لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

ويقال لمّا شكا إلى الله وجد الخلف من الله.

ويقال كان يعقوب ـ عليه‌السلام ـ متحمّلا بنفسه وقلبه ، ومستريحا محمولا بسرّه وروحه ؛ لأنه علم من الله ـ سبحانه ـ صدق حاله فقال : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ، وفى معناه أنشدوا :

إذا ما تمنّى الناس روحا وراحة

تمنّيت أن أشكوا إليك فتسمعا

قوله جل ذكره : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧))

كان يعقوب عليه‌السلام يبعث بنيه فى طلب يوسف ، وكان الإخوة يخرجون بطلب المسيرة وفى اعتقادهم هلاك يوسف .. وكلّ إنسان وهمّه.

ويقال قوله (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) أمر بطلب يوسف بجميع حواسّهم ؛ بالبصر لعلّهم تقع عليه أعينهم ، وبالسّمع لعلّهم يسمعون ذكره ، وبالشمّ لعلّهم يجدون ريحه ؛ وقد توهّم يعقوب أنهم مثله فى إرادة الوقوف على شأنه. ثم أحالهم على فضل الله حيث قال : (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).

ويقال لم يكن ليعقوب أحد من الأولاد بمكان يوسف ، فظهر من قلّة الصبر عليه ما ظهر ، وآثر غيبة الباقين من الأولاد فى طلب يوسف على حضورهم عنده .. فشتّان بين حاله معهم وبين حاله مع يوسف! واحد لم يره فابيضّت عيناه من الحزن بفرقته ، وآخرون أمرهم ـ باختياره ـ بغيبتهم عنه (١).

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ

__________________

(١) هنا لفتة ذكية إلى أنثا قد نحب ونهلك في حب من لا تراه أعيننا .. فإذا صح هذا بالنسبة لمخلوق مثلنا فكيف بالنسبة لبارئنا وخالقنا!!؟

ثم إن التقريب والإبعاد يرتبطان بالاجتباء الإلهى وحده.

٢٠١

مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨))

لما دخلوا على يوسف خاطبوه بذكر الضّرّ ، ومقاساة الجوع والفقر ، ولم يذكروا حديث يوسف عليه‌السلام ، وما لأجله وجّههم أبوهم.

ويقال استلطفوه بقولهم : (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) ثم ذكروا بعد ذلك حديث قلة بضاعتهم.

ويقال لمّا طالعوا فقرهم نطفوا بقدرهم فقالوا : وجئنا ببضاعة مزجاة ـ أي رديئة ـ ولما شاهدوا قدر يوسف سألوا على قدره فقالوا : أوف لنا الكيل.

ويقال قالوا كلنا كيلا يليق بفضلك لا بفقرنا ، وبكرمك لا بعدمنا ، ثم تركوا هذا اللسان وقالوا : (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) : نزلوا أوضع منزل ؛ كأنهم قالوا : إن لم نستوجب معاملة البيع والشراء فقد استحققنا بذل العطاء ، على وجه المكافأة والجزاء.

فإن قيل كيف قالوا وتصدّق علينا وكانوا أنبياء ـ والأنبياء لا تحل لهم الصدقة؟ فيقال لم يكونوا بعد أنبياء ، أو لعلّه فى شرعهم كانت الصدقة غير محرّمة على الأنبياء.

ويقال إنما أرادوا أنّ من ورائنا من تحلّ له الصدقة.

قوله جل ذكره : (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩))

افتضحوا بحضرة يوسف عليه‌السلام وقالوا : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) فعرفهم فعلمهم ووقفهم عند أحدهم فقال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟ يعنى إنّ من عامل يوسف وأخا ، بمثل معاملتكم فلا ينبغى له أن يتجاسر فى الخطاب كتجاسركم.

ويقال إن يوسف عليه‌السلام قال لهم : أنهيتم كلامكم ، وأكثرتم خطابكم ، فما كان فى حديثكم إلا ذكر ضرورتكم .. أفلا يخطر ببالكم حديث أخيكم يوسف؟! وذلك فى باب العتاب أعظم من كلّ عقوبة

٢٠٢

ولمّا أخجلهم حديث العتاب لم يرض يوسف حتى بسط عندهم فقال : (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) (١).

قوله جل ذكره : (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠))

فى الابتداء حين جهلوه كانوا يقولون له فى الخطاب : (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) فلمّا عرفوه قالوا : (إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) ؛ لأنّه لمّا ارتفعت الأجنبية سقط التكلّف فى المخاطبة ، وفى معناه أنشدوا :

إذا صفت المودّة بين قوم

ودام ودادهم قبح الثناء

ويقال إنّ التفاصل والتفارق بين يوسف وإخوته سبقا التواصل بينه وبين يعقوب عليهما‌السلام ؛ فالإخوة خبره وعرفوه قبل أن عرفه أبوه ليعلم أن الحديث بلا شك.

