وقال :

(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَخافَ وَعِيدِ)

(وَخافَ وَعِيدِ) : أي خاف مقامه فى محل الحساب غدا فأناب إلى نفسه على وجه التخصيص.

ويقال خاف مقامى أي هاب اطلاعى عليه ، فالأول تذكير المحاسبة فى الآجل ، والثاني تحقيق المراقبة فى العاجل.

قوله جل ذكره : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥))

الاستفتاح طلب الفتح ، والفتح القضاء ، واستعجلوا حلول القضاء مثل قولهم : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) (١) وغيره فلما نزل بهم البلاء ، وتحقق لهم

__________________

(١) آية ٣٢ سورة الأنفال.

٢٤٤

الأمر لم ينفعهم تضرعهم وبكاؤهم ، ولم تقبل منهم صدقتهم وفداؤهم ، وندموا حين لا ندامة ، وجزعوا بعد ما عدموا السلامة.

ويقال : (وَاسْتَفْتَحُوا) : بغير الرسل ، ولما وجد الرسل إصرار قومهم سألوا النصرة عليهم من الله كقول نوح ـ عليه‌السلام : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) ، وقول موسى عليه‌السلام : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) (١) فأجابهم الله بإهلاكهم.

ويقال إذا اشتد البلاء وصدق الدعاء قرب النّجاء.

قوله جل ذكره : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ)

لفظ «وراء» يقع على ما بين يديه وعلى ما خلف ، والوراء ما توارى عليك أي استتر ؛ يريد هذا الكافر يأتيه العذاب فيما بين يديه من الزمان ، وعلى ما خلفه ؛ أي لأجل ما سلف من الماضي من قبيح أفعاله ، ويسقى من النار ما يشربه جرعة بعد جرعة ، فلصعوبته ومرارته لا يشربه مرة واحدة.

قوله جل ذكره : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ)

يرى العذاب ـ من شدته ـ فى كل عضو ، وفى كل وقت ، وفى كل مكان. وليس ذلك الموت ؛ لأنّ أهل النار لا يموتون ، ولكنه فى الشدة كالموت. ثم (مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) : وهو الخلود فى النار ، وهذا جزاء من اغترّ بأيام قلائل ساعدته المشيئة فيها ، وانخدع فلم يشعر بما يليها.

__________________

(١) الآية ٨٨ سورة يونس.

٢٤٥

قوله جل ذكره : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨))

أي وفيما يتلى عليك ـ يا محمد ـ مثل لأعمال الكفار فى تلاشيها ، وكيف أنه لا يقبل شىء منها كرماد فى يوم عاصف ، فإنه لا يبقى منه شىء ـ كذلك أعمالهم. ومن كان كذلك فقد خاب فى الدارين ، وحلّ عليه الويل.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠))

خلق السماوات والأرض بالحكم الحق ، أي له ذلك بحقّ ملكه ، وخلقهما بقوله الحق ؛ فجعل كلّ جزء منهما على وحدانيته دليلا ، ولمن أراد الوصول إلى ربّه سبيلا.

ثم قال : إن يشأ يذهبكم بالإفناء ، ويأت بخلق جديد فى الإنشاء ، وليس ذلك عليه بعزيز ... وأنّى ذلك وهو على كل شىء قدير؟!

قوله جل ذكره : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ....)

لم يكونوا عن الحقّ ـ سبحانه ـ مستترين حتى يظهروا له ، ولكن معناه صارت معارفهم ضرورية فحصلوا فى مواطن لم يكن لغير الله فيها حكم ، فصاروا كأنهم ظهروا لله. فقال الضعفاء للذين استكبروا : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) توهما أن يرفعوا عنهم شيئا من العناء ، فأجابهم المتكبرون : إنّا جميعا فى العذاب مشتركون ، ولو أمكننا أن نرفع عنكم من

٢٤٦

العذاب ، وقدرنا على أن نهديكم إلى طريق النجاة لنجيناكم مما شكوتم ، وأجبناكم إلى ما سألتم ، ولكنكم لستم اليوم لنا بمصرخين ، ولا نحن لكم بمغيثين ، ولا لما تدعونا إليه بمستجيبين ...

فلا تلومونا ولوموا أنفسكم ، ولات حين ملام! إنما ينفع لوم النّفس فيما تتعاطاه من الإساءة فى زمان المهلة وأوقات التكليف ؛ فإنّ أبواب التوبة مفتوحة ، ولكن لمن لم ينزع روحه.

