لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

استغفروا ربكم ثم توبوا إليه بعد الاستغفار ، من توهمكم أن نجاتكم باستغفاركم. بل تحقّقوا بأنكم لا تجدون نجاتكم إلا بفضل ربّكم ؛ فبفضله وبتوفيقه توصّلتم إلى استغفاركم لا باستغفاركم ، وصلتم إلى نجاتكم ، وبرحمته أهلكم إلى استغفاركم ، وإلّا لما وصلتم إلى توبتكم ولا إلى استغفاركم.

والاستغفار قرع باب الرزق ، فإذا رجع العبد إلى الله بحسن تضرعه ، فتح عليه أبواب رحمته ، ويسّر له أسباب نعمته.

ويقال ينزّل على ظواهركم أمطار النّعمة ، وعلى ضمائركم وسرائركم ينزّل أنواع المنّة ، ويزيدكم قوة على قوة ؛ قوة تحصلون بها توسعة أنواع الرزق ، وقوة تحصلون بها تحسبن أصناف الخلق.

قوله جل ذكره : (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣))

ما زادهم هود عليه‌السلام بسطا فى الآية وإيضاحا فى المعجزة إلا زادهم الله تعالى عمى على عمى ، ولم يرزقهم بصيرة ولا هدى ، ولم يزيدوا فى خطابهم إلا بما دلّوا على فرط جهالتهم ، وشدة ضلالتهم بعد إطنابهم وانتهابهم (١) ، وقالوا :

(إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤))

وكيف ظنّوا أنّ آلهتهم تمسّ أعداءهم بسوء وهى لا تضرّ أعداءها ولا تنفع أولياءها؟ فهؤلاء الغواية عليهم مستولية. ثم إن هودا عليه‌السلام أفصح عن فضل ربّه عليه ؛ وصرّح بإخلاصه وحسن يقينه فقال : إنى برىء مما تشركون ، ثم قال :

(مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥))

__________________

(١) يقال نهب فلانا أي تناوله بلسانه وأغلظ له القول.

١٤١

فلم يحتج معهم إلى تضرع واستخذاء ، ولا راودهم فى سلم واستمهال ، ولم يتّصف فى ذلك بركون إلى حوله وملّته ، ولم يستند إلى جده وقوّته بل قال :

(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦))

أخبر أنه بموعود الله له بنصرته واثق ، وأنه فى خلوص طاعته لربّه وفى صفاء معرفته (غير مفارق) (١).

قوله جل ذكره : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧))

أوحينا إليه أن قل لهم : إن تولّوا ولم تؤمنوا بي فقد بلّغت ما حمّلت من رسالتى ، وإنى واثق بأنّ الله إذا أهلككم يأت بأقوام آخرين سواكم أطوع له منكم ، وإن أفناكم ما اختلّ ملكه ؛ إذ الحقّ ـ سبحانه ـ بوجود الأغيار لا يلحقه زين ـ وإن وحدوا ، وبفقدهم لا يمّسه شين ـ وإن جحدوا وألحدوا.

قوله جل ذكره : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨))

ولما جاء أمرنا بإهلاكهم نجيّنا هودا والذين آمنوا برحمتنا ، ولم يقل باستحقاقه النجاة بوسيلة نبوته ، أو لجسامة طاعته ورسالته بل قال : (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) ؛ ليعلم الكافة أنّ

__________________

(١) بعد (معرفته) يوجد بياض مما يدل على سقوط خبر أن وقد أكملنا النقص بكلمة ملائمة من عندنا تنفق مع السياق والنسق حسبما نعلم من طريقة القشيري.

١٤٢

الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ومن دونهم عتيق رحمته ، وغريق منته ، لا لاستحقاق أحد ولا لواجب على الله فى شىء.

قوله جل ذكره : (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩))

فى إنزال قصصهم تسلية للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله ـ فيما كان يقاسى من العناء ، وللمؤمنين فيما بذلوا من حسن البلاء ، والعدة بتبديل ـ ما كانوا يلقونه من الشدّة ـ بالرجاء.