ويقال لم يتقدموا على أبيهم فى استحقاق الخبر عن يوسف ومعرفته ، بل إنهم ـ وإن عرفوه ـ فلم يلاحظوه بعين المحبة والخلة ، وإنما كان غرضهم حديث الميرة والطعام فقط ، فقال : (أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) : يعنى إنى لأخ لمثل هذا لا لمثلكم ؛ ولذا قال : (أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) ، ولم يقل وأنتم إخوتى ، كأنّه أشار إلى طرف من العتاب ، يعنى ليس ما عاملتمونى به فعل الإخوة.

ويقال هوّن عليهم حال بداهة (٢) الخجلة حيث قال (أَنَا يُوسُفُ) بقوله : (وَهذا أَخِي) ، وكأنه شغلهم بقوله : (وَهذا أَخِي) كما قيل فى قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) إنه سبحانه شغل موسى عليه‌السلام باستماع : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) بمطالعة العصا فى عين ما كوشف به من قوله : (إِنِّي أَنَا اللهُ).

__________________

(١) واضح أن القشيري يطبق فكرة القبض والبسط فى هذه الإشارة.

(٢) بداهة الخجلة مفاجأتها

٢٠٣

ثم اعترف بوجدان الجزاء على الصبر فى مقاساة الجهد والعناء فقال : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق ـ رحمه‌الله ـ يقول لما قال يوسف : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) أحال فى استحقاق الأجر على ما عمل من الصبر ... فأنطقهم الله حتى أجابوه بلسان التوحيد فقالوا : (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) يعنى ليس بصبرك يا يوسف ولا بتقواك ، وإنما هو بإيثار الله إياك علينا ؛ فبه تقدمت علينا بحمدك وتقواك. فقال يوسف ـ على جهة الانقياد للحقّ : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ؛ فأسقط عنهم اللوم ، لأنه لمّا لم يرتقواه من نفسه حيث نبّهوه عليه نطق عن التوحيد ، وأخبر عن شهود التقدير (١).

قوله جل ذكره : (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١))

اعترفوا بالفضل ليوسف ـ عليه‌السلام ـ حيث قالوا : (لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) ، وأكّدوا إقرارهم بالقسم بقولهم (تَاللهِ) وذلك بعد ما جحدوا فضله بقولهم : (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ، وهكذا من جحد فلأنه ما شهد ، ومن شهد فما جحد.

ويقال لمّا اعترفوا بفضله وأقرّوا بما اتصفوا به من جرمهم بقولهم : (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) وجدوا التجاوز عنهم حين قال يوسف :

(قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢))

أسرع يوسف فى التجاوز عنهم ، ووعد يعقوب لهم بالاستغفار بقوله : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) لأنه كان أشدّ حبا لهم فعاتبهم ، وأما يوسف فلم يرهم أهلا للعتاب فتجاوز عنهم على الوهلة ، وفى معناه أنشدوا :

ترك العتاب إذا استحق أخ

منك العتاب ذريعة الهجر

__________________

(١) خلاصة رأى الدقاق أنه ليس بعمل الإنسان يصل ولكن بفضل الله واختياره ، وحتى عمل الإنسان فهو أيضا يتم بفضل الله واختياره .. وذلك أصل من أصول المذهب القشيري كما وضح فى مواضع متفرقة.

٢٠٤

ويقال أصابهم ـ فى الحال ـ من الخجلة ما قام مقام كلّ عقوبة ، ولهذا قيل :

كفى للمقصّر الحياء يوم اللقاء.

قوله جل ذكره : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣))

البلاء إذا هجم هجم مرّة ، وإذا زال زال بالتدريج ؛ حلّ البلاء بيعقوب مرة واحدة حيث قالوا : (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) ولما زال البلاء .. فأولّا وجد ريح يوسف عليه‌السلام ، ثم قميص يوسف ، ثم يوم الوصول بين يدى يوسف ، ثم رؤية يوسف.

ويقال لمّا كان سبب البلاء ، والعمى قميص يوسف أراد الله أن يكون به سبب الخلاص من البلاء (١).

ويقال علم أن يعقوب عليه‌السلام ـ لما يلحقه من فرط السرور ـ لا يطيقه عند أخذ القميص فقال : (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي).

ويقال القميص لا يصلح إلا للباس إلا قميص الأحباب فإنه لا يصلح إلا لوجدان ريح الأحباب.

ويقال كان العمى فى العين فأمر بإلقاء القميص على الوجه ليجد الشفاء من العمى.

ويقال لمّا كان البكاء بالعين التي فى الوجه كان الشفاء فى الإلقاء على العين التي فى الوجه ، وفى معناه أنشدوا :

وما بات مطويا على أريحبة

عقيب النوى إلا فتىّ ظلّ مغرما

وقوله (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) : لما علم حزن جميع الأهل عليه أراد أن يشترك فى الفرح جميع من أصابهم الحزن.

