لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

«... أهل الجنة طابت لهم حدائقها ، وأهل النار أحاط بهم سرادقها ، والحقّ ـ سبحانه ـ منّزه عن أن تعود إليه من تعذيب هؤلاء عائدة ، ولا من تنعيم هؤلاء فائدة .. جلّت الأحدية ، وتقدّست الصمدية.

ومن وقعت عليه غبرة فى طريقنا لم تقع عليه قترة فراقنا ، ومن خطا خطوة إلينا وجد حظوة لدنيا ، ومن نقل قدمه نحونا غفرنا له ما قدّمه ، ومن رفع إلينا يدا أجز لنا له رغدا ، ومن التجأ إلى سدّة كرمنا آويناه فى ظلّ نعمنا ، ومن شكافينا غليلا ، مهّدنا له فى دار فضلنا مقيلا»

عبد الكريم القشيري

عند

سورة الكهف

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

ربّ يسّر

تبرّأنا ممّا منّا من الحول والمنّة ، وتحقّقنا بما منك من الطول والمنّة ، فلا تجعلنا عرضة لسهام أحكامك ، وارحمنا بلطفك وإكرامك ، ونجّنا ممّن غضبت عليهم فأذللتهم ، وبكىّ فراقك وسمتهم.

عبد الكريم القشيري

عند

سورة اليونس

٤

السورة التي تذكر فيها التوبة

جرّد الله ـ سبحانه ـ هذه السورة عن ذكر (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ليعلم أنه يخصّ من يشاء وما يشاء بما يشاء ، ويفرد من يشاء وما يشاء بما يشاء ، ليس لصنعه سبب ، وليس له فى أفعاله غرض ولا أرب ، واتّضح للكافة أن هذه الآية أثبتت فى الكتاب لأنها منزّلة ، وبالأمر هنا لك محصّلة.

ومن قال : إنه لم يذكر التسمية فى هذه السورة لأنها مفتتحة بالبراءة عن الكفار فهو ـ وإن كان وجها فى الإشارة ـ فضعيف ، وفى التحقيق كالبعيد ؛ لأنه افتتح سورا من القرآن بذكر الكفار مثل : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١) وقوله : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (٢) وقوله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (٣) وقوله : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (٤) ...

هذه كلها مفاتح للّسور ... وبسم الله الرحمن الرحيم مثبتة فى أوائلها ـ وإن كانت متضمّنة ذكر الكفار. على أنه يحتمل أن يقال إنها وإن كانت فى ذكر الكفار فليس ذكر البراءة فيها صريحا وإن تضمّنته تلويحا ، وهذه السورة أو لها ذكر البراءة منهم قطعا ، فلم تصدّر بذكر الرحمة.

ويقال إذا كان تجرّد السورة عن هذه الآية يشير إلى أنها لذكر الفراق فبالحرىّ أن يخشى أنّ تجرد الصلاة عنها يمنع عن كمال الوصلة والاستحقاق.

قوله جل ذكره : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١))

__________________

(١) آية ١ سورة البينة.

(٢) آية ١ سورة الهمزة.

(٣) آية ١ سورة المسد

(٤) آية ١ سورة الكافرون

٥

الفراق شديد ، وأشدّه ألا يعقبه وصال ، وفراق المشركين كذلك لأنه قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١)

ويقال من منى بفراق أحبائه فبئست صحبته. وقد كان بين الرسول عليه‌السلام وبين أولئك المشركين عهد ، ولا شكّ أنهم كانوا قد وطّنوا نفوسهم عليه ، فنزل الخبر من الغيب بغتة ، وأتاهم الإعلام بالفرقة فجأة ، فقال : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) ، أي هذه براءة من الله ورسوله ، كما قيل :

فبتّ بخير ـ والدّنى مطمئنة

وأصبحت يوما والزمان تقلّبا

وما أشدّ الفرقة ـ لا سيّما إذا كانت بغتة على غير ترقّب ـ قال تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) (٢) وأنشدوا :

وكان سراج الوصل أزهر بيننا

فهبّت به ريح من البين فانطفا

قوله جل ذكره : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢))

إن قطع عنهم الوصلة فقد ضرب لهم مدة على وجه المهلة ، فأمّنهم فى الحال ليتأهبوا لتحمّل مقاساة البراءة فيما يستقبلونه فى المآل.