قوله جل ذكره : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠))

أخبر أنهم خسروا الدنيا والآخرة ، أمّا فى هذه الدنيا فبالاستئصال بأليم الشدة وما تبعه من اللّعنة ، ثم ما يلقونه فى الآخرة من تأبيد العقوبة. وبقاؤهم عن رحمة الله أصعب من صنوف كل تلك المحنة (١) ، وكما قيل :

تبدّلت وتبدلنا وا حسرتا

لمن ابتغى عوضا لسلمى فلم يجد

قوله جل ذكره : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ

__________________

(١) وردت (المحبة) وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح.

١٤٣

نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨))

عقيب ما مضى من قصة عاد ذكر قصة ثمود ، وثمودهم قوم صالح ، وقد انخرطوا فى الغىّ فى سلك من سبقهم ، فلحقت العقوبة بجميعهم. ثم أخبر أنهم قابلوا نبيّهم ـ عليه‌السلام ـ بالتكذيب ، ولم يقفوا على ما نبّههم عليه من التوبة والتصديق ، وأصرّوا على الإقرار أنهم فى شأنه لفى شك مريب.

ثم بيّن أنّ صالحا لم يعرّج ـ فى التبليغ ـ على تقصير.

وبعد تمرّدهم وامتناعهم عن الإنابة ، وإصرارهم على ترك الإجابة حقّ عليهم

١٤٤

ما توعدهم به من عذاب غير مكذوب ، ونجّى نبيّهم ـ عليه‌السلام ـ ، ونجّى من اتّبعه من كل عقوبة .. سنّة منه ـ سبحانه ـ فى إنجاء أوليائه أمضاها ، وعادة فى تلطفه ورحمته بالمستحقين أجراها.

قوله جل ذكره (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠))

أخبر أن الملائكة أتوا إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بالبشارة ، وأخبر أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أنكرهم ، ولم يعرف أنهم ملائكة. فيحتمل أنّه ـ سبحانه ـ أراد أن تكون تلك البشارة فجأة من غير تنبيه لتكون أتمّ وأبلغ فى إيجاد السرور ، ولا سيما وقد كانت بعد خوف لأنه قال : فأوجس منهم خيفة.

ويقال إن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كان صاحب النبوة والخلّة والرسالة فلا بدّ أن تكون فراسته أعلى من فراسة كلّ أحد ، ولكنه فى هذه الحالة لم يعرف الملائكة ليعلم أنّ الحقّ ـ سبحانه وتعالى ـ إذا أراد إمضاء حكم يدّ على من أراد عيون الفراسة ، وإن كان صاحب الفراسة هو (خليل) (١) الله ، كما سدّ الفراسة على نبيّنا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى قصة الإفك إلى الوقت الذي نزل فيه الوحى ، وكذلك التبس على لوط ـ عليه‌السلام ـ إلى أن تبيّن له الأمر.

وتكلموا في هذه «البشرى» ما كانت ؛ فقيل كانت البشارة بإسحاق ، وبأنّه سيولد له ولد من نسله وسلالته ؛ قال تعالى : (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ).

ويقال بعلامة قومه ـ حيث كانوا مرسلين بإهلاك قوم لوط ـ عليه‌السلام.

__________________

(١) سقطت كلمة (خليل) فأثبتناها لحاجة السياق إليها.

١٤٥

ويقال بشارة بالخلّة وتمام الوصلة.

ويقال إن الخلّة والمحبة بناؤهما كتمان السّرّ ؛ فيعلم أنهم أرسلوا ببشارة ما ولم يكن للغير اطلاع ، قال قائلهم :

بين المحبين قول لست أفهمه

ويقال إن تلك البشارة هى قولهم : (سَلاماً) وأن ذلك كان من الله ، وأىّ بشارة أتمّ من سلام الحبيب؟ وأىّ صباح يكون مفتتحا بسلام الحبيب فصباح مبارك ، وكذلك المبيت بسلام الحبيب فهو مبارك.