__________________

(١) ويضاف إلى ذلك أن عدم تمزق قميص يوسف كان دلالة على براءة الذئب ، وأن تمزقه من دبر كان دلالة على براءة يوسف من تهمة زليخا ، وبهذا وذاك يمكن أن يكون قميص يوسف رمزا لموحيات كثيرة فى القصة.

٢٠٥

ويقال علم يوسف أن يعقوب لن يطيق على القيام بكفاية أمور يوسف فاستحضره ، إبقاء على حاله لا إخلالا لقدره وما وجب عليه من إجلاله.

قوله جل ذكره : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ)

ما دام البلاء مقبلا كان أمر يوسف وحديثه ـ على يعقوب ـ مشكلا ، فلما زالت المحنة بعثرت بكل وجه حاله.

ويقال لم يكن يوسف بعيدا عن يعقوب حين ألقوه فى الجبّ ولكن اشتبه عليه خبره وحاله ، فلما زال البلاء وجد ريحه وبينهما مسافة ثمانين فرسخا ـ من مصر إلى كنعان.

ويقال إنما انفرد يعقوب عليه‌السلام بوجدان ريح يوسف لانفرداه بالأسف عند فقدان يوسف. وإنما يجد ريح يوسف من وجد على فراق يوسف (١) ؛ فلا يعرف ريح الأحباب إلا الأحباب ، وأمّا على الأجانب فهذا حديث مشكل .. إذ أنّى يكون للإنسان ريح!؟.

ويقال لفظ الريح هاهنا توسع (٢) ، فيقال هبّت رياح فلان ، ويقال إنى لأجد ريح الفتنة .. وغير ذلك.

قوله جل ذكره : (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ)

تفرّس فيهم أنهم يبسطون لسان الملامة فلم ينجع فيهم قوله ، فزادوا في الملامة فقالوا :

(قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ)

قرنوا كلامهم بالشتم ، ولم يحتشموا أباهم ، ولم يراعوا حقّه فى المخاطبة ، فوضفوه بالضلال فى المحبة.

ويقال إن يعقوب عليه‌السلام قد تعرّف من الريح نسيم يوسف عليه‌السلام ، وخبر يوسف كثر حتى جاء الإذن للرياح ، وهذه سنّه الأحباب : مساءلة الديار ومخاطبة الأطلال ، وفى معناه أنشدوا :

__________________

(١) لاحظ الجمال فى أسلوب القشيري فى (يجد) ريح يوسف و (وجد) على فراقه.

(٢) كلمة (توسع) يستخدمها القشيري بمعنى (مجاز) ـ ذلك الاصطلاح البلاغى المعروف.

٢٠٦

وإنّى لأستهدى الرياح نسيمكم

إذا هى أقبلت نحوكم بهبوب

واسألها حمل السلام إليكم

فإن هى يوما بلغت فأجيبوا

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦))

لو ألقى قميص يوسف على وجه من فى الأرض من العميان لم يرتد بصرهم ، وإنما رجع بصر يعقوب بقميص يوسف على الخصوص ؛ فإنّ بصر يعقوب ذهب لفراق يوسف ، ولمّا جاءوا بقميصه أنطق لسانه ، وأوضح برهانه ، فقال لهم : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) عن حياة يوسف ، وفى معناه أنشدوا :

وجهك المأمول حجّتنا

يوم يأتى النّاس بالحجج

قوله جل ذكره : (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧))

كلّ إنسان وهمّه ؛ وقع يعقوب ويوسف عليها‌السلام فى السرور والاستبشار ، وأخذ إخوة يوسف فى الاعتذار وطلب الاستغفار.

ويقال إخوة يوسف ـ وإن سلفت منهم الجفوة كلّموا أباهم بلسان الانبساط لتقديم شفقة الأبوة على ما سبق منهم من الخطيئة.

ويقال يوم بيوم ؛ اليوم الذي كان يعقوب محزونا بغيبة يوسف فلا جرم اليوم كان يعقوب مسرورا بقميص يوسف ، وكان الإخوة فى الخجلة مما عملوا بيوسف.

قوله جل ذكره : (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨))

وعدهم الاستغفار لأنه لم يفرغ من استبشاره إلى الاستغفار.

ويقال لم يجبهم على الوهلة ليدلّهم على ما قدّموا من سوء الفعلة ؛ لأن يوسف كان غائبا

٢٠٧

وقتئذ ، فوعدهم الاستغفار فى المستأنف ـ إذا رضى عنهم يوسف حيث كان الحقّ أكثره له ، ولو كان كله ليعقوب لوهبهم على الفور.

