تفسير الخازن - ج ٣

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٣

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٤٦٤

بأنفاسهم وقربوا من الهلاك فبعث الله سبحانه وتعالى سحابة كالظلة فالتجؤوا إليها ، واجتمعوا تحتها يلتمسون الروح فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم جميعا (وَإِنَّهُما) يعني مدينة قوم لوط ومدينة أصحاب الأيكة (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) يعني طريق واضح مستبين لمن مر بهما ، وقيل : الضمير راجع إلى الأيكة ومدين لأن شعيبا كان مبعوثا إليهما وإنما سمي الطريق إماما لأنه يؤم ويتبع ، ولأن المسافر يأتمّ به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده. قوله عزوجل (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) قال المفسرون : الحجر اسم واد كان يسكنه ثمود وهو معروف بين المدينة النبوية والشام وآثاره موجودة باقية يمر عليها ركب الشام إلى الحجاز ، وأهل الحجاز إلى الشام وأراد بالمرسلين صالحا وحده ، وإنما ذكره بلفظ الجمع للتعظيم أو لأنهم كذبوه ، وكذبوا من قبله من الرسل.

(وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨))

(وَآتَيْناهُمْ آياتِنا) يعني الناقة وولدها والآيات التي كانت في الناقة خروجها من الصخرة ، وعظم جثتها وقرب ولادها وغزارة لبنها ، وإنما أضاف الآيات إليهم وإن كانت لصالح ، لأنه مرسل إليهم بهذه الآيات (فَكانُوا عَنْها) يعني عن الآيات (مُعْرِضِينَ) يعني تاركين لها غير ملتفتين إليها (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) خوفا من الخراب أو أن يقع عليهم الجبل أو السقف (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) يعني العذاب (مُصْبِحِينَ) يعني وقت الصبح (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) يعني من الشرك والأعمال الخبيثة (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجر قال : «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم ، إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي» قوله سبحانه وتعالى (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) يعني لإظهار الحق والعذاب ، وهو أن يثاب المؤمن المصدق ويعاقب الجاحد الكافر الكاذب (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) يعني : وإن القيامة لتأتي ليجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي فأعرض عنهم يا محمد واعف عنهم عفوا حسنا. واحتمل ما تلقى من أذى قومك وهذا الصