لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

نصحك ، ولا يؤثّر فيهم وعظك .. كيف لا؟ وقد جرّعوا شراب الحجبة ، ووسموا بكىّ الفرقة ؛ فلا بصيرة لهم ولا (...) (١) ولا فهم ولا حصافة.

قوله جل ذكره : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤))

لا يقبل منهم عدل ولا سرف (٢) ، ولا يحصل فيما سبق لهم من الوعيد خلف. ولا ندامة تنفعهم وإن صدقوها ، ولا كرامة تنالهم وإن طلبوها ، ولا ظلم يجرى عليهم ولا حيف ، كلا ... بل هو الله العدل فى قضائه ، الفرد فى علائه بنعت كبريائه.

قوله جل ذكره : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥))

الحادثات بأسرها لله ملكا ، وبه ظهورا ، ومنه ابتداء ، وإليه انتهاء ؛ فقوله حقّ ، ووعده صدق ، وأمره حتم ، وقضاؤه بات. وهو العلىّ ، وعلى ما يشاء قوى.

قوله جل ذكره : (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦))

يحيى القلوب بأنوار المشاهدة ، ويميت النفوس بأنواع المجاهدة ، فنفوس العابدين تلفها فنون المجاهدات ، وقلوب العارفين شرفها عيون المشاهدات.

ويقال يحيى من أقبل عليه ، ويميت من أعرض عنه.

ويقال يحيى قلوب قوم بجميل الرجاء ، ويميت قلوب قوم بوسم القنوط.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ

__________________

(١) مشتبهة.

(٢) السرف هنا معناها مجاوزة الحد.

١٠١

رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧))

الموعظة للكافة .. ولكنها لا تنجع في أقوام ، وتنفع فى آخرين ؛ فمن أصغى إليها بسمع سرّه اتضح نور التحقيق فى قلبه ، ومن استمع إليها بنعت غيبته ما اتصف إلا بدوام حجبته.

ويقال الموعظة لأرباب الغيبة ليئوبوا ، والشّفاء لأصحاب الحضور ليطيبوا.

ويقال «الموعظة» : للعوام ، «والشفاء» : للخواص ، «والهدى» لخاص الخاص ، «والرحمة» لجميعهم ، وبرحمته وصلوا إلى ذلك.

ويقال شفاء كلّ أحد على حسب دائه ، فشفاء المذنبين بوجود الرحمة ، وشفاء المطيعين بوجود النعمة (١) ، وشفاء العارفين بوجود القربة ، وشفاء الواجدين بشهود الحقيقة.

ويقال شفاء العاصين بوجود النجاة ، وشفاء المطيعين بوجود الدرجات ، وشفاء العارفين بالقرب والمناجاة.

قوله جل ذكره : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨))

«الفضل» : الإحسان الذي ليس بواجب على فاعله ، «والرحمة» إرادة النعمة وقيل هى النعمة.

والإحسان على أقسام وكذلك النعمة ، ونعم الله أكثر من أن تحصى.

ويقال الفضل ما أتاح لهم من الخيرات ، والرحمة ما أزاح عنهم من الآفات.

ويقال فضل الله ما أكرمهم من إجراء الطاعات ، ورحمته ما عصمهم به من ارتكاب الزّلات. ويقال فضل الله دوام التوفيق ورحمته تمام التحقيق.

__________________

(١) نعلم من مذهب القشيري أن (الرحمة) من أوصاف الذات ، و (النعمة) من أوصاف الفعل .. فتامل كيف يرتبط مصير (المذنبين) بوصف من أوصاف ذاته ، ولاحظ كيف يفتح الصوفية بذلك أبواب الأمل أمام التائبين.

١٠٢

ويقال فضل الله ما يخصّ به أهل الطاعات من صنوف إحسانه ، ورحمته ما يخصّ به أهل الزلّات من وجوه غفرانه.

ويقال فضل الله الرؤية ، ورحمته إبقاؤهم فى حالة الرؤية.

ويقال فضل الله المعرفة فى البداية ، ورحمته المغفرة فى النهاية.