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩))

اشتركوا فى الدخول ولكن تباينوا فى الإيواء ، فانفرد الأبوان به لبعدهما عن الجفاء ، كذلك غدا إذا وصلوا إلى الغفران يشتركون فى وجود الجنان ، ولكنهم يتباينون فى بساط القربة فيختص به أهل الصفاء دون من اتصف اليوم بالاستواء.

قوله جل ذكره : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا)

أوقف كلّا بمحلّه ؛ فرفع أبويه على السرير ، وترك الإخوة نازلين بأماكنهم.

قوله : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) : كان ذلك سجود تحية ، فكذلك كانت عادتهم. ودخل الأبوان فى السجود ـ فى حقّ الظاهر ـ لأنّ قوله (خَرُّوا) إخبار عن الجميع ، ولأنه كان عن رؤياه قد قال : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) وقال هاهنا : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا).

قوله جل ذكره : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)

٢٠٨

شهد إحسانه فشكره .. كذلك من شهد النعمة شكر ، ومن شهد المنعم حمده (١) وذكر حديث السجن ـ دون البئر ـ لطول مدة السجن وقلة مدة البئر.

وقيل لأن فيه تذكيرا بجرم الإخوة وكانوا يخجلون. وقيل لأن (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ). وقيل لأنه كان فى البئر مرفوقا به والمبتدئ يرفق به وفى السجن فقد ذلك الرّفق لقوة حاله ؛ فالضعيف مرفوق به والقوىّ مشدّد عليه فى الحال ، وفى معناه أنشدوا :

وأسررتنى حتى إذا ما سببتني

بقول يحل العصم سهل الأباطح

تجافيت عنّي حين لا لى حيلة

وغادرت ما غادرت بين الجوانح

وفى قوله : (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) إشارة إلى أنه كما سرّ برؤية أبويه سرّ بإخوته ـ وإن كانوا أهل الجفاء ، لأنّ الأخوّة سبقت الجفوة (٢).

قوله : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أظهر لهم أمرهم بما يشبه العذر ، فقال كان الذي جرى منهم من نزغات الشيطان ، ثم لم يرض بهذا حتى قال : (بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي). يعنى إن وجد الشيطان سبيلا إليهم ، فقد وجد أيضا إلىّ حيث قال : (بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي).

ثم نطق عن عين التوحيد فقال : (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) فبلطفه عصمهم حتى لم يقتلونى.

قوله جل ذكره : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ)

من حرف تبعيض ؛ لأن الملك ـ بالكمال ـ لله وحده.

ويقال الملك الذي أشار إليه قسمان : ملكه فى الظاهر من حيث الولاية ، وملك على نفسه حتى لم يعمل ما همّ به من الزّلّة.

__________________

(١) أي إن (الحمد) أعلى درجة من (الشكر) .. وهكذا تثرى البعوث الصوفية اللغة.

(٢) ربما يرمى القشيري من بعيد إلى أن يشير إلى أن الحق ـ سبحانه ـ يتفضل بكرمه على عباده ـ حتى ولو كانت منهم جفوة ـ لأنهم عباده أولا .. وإلى هذا يشير فى موضع آخر من كتابه : «عبدى .. إن لم تكن لى. فأنا لك»

٢٠٩

ويقال ليس كلّ ملك المخلوقين الاستيلاء على الخلق ، إنما الملك ـ على الحقيقة ـ صفاء الخلق.

قوله : (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) : التأويل للخواص ، وتفسير التنزيل للعوام (١).

قوله جل ذكره : (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)

(فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ـ هذا ثناء ، وقوله : (تَوَفَّنِي) ـ هذا دعاء.

فقدّم الثناء على الدعاء ، كذلك صفة أهل الولاء.

ثم قال : «أنت وليي فى الدنيا والآخرة ، هذا إقرار بقطع الأسرار عن الأغيار.

ويقال معناه : الذي يتولّى فى الدنيا والآخرة بعرفانه أنت ؛ فليس لى غيرك فى الدارين.

قوله : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) : قيل علم أنه ليس بعد الكمال إلا الزوال فسأل الوفاة.

وقيل من أمارات الاشتياق تمنّي الموت على بساط العوافي (٢) مثل يوسف عليه‌السلام ألقى فى الجبّ فلم يقل توفنى مسلما ، وأقيم فيمن يزيد (٣) فلم يقل توفنى مسلما ، وحبس فى السجن سنين فلم يقل توفنى مسلما ، ثم لما تمّ له الملك ، واستقام الأمر ، ولقى الإخوة سجّدا ، وألفى أبويه معه على العرش قال :

(تَوَفَّنِي مُسْلِماً) ، فعلم أنه كان يشتاق للقائه (سبحانه).

وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق ـ رحمه‌الله يقول. قال يوسف ليعقوب : علمت أنّا نلتقى فيما بعد الموت .. فلم بكيت كلّ هذا البكاء؟

__________________

(١) تصلح هذه العبارة لتوضيح الفرق ـ فى نظر القشيري ـ بين كلمتى التأويل والتفسير.