قوله جل ذكره : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣))

ذلك الذي مضى ذكره صفة الكفار والأعداء. وأمّا المؤمنون والأولياء ، فقال : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا ...) والإيمان هو التصديق ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) تحقيق التصديق. ويدخل فى جملة الأعمال الصالحة ما قلّ أو كثر من وجوه الخيرات حتى القذر تميطه (١) عن الطريق.

و (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) ـ وكذلك قال تعالى : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) ، فالوصف العام والتحية لهم من الله السلام.

ويقال إن أحوالهم متفاوتة فى الرتبة ؛ فقوم سلموا من الاحتراق ثم من الفراق ثم من العذاب ثم من الحجاب.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها

__________________

(١) أماط الأذى أي نحاه وأبعده.

٢٤٧

وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦))

هذا مثل ضربه الله للإيمان والمعرفة به سبحانه ، فشبهه بشجرة طيبة ، وأصل تلك الشجرة ثابت فى الأرض وفروعها باسقة وثمراتها وافية. تؤتى أكلها كل وقت ، وينتفع بها أهلها كل حين.

وأصل تلك الشجرة المعرفة ، والإيمان مصحّحا بالأدلة والبراهين ، وفروعها الأعمال الصالحة التي هى الفرائض ومجانبة المعاصي.

والواجب صيانة الشجرة مما يضرّ بها مثل كشف القشر وقطع العرق وإملاق الغصن (١) وما جرى مجراه.

وأوراق تلك الشجرة القيام بآداب العبودية ، وأزهارها الأخلاق الجميلة ، وثمارها حلاوة الطاعة ولذة الخدمة.

وكما أن الثمار تختلف فى الطّعم والطبع والرائحة والصورة .. كذلك ثمرات الطاعات ، ومعانى الأشياء التي يجدها العبد فى قلبه تختلف من حلاوة الطاعة وهى صفة العابدين ، والبسط الذي يجده العبد فى وقته وهو صفة العارفين ، وراحة فى الضمير وهو صفة المريدين ، وأنس يناله فى سرّه وهو صفة المحبين. وقلق واهتياج يجدهما ولا يعرف سببهما ، ولا يجد سبيلا إلى سكونه وهو صفة المشتاقين. إلى ما لا يفى بشرحه نطق ، ولا يستوفيه تكلّف قول. وذكر من لوائح ولوامع ، وطوارق وشوارق ، كما قيل.

طوارق أنوار تلوح إذا بدت

فتظهر كتمانا وتخبر عن جمع

ثم إن ثمرات الأشجار فى السنة مرة ، وثمرات هذه الشجرة فى كل لحظة كذا كذا مرة. وكما قال الله تعالى فى ثواب الجنة : (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) كذا لطائف هذه الشجرة

__________________

(١) أي إذهاب الفاسد منه.

٢٤٨

لا مقطوعة ولا ممنوعة ، وقلوب أهل الحقائق عنها لا مصروفة ولا محجوبة ، وهى فى كل وقت ونفس تبدو لهم غير محجوبة.

وثمرات الشجرة أشرف الثمار ، وأنوارها ألطف وأظرف الأنوار ، وإشارات أهل هذه القصة وألفاظهم فى مراتبهم ومعانيهم كالرياحين والنّور.

ويقال الكلمة الطيبة هى الشهادة بالإلهية ، وللرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالنبوة. وإنما تكون طيبة إذا صدرت عن سرّ مخلص.

والشجرة الطيبة المعرفة ، وأصلها ثابت فى أرض غير سبخة ، والأرض السبخة قلب الكافر والمنافق ، فالإيمان لا ينبت فى قلبيهما كما أن الشجرة فى الأرض السبخة لا تنبت. ثم لا بدّ للشجرة من الماء ، وماء هذه الشجرة دوام العناية ، وإنما تورق بالكفاية ، وتتورّد بالهداية.

ويقال ماء هذه الشجرة ماء الندم والحياء والتلهف والحسرة والأمانة والخشوع وإسبال (١) الدموع.

ويقال ثمرات هذه الشجرة مختلفة بحسب اختلاف أحوالهم ؛ فمنها التوكل والتفويض والتسليم ، والمحبة والشوق ، والرضا ، والأحوال الصافية الوافية ، والأخلاق العالية الزكية.

ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة هى كلمة الكفر ، وخبثها ما صحبها من نجاسة الشّرك ، فخبث الكلمة لصدورها عن قلب هو مستقرّ الشّرك ومنبعه.

والشجرة الخبيثة هى الشّرك اجتثّ من فوق الأرض ؛ لأن الكفر متناقض متضاد ، ليس له أصل صحيح ، ولا برهان موجب ، ولا دليل كاشف ، ولا علة مقتضية ، إنما هو شبه وأباطيل وضلال ، تقتضى وساوس وتسويلات ما لها من قرار ، لأنها حاصلة من شبه واهية وأصول فاسدة.

قوله جل ذكره : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ

__________________

(١) أسبلت العين ـ سال دمها (الوسيط ج ١ ص ٤١٧).

٢٤٩

الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧))

بالقول الثابت وهو البقاء على الاستقامة ، وترك العوج.

ويقال القول الثابت هو الشهادة الضرورية عن صفاء العقيدة وخلوص السريرة.

ويقال القول الثابت هو بنطق القلوب لا بذكر اللسان.

ويقال القول الثابت هو قول الله العزيز القديم الذي لا يجوز عليه الفناء والبطول (١) فهو بالثبوت أولى من قول العبد ؛ لأن قول العبد أثر ، والآثار لا يجوز عليها الثبوت والبقاء وإنما يكون باقيا حكما ثبات العبد لقول الله ؛ وهو حكمه بالإيمان وإخباره أنه مؤمن وتسميته بالإيمان. وقول الله لا يزول ؛ ففى الدنيا يثبته حتى لا بدعة تعتريه ، وفى الآخرة يثبته برسله من الملائكة ، وفى القيامة يثبته عند السؤال والمحاسبة وفى الجنة يثبته لأنه لا يزول حمد العبد لله ، ومعرفته به. وإذا تنوعت عليه الخواطر ورفع إليه ـ سبحانه ـ دعاءه ثبّته حتى لا يحيد عن النهج المستقيم والدين القويم.

ويقال إذا دعته الوساوس إلى متابعة الشيطان ، وصيّرته الهواجس إلى موافقة النّفس فالحق يثبته على موافقة رضاه.

ويقال إذا دعته دواعى المحبة من كل جنس كمحبة الدنيا ، أو محبة الأولاد والأقارب والأموال والأحباب أعانه الحقّ على اختيار النجاة منها ، فيترك الجميع ، ولا يتحسّس إلا دواعى الحقّ ـ سبحانه كما قيل :

إذا ما دعتنا حاجة كى تردّنا

أبينا وقلنا : مطلب الحقّ أوّلا

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨))

__________________

(١) بطل الشيء بطولا وبطلانا ـ ذهب ضياعا (الوسيط ج ١ ص ٦١).

٢٥٠

وضعوا الكفران محل الشكر ، فاستعملوا النعمة للكفر ، بدلا من استعمالها فيما كان ينبغى لها من الشكر. واستعمال النعمة فى المعصية من هذه الجملة ، فأعضاء العبد كلها نعم من الله على العبد ، فإذا استعمل العاصي بدنه فى الزّلة بدلا من أن يستعملها فى الطاعة فقد بدّل النعمة كفرا ، وكذلك إذا أودع الغفلة قلبه مكان المعرفة ، والعلاقة فيه مكان الانقطاع إليه ، وعلّق قلبه بالأغيار بدل الثقة به ، ولطّخ لسانه بذكر المخلوقين ومدحهم بدل ذكر الله واشتغل بغير الله دون العناء فى ذكره ... كلّ هذا تبديل نعم الله كفرا. وإذا كان العبد منقطعا إلى الله ، مكفيا من قبل الله .. وجد فى فراغه مع الله راحة عن الخلق ، ومن إقباله عليه ـ سبحانه ـ كفاية ، فإذا رجع إلى أسباب التفرقة ، ووقع فى بحار الاشتغال ومعاملة الخلق ومدحهم وذمهم فقد أحلّ قومه دار البوار ؛ على معنى إيقاعه قلبه ونفسه وجوارحه فى المذلة من الخلق ، والمضرة فى الحال ، وشأنه كما قيل :

ولم أر قبلى من يفارق جنّة

ويقرع بالتطفيل باب جهنم

قوله جل ذكره : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩))

وهى الجحيم المعجّل .. وعذابها الفرقة لا الحرقة.

قوله جل ذكره : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠))

رضوا بأن يكون معمولهم معبودهم ، ومنحوتهم مقصودهم ، فضلّوا عن نهج الاستقامة ، ونأوا عن مقر الكرامة ، وسيلقون غبّ (١) ما صنعوا يوم القيامة كما قيل :

قد تركناك والذي تريد

فعسى أن تملّهم فتعودا

قل تمتعوا أياما قليلة فأيام السرور قصار ، ومتع الغفلة سريعة الانقضاء.

قوله جل ذكره : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا

__________________

(١) وردت (غير) وقد آثرنا أن تكون (غب) ليقوى المعنى أي عاقبة ما صنعوا.

٢٥١

الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١))

جعل الله راحة العبد ـ اليوم ـ بكمالها فى الصلاة ؛ فإنّها محلّ المناجاة ، قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرحنا يا بلال بالصلاة» (١) والصلاة استفتاح باب الرزق ، قال تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ، وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) (٢)

وفى الصلاة يبث (٣) العبد أسراره مع الحق ؛ فإذا كان لقاء الإخوان ـ كما قالوا ـ مسلاة لهم فكيف بمناجاتك مع الله ، ونشر قصتك بين يديه؟ كما قيل :

قل لى بألسنة التنفّس

كيف أنت وكيف حالك؟

(وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) : أمرهم بإنفاق اللسان على ذكره ، وإنفاق البدن على طاعته ، والوقت (٤) على شكره ، والقلب على عرفانه ، والروح على حبه ، والسّرّ على مشاهدته .. ولا يكلّف الله نفسا إلا ما آتاها ، وإنما يطالب بأن تحضر إلى الباب ، وتقف على البساط بالشاهد الذي آتاك ... يقول العبد المسكين : لو كان لى نفس أطوع من هذه لأتيت بها ، ولو كان لى قلب أشدّ وفاء من هذا لجدت به ، وكذلك بروحى وسرّى ، وقيل:

يفديك بالروح صبّ لو انّ له

أعز من روحه شيئا فداك به

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) : وفى هذا المعنى أنشدوا :

قلت للنّفس إن أردت رجوعا

فارجعى قبل أن يسدّ الطريق

قوله جل ذكره : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ

__________________

(١) سبق تخريج هذا الحديث الشريف.

(٢) آية ١٣٢ سورة طه.

(٣) وردت (يثبت) والمعنى يقتضى (يبث).

(٤) وردت (الوقف) وهى ـ كما هو واضح ـ خطأ فى النسخ.

٢٥٢

الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣))

فى الظاهر رفع السماء فأعلاها ، والأرض من تحتها دحاها ، وخلق فيها بحارا ، وأجرى أنهارا ، وأنبت أشجارا ، وأثبت لها أنوارا وأزهارا ، وأمطر من السماء ماء مدرارا. وأخرج من الثمرات أصنافا ، ونوّع لها أوصافا ، وأفرد لكلّ منها طعما مخصوصا ، ولإدراكه وقتا معلوما.

وأمّا فى الباطن فسماء القلوب زيّنها بمصابيح العقول ، وأطلع فيها شمس التوحيد ، وقمر العرفان. ومرج فى القلوب بحرى الخوف والرجاء ، وجعل بينهما برزخا لا يبغيان ؛ فلا الخوف يقلب الرجاء ولا الرجاء يقلب الخوف ، كما جاء فى الخبر : «لو وزنا لاعتدلا» (١) ـ هذا لعوام المؤمنين ، فأمّا الخواص فالقبض والبسط ، ولخاص الخاص فالهيبة والأنس والبقاء والفناء.

وسخّر لهم الفلك فى هذه البحار ليعبروها بالسلامة ، وهى فلك التوفيق والعصمة ، وسفينة الأنوار والحفظ. وكذلك ليالى الطلب للمريدين ، وليالى الطرب لأهل الأنس من المحبين ، وليالى الحرب (٢) للتائبين ، وكذلك نهار العارفين باستغنائهم عن سراج العلم عند متوع نهار اليقين.

قوله جل ذكره : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))

ما سمت إليه هممكم ، وتعلّق به سؤالكم ، وخطر تحقيق ذلك ببالكم ، أنلناكم

__________________

(١) أورده السراج فى لمعه ص ٩١ (قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا)

(٢) ربما يقصد القشيري بالحرب هنا جهاد التائب مع نفسه ، وإظهار الحزن والتأسف.