قوله : (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) : لمّا توهمهم أضيافا قام بحقّ الضيافة ، فقدّم خير ما عنده ما شكره الحقّ عليه حيث قال فى موضع آخر : جاء بعجل سمين (١). والمحبة توجب استكثار القليل من الحبيب واستقلال ما منك للحبيب ، وفى هذا إشارة إلى أنه إذا نزل الضيف فالواجب المبادرة إلى تقديم السّفرة (٢) ممّا حضر فى الوقت.

قوله : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) تمام إحسان الضيف أن تتناول يده ما يقدّم إليه من الطعام ، والامتناع عن أكل ما يقدّم إليه معدود فى جملة الجفاء فى مذهب أهل الظّرف (٣). والأكل فى الدعوة واجب على أحد الوجهين.

(وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) : أي خاف أنه وقع له خلل فى حاله حيث امتنع الضّيفان عن أكل طعامه ؛ فأوجس الخيفة لهم لا منهم.

وقيل إن الملائكة فى ذلك الوقت ما كانوا ينزلون جهرا إلا لعقوبة ؛ فلمّا امتنعوا عن الأكل ، وعلم أنهم ملائكة خلف أن يكونوا قد أرسلوا لعقوبة قومه.

قوله جل ذكره : (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ

__________________

(١) آية ٢٦ سورة الذاريات.

(٢) السفرة ـ طعام يصنع للمسافر ، أو المائدة وما عليها من طعام (الوسيط).

(٣) الظرف : (يقال ظرف فلان ظرفا كان كيسا حاذقا ، والظرف فى اللسان البلاغة ، وفى الوجه الحسن ، وفى القلب الذكاء) الوسيط.

١٤٦

إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣))

كانت امرأته قائمة يخدمة الأضياف ، فضحكت تعّجبا من أن يكون لمثلها فى هذه السّنّ ولد.

وقيل كان سرورها بالسلامة. ويحتمل أنها ضحكت تعجّبا من امتناع الضّيفان عن الأكل. أو تعجبت من كون الملائكة فى صورة البشر لمّا علمت أنهم ملائكة. ويحتمل أنها ضحكت لاستبشارها بالولد وقد بشّرت باستحقاقه ومن ورائه يعقوب ، ثم أفصحت عما ينطوى عليه قلبها من التعجب فقالت : (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ)!

فأحال الملائكة خلق الولد على التقدير : (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ؟) فزال موضع التعجب ، وقالوا : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) فبقى الدعاء فى شريعتنا بآخر الآية حيث يقول الداعي : كما صلّيت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

والبركة الزيادة ؛ فقد اتصل النّسل من الخليل ، وبنو إسرائيل منهم ـ وهم خلق كثير ، والعرب من أولاد إسماعيل ـ وهم الجمّ الغفير.

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤))

لما كانت مراجعته مع الله فى أمر قوم لوط بحقّ الله لا لحظّ نفسه سلم له الجدال ، وهذا يدلّ على علوّ شأنه حيث تجاوز عنه ذلك.

قوله جل ذكره : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥))

١٤٧

والإشارة فيه أنه كان يقابل ما ورد على ماله ونفسه وولده بالاحتمال ، ولمّا كان حقّ الحقّ فى حديث قوم لوط أخذ فى الجدال إلى أن أبان له سلامة لوط ـ عليه‌السلام ـ وقال الله سبحانه :

(يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)

يا إبراهيم أعرض عن هذا فإنّ الحكم بعذابهم قد نزل ، ووقت الانتقام منهم قد حصل.

قوله جل ذكره : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧))

أي أنه حزن بسبب خوفه عليهم أن يجرى عليهم من قومه ما لا يجوز فى دين الله ؛ فذلك الحزن كان لحقّ الله لا لنصيب له أو حظّ لنفسه ، ولذلك حمد عليه لأنّ مقاساة الحزن لحقّ الله محمودة.

قوله جل ذكره : (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨))

قوله (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) : قيل إنه أراد به نساء أمته ، فنبىّ كلّ أمة

مثل الوالد لأولاده فى الشفقة والنصيحة.