(٢) هذه العبارة والاستشهاد عليها من قصة يوسف أوردهما القشيري منسوبين لشيخه الدقاق فى الرسالة ص ١٦٣.

(٣) (أقيم فيمن يزيد) لم ترد فى النص السابق بالرسالة. ومعناها : نودى عليه ليباع كالعبيد بعد إخراجه من البئر.

٢١٠

فقال يعقوب ، يا بنىّ إنّ هناك طرقا ، خفت أن اسلك طريقا وأنت تسلك طريقا ، فقال يوسف عند ذلك : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً).

ويقال إن يوسف ـ عليه‌السلام ـ لما قال : توفنى مسلما ، فلا يبعد من حال يعقوب أن لو قال : يا بنى دعني أشتفى بلقائك من الذي منيت به فى طول فراقك ، فلا تسعنى ـ بهذه السرعة ـ قولك : توفّني مسلما.

قوله جلّ ذكره : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢))

تبيّن للكافة أن مثل هذا البيان لهذه القصة على لسان رجل أمي لا يكون إلا بتعريف سماوىّ ويقال كون الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أمّيّا فى أول أحواله علامة شرفه وعلوّ قدره فى آخر أحواله ، لأنّ صدقه فى أن هذا من قبل الله إنما عرف بكونه أميا ، ثم أتى بمثل هذه القصة من غير مدارسة كتاب.

قوله جل ذكره : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣))

أخبر عن سابق علمه بهم ، وصادق حكمه حكمته فيهم.

ويقال معناه : أقمتك شاهدا لإرادة إيمانهم ، وشدّة الحرص على تحقّقهم بالدّين ، وإيقانهم. ثم إنّى أعلم أنهم لا يؤمن أكثرهم ، وأخبرتك بذلك ، وفرض عليك تصديقى بذلك ، وفرضت عليك إرادتى كون ما علمت أنه لا يكون من إيمانهم.

قوله جل ذكره : (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤))

هذه سنّة الله ـ سبحانه ـ مع أنبيائه حيث أمرهم بألا يأخذوا على تبليغ الرسالة

٢١١

عوضا ولا أجرا ، وكذلك أمره للعلماء ـ الذين هم ورثة الأنبياء عليهم‌السلام ـ بألّا يأخذوا من الخلق عوضا على دعائهم إلى الله ، فمن أخذ منهم حظا من الناس لم يبارك للمستمع فيما يسمع منه ؛ فلا له أيضا بركة فيما يأخذ منهم فتنقطع به.

قوله جل ذكره : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥))

الآيات ظاهرة ، والبراهين باهرة ، وكلّ جزء من المخلوقات شاهد على أنّه واحد ، ولكن كما أنّ من أغمض عينه لم يستمتع بضوء نهاره فكذلك من قصّر فى نظره واعتباره لم يحظ بعرفانه واستبصاره.

قوله جل ذكره : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦))

الشّرك الجلىّ أن يتّخذ من دونه ـ سبحانه ـ معبودا ـ والشّرك الخفىّ أن يتخذ بقلبه عند حوائجه من دونه ـ سبحانه ـ مقصودا.

ويقال شرك العارفين أن يتخذوا من دونه مشهودا ، أو يطالعوا سواه موجودا (١).

ويقال من الشّرك الخفىّ الإحالة على الأشكال فى تجنيس الأحوال ، والإخلاد إلى الاختيار والاحتيال (٢) عند تزاحم الأشغال.

قوله جل ذكره : (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧))

أفأمن الذي اغترّ بطول الإمهال ألا يبتلى بالاستئصال ، أفأمن من اغترّ بطول السلامة ألا يقوم البلاء عليه يوم القيامة.

__________________

(١) أي (موجودا) على الحقيقة.

(٢) (الاحتيال) معناها اللجوء إلى الحيلة أي التدبير الإنسانى بل ينبغى إسقاط التدبير واللجوء إلى التقدير الإلهى.

٢١٢

ويقال الغاشية حجاب من القسوة يحصل فى القلب ، لا يزول بالتضرع ولا ينقشع بالتخشع ويقال الغاشية من العذاب أن تزول من القلب سرعة الانقلاب إلى الله تعالى ، حتى إذا تمادى صاحب الغفلة استقبله فى الطريق ما يوجب قنوطه من زواله ، وفى معناه أنشدوا :

قلت للنّفس إن أردت رجوعا

فارجعى قبل أن يسدّ الطريق

قوله جل ذكره : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨))

«البصيرة» : اليقين الذي لا مرية فيه ، والبيان الذي لا شك فيه. البصيرة يكون صاحبها ملاطفا بالتوفيق جهرا ، ومكاشفا بالتحقيق سرّا.