والإشارة فيه : أنهم إن أقلعوا فى هذه المهلة عن الغىّ والضلال وجدوا فى المآل ما فقدوا من الوصال ، وإن أبوا إلا التمادي فى ترك الخدمة والحرمة انقطع ما بينه وبينهم من العصمة.

ثم قال : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) والإشارة فيه : إن أصررتم على قبيح آثاركم سعيتم إلى هلاككم بقدمكم. وندمتم فى عاجلكم على سعيكم ، وحصلتم فى آجلكم على خسرانكم ؛ وما خسرتم إلا فى صفقتكم ، وما ضرّ جزمكم سواكم وأنشدوا :

تبدّلت وتبدّلنا وا حسرتا

من ابتغى عوضا لليلى فلم يجد

__________________

(١) آية ٤٨ سورة النساء

(٢) آية ٣٩ سورة مريم

٦

قوله جل ذكره : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ)

أي ليكن إعلام من الله ورسوله للناس بنقض عهدهم ، وإعلان عنهم بأنهم ما انقطعوا عن مألوفهم من الإهمال (١) ومعهودهم ، وقد برح الخفاء من اليوم بأنهم ليس لهم ولاء ، ولم يكن منهم بما عقدوا وفاء ، فليعلم الكافة أنهم أعداء ، وأنشدوا :

أشاعوا لنا فى الحىّ أشنع قصة

وكانوا لنا سلما فصاروا لنا حربا

قوله جل ذكره : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ).

من رأى من الأغيار ـ شظية من الآثار ، ولم ير حصولها بتصريف الأقدار فقد أشرك ـ فى التحقيق ـ واستوجب هذه البراءة.

ومن لاحظ الخلق تصنّعا ، أو طالع نفسه إعجابا فقد جعل ما لله لغير الله ، وظنّ ما لله لغير الله ، فهو على خطر من الشّرك بالله.

قوله جل ذكره : (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

إن عادوا إلى الباب لم يقطع رجاءهم ، ومدّ إلى حدّ وضوح العذر إرجاءهم. وبيّن أنهم إن أصرّوا على عتوّهم فإلى مالا يطيقون من العذاب منقلبهم ، وفى النار مثواهم.

قوله جل ذكره : (إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)) :

__________________

(١) وردت (الإمهال) والصواب أن تكون (الإهمال) لأن الإمهال لا يكون إلا من الحق ، ومألوفهم ومعهودهم (الإهمال).

٧

من وفّى الحقّ فى عقده فزده على حفظ عهده ؛ إذ لا يستوى من وفّاه ومن جفاه.

قوله جل ذكره : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ)

يريد إذا انسلخ الحرم فاقتلوا من لا عهد له من المشركين ، فإنّهم ـ وإن لم يكن لهم عهد وكانوا حرما ـ جعل لهم الأمان فى مدة هذه المهلة ، (....) (١) فكرتم أن يأمر بترك قتال من أبى كيف يرضى بقطع وصال من أتى؟!.

قوله جل ذكره : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ).

أمرهم بمعالجة جميع أنواع القتال مع الأعداء.

وأعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك ؛ فسبيل العهد فى مباشرة الجهاد الأكبر مع النّفس بالتضييق عليها بالمبالغة فى جميع أنواع الرياضات ، واستفراغ الوسع (٢) فى القيام بصدق المعاملات. ومن تلك الجملة ألا ينزل بساحات الرّخص والتأويلات ، ويأخذ بالأشقّ فى جميع الحالات

قوله جل ذكره : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

حقيقة التوبة الرجوع بالكلية من غير أن تترك بقية. فإذا أسلم الكافر بعد شركه ، ولم يقصّر فى واجب عليه من قسمى فعله وتركه ، حصل الإذن فى تخلية سبيله وفكّه :

إن وجدنا لما ادّعيت شهودا

لم نجد عندنا لحقّ حدودا

وكذلك النّفس إذا انخنست ، وآثار البشرية إذا اندرست ، فلا حرج ـ فى التحقيق ـ فى المعاملات فى أوان مراعاة الخطرات مع الله عند حصول المكاشفات. والجلوس مع الله

__________________

(١) مشتبهة

(٢) وردت (الواسع) والصواب أن تكون الوسع.