ويقال فضل الله أن أقامك بشهود الطلب ، ورحمته أن أشهدك حقّه بحكم البيان إلى أن تراه غدا بكشف العيان.

قوله : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) أي بما أهّلهم له ، لا بما يتكلّفون من حركاتهم وسكناتهم ، أو يصلون إليه بنوع من تكلفهم وتعملهم. (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) : أي ما تتحفون به من الأحوال الزاكية خير ممّا تجمعون من الأموال الوافية.

ويقال الذي لك منه ـ فى سابق القسمة ـ خير مما تتكلّفه من صنوف الطاعة والخدمة.

قوله جل ذكره : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩))

يعنّفهم ويقرّعهم (١) على ما ابتدعوه من التحليل والتحريم ، ويظهر كذبهم فيما تقوّلوه من نسبتهم ذلك إلى إذن وشرع.

قوله جل ذكره : (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠))

هذا على جهة التهويل والتعظيم لما أسلفوه من الكذب.

__________________

(١) قرع فلانا أي أوجعه باللوم والعتاب (المحيط)

١٠٣

ثم قال : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) فى إمهال من أجرم ، والعصمة لمن لم يجرم.

قوله جل ذكره : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١))

خوّفهم بما عرفهم من اطلاعه عليهم فى جميع أحوالهم ، ورؤية ما سيفعلونه من فنون أعمالهم. والعلم بأنه يراهم يوجب استحياءهم منه ، وهذه حال المراقبة ، والعبد إذا علم أن مولاه يراه استحيى منه ، وترك متابعة هواه ، ولا يحوّم حول ما نهاه ، وفى معناه أنشدوا :

كأنّ رقيبا منك حال بمهجتي

إذا رمت تسهيلا علىّ تصعّبا

وأنشدوا :

أعاتب عنك النّفس فى كلّ خصلة

تعاتبنى فيها وأنت مقيم

(وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) : وكيف يخفى ذلك عليه ، أو يتقاصر علمه عنه ، وهو منشئه وموجده؟ وبعض أحكامه الجائزة مخصصة ، وإنما قال : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) : ردّهم إلى كتابته ذلك عليهم ـ لعدم اكتفائهم فى الامتناع عمّا نهوا عنه ـ برؤيته وعلمه.

قوله جل ذكره : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))

الولىّ على وزن فعيل مبالغة من الفاعل ، وهو من توالت طاعاته ، من غير أن يتخللها عصيان.

ويجوز أن يكون فعيل بمعنى مفعول كجريح وقتيل بمعنى مجروح ومقتول ؛ فيكون الولىّ من يتوالى عليه إحسان الله وأفضاله ، ويكون بمعنى كونه محفوظا فى عامة أحواله من المحن.

١٠٤

وأشدّ المحن ارتكاب المعاصي فيعصمه الحقّ ـ سبحانه ـ على دوام أوقاته من الزّلّات.

وكما أن النبيّ لا يكون إلا معصوما فالولىّ لا يكون إلا محفوظا.

والفرق بين المحفوظ والمعصوم أن المعصوم لا يلمّ بذنب البتّة ، والمحفوظ قد تحصل منه هنات ، وقد يكون له ـ فى الندرة ـ زلّات ، ولكن لا يكون له إصرار : «أولئك الذين (يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (١).

قوله جل ذكره : (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

حسن ما قيل إنه (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) : فى الدنيا ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) : فى العاقبة. ولكن الأولى أن يقال إنّ الخواص منهم لا خوف عليهم فى الحال ـ لأنّ حقيقة الخوف توقّع محذور فى المستقبل ، أو ترقّب محبوب يزول فى المستأنف .. وهم بحكم الوقت ؛ ليس لهم تطلّع إلى المستقبل. والحزن هو أن تنالهم حزونة فى الحال ، وهم فى روح الرضا بكلّ ما يجرى فلا تكون لهم حزونة الوقت. فالولىّ لا خوف عليه فى الوقت ، ولا له حزن بحال ، فهو بحكم الوقت.

ولا يكون وليّا إلا إذا كان موفّقا لجميع ما يلزمه من الطاعات ، معصوما بكل وجه عن جميع الزلات. وكلّ خصلة حميدة يمكن أن يعتبر بها فيقال هى صفة الأولياء. ويقال الولىّ من فيه هذه الخصلة.