ويقال البصيرة أن تطلع شموس العرفان ؛ فتندرج فيها أنوار نجوم العقل.

قوله (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) أي ذلك سبيلى ، وسبيل من اقتدى بهداي فهو أيضا على بصيرة

قوله جل ذكره : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩))

تعجبوا أن يبعث الله إلى الخلق بشرا رسولا ، فبيّن أنه أجرى سنّته ـ فيمن تقدّم من الأمم ـ ألا يكون الرسول إليهم إلا بشرا ، فإما أن جحدوا جواز بعثة الرسول أصلا ، أو أنهم استنكروا أن يبعث بشرا رسولا.

ثم أمرهم بالاستدلال والتفكر والاعتبار والنّظر فقال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ..؟)

قوله جل ذكره : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ

٢١٣

قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠))

حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم ، وتيقّنوا أنهم كذبوهم ـ والظن هاهنا بمعنى اليقين ـ فعند ذلك جاءهم نصرنا ؛ للرسل بالنجاة ولأقوامهم بالهلاك ، ولا مردّ (١) لبأسنا

ويقال حكم الله بأنه لا يفتح للمريدين (٢) شيئا من الأحوال إلا بعد يأسهم منها ، قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) (٣) ؛ فكما أنّه ينزّل المطر بعد اليأس فكذلك يفتح الأحوال بعد اليأس منها والرضا بالإفلاس عنها.

قوله جل ذكره : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

عبرة منها للملوك فى بسط العدل كما بسط يوسف عليه‌السلام ، وتأمينهم أحوال الرعية كما فعل يوسف حين أحسن إليهم ، وأعتقهم حين ملكهم.

وعبرة فى قصصهم لأرباب التقوى ؛ فإن يوسف لمّا ترك هواه رقّاه الله إلى ما رقّاه.

وعبرة لأهل الهوى فيما فى اتباع الهوى من شدة البلاء ، كامرأة العزيز لمّا تبعت هواها لقيت الضرّ والفقر.

وعبرة للمماليك فى حضرة السادة ، كيوسف لما حفظ حرمة زليخا ملك ملك العزيز ، وصارت زليخا امرأته حلالا.

__________________

(١) سقطت الدال من (لا مرد) فأثبتناها.

(٢) وردت (المرتدين) وهى خطأ فى النسخ فالكلام عن أحوال (المريدين) ، كذلك فإن الله لا يفتح على (المرتدين) شيئا فهم مغضوب عليهم.

(٣) آية ٢٨ سورة الشورى.

٢١٤

وعبرة فى العفو عند المقدرة ، كيوسف عليه‌السلام حين تجاوز عن إخوته.

وعبرة فى ثمرة الصبر ، فيعقوب لما صبر على مقاساة حزنه ظفر يوما بلقاء يوسف عليه‌السلام (١).

السورة التي يذكر فيها «الرَّعْدُ»

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(بِسْمِ اللهِ) كلمة سماعها يورث لقوم طلبا ثم طربا ، ولقوم. حزنا ثم هربا ، فمن سمع بشاهد الرجاء طلب وجود رحمته فأذنه لها طرب ، ومن سمع بشاهد الرهبة حزن من خوف عقوبته ثم إليه هرب.

قوله جل ذكره : (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ)

أقسم بما تدل عليه هذه الحروف من أسمائه إنّ هذه آيات الكتاب الذي أخبرت أنّى أنزّل عليك

فالألف تشير إلى اسم «الله» ، واللام تشير إلى اسم «اللطيف» ، والميم تشير إلى اسم «المجيد» ، والراء تشير إلى اسم «الرحيم». فقال بسم الله اللطيف المجيد الرحيم إن هذه آيات الكتاب الذي أخبرت أنى أنزله على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم عطف عليه بالواو قوله تعالى : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) هو حق وصدق ، لأنه أنزله على نبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله جل ذكره : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)

أي ولكن الأكثر من الناس من أصناف الكفار لا يؤمنون به ، فهم الأكثرون عددا ، والأقلون قدرا وخطرا

قوله جل ذكره : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)

__________________

(١) أحسن القشيري إذ جعل خاتمة السورة بمتشابة خلاصة دقيقة لها ، وأوضح العبرة المستفادة من دور كل شخصية فيها.

٢١٥

دلّ على صفاته وذاته بما أخبر به من آياته ، ومن جملتها رفع السماوات وليس تحتها عماد يشدّها ، ولا أوتاد تمسكها. وأخبر فى غير هذه المواضع أنه زيّن السماء بكواكبها ، وخصّ الأرض بجوانبها ومناكبها.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) : أي احتوى على ملكه احتواء قدرة وتدبير. والعرش هو الملك حيث يقال : اندكّ عرش فلان إذا زال ملكه.

قوله جل ذكره : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ...)

كلّ يجرى فى فلك. ويدلّ كل جزء من ذلك على أنه فعل ملك فى ملكه غير مشترك.

قوله جل ذكره : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣))

بسط الأرض ودحاها ، والجبال أرساها ، وفجّر عيونها ، وأجرى أنهارها ، وجنّس بحارها ، ونوّع من الحيوانات ما جعل البحر قرارها ، وأنبت أشجارها ، وصنّف أزهارها وثمارها ، وكوّر عليها ليلها ونهارها .. ذلك تقدير العزيز العليم.

قوله جل ذكره : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))

٢١٦

فمن سبخ (١) ومن حجر ومن رمل .. أنواع مختلفة ، وأزواج متفقة. وزروع ونبات وأشجار أشتات ، وأصل الكل واحد ، فأجزاؤها متماثلة ، وأبعاضها متشاكلة ، ولكن جعل بعضها غدقا (٢) ، وبعضها قشرا ، وبعضها غصنا ، وبعضها جذعا ، وبعضها أزهارا ، وبعضها أوراقا .. ثم الكلّ واحد ، وإن كان لكلّ واحد طبع مخصوص وشكل مخصوص ، ولون مخصوص وقشر مخصوص مع أنها تسقى بماء واحد ؛ إذ يصل إلى كل جزء من الشجر من الماء مقدار ما يحتاج إليه ، (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ).

قوله جل ذكره : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥))

وإن تعجب ـ يا محمد ـ لقولهم فهذا موضع يتعجّب منه الخلق ، فالعجب لا يجوز فى صفة الحقّ (٣) ، إذ أن التعجب الاستبعاد والحقّ لا يستبعد شيئا ، وإنما أثبت موضع التعجب للخلق ، وحسن ما قالوا : «إنما تعجّب من حجب» لأنّ من ينل عيون البصيرة لا يتعجّب من شىء.

وقوم أطلقوا اللفظ بأن هذا من باب الموافقة أي إنك إن تعجب فهذا عجب موافقتك له. وإطلاق هذا ـ وإن كان فيه إشارة إلى حالة لطيفة ـ لا يجوز ، والأدب السكوت عن أمثال هذا. والقوم عبّروا عن ذلك فقالوا : أعجب العجب قول ما لا يجوز فى وصفه العجم .. وإن تعجّب.

وقوله تعالى : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) : استبعادهم النشأة الثانية ـ مع إقرارهم بالخلق الأول وهما فى معنى واحد ـ موضع التعجب ، إذ هو صريح

__________________

(١) السبخ المكان يظهر فيه الملح وتسوخ فيه الأقدام (الوسيط).

(٢) الغدق من العشب بالله وريه (الوسيط)

(٣) إشارة إلى ما في الآية (فعجب قولهم ..).

٢١٧

فى المناقضة ، وكان القوم أصحاب تمييز وتحصيل ، فقياس مثل هذا يدعو إلى العجب. ولكن لو لا أن الله ـ سبحانه ـ لبّس عليهم كما قال : (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١) ـ وإلا ما كان ينبغى أن يخفى عليهم جواز هذا مع وضوحه (٢).

قوله جل ذكره : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ)

الكناية فى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ) راجعة إلى العبد ، أي أن الله وكل بكلّ واحد منهم معقبات وهم الملائكة الذين يعقب بعضهم بعضا بالليل والنهار يحفظون هذا المكلّف وذاك (٣) من أمر الله ، أي من البلاء الذي بقدرة الله. يحفظونهم بأمر الله من أمر الله ، وذلك أن الله ـ سبحانه ـ وكل لكلّ واحد من الخلق ملائكة يدفعون عنهم البلاء إذا ناموا وغفلو ، أو إذا انتبهوا وقاموا ومشوا ... وفى جميع أحوالهم.

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)

إذا غيّروا ما بهم إلى الطاعات غيّر الله ما بهم منه من الإحسان والنعمة ، وإذا كانوا فى نعمة فغيّروا ما بهم من الشكر لله تغيّر عليهم ما منّ به من الإنعام فيسلبهم ما وهبهم من ذلك ، وإذا كانوا فى شدة لا يغير ما بهم من البلاء حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وإذا أخذوا فى التضرع ، وأظهروا العجر غيّر ما بهم من المحنة بالتبديل والتحويل.

ويقال إذا غيروا ما بألسنتهم من الذّكر غير الله ما بقلوبهم من الحظوظ فأبدلهم به النسيان

__________________

(١) آية ٩ سورة يس.

(٢) هنا وضع الناسخ علامة على سقوط مساحة من النص ، ومن المؤسف أنه لا يوجد استدراك لذلك فى الهامش ويقع فى هذه المساحة تفسير للآيات من (٥ إلى ١٠) من السورة.

(٣) فى النسخة (وهذا) ولكننا آثرنا أن نجعلها (وذاك) حتى نزيد السياق إيضاحا ونمنع الليس إذ ربما يظن أن (وهذا) الثانية مبتدأ.