٨

أولى من القيام بباب الله تعالى ، قال تعالى فيما ورد به الخبر : «أنا جليس من ذكرنى» (١).

قوله جل ذكره : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦))

إذا استجار المشرك ـ اليوم ـ فلا يردّ حتى يسمع كلام الله ، فإذا استجار المؤمن طول عمره من الفراق ـ متى يمنع من سماع كلام الله؟ ومتى يكون فى زمرة من يقال لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (٢).

وإذ قال ـ اليوم ـ عن أعدائه : (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) فإن لم يؤمن بعد سماع كلامه نهى عن تعرضه حيث قال : (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) ـ أترى أنه لا يؤمّن أولياءه ـ غدا ـ من فراقه ، وقد عاشوا اليوم على إيمانه ووفائه؟! كلا .. إنه يمتحنهم بذلك ، قال تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (٣).

ثم قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) فإذا كان هذا برّه بمن لا يعلم فكيف برّه بمن يعلم؟

ومتى نضيّع من ينيخ ببابنا

والمعرضون لهم نعيم وافر؟!

قوله جل ذكره : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧))

__________________

(١) جاء فى الرسالة ص ١١١ قال محمد الفراء سمعت الشبلي يقول : (أليس الله تعالى يقول : أنا جليس من ذكرنى؟ ما الذي استفدتم من مجالسة الحق؟).

(٢) آية ١٠٨ سورة المؤمنون.

(٣) آية ١٠٣ سورة الأنبياء.

٩

كيف يكون المفلس من عرفانه كالمخلص فى إيمانه؟

وكيف يكون المحجوب عن شهوده كالمستهلك فى وجوده؟

كيف يكون من يقول «أنا» كمن يقول «أنت»؟ وأنشدوا :

وأحبابنا شتان : واف وناقص

ولا يستوى قطّ محبّ وباغض

قوله : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) ، إن تمسّكوا بحبل (١) وفائنا أحللناهم ولاءنا ، وإن زاغوا عن عهدنا أبليناهم بصدّنا ، ثم لم يربحوا فى بعدنا.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) : المتّقى الذي يستحق محبة من يتّقى ؛ وذلك حين يتقى محبّة نفسه ، وذلك بترك حظه والقيام بحقّ ربّه.

قوله جل ذكره : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨))

وصفهم بلؤم الطبع فقال : كيف يكونون محافظين على عهودهم مع ما أضمروه لكم من سوء الرضاء؟ فلو ظفروا بكم واستولوا عليكم لم يراعوا لكم حرمة ، ولم يحفظوا لكم قرابة أو ذمّة.

وفى هذا إشارة إلى أنّ الكريم إذا ظفر غفر ، وإذا قدر ما غدر ، فيما أسرّ وجهر.

قوله (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) أي لا عجب من طبعهم ؛ فإنهم فى حقّنا كذلك يفعلون : يظهرون لباس الإيمان ويضمرون الكفر. وإنهم لذلك يعيشون معكم فى زىّ الوفاق ، ويستبطنون عين الشّقاق وسوء النّفاق.

قوله جل ذكره : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا

__________________

(١) وردت (لجبل) وهى خطأ فى النسخ.

١٠

عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩))

من رضى من الله بغير الله أرخص فى صفقته ثم إنه خسر فى تجارته ؛ فلا له ـ وهو عن الله ـ أثر استمتاع ، ولا له ـ فى دونه سبحانه ـ اقتناع ؛ بقي عن الله ، ولم يستمتع عن الله. وهذا هو الخسران المبين.

قوله جل ذكره : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠))

كيف يراعى حقّ المؤمنين من لا يراعى حقّ الله فى الله؟ أخلاقهم تشابهت فى ترك الحرمة.