٢٥٣

فوق ما تؤمّلون (١) ، وأعطيناكم أكثر مما ترجون (٢) ، قال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).

وقرأ بعض القراء (٣) : (مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) فينوّن قوله : كل ، ويجعل ما سألتموه (ما) للنفى أي كل شىء مما لم تسألوه.

كذلك جاز أن يكون المعنى ، قل يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألونى ـ وهذا لأرباب الطاعات ، وغفرت لكم قبل أن تستغفرونى ـ وهذا لأصحاب الزلات. علم قصور لسان العاصي وما يمنعه من الخجل وما يقبض على لسانه إذا تذكّر ما عمله من الزلّات ، فأعطاه غفرانه ، وكفاه حشمة السؤال ، والتفضل ؛ فقال : غفرت لكم قبل أن تستغفرونى.

ولكن متى يخطر على قلب العبد ما أهّله الحق ـ سبحانه ـ من العرفان؟ وكيف يكون ذلك الحديث؟ .. قبل أن كان له إمكان ، أو معرفة وإحسان ، أو طاعة أو عصيان ، أو عبادة وعرفان ، أو كان له أعضاء وأركان ، أو كان العبد شيخا أو عينا أو أثرا .. لا بل:

أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى

فصادف قلبا خاليا فتمكّنا

قوله جل ذكره : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)

كيف يكون شكركم كفاء نعمه ..؟ وشكركم نزر يسير ، وإنعامه وافر غزير.

وكيف تكون قطرة الشكر بجوار بحار الإنعام؟

إنّ نعمه علومكم عن تفصيلها متقاصرة ، وفهومكم عن تحصيلها متأخّرة.

__________________

(١) وردت (تؤمنون) وهى ـ كما هو واضح ـ لا يستقيم بها السياق فآثرنا تؤملون.

(٢) وردت (ترجعون) وهى ـ كما هو واضح ـ لا يستقيم بها السياق فآثرنا ترجون.

(٣) لا يهتم القشيري بالقراءات إلا نادوا ، وحيثما وجد فى ذلك مجالا لإشارة نافعة للصوفية

٢٥٤

وإذا كان ما يدفع عن العبد من وجوه المحن (١) وفنون البلايا من مقدوراته لا نهاية له. فكيف يأتى الحصر والإحصاء على مالا يتناهى؟

وكما أن النّفع من نعمه فالدفع أيضا من نعمه.

ويقال إن التوفيق للشكر من جملة ما ينعم به الحقّ على العبد فإذا أراد أن يشكره لم يمكنه إلا بتوفيق آخر فلا يبقى من النعم إلا ما يشكر عليه.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦))

(٢) كما سأل أن يجعل مكة بلدا آمنا طلب أن يجعل قلبه محلا آمنا ؛ أي لا يكون فيه شىء إلا بالله. (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) : والصنم ما يعبد من دونه ، قال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) (٣) فصنم كلّ أحد ما يشغله عن الله تعالى من مال وولد وجاه وطاعة وعبادة.

ويقال إنه لمّا بنى البيت استعان بالله أن يجرّده من ملاحظة نفسه وفعله.

ويقال إنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان مترددا بين شهود فضل الله وشهود رفق نفسه ، فلما لقى من فضله وجوده قال من كمال بسطه : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ). ولما نظر من حيث فقر نفسه قال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ).

ويقال شاهد غيره فقال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ، وشاهد فضله ورحمته ولطفه فقال : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ).

__________________

(١) وردت (المحسن) وهى خطأ فى النسخ.

(٢) سقطت (وإذ) من الناسخ.

(٣) آية ٢٣ سورة الجاثية.

٢٥٥

قوله جل ذكره : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

(فَإِنَّهُ مِنِّي) أي موافق لى ومن أهل ملّتى ، ومن عصانى خالفنى وعصاك.

قوله : (فَإِنَّكَ) (١) (غَفُورٌ رَحِيمٌ) : طلب للرحمة بالإشارة ، أي فارحمهم.

وقال : (وَمَنْ عَصانِي) .. ولم يقل : من عصاك ، وإن كان من عصاه فقد عصى الله ، ولكن اللفظ إنما لطلب الرحمة فيما كان نصيب من ترك حقه ، ولم ينتصر لنفسه بل قابلهم بالرحمة.