ويقال الولىّ من لا يقصّر فى حقّ الحق ، ولا يؤخرّ القيام بحق الخلق ؛ يطيع لا لخوف عقاب ، ولا على ملاحظة حسن مآب ، أو تطلع لعاجل اقتراب ، ويقضى لكلّ أحد حقا يراه واجبا ، ولا يقتضى من أحد حقّا له ، ولا ينتقم ، ولا ينتصف (٢) ولا يشمت ولا يحقد ، ولا يقلد أحدا منة ، ولا يرى لنفسه ولا لما يعمله قدرا ولا قيمة.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣))

هذه صفة الأولياء ؛ آمنوا فى الحال ، واتقوا الشرك فى المآل. ويقال (آمَنُوا) أي قاموا

__________________

(١) آية ١٧ سورة النساء.

(٢) أي إذا أساء إليه أحد لم يطلب من مخلوق إنصافا ، وإنما عفا وتساهل ، تاركا الأمر لله.

١٠٥

بقلوبهم من حيث المعارف. (وَكانُوا يَتَّقُونَ) : استقاموا بنفوسهم بأداء الوظائف.

ويقال (آمَنُوا) بتلقى التعريف. «واتقوا» : بالتقوى عن المحرمات بالتكليف.

قوله جلّ ذكره : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤))

القيام بالأمر يدل على الصحة ؛ فإذا قاموا بما أمروا به ، واستقاموا بترك ما زجروا عنه بشّرتهم الشريعة بالخروج عن عهدة الإلزام ، وبشّرتهم الحقيقة باستيجاب الإكرام ، بما كوشفوا به من الإعلام .. وهذه هى البشرى فى عاجلهم. وأما البشرى فى آجلهم : فالحقّ ـ سبحانه ـ يتولّى ذلك التعريف ، قال تعالى : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) (١)

ويقال البشارة العظمى ما يجدون فى قلوبهم من ظفرهم بنفوسهم بسقوط مآربهم ، وأىّ ملك أتمّ من سقوط المآرب ، والرضا بالكائن (٢)؟ هذه هى النعمة العظمى ، ووجدان هذه الحالة هو البشرى الكبرى.

ويقال الفرق بين هذه البشارة التي لهم وبين البشارة التي لخلق أنّ التي للخلق عدّة (٣) بالجميل ، والذي لهم نقد ومحصول.

قوله جل ذكره : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥))

العبد ما دام متفرقا يضيق صدره ويستوحش قلبه بما يسمع ويشهد من الأغيار والكفار ما تتقدّس عنه صفة الحقّ ، فإن صار عارفا زالت عنه تلك الصفة لتحققه بأنّ الحقّ سبحانه وراء كلّ طاعة وزلّة ، فلا له ـ سبحانه ـ من هذا استيحاش ، ولا بذلك استئناس.

__________________

(١) آية ٢١ سورة التوبة.

(٢) الكائن هنا معناها الواقع ، فلا يتطلعون إلى زيادة أو تغيير.

(٣) عدة ـ وعد ، وتذكر ما قلناه فى هامش سابق عن الوعد والنقد.

١٠٦

ثم يتحقق العارف بأنّ المجرى لطاعة أرباب الوفاق ـ الله ، والمنشئ لأحوال أهل الشّقاق ـ الله. لا يبالى الحقّ بما يجرى ولا يبالى العبد بشهود ما يجرى ، كما قيل :

بنو حقّ قضوا بالحقّ صرفا

فنعت الخلق فيهم مستعار

قوله جل ذكره (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦))

لله من فى السماوات ومن فى الأرض ملكا ، ويبدى عليهم ما يريد حكما جزما ؛ فلا لقبوله علّة ، ولا موجب لردّه زلّة ، كلا ... إنها أحكام سابقة ، لم توجبها أجرام لاحقة ، ولا طاعات وعبادت صادقة.