ويقال إنه أراد بناته من صلبه.

١٤٨

(أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) يرتدى جلبات الحشمة ، ويؤثر حقّ الله على ما هو مقتضى البشرية ، ويرعى حق الضيافة ، ويترك معصية الله؟

قوله جل ذكره : (قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩))

أصرّوا على عصيانهم ، وزهدوا فى المأذون لهم شرعا ، وانجرّوا إلى ما قادهم إليه الهوى طبعا ، وهذه صفة البهائم ؛ لا يردعها عقل ، قال تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)

قوله جل ذكره : (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠))

لو أن لى قوة فأمنعكم عن ارتكاب المعصية ؛ فإنّ أهمّ (١) الأشياء على الأولياء ألا يجرى من العصاة ما ليس لله فيه رضاء.

ويقال : لو كان لى قدرة لإيصال الرحمة إليكم ـ مع ارتكابكم المعاصي ـ لرحمتكم وتجاوزت عنكم.

ويقال لو أنّ لى قوة لهديتكم إلى الدّين ، ولعصمتكم عن ارتكاب المخالفات.

قوله جل ذكره : (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ)

(٢) لّما ضاق به الأمر كشف الله عنه الضرّ فعرّف إليه الملائكة وقالوا : لا عليك فإنهم لا يصلون إليك بسوء ، وإنّا رسل ربك جئنا لإهلاكهم ، فاخرج أنت وقومك من بينهم ، واعلم أنّ من شاركهم فى عملهم بنوع فله من العذاب حصّة. ومن جملتهم امرأتك التي كانت تدل القوم على الملك لفعلة الفاحشة ، وإن العقوبة لاحقة بها ، مدركة لها.

والإشارة منه أن الجسارة على الزّلة وخيمة العاقبة ـ ولو بعد حين ، ولا ينفع المرء اتصاله بالأنبياء والأولياء إذا كان فى الحكم والقضاء من جملة الأشقياء.

__________________

(١) أفعل التفضيل هنا مأخوذ من الهم ، أي (فإن أكثر ما يسبب الهم للأولياء).

(٢) مستثنى من (فأسر بأهلك) منصوب.

١٤٩

قوله جل ذكره : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ).

ما هو كائن فقريب ، والبعيد ما لا يكون. وإنّ من أقدم على محظور ثم حوسب عليه ـ ولو بعد دهور خالية وأعوام غير محصورة ماضية ـ تصور له الحال كأنه وقت مباشرته لتلك الزّلة.

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢))

سنّة الله فى عباده قلب الأحوال عليهم ، والانقلاب من سمات الحدوث ، أمّا الذي لا يزول ، ولا يحول فهو الذي لم يزل ولا يزال بنعوته الصمدية.

وإنّ من عاش فى السرور دهرا ثم تبدل يسره عسرا فكمن لم ير قطّ خيرا ، والذي قاسى طول عمره ثم أعطى يسرّا فكمن لم ير عسرا.

قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١).

قوله جل ذكره (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣))

ذكر سبحانه ما نالهم من العقوبة على عصيانهم ، ثم أخبر أنّ تلك العقوبة لاحقة بمن سلك سبيلهم تحذيرا لمن لم يعتبر بهم إذا عرف طريقهم ، كما قيل :

ومن يرنى ولم يعتبر بعدي

فإنّ لكلّ معصية عقابا

قوله جل ذكره : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ

__________________

(١) آية ١١٠ سورة الأنعام.

١٥٠

وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥))

أخبر سبحانه عن قصتهم ، وما أصابهم من العذاب الأليم ، وما نالهم من البلاء العظيم.

وفى الظاهر لهم كانت أجرامهم كاليسيرة ، ولعدم الفهم يعدون أمثالها صغيرة ، ولا يقولون إنها كبيرة ، وإن ذلك تطفيف فى المكيال.