٢١٨

والغفلة ، فإذا كان العبد فى بسطة وتقريب ، وكشف بالقلب وترقب .. فالله لا يغيّر ما بأنفسهم بترك أدب ، أو إخلال بحق ، أو إلمام بذنب.

ويقال لا يكفّ ما أتاحه للعبد من النعمة الظاهرة أو الباطنة حتى يترك ويغيّر ما هو به من الشكر والحمد. فإذا قابل النعمة بالكفران ، وأبدل حضور (١) القلب بالنسيان وما يطيح به من العصيان. أبدل الله تعالى ما به من النعمة بالحرمان والخذلان ، وسلبه ما كان يعطيه من الإحسان.

ويقال إذا توالت المحن وأراد العبد زوالها فلا يصل إليه النّفض (٢) منها إلّا بأن يغير ما هو به ؛ فيأخذ فى السؤال بعد السكوت ، وفى إظهار الجزع بعد السكون ، فإذا أخذ فى التضرع غيّر ما به من الصبر (٣).

قوله : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) : يقال إذا أراد الله بقوم بلاء وفتنة فما تعلّقت به المشيئة لا محالة يجرى.

ويقال إذا أراد الله بقوم سوءا (...) (٤) أعينهم حتى يعملوا ويختاروا ما فيه بلاؤهم ، فهم يمشون إلى هلاكهم بأقدامهم ، ويسعون ـ فى الحقيقة ـ فى دمهم كما قال قائلهم :

إلى حتفى مشى قدمى

إذا قدمى أراق دمى

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢))

كما يريهم البرق ـ فى الظاهر ـ فيكونون بين خوف وطمع ؛ خوف من إحباس المطر وطمع فى مجيئه. أو خوف للمسافر من ضرر مجىء المطر ، وطمع للمقيم فى نفعه .. كذلك يريهم البرق فى أسرارهم بما يبدو فيها من اللوائح ثم اللوامع ثم كالبرق فى الصفاء ، وهذه أنوار المحاضرة ثم أنوار المكاشفة.

__________________

(١) وردت (حصول) وقد آثرنا أن تكون (حضور) القلب حتى تقابل (النسيان).

(٢) يقال نقض فلان من مرضه أي برىء منه (الوسيط)

(٣) سيعود القشيري إلى الإجابة عن سؤالين : متى يجوز للعبد أن يشكو ويتضرع؟ وهل هذا آية نفاد صبره أم علامة ضعفه إزاء القوة الإلهية؟ .. عند حديثه عن أيوب فى سورة الأنبياء.

(٤) مشتبهة وربما كانت لفظة بمعنى (أعمى)

٢١٩

(خَوْفاً) : من أن ينقطع ولا يبقى ، (وَطَمَعاً) : فى أن يدوم فيه نقل صاحبه من المحاضرة إلى المكاشفة ، ثم من المكاشفة إلى المشاهدة ، ثم إلى الوجود ثم دوام الوجود ثم إلى كمال الخمود.

ويقال (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) : من حيث البرهان ، ثم يزيد فيصير كأقمار البيان ، ثم بصير إلى نهار العرفان. فإذا طلعت شموس التوحيد فلا خفاء بعدها ولا استتار ولا غروب لتلك الشموس ، كما قيل :

هى الشمس إلا أنّ للشمس غيبة

وهذا الذي نعنيه ليس يغيب

ويقال تبدو لهم أنوار الوصال فيخافون أن تجنّ (١) عليهم ليالى الفرقة ، فقلّما تخلو فرحة الوصال من أن تعقبها موجة الفراق (٢) ، كما قيل :

أي يوم سررتنى بوصال

لم (٣) تدعنى ثلاثة بصدود؟!

قوله جل ذكره : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ (٤) الثِّقالَ)

إذا انتاب السحابة فى السماء ظلام فى وقت فإنه يعقبه بعد ذلك ضحك الرياض ، فما لم تبك السماء لا يضحك الروض ، كما قيل :

ومأتم فيه السماء تبكى

والأرض من تحتها عروس

كذلك تنشأ فى القلب سحابة الطلب ، فيحصل للقلب تردد الخاطر ، ثم يلوح وجه الحقيقة ، فتضحك الروح لفنون راحات الأنس ، وصنوف أزهار القرب.

قوله جل ذكره : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ)

أي الملائكة أيضا تسبح من خوفه تعالى.

قوله جل ذكره : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ

__________________

(١) مصوبة هكذا فى الهامش ، والمعنى ينقبلها وبرفض (ثمن) التي فى المتن.

(٢) وردت (القرآن) وهى خطأ فى النسخ.

(٣) وردت (كم)

(٤) وردت (الصحاب) بالصاد وهى خطأ.

٢٢٠