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧))

الليل لأهل الغفلة بعد وغيبة ، ولأهل الندم (١) توبة وأوبة ، وللمحبين زلفة وقربة ؛ فالليل بصورته غير مؤنس ، لكنه وقت القربة لأهل الوصلة كما قيل :

وكم لظلام الليل عندى من يد (٢)

تخبّر أن المانوية تكذب

قوله جل ذكره : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨))

__________________

(١) وردت (القوم) وهى خطأ فى النسخ إذ لا معني لها هنا والمناسب (الندم).

(٢) وردت (مزيد) وهى خطأ في النسخ.

١٠٧

الولد بعض الوالد ، والصمدية تجلّ عن البعضية ، فنزّه الله نفسه عن ذلك بقوله (سُبْحانَهُ).

ثم إنه لم يعجّل لهم العقوبة ـ مع قبيح قالتهم ومع قدرته على ذلك ـ تنبيها على طريق الحكمة لعباده.

ولا تجوز فى وصفه الولادة لتوحّده ، فلا قسيم له ، ولا يجوز فى نعته التبنّي أيضا لتفرّده وأنه لا شبيه له.

قوله : (هُوَ الْغَنِيُّ) : الغني نفى الحاجة ، وشهوة المباشرة حاجة ، ويتعالى عنها سبحانه.

قوله جل ذكره (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

ليس لهم بما هم فيه استمتاع ، إنما هى أيام قليلة ثم تتبعها آلام طويلة ، فلا قدم لهم بعد ذلك ترفع ، ولا ندم ينفع.

قوله جل ذكره : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١))

أنزل الله هذه الآية على وجه التسلية لنبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما كان يمسّه من مقاساة الشّدّة من قومه ، فإنّ أيام نوح ـ وإن طالت ـ فما لبثت كثيرا إلا وقد زالت ، كما قيل :

وأحسن شىء في النوائب أنها

إذا هى نابت لم تكن خلدا

ثم بيّن أنه كان يتوكل على ربّه مهما فعلوا. ولم يحتشم عبد ـ ما وثق بربّه ـ من كلّ ما نزل به ثم إن نوحا ـ عليه‌السلام ـ قال : إنى توكلت على الله ، وهذا عين التفرقة ،

١٠٨

وقال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) (١) وهذا عين الجمع فبانت المزية وظهرت الخصوصية.

قوله جل ذكره : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢))

إذا كان عمله لله لم يطلب الأجر عليه من غير الله ، وهكذا سنّته فى جميع أولياء الله.

قوله جل ذكره : (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣))

أغرق قومه بأمواج القطرة ، وفى الحقيقة أغرقهم بأمواج الأحكام والقدرة ، وحفظ نوحا ـ عليه‌السلام ـ وقومه فى السفينة ، وفى الحقيقة نجّاهم فى سفينة السلامة. كان نوح فى سابق حكمه من المحروسين ، وكان قومه فى قديم قضائه من جملة المغرقين ، فجرت الأحوال على ما جرت به القسمة فى الأزل.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥))

__________________

(١) آية ٦٤ سورة الأنفال

١٠٩

قصّ عليه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ أنباء الأولين ، وشرح له جميع أحوال الغابرين ، ثم فضّله على كافتهم أجمعين ، فكانوا نجوما وهو البدر ، وكانوا أنهارا وهو البحر ، ثم به انتظم عقدهم ، وبنوره أشرق نهارهم ، وبظهوره ختم عددهم (١) ، كما قيل :

يوم وحسب الدهر من أجله

حيّا غد والتفت الأمس

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦))

ما زادهم الحقّ سبحانه بيانا إلا ازدادوا طغيانا ، وذلك أنه تعالى أجرى سنّته فى المردودين عن معرفته أنه لا يزيد فى الحجج هدى إلا ويزيد فى قلوبهم عمّى ، ثم خفى عليهم قصود النبيين صلوات الله عليهم أجمعين.

(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ) : نظروا من حيث كانوا لم يعرفوا طعما غير ما ذاقوا ، وكذا صفة من أقصته السوابق ، وردّته المشيئة.