وليس قدر الأجرام (١) لأعيانها ، ولكن لمخالفة الجبار عظم شأنها ، قال تعالى : (وَتَحسِبونَهُ هيناً وَهُوَ عِندَ اللَّهَ عَظِيم)

(٢) ولما أن قال لهم شعيب :

(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ).

يعنى القليل من الحلال أجدى من الكثير المعقب للوبال لم يقابلوا نصيحته لهم إلا بالعناد والتمادي فيما هو دائم من الجحد والكنود.

قوله جل ذكره : (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧))

استوطئوا مركب الجهل ، واستحلبوا مشرب التقليد ، وأعفوا قلوبهم من استعمال الفكر ، واستبصار طريق الرّشد.

__________________

(١) جمع (جرم) وهو الذنب.

(٢) آية ١٥ سورة النور.

١٥١

قوله جل ذكره : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً)

البيّنة نور تستبصر به ما خفى عليك تحت غطاء الغفلة.

والرزق الحسن ما به دوام الاستقلال ، وما ذلك إلا مقتضى عنايته الأزلية ، وحسن توليه لشأنك ـ فى جميع ما فيه صلاحك ـ من إتمام النعمة ودوام العصمة.

وقيل الرزق الحسن ما تعنّي صاحبه لطلبه ، ولم يصبه نصب بسببه.

وقيل الرزق الحسن ما يستوفيه بشهود الرزق ويحفظه عند التنعم بوجود الرّزّاق.

ويقال الرزق الحسن ما لا ينسى الرزّاق ، ويحمل صاحبه على التوسعة والإنفاق.

قوله جل ذكره : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ).

يمكن للواعظ أو الناصح أن يساهل المأمور فى كل ما يأمره به ، ولكن يجب ألا يجيز له ما ينهاه عنه ؛ فإنّ الإتيان بجميع الطاعات غير ممكن ، ولكنّ التجرّد عن جميع المحرّمات واجب.

ويقال من لم يكن له حكم على نفسه فى المنع عن الهوى لم يكن له حكم على غيره فيما يرشده إليه من الهدى.

قوله جل ذكره : (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ).

مدار الأمر على الأغراض المقضية حسن القصد بالإصلاح ؛ فيقرن الله به حسن التيسير ، ومن انطوى على قصد بالسوء وكل الحقّ بشأنه التعويق.

قوله جل ذكره : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ).

حقيقة التوفيق ما ينفق به الشيء ، وفى الشريعة التوفيق ما تنفق به الطاعة ، وهو قدرة الطاعة ، ثم كل ما تقرب العبد به من الطاعة من توفير الدواعي وفنون المنهيات يعدّ من جملة التوفيق ـ على التوسّع.

١٥٢

والتوفيق بالله ومن الله ، وهو ـ سبحانه ـ بإعطائه متفضّل.

قوله جل ذكره : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

التوكل تفويض الأمر إلى الله ، وأمارته ترك التدبير بشهود التقدير ، والثقة بالموعود عند عدم الموجود. ويتبين ذلك بانتفاء الاضطراب عند عدم الأسباب.

ويقال التوكل السكون ، والثقة بالمضمون.

ويقال التوكل سكون القلب بمضمون الرّبّ.

قوله جل ذكره : (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩))

تورثكم مخالفتكم إياى فيما أدعوكم إليه من طاعة الله أن يلحقكم من أليم العقوبة ما أصاب من تقدّمكم من الذين سرتم على منهاجهم ، وما عهدكم ببعيد بمن تحققتم كيف حلّت بهم العقوبة ، وكيف أنهم ما زادتهم كثرة النصيحة إلّا غلوّا فى ضلالتهم ، وعتوّا في جهالتهم ، وكما قيل.

وكم صغت فى آثاركم من نصيحة

وقد يستفيد البغضة المتنصّح

قوله جل ذكره : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠))

الاستغفار هو التوبة.

ومعنى قوله (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي توبوا ثم لا تنقضوا توبتكم ؛ فهو أمر باستدامة التوبة ؛ فإذا لم يتصل وفاء المآل بصفاء الحال لم يحصل قبول ، وكأن لم يكن لما سلف حصول.

(إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) : يرحم العصاة ويودّهم.

ويقال يرحمهم ولذلك يودونه ؛ فالودود يكون بمعنى المودود كحلوب بمعنى محلوب. والرحمة

١٥٣

تكون للعاصى لأنّ المطيع بوصف استحقاقه للثواب على طاعاته ، ثم ليس كلّ من يحبّ السلطان فى محلّ الأكابر ، فالأصاغر من الجند قد يحبون الملك ، وأنشدوا :

ألا ربّ من يدنو ويزعم أنه

يودّك ، والنائى أودّ وأقرب

قوله جل ذكره : (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١))

لاحظوا شعيبا بعين الاستصغار فحرموا فهم معانى الخطاب ، وأقرّوا على أنفسهم بالجهل ، وأحالوا إعفاءهم إياه من الأذى على حشمتهم من رهطه وعشيرته ، فعاتبهم عليه : ـ

(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)

أترون من حقّ رهطى مالا ترون من حقّ ربى ؛ وإنّ ربى يكافئكم على أعمالكم بما تستوجبون فى جميع أحوالكم.

قوله جل ذكره : (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥))

١٥٤

أرخى لهم ستر الإمهال فلمّا أصرّوا على تماديهم فى الغواية حلّت بهم العقوبة ، وصاروا وكأن لم يكن بينهم نافخ نار ، ولا فى ديار الظالمين ديّار ، قال تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ)

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ)

كرّر قصة موسى عليه‌السلام تفخيما لشأنه ، وتعظيما لأمره ، وتنبيها على علوّ قدره عند الله وعلى مكانة الآيات التي أرسله بها ، ومعجزاته الباهرة ، وبراهينه القاهرة ..

ويقال أصعب عدوّ قهره أولا نفسه ، وقد دله ـ سبحانه ـ على ذلك لمّا قال : إلهى! كيف أطلبك؟

فقال : عند المنكسرة قلوبهم من أجلى.

فنبّهه إلى استصغاره لنفسه ، وانكساره لله بقلبه ، فزادت صولته لما صار معصوما عن شهود فضل لنفسه ؛ والسلطان الذي خصّه به استولى على قلوب من رآه ، كما قال : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) (١) فما رآه أحد إلا أحبّه ، ثم إنه لم يأخذه فى الله ضعف ، مثلما لطم وجه فرعون ـ وهو رضيع ـ كما فى القصة ، ولطم وجه ملك الموت لمّا طالبه بقبض روحه .. كما فى الخبر ، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه لمّا رجع من سماع الخطاب عند المعاتبة ، وأقدم بالجسارة على سؤال الرؤية ، وقتل القبطىّ لما استعان به من وافقه فى العقيدة ، وقال لله (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) (٢) لمّا أخبره الحق بما عمله قومه من عبادة العجل بحكم الضلالة ... ففى جميع هذا تجاوز الله عنه لما أعطاه من السلطان والقوة.

قوله جل ذكره : (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)

__________________

(١) آية ٣٩ سورة طه.

(٢) آية ١٥٥ سورة الأعراف.

١٥٥

رضوا بمتابعة فرعون ، فاستحقوا ما استحقه. لم يشعروا بخطئهم ، وكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وإذا ما أوردهم النار فهو إمامهم ، وسيعلمون ما أصابهم من الخسران حين لا ينفع تضرعهم وبكاؤهم ولا ينقطع عذابهم وعناؤهم ، وتغلب خسارتهم وشقاؤهم ـ وذلك جزاء من كفر بمعبوده ، وأسرف فى مجاوزة حدوده.

قوله جل ذكره : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩))

بعدوا فى عاجلهم من الإيمان ، وفى آجلهم من الغفران والجنان. والذي لهم فى الحال من الفرقة أعظم ـ فى التحقيق ـ من الذي لهم فى المآل من الحرقة ، وهذه صفة من امتحنه الله باللعنة.