ويقال إن قول نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى هذا الباب أتمّ فى معنى العفو حيث قال : «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» ، وإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ عرّض وقال : (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ويقال لم يجزم السؤال لأنه بدعاء الأدب (٢) فقال : (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

قوله جل ذكره : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧))

أخبر عن صدق توكله وصدق تفويضه بقوله : (إِنِّي أَسْكَنْتُ ...) وإنما رأى الرّفق بهم فى الجوار لا فى المبارّ فقال : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ثم قال : (لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) : أي أسكنتهم لإقامة حقّك لا لطلب حظوظهم.

ويقال اكتفى أن يكونوا فى ظلال عنايته عن أن يكونوا فى ظلال نعمته.

__________________

(١) أخطأ الناسخ إذ جعلها «فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

(٢) تفيد هذه الإشارة فى النواحي البلاغية حيث استبدل التعبير بالأسلوب الإنشائى بالأسلوب الخبرى.

٢٥٦

ثم قال : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) أي ليشتغلوا بعبادتك ، وأقم قومى ـ ما بقوا ـ بكفايتك ، (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) : فإنّ من قام بحقّ الله أقام الله بحقّه قومه ، واستجاب الله ، دعاءه فيهم ، وصارت القلوب من كل بر وبحر كالمجبولة على محبة تلك النسبة ، وأولئك المتصلين به ، وسكان ذلك البيت.

ويقال قوله : (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) : أي أسكنتهم بهذا الوادي حتى لا تتعلق بالأغيار قلوبهم ، ولا تشتغل بشىء أفكارهم وأسرارهم ؛ فهم مطروحون ببابك ، مصونون بحضرتك ، مرتبطون بحكمك ؛ إن راعيتهم كفيتهم وكانوا أعزّ خلق الله ، وإن أقصيتهم ونفيتهم كانوا أضعف وأذلّ خلق الله.

قوله جل ذكره : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨))

استأثرت بعلم الغيب فلا يعزب عن علمك معلوم ، وحالى لا تخفى عليك ، فهى كما عرفت ، أنت تعلم سرّى وعلني ... ومن عرف هذه الجملة استراح من طوارق الأغيار ، واستروح قلبه عن ترجّم الأفكار ، والتّقّسم في كون الحوادث من الأغيار.

قوله جل ذكره : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩))

أسعده بمنحه الولد على الكبر ، ويلتحق ذلك بوجه من المعجزات ؛ فحمد عليه. ولمّا كان هذا القول عقيب سؤاله ما قدّم من ذكر نعمته ـ سبحانه ـ عليه ، وإكرامه بأنواره ، وهذا يكون بمعنى الملق (١) ، ويكون استدعاء نعمة بنعمة ، فكأنه قال : كما أكرمتنى بهبة الولد على الكبر ؛ فأكرمنى بهذه الأشياء التي سألتها.

ويقال الإشارة فى هذا أنه قال : كما مننت علىّ فوهبتنى على الكبر هذه الأولاد

__________________

(١) الملق ـ الدعاء والتضرع (الوسيط).

٢٥٧

فأجنبنا أن نعبد الأصنام لتكون النعمة كاملة. وفى قوله : (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) .. إشارة إلى هذه الجملة.

قوله جل ذكره : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١))

فى قوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ..) إشارة إلى أن أفعال العباد مخلوقة ، فمعناه اجعل صلاتى ، والجعل والخلق بمعنى ، فإذا جعله مقيم الصلاة فمعناه أن يجعل له صلاة.

وقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) : أي اجعل منهم قوما يصلّون ، لأنه أخبره فى موضع آخر بقوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١)

ثم قال : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) وهذ قبل أن يعلم أنه لا يؤمن.

ويقال إن إجابة الدعاء ابتداء فضل منه. ولا ينبغى للعبد أن يتّكل على دعاء أحد وإن كان علىّ الشأن ، بل يجب أنّ يعلق العبد قلبه بالله ؛ فلا دعاء أتمّ من دعاء إبراهيم عليه‌السلام ، ولا عناية أتمّ من عنايته بشأن أبيه ، ثم لم ينفعه ولا شفع الله له.

ويقال لا ينبغى للعبد أن يترك دعاءه أو يقطع رجاءه فى ألا يستجيب الله دعاءه ، فإن إبراهيم الخليل عليه‌السلام دعا لأبويه فلم يستجب له ، ثم إنه لم يترك الدعاء ، وسأل حينما لم يجب فيه. فلا غضاضة على العبد ولا تناله مذلّة إن لم يجبه مولاه فى شىء ؛ فإنّ الدعاء عبادة لا بدّ للعبد من فعلها ، والإجابة من الحقّ فضل ، وله أن يفعل وله ألا يفعل.