قوله جل ذكره : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨))

ركنوا إلى تقليد آبائهم فيما عليه كانوا ، واستحبّوا استدامة ما عليه كانوا ... فلحقهم شؤم العقيدة وسوء الطريقة حتى توهموا أن الأنبياء عليهم‌السلام إنما دعوهم إلى الله لتكون لهم الكبرياء على عباد الله ، ولم يعلموا أنهم إنما دعوهم إلى الله بأمر الله.

قوله جل ذكره : (وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩))

لما استعان فى استدفاع ما استقبله بغير الله لم يلبث إلا يسيرا حتى تبرّأ منهم وتوعّدهم

__________________

(١) قارن ذلك بما يقوله الحلاج فى طواسينه وبما يقوله أصحاب «نظرية الإنسان الكامل» عن الحقيقة المحمدية لتلحظ مدى اعتدال هذا الامام السنى المتحفظ فى نظرته لشخصية الرسول عليه صلاة الله وسلامه.

١١٠

بقوله : لأفعلنّ ولأصنعنّ ، وكذلك قصارى كل حجة وولاية إذا كانت فى غير الله فإنها تئول إلى العداوة والبغضة ، قال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (١).

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١))

أمرهم أمرا يظهر به بطلانهم ليدخل الحقّ على ما أتوا به من التمويه ، فلذلك قال موسى عليه‌السلام : «إن الله سيبطله» ؛ فلمّا التقمت عصا موسى ـ جميع ما جاءوا به من حبالهم وعصيّهم ـ حين قلبها الله حيّة .. علموا أنّ الله أبطل تلك الأعيان وأفناها.

قوله جل ذكره : (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢))

من جملة ما أحقّه أن السّحرة كان عندهم أنهم ينصرون فرعون ويجيبونه فكانوا يقسمون بعزّته حيث قالوا (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) وقال الحقّ اغض سبحانه. بعزتي إنكم لمغلوبون ، فكان على ما قال تعالى دون ما قالوه ، وفى معناه قالوا :

كم رمتني بأسهم صائبات

وتعمّدتها بسهم فطاشا

قوله جل ذكره : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣))

أهل الحقيقة فى كل وقت قليل عددهم ، كبير عند الله خطرهم.

__________________

(١) آية ٦٧ سورة الزخرف.

١١١

قوله جل ذكره : (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤))

بيّن أن الإيمان ليس من حيث الأقوال .. بل لا بد فيه من صدق الأحوال قصدا.

وحقيقة التوكل توسّل تقديمه متّصل ، ثم يعلم أنه بفضله ـ سبحانه ـ تحصل نجاته ، لا بما يأتى به من التكلّف ـ هذه هى حقيقة التوكل (١).

قوله جل ذكره : (فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥))

تبرأنا مما منّا من الحول والمنّة ، وتحققنا بما منك من الطول والمنّة.

فلا تجعلنا عرضة لسهام أحكامك فى عقوبتك بانتقامك ، وارحمنا بلطفك وإكرامك ، ونجّنا ممّن غضبت عليهم فأذللتهم ، وبكىّ فراقك وسمتهم

قوله جل ذكره : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧))

مهّد إليهم لعبادتنا محالّ وهى نفوسهم ، ولمعارفنا منازل وهى قلوبهم ، ولمحبتنا مواضع وهى أرواحهم ، ولمشاهدتنا معاهد وهى أسرارهم ؛ فنفوس العابدين بيوت الخدمة ، وقلوب العارفين أوطان الحشمة ، وأرواح المهيمين مشاهد المحبة ، وأسرار الموحدين منازل الهيبة (٢)

قوله جل ذكره : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ

__________________

(١) أي يفنى عن التوكل برؤية الوكيل .. كما يقول إبراهيم الخواص (ت ٢٩١)

(٢) هذه الفقرة هامة فى توضيح الملكات الباطنية وترتيبها ووظائفها فى المعراج الروحي ـ فى مذهب هذا الصوفي.

١١٢

عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨))

لما يئس من إجابتهم حين دعاهم إلى الله دعا عليهم بإنزال السّخطة وإذاقة الفرقة. ومن المعلوم أنّ الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ من حقهم العصمة ، فإذا دعا موسى عليهم بمثل هذه الجملة لم يكن ذلك إلا بإذن من قبل الله تعالى فى الحقيقة.