قوله جل ذكره : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠))

لم يكن فى جملة من قصّ عليه من الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ من أكثر منه تبجيلا ، ولا فيمن ذكره من الأمم أعظم من أمته تفضيلا ، فكما تقدّم على الأنبياء ـ عليهم‌السلام تقدّمت أمته على الأمم ، قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١)

قوله جل ذكره : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١))

لا يجوز الظلم فى وصفه ؛ فتصرّفه فى ملكه بحقّ إلهيته ـ مطلق ؛ يحكم بحسب إرادته ومشيئته ، ولا يتوجه حقّ عليه ، فكيف يجوز الظلم فى وصفه؟

ويقال هذا الخطاب لو كان من مخلوق مع مخلوق لأشبه العذر ، ولكن فى صفته لا يجوز العذر إذ الخلق خلقه ، والملك ملكه ، والحكم حكمه.

__________________

(١) الآية ١١٠ سورة آل عمران.

١٥٦

قوله جل ذكره : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢))

إنّ الحقّ ـ سبحانه ـ يمهل ولكن لا يهمل ، ويحكم ولكن لا يعجّل ، وهو لا يسأل عمّا يفعل.

وقيل إذا أخذ النفوس بالتوفيق فلا سبيل للخذلان إليها ، وإذا أخذ القلوب بالتحقيق فلا طريق للحرمان عليها. قال تعالى : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (١).

قوله جل ذكره : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣))

مشهود يشهده من حشر من جميع الخلائق فى ذلك اليوم.

ويقال الأيام ثلاثة : يوم مفقود وهو أمس ليس بيدك منه شىء ، ويوم مقصود وهو غد لا تدرى أتدركه أم لا ، ويوم مشهود وهو اليوم الذي أنت فيه ؛ فالمفقود لا يرجع ، والمقصود ربما لا تبلغ ، والمشهود وقتك وهو معرّض للزوال ... فاستغله فيما ينفع.

قوله جل ذكره : (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤))

الأجل لا يتقدّم ولا يتأخر لكل (...) (٢) ، والآجال على ما علمها الحقّ ـ سبحانه ـ وأرادها جارية ؛ فلا طلب يقدّم أو يؤخر وقتا إذا جاء أجله ، وكذلك للوصول وقت ، فلا طلب مع رجاء الوصول ، ولا طلب مع خوف الزوال ، ولقد قيل :

عيب السلامة أنّ صاحبها

متوقّع لقواصم الظّهر

وفضيلة البلوى ترقب أهلها

عقب البلاء ـ مسرّة الدهر

قوله جل ذكره : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥))

__________________

(١) آية ١٢ سورة البروج.

(٢) مشتبهة.

١٥٧

الشقىّ من قسم له الحرمان فى حاله ، والسعيد من رزق الإيمان فى مآله.

ويقال الشقاء على قسمين : قوم شقاؤهم غير مؤيد ، وقوم شقاؤهم على التأبيد ، وكذلك القول فى السعادة. الشقىّ من هو فى أسر التدبير ونسيان جريان التقدير ، والسعيد من رجع من ظلمات التدبير ، وحصل على وصف شهود التقدير.

ويقال الشقىّ من كان فى رق العبودية ظانّا أنّ منه طاعاته ، والسعيد من تحرر عن رقّ البشرية وعلم أن الحادثات كلها لله سبحانه.

وأمّا الأشقياء ـ على التأبيد ـ فهم أهل الخلود فى مقتضى الوعيد ، والسعداء ـ على التأبيد ـ من قال الله تعالى فى صفتهم : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ).

قوله جل ذكره : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ)

(إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أن يزيد على مدّة السماوات والأرض.

(إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أن ينقلهم إلى نوع آخر من العذاب غير الزفير والشهيق.

(إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) ألا تلحقهم تلك العقوبة قبل أن يدخلهم النار ؛ فلا استثناء لبعض أوقاتهم من العقوبة لا قبل إدخالهم فيها ولا بعده.

(إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من إخراج أهل التوحيد من النار فيكون شقاؤهم غير مؤبّد.