قوله جل ذكره : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١))

معناه : وإن قبلناهم وصلحوا لولائنا فلحمة النّسب فى الدّين بينكم وبينهم وشيجة (١) ، وإلا فليكن الأجانب منا على جانب منكم.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢))

إذا جنحوا إلى الغدر ، ونكثوا ما قدّموه من ضمان الوفاء بالعهد ، وبسطوا ألسنتهم فيكم باللوم فاقصدوا من رحى الفتنة عليه تدور ، وغصن الشّرّ من أصله يتشعّب ، وهم سادة الكفار وقادتهم.

وحقّ القتال إعداد القوة جهرا ، والتبرّى عن الحول والقوة سرّا.

قوله جل ذكره : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ

__________________

(١) أي مشتبكة متصلة.

١١

وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣))

حرّضهم على القتال ـ على ملاحظة أمر الله بذلك ـ لا على مقتضى الانطواء على الحقد لأحد ، فإنّ من غضب لنفسه فمذموم الوصف ، ومن غضب لله فإن نصر الله قريب.

وقال (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) : فالخشية من الله بشير الوصلة ، والخشية من غير الله نذير الفرقة. وحقيقة الخشية نفض السّرّ عن ارتكاب الزّجر ومخالفة الأمر.

قوله جل ذكره : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥))

هوّن عليهم كلفة المخاطرة بالمهجة بما وعدهم من الظفر والنصرة ، فإنّ شهود خزى العدوّ مما يهوّن عليهم مقاساة السوء. والظّفر بالأرب يذهب تعب الطّلب.

وشفاء صدور المؤمنين على حسب مراتبهم فى المقام والدرجات ؛ فمنهم من شفاء صدره فى قهر عدوّه ، ومنهم من شفاء صدره فى نيل مرجوّه. ومنهم من شفاء صدره فى الظّفر بمطلوبه ، ومنهم من شفاء صدره فى لقاء محبوبه. ومنهم من شفاء صدره فى درك مقصوده ، ومنهم من شفاء صدره فى البقاء بمعبوده.

وكذلك ذهاب غيظ قلوبهم تختلف أسبابه ، وتتنوّع أبوابه ، وفيما ذكرنا تلويح لما تركنا (١).

(وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) حتى يكون استقلاله بمحوّل الأحوال.

قوله جل ذكره : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ

__________________

(١) توضح هذه العبارة ميل القشيري للإقلال خشية الملال ـ كما ذكر فى مقدمة كتابه.

١٢

اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦))

من ظنّ أنه يقنع منه بالدعوى ـ دون التحقق بالمعنى ـ فهو على غلط فى حسبانه. والذي طالبهم به من حيث الأمر صدق المجاهدة فى الله ، وترك الركون إلى غير الله ، والتباعد عن مساكنة أعداء الله .. ثقة بالله ، واكتفاء بالله ، وتبرّيا من غير الله.

وهذا الذي أمرهم به ألا يتخذوا من دون المؤمنين وليجة فالمعنى فيه : ألا يفشوا فى الكفار أسرار المؤمنين.

وأول من يهجره المسلم ـ لئلا تطّلع على الأسرار ـ نفسه التي هى أعدى عدوّه ، وفى هذا المعنى قال قائلهم :

كتابى إليكم بعد موتى بليلة

ولم أدر أنّى بعد موتى أكتب

ويقال : إن أبا يزيد (١) ـ فيما أخبر عنه ـ أنه قال للحقّ فى بعض أوقات مكاشفاته : كيف أطلبك؟ فقال له : فارق نفسك.

ويقال إن ذلك لا يتمّ ، بل لا تحصل منه شظيّة إلا بكىّ عروق الأطماع والمطالبات لما فى الدنيا ولما فى العقبى ولما فى رؤية الحال والمقام ـ ولو بذرّة. والحرية عزيزة (٢) .. قال قائلهم :

أتمنى على الزمان محالا

أن ترى مقلتاى طلعة حرّ

قوله جل ذكره : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ

__________________

(١) هو أبو يزيد البسطامي كان جده (سروشان) مجوسيا وأسلم ، وهو أحد إخوة ثلاثة كانوا جميعا زهادا وأصحاب أحوال ، مات سنة ٢٦١ ، وقيل سنة ٢٣٤ (طبقات السلمى) و (رسالة القشيري).