قوله جل ذكره : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)

هذا وعيد للظالمين وتسلية للمظومين ؛ فالمظلوم إذا تحقّق بأنه ـ سبحانه ـ عالم بما يلاقيه من البلاء هانت على قلبه مقاساته ، وحق عليه تحمله.

__________________

(١) آية ١٢٤ سورة البقرة.

٢٥٨

والظلم على وجوه ؛ ظلم على النّفس بوضع الزّلّة مكان الطاعة ، وظلم على القلب بتمكين الخواطر الردية منه ، وظلم على الروح بجعلها لمحبة المخلوقين.

ويقال من جملة الظالمين الشيطان ، فالعبد المؤمن مظلوم من جهته ، والحقّ ـ سبحانه ـ ينتصف له منه غدا ، وذلك إن لم يتّبعه اليوم ، ودفعه عن نفسه بالمجاهدة وترك وساوسه.

قوله جل ذكره : (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي ... الآية)

وهذا للعوام من المؤمنين ، علّق قلوبهم بالانتقام منهم فى المستأنف ، وأمّا الخواص فإذ علموا أنه ـ سبحانه ـ عالم بهم وبحالهم فإنهم يعفون ويكتفون بذلك ، وأمّا خواص الخواص فإذ علموا أنهم عبيده فإنهم لا يرضون بالعفو عن ظلمهم حتى يستغفرلهم ، كما قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» ، وفى معناه أنشدوا :

وما رضوا بالعفو عن ذى زلة

حتى أنالوا كفّه وازدادوا

وأما أصحاب التوحيد فإذ علموا أنه المنشئ ، وألا مخترع سواه فليس بينهم وبين أحد محاسبة ، ولا مع أحد معاتبة ، ولا منه مطالبة ، لأنه يعدّون إثبات الغير فى الظن والحسبان شركا.

قوله جل ذكره : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤))

أفسدوا فى أول أمورهم ، وقصّروا فى الواجب عليهم ، ولم يكن للخلل فى أحوالهم جبران ، ولا لعذرهم قبول لتصحّ الحجة عليهم ، فافتضح المجرم منهم ، وخاب الكافر ، وحقّ الحكم عليهم.

٢٥٩

قوله جل ذكره : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥))

أحللنا بهم العقوبة ، وأشهدناكم ذلك مما اعتبرتم ، وجريتم على منهاجهم ، وفعلتم مثل فعلهم ، وبإمهالنا لكم اغتررتم .. فانتظروا منّا ما عاملناكم به جزاء لكم على ما أسلفتم.

ويقال إن معاشرة أهل الهوى والفسق ومجاورتهم مشاركة لهم فى فعلهم ، فيستقبل فاعل ذلك استقبالهم ، ومن سلكهم ينخرط فى التردّى نحو وهدة هلاكه مثلهم.

قوله جل ذكره : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧))

أي لا تحسبنّه يخلف رسله وعده ؛ لأنه لا يخلف الوعد لصدقه فى قوله ، وله أن يعذبهم بما وعدهم لحقّه فى ملكه ، وهو (عَزِيزٌ) لا يصل إليه أحد ، وإن كان وليا. (ذُو انتِقامٍ) لا يفوته أحد وإن كان (......) (١).

قوله جل ذكره : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨))

لا يختلف عينها وإنما تختلف صورتها ، وكذلك إذا انكدرت النجوم ، وانشقت السماء يقال ما بدّل عينها وإنما بدّل الأزمان والمكان على الناس باختلاف أحوالهم فى السرور والمحن ؛ كمن صار من الرخاء إلى البلاء يقول : تغيّر الزمان والوقت .. وكذلك من صار من البلاء إلى الرخاء.

ويقال إن آدم لما قتل أحد ابنيه الآخر قال :

تغيرت البلاد ومن عليها

فوجه الأرض مغبرّ قبيح

وفى هذه القصة (٢) من كان صاحب بسط فردّ إلى حال القبض ، ومن كان صاحب أنس

__________________

(١) وردت لفظتان هكذا (سهما قوما).

(٢) يشير القشيري إلى (بالقصة) إلى الحياة الصوفية.

٢٦٠