قوله جل ذكره : (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩))

الاستقامة فى الدعاء ترك الاستعجال فى حصول المقصود ، ولا يسقط الاستعجال من القلب إلا بوجدان السكينة فيه ، ولا تكون تلك السكينة إلا بحسن الرضاء بجميع ما يبدو من الغيب ويقال ينبغى للعبد أن يسقلّ بالله (١) ما أمكنه ، فعند هذا يقلّ دعاؤه. ثم إذا دعاه بإشارة من الغيب ـ فى جوازه ـ فالواجب ألا يستعجل ، وأن يكون ساكن الجأش.

ويقال من شرط الدعاء صدق الافتقار فى الابتداء ، ثم حسن الانتظار فى الانتهاء ، وكمال هذا الرضاء بجريان الأقدار بما يبدو من المسار والمضار.

ويقال الاستقامة فى الدعاء سقوط التقاضي (٢) على الغيب ، والخمود عن الاستعجال بحسن الثقة ، وجميل الظّن.

ويقال فى الآية تنبيه على أنّ للأمور آجالا معلومة ، فإذا جاء الوقت فلا تأخير للمقسوم فى الوقت المعلوم.

قوله جل ذكره : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ

__________________

(١) الاستقلال بالله الاكتفاء به وعدم النظر إلى النفس أو الأغيار.

(٢) التقاضي على الغيب معناه النظر إلى ما يأتى من الغيب بعين التقليل أو التكثير ، البطء أو السرعة ..

ففى ذلك إقحام لحظوظ النفس فى حقوق الحق.

١١٣

فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠))

حملت العزّة فرعون على تقحم البحر على إثرهم ، فلمّا تحقّق الهلاك حملته ضرورة الحيلة على الاستعاذة ، فلم ينفعه ذلك لفوات وقت الاختيار.

ويقال لما شهد صولة التقدير أفاق من سكر الغلطة (١) ، لكن : «بعد شهود البأس لا ينفع التخاشع والابتئاس».

قوله جل ذكره : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١))

... أبعد طول الإمهال ، والإصرار على ذميم الأفعال ، والرّكض فى ميدان الاغترار ، وانقضاء وقت الاعتذار؟! هيهات! لقد استوجبت أن تردّ فى وجهك ، فلا لعذرك قبول ، ولا لك إلى ما ترومه وصول.

قوله جل ذكره : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢))

لنشهرنّ تعذيبك ، ونظهرنّ ـ لمن استبصر ـ تأديبك ، لتكون لمن خلفك عبرة ، وتزداد حين أفقت أسفا وحسرة.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ

__________________

(١) تصح أن تكون كذلك ، وتصح أن تكون (الغلظة) بالظاء ، وهى قسوة القلب من الكفر والعناد ، ولا نستبعد أيضا أن تكون : أفاق من سكر (الغفلة).

١١٤

يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣))

أذللنا لهم الأيام ، وأكثرنا لديهم الإنعام ، وأكرمنا لهم المقام ، وأتحنا لهم فنون الحسنات ، وأدمنا لهم جميع الخيرات ... فلمّا قابلوا النعمة بالكفران ، وأصرّوا على البغي والعدوان أذقناهم سوء العذاب ، وسددنا عليهم أبواب ما فتحنا لهم من التكريم والإيجاب ، وذلك جزاء من حاد عن طريق الوفاق ، وجنح إلى جانب الشّقاق.

قوله جل ذكره : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤))

ما شكّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما عليه أنزل ، ولا عن أحد منهم ساءل ، وإنما هذا الخطاب على جهة التهويل ، والمقصود منه تنبيه القوم على ملازمة نهج السبيل.

ويقال صفة أهل الخصوص ملاحظة أنفسهم وأحوالهم بعين الاستصغار.