(٢) (والحرية عزيزة) هنا معناها نادرة الوجود.

١٣

بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧))

(١) عمارة المساجد بإقامة العبادة فيها ، والعبادة لا تقبل إلا بالإخلاص ، والمشرك فاقد الإخلاص ، وشهادتهم على أنفسهم بالكفر دعواهم حصول بعض الحدثان بتأثير الأسباب ، فمن أثبت فى عقده جواز ذرّة فى العالم من غير تقديره ـ سبحانه ـ شارك أرباب الشّرك فى المعنى الذي لزمتهم به هذه السّمة.

قوله جل ذكره : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨))

لا تكون عمارة المساجد إلا بتخريب أوطان البشرية ، فالعابد يعمّرها بتخريب أوطان شهوته ، والزاهد يعمرها بتخريب أوطان منيته ، والعارف يعمرها بتخريب أوطان علاقته ، والموحّد يعمرها بتخريب أوطان ملاحظته ومساكنته. وكلّ واحد منهم واقف فى صفته ؛ فلصاحب كلّ موقف منهم وصف مخصوص.

وكذلك رتبتهم فى الإيمان مختلفة ؛ فإيمان من حيث البرهان ، وإيمان من حيث البيان ، وإيمان من حيث العيان ، وشتان ما هم! قال قائلهم :

لا تعرضنّ بذكرنا فى ذكرهم

ليس الصحيح ـ إذا مشى ـ كالمقعد

قوله جل ذكره : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩))

__________________

(١) أخطأ الناسخ إذ أنهى الآية : (هم فيها خالدون)

١٤

ليس من قام بمعاملة ظاهره كمن استقام فى مواصلة سرائره ، ولا من اقتبس من سراج علومه كمن استبصر بشموس معارفه ، ولا من نصب بالباب من حيث الخدمة كمن مكّن من البساط من حيث القربة (١) ، وليس نعت من تكلّف نفاقا كوصف من تحقّق وفاقا ، بينهما بون بعيد!

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

(آمَنُوا) أي شاهدوا بأنوار بصائرهم حتى لم يبق فى سماء يقينهم سحاب ريب ، ولا فى هواء (٢) معارفهم ضباب شك.

(وَهاجَرُوا) : فلم يعرّجوا فى أوطان التفرقة ؛ فتمحّضت (٣) حركاتهم وسكناتهم بالله لله.

(وَجاهَدُوا) : لا على ملاحظة عوض أو مطالعة عوض ؛ فلم يدّخروا لأنفسهم ـ من ميسورهم ـ شيئا إلا آثروا الحقّ عليه ؛ فظفروا بالنعمة ؛ فى قيامهم بالحقّ بعد فنائهم عن الخلق.

قوله جل ذكره : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢))

__________________

(١) يتدرج الدخول عليه ـ حسبما نعرف من أسلوب القشيري ـ من الباب إلى البساط إلى العقوة أو الساحة ثم السدة.

(٢) وردت (هؤلاء) وقد صوبناها (هواء) لتلائم (سماء) و (سحاب) و (ضباب) فضلا عن أنها أقرب فى الكتابة إليها.

(٣) تمحضت أي صارت خالصة لله

١٥

البشارة من الله تعالى على قسمين : بشارة بواسطة الملك ، عند التوفى :

(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ) (١).

وبشارة بلا واسطة بقول الملك ، إذ يبشّرهم ربّهم برحمة منه ، وذلك عند الحساب. يبشرهم بلا واسطة بحسن التولّى ؛ فعاجل بشارتهم بنعمة الله ، وآجل بشارتهم برحمة الله ، وشتان ما هما!

ويقال البشارة بالنعمة والجنة لأصحاب الإحسان ، والبشارة بالرحمة لأرباب العصيان ، فأصحاب الإحسان صلح أمرهم للشهرة فأظهر أمرهم للملك حتى بشّروهم جهرا ، وأهل العصيان صلح حالهم للستر فتولّى بشارتهم ـ من غير واسطة ـ سرّا.