قوله جل ذكره : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ)

فيه إشارة إلى أن الذي يحصل لهم يحصل بمشيئته لا باستحقاق عمل.

قوله جل ذكره : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨))

لهم اليوم جنّات القربة ، ولهم غدا جنّات المثوبة.

والكفار اليوم فى عقوبة الفرقة ، وغدا فى عقوبة الحرقة.

١٥٨

(فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) فلا استثناء لبعض أوقات أهل الجنة من أول أمرهم قبل دخولهم الجنّة أو بعده. أو يحتمل أنه يزيد على مدة السماوات والأرض.

وفى قوله (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ـ أي عطاء غير مقطوع ـ دليل على أن تلك النعم غير مقطوعة ولا ممنوعة.

قوله جل ذكره : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩))

لا يريد أنّه عليه‌السلام فى شك ، ولكنه أراد به تحقيق كونهم مضاهين لآبائهم ، كما تقول : لا شكّ أنّ هذا نهار.

ويقال الخطاب له والمراد به لأمّته.

(وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) : نجازيهم على الخير بخير وعلى الشر بضر (١)

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠))

اختلفوا فى الكتاب الذي أوتى ، وهو التوراة.

واختلفوا فى كونه رسولا ، فمن مصدّق ومن مكذّب.

ثم أخبر أنه ـ سبحانه ـ حكم بتأخير العقوبة ، ولو لا حكمته لعجّل لهم العقوبة.

وفائدة الآية من هذا التعريف التخفيف على المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما كان

__________________

(١) لم يقل القشيري : وعلى الشر بشر ، وإنما استعمل (الضر) تأدبا من نأحية ، ولأنه ـ حسب مذهبه الكلامى ـ لا ينسب (الشر) لله ، من ناحية أخرى ، وكما سنرى بعد قليل فى تفسيره للحسنة وللسيئة

١٥٩

يلقاه من قومه من التكذيب ، ففى سماع قصة الأشكال ـ وبعضهم من بعض ـ سلوة ، ولقد قيل :

أجارتنا إنّا غريبان هاهنا

وكلّ غريب للغريب نسيب

قوله جل ذكره : (وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١))

أعاد ذكر الجزاء على الأعمال بالثواب والعقاب ، وكرّر ذلك فى القرآن فى كثير من المواضع إبلاغا فى التحذير ، وتنبيها على طريق الاعتبار بحسن التفكير.

ثم إن الجزاء على الأعمال معجّل ومؤجّل ، وكلّ من أعرض عن الغفلة وجنح إلى وصف التيقظ وجد فى معاملاته ـ عاجلا ـ الربح لا الخسران ، وآجلا الزيادة لا النقصان ، وما يجده المرء فى نفسه أتمّ مما يدركه بعلمه بشواهد برهانه.

قوله جل ذكره : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢))

يحتمل أن تكون السين فى الاستقامة سين الطلب ؛ أي سل من الله الإقامة لك على الحقّ.

ويحتمل أن تكون الإقامة فى الأمر بمعنى أقام عليه.

وحقيقة الاستقامة على الطاعة المداومة على القيام بحقّها من غير إخلال بها ، فلا يكون فى سلوك نهج الوفاق انحراف عنه.

ويقال المستقيم من لا ينصرف عن طريقه ، يواصل سيره بمسراه ، وورعه بتقواه ، ويتابع فى ترك هواه.

ويقال استقامة النفوس فى نفى الزّلّة ، واستقامة القلوب فى نفى الغفلة ، واستقامة الأرواح بنفي العلاقة ، واستقامة الأسرار بنفي الملاحظة (١).

استقامة العابدين ألا يدخروا نفوسهم عن العبادة وألا يخلّوا بأدائها ، ويقضون عسيرها ويسيرها. واستقامة الزاهدين ألا يرجوا من دنياهم قليلها ولا كثيرها. واستقامة التائبين

__________________

(١) تهمنا هذه العبارة عند تحديد الآفات التي تصيب الملكات الباطنة حسب مذهب القشيري.

١٦٠