ويقال فإن تنزّلت منزلة أهل الأدب فى ترك الملاحظات فسل عمّن أرسلنا قبلك فهل بلّغنا أحدا منزلتك؟ وهل خصصنا أحدا بمثل تخصيصك؟

قوله جل ذكره : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥))

ما كان منهيا عنه ، وكان قبيحا فبالشرع كان قبيحا ، فلا بد من ورود الأمر به حتى تكون منه طاعة وعبادة. وإنما لم يجز فى صفته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ التكذيب بآيات الله ؛ لأنه نهى عنه لا لكونه قبيحا بالعقل (١) حتى يقال كيف نهى عنه وكان ذلك بعيدا منه؟

__________________

(١) يغمز القشيري هنا بقول المعتزلة : إن القبيح ما رآه العقل قبيحا والحسن ما رآه العقل حسنا ، ويرى القشيري التعويل على الشرع فى هذا الخصوص ـ كما هو واضح من إشارته.

١١٥

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ)

فالأعداء حقّت عليهم كلمة بالعقاب ، والأولياء حقت عليهم كلمة بالثواب ؛ فالكلمة أزليّة ، والأحكام سابقة ، والأفعال فى المستأنف على ممر الأوقات على موجب القضية لاحقة ، فالذين نصيبهم من القسمة الشقوة لا يؤمنون وإن شاهدوا كل دلالة ، وعاينوا كل معجزة.

قوله جل ذكره : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨))

قوم يونس تداركتهم الرحمة الأزلية فيما أجرى عليهم من توفيق التضرع ، فكشف عنهم العذاب ، وصرف عنهم ما أظلّ عليهم من العقوبة بعد ما عاينوا من تلك الأبواب ؛ فبرحمته وصلوا إلى تضرعهم ، لا بتضرعهم وصلوا إلى رحمته (١).

قوله جل ذكره : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩))

كيف يتعصى عليه سبحانه مراد ـ والذي يبقى شىء عن مراده ساه أو مغلوب؟ والذي يستحق جلال العزّة لا يفوته مطلوب.

قوله جل ذكره : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠))

__________________

(١) أي أن عمل الإنسان لا يكفى وحده للوصول إلا إذا ارتبط بتوفيق الله وفضله.

١١٦

لا يمكن حمل (١) الإذن فى هذه الآية إلا على معنى المشيئة ؛ لأنه للكافة بالإيمان ، والذي هو مأمور بالشيء لا يقال إنه غير مأذون فيه. ولا يجوز حمل هذه الآية على معنى أنه لا يؤمن أحد إلا إذا ألجأه الحقّ إلى الإيمان واضطره ـ لأنّ موجب ذلك ألا يكون أحد فى العالم مؤمنا بالاختبار ، وذلك خطأ ، فدلّ على أنه أراد به إلا أن يشاء الله أن يؤمن هو طوعا. ولا يجوز بمقتضى هذا أنه يريد من أحد أن يؤمن طوعا ثم لا يؤمن ؛ لأنه يبطل فائدة الآية ، فصحّ قول أهل السّنّة بأنّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن (٢).

قوله جل ذكره : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١))

الأدلة ـ وإن كانت ظاهرة ـ فما تغنى إذا كانت البصائر مسدودة ، كما أن الشموس ـ وإن كانت طالعة ـ فما تغنى إذا كانت الأبصار عن الإدراك بالعمى مردودة ، كما قيل :

وما انتفاع أخى الدنيا بمقلته

إذا استوت عنده الأنوار والظّلم؟

قوله جل ذكره : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢))

تمنّي ألطاف أنوار الحقيقة تعنّ فى تسويل ، واستناد إلى غير تحصيل ، وتماد فى تضليل.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣))

حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض فقوله تعالى : (عَلَيْنا) هاهنا معناها «منا» ،

__________________

(١) وردت (حول) وهى خطا فى النسخ.

(٢) هذا نموذج طيب لموقف القشيري متكلما سنيا ـ بالنسبة لقضية اختيار الإنسان.

١١٧

فلا شىء يجب على الله لكونه إلها ملكا ، فيجب الشيء من الله ـ لصدقه ـ ولا يجب عليه ـ لعزّته (١).

وكما لا يجوز أن يدخل نبى من الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ فى النار لا يجوز أن يخلّد واحد من المؤمنين فى النار لأنه أخبر أنه ينّجى الرسل والمؤمنين جميعا.