ويقال إن كانت للمطيع بشارة بالاختصاص فإنّ للعاصى بشارة بالخلاص. وإن كان للمطيع بشارة بالدرجات فإن للعاصى بشارة بالنجاة.

ويقال إنّ القلوب مجبولة على محبة من يبشّر بالخير ؛ فأراد الحقّ ـ سبحانه ـ أن تكون محبة العبد له ـ سبحانه ـ على الخصوص ؛ فتولّى بشارته بعزيز خطابه من غير واسطة ، فقال : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) وفى معناه أنشدوا :

لو لا تمتّع مقلتى بلقائه

لوهبتها بشرى بقرب إيابه

ويقال بشّر العاصي بالرحمة ، والمطيع بالرضوان ، ثم الكافة بالجنة ؛ فقدّم العاصي فى الذكر ، وقدّم المطيع بالبرّ ، فالذّكر قوله وهو قديم والبرّ طوله وهو عميم. وقوله الذي لم يزل أعزّ من طوله الذي حصل. قدّم العصاة على المطيعين لأنّ ضعف الضعيف أولى بالرّفق من القوى.

ويقال (قدّم أمر العاصي بالرحمة حتى إذا كان يوم العرض وحضور الجمع لا يفتضح العاصي) (٢).

ويقال «يبشرهم ربّهم برحمته» يعرّفهم أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تلك الدرجات

__________________

(١) آية ٣٠ سورة فصلت.

(٢) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من النص حسب العلامات المميزة ، ولنتأمل مقدار انفساح صدور الصوفية بالنسبة للعصاة ، وذلك نتيجة امتلاء قلوبهم بالأمل في المحبوب.

١٦

بسعيهم وطاعتهم ، ولكن برحمته ـ سبحانه ـ وصلوا إلى نعمته ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما منكم من أحد ينجّيه عمله. قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدنى الله برحمته» (١).

قوله : (لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) : قوم نعيمهم عطاء ربّهم على وصف التمام ، وقوم نعيمهم لقاء ربهم على نعت الدوام ؛ فالعابدون لهم تمام عطائه ، والعارفون لهم دوام لقائه.

ثم قال : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) والكناية فى قوله (فِيها) كما ترجع إلى الجنة تصلح أن ترجع إلى الحالة ، سيما وقد ذكر الأجر بعدها ؛ فكما لا يقطع عطاءه عنهم فى الجنة لا يمنع عنهم لقاءه متى شاءوا فى الجنة ، قال تعالى : (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) (٢) أي لا مقطوعة عنهم نعمته ، ولا ممنوعة منهم رؤيته.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣))

من لم يصلح بطاعته لربه لا تستخلصه لصحبة نفسك.

ويقال من آثر على الله شيئا يبارك له فيه ؛ فيبقى بذلك عن الله ، ثم لا يبقى ذلك معه ، فإن استبقاه بجهده ـ كيف يستبقى حياته إذا أذن الله فى ذهاب أجله؟ وفى معناه أنشدوا :

من لم تزل نعمته قبله

زال مع النعمة بالموت

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ

__________________

(١) الشيخان عن عائشة مرفوعا : سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة عمله ، قالوا ... إلخ

(٢) آية ٣٣ سورة الواقعة

١٧

إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤))

ليس هذا تخييرا لهم ، ولا إذنا فى إيثار الحظوظ على الحقوق ، ولكنه غاية التحذير والزّجر عن إيثار شىء من الحظوظ على الدّين ، ومرور الأيام حكم عدل يكشف فى العاقبة عن أسرار التقدير ، قال قائلهم :

سوف ترى إذا انجلى الغبار

أفرس تحتك أم حمار؟

ويقال علامة الصدق فى التوحيد قطع العلاقات ، ومفارقة العادات ، وهجران المعهودات والاكتفاء بالله فى دوام الحالات.

ويقال من كسدت سوق دينه كسدت أسواق حظوظه ، وما لم تخل منك منازل الحظوظ لا تعمر بك مشاهد الحقوق.

قوله جل ذكره : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ)

النصرة من الله تعالى فى شهود القدرة ، والمنصور من عصمه الله عزوجل عن التوهّم والحسبان ، ولم يكله إلى تدبيره فى الأمور ، وأثبته الحقّ ـ سبحانه ـ فى مقام الافتقار متبريا عن الحول والمنّة ، متحقّقا بشهود تصاريف القدرة ، يأخذ الحقّ ـ سبحانه ـ بيده فيخرجه عن مهواة تدبيره ، ويوقفه على وصف التصبّر لقضاء تقديره.

قوله جل ذكره : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ).

يعنى نصركم يوم حنين حين تفرّق أكثر الأصحاب ، وافترت أنياب الكرّة عن نقاب القهر فاضطربت القلوب ، وخانت القوى أصحابها ، ولم تغن عنكم كثرتكم ، فاستخلص الله أسراركم ـ عند صدق الرجوع إليه ـ بحسن السكينة النازلة عليكم ، فقلب الله الأمر على

١٨

الأعداء ، وخفقت رايات النصرة ، ووقعت الدائرة على الكفار ، وارتدّت الهزيمة عليهم فرجعوا صاغرين.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦))

السكينة ثلج القلب عند جريان حكم الربّ بنعت الطمأنينة ، وخمود آثار البشرية بالكلية ، والرضاء بالبادى من الغيب من غير معارضة اختيار.

ويقال السكينة القرار على بساط الشهود بشواهد الصحو ، والتأدب بإقامة صفات العبودية من غير لحوق مشقة ، وبلا تحرّك عرق لمعارضة حكم. والسكينة (١) المنزلة على (الْمُؤْمِنِينَ) خمودهم تحت جريان ما ورد من الغيب من غير كراهة بنوازع البشرية ، واختطاف الحقّ إياهم عنهم حتى لم تستفزهم رهية من مخلوق ؛ فسكنت عنهم كلّ إرادة واختيار.

(وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) من وفور اليقين وزوائد الاستبصار.

(وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالتطوح (٢) فى متاهات التفرقة ، والسقوط فى وهدة (٣) ضيق التدبير ، ومحنة الغفلة ، والغيبة عن شهود التقدير.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧))

ردهم من الجهل إلى حقائق العلم ، ثم نقلهم من تلك المنازل إلى مشاهد اليقين ، ثم رقّاهم عن تلك الجملة بما لقّاهم به من عين الجمع.

__________________

(١) وردت (والسكين) وهى خطأ فى النسخ.

(٢) وردت (والتطوع) بالعين وهى خطأ في النسخ.

(٣) جاءت الواو فوق فاء (فى) واكتملت بعدها خطأ : (هذه) ، والصواب ان تأخذ الواو مكانها بعد (في) وتصبح الكلمة (وهدة)

١٩

قوله جل ذكره (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا)

فقدوا طهارة الأسرار بماء التوحيد ؛ فبقوا فى قذورات الظنون والأوهام ، فمنعوا قربان المساجد التي هى مشاهد القرب. وأمّا المؤمنون فطهرهم عن التدنّس بشهود الأغيار ، فطالعوا الحقّ فردا فيما يبيّنه من الأمر ويمضيه من الحكم.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

توقّع الأرزاق من الأسباب من قضايا انغلاق باب التوحيد ، فمن لم يفرد معبوده بالقسمة بقي فى فقر مسرمد.

ويقال من أناخ بعقوة كرم مولاه ، واستمطر سحاب جوده أغناه عن كل سبب ، وكفاه كلّ تعب ، وقضى له كلّ سؤل وأرب ، وأعطاه من غير طلب.

قوله جل ذكره : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩))

من استوجب الهوان لا ينجيك من شرّه غير ما يستحقه من الإذلال على صغره ، ومن داهن عدوّه فبالحرىّ أن يلقى سوءه.

ومن أشدّ النّاس لك عداوة ، وأبعدهم عن الإيمان ـ نفسك المجبولة على الشرّ فلا تقلع إلّا بذبحها بمدية المجاهدات. وهى لا تؤمن بالتقدير ، ولا يزول شكها قط ، وكذلك تخلد إلى التدبير (١) ،

__________________

(١) أي تدبير الإنسان المناقض لتقدير الحق

٢٠