قوله جل ذكره : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤))

إن كنتم فى غطاء الرّيب فأنا فى ضياء من الغيب ، إن كنتم فى ظلمة الجهل فأنا فى شموس الوصل ، إن كنتم فى سدفة الضّلالة فأنا فى خلعة الرسالة وعلى أنوار الدلالة.

ويقال قد تميزنا على مفرق الطريق : فأنتم وقعتم فى وهدة العوج ، وأنا ثابت على سواء (٢) النّهج.

قوله جل ذكره : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥))

أي أخلص قلبك للدّين ، وجرّد قلبك عن إثبات كلّ ما لحقه قهر التكوين ، وكن مائلا عن الزيغ والبدع ، داخلا فى جملة من أخلص فى الحقيقة.

قوله جل ذكره : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦))

__________________

(١) تأمل هذا التخريج حتى ينسجم مذهبه الكلامى مع ظاهر النص القرآنى.

(٢) وردت (سوء) وهى خطأ فى النسخ.

١١٨

لا تعبد ما لا تنفعك عبادته ولا تضرّك عبادته ، وتلك صفة كل ما يعبد من دون الله. واستعانة الخلق بالخلق تمحيق للوقت بلا طائل ؛ فمن لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا كيف يستعين به من هو فى مثل حاله؟ وإذا انضاف الضعيف إلى الضعيف ازداد الضعف.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧))

كما تفرّد بإبداع الضرّ واختراعه فلا شريك يعضّده .. كذلك توحّد بكشف الضرّ وصرفه فلا نصير ينجده.

ويقال هوّن على المؤمن الضرّ بقوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) حيث أضافه إلى نفسه ، والحنظل يستلذّ من كفّ من تحبه.

وفرّق بين الضرّ والخير بإضافة الضرّ إليه فقال : وإن يمسسك الله بضرّ ، ولم يقل : وإن يردك بضر ـ وإن كان ذلك الضرّ صادرا عن إرادته ـ وفى ذلك من حيث اللفظ دقّة.

ويقال : عذب الضرّ حيث كان نفعه ؛ فلمّا أوجب مقاساة الضّرّ من الحرب أبدل مكانه السرور والطّرب.

قوله جل ذكره : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨))

من استبصر ربح رشد نفسه ، ومن ضلّ فقد زاغ عن قصده ؛ فهذا بلاء اكتسب ، وذلك ضياء وشفاء اجتلب.

١١٩

قوله جل ذكره : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))

قف عند جريان أحكامنا ، وانسلخ عن مرادك بالكلية ، ليجرى عليك ما يريد ، والله أعلم بالصواب.

السورة التي يذكر فيها هود عليه‌السلام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هذه كلمة استولت على عقول قوم فبصّرتها ، وعلى قلوب آخرين فجّردتها ، فالتى بصّرتها فبنور برهانه ، والتي جرّدتها فبقهر سلطانه .. فعالم سلك سبيل بحثه واستدلاله فسكن لمّا طلعت نجوم عقله تحت ظلال إقباله ، وعارف تعرّض إلى وصاله فطاح لمّا لاحت لمعة ممن تقدّس بالإعلام باستحقاق جلاله.

قوله جل ذكره : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١))

الألف إشارة إلى انفراده بالربوبية.

واللام إشارة إلى لطفه بأهل التوحيد.

والراء إشارة إلى رحمته بكافة البريّة.

وهى فى معنى القسم : أي أقسم بانفرادى بالربوبية ولطفى بمن عرفنى بالأحدية ، ورحمتى على كافة البرية ـ إنّ هذا الكتاب أحكمت آياته.

ومعنى (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) : أي حفظت عن التبديل والتغيير ، ثم فصّلت ببيان نعوت الحقّ فيما يتصف به من جلال الصمدية ، وتعبّد به الخلق من أحكام العبودية ، ثم مالاح لقلوب الموحّدين والمحبين من لطائف القربة ، فى عاجلهم البشرى بما وعدهم به من عزيز لقائه فى آجلهم ، وخصائصهم التي امتازوا بها عمّن سواهم.

١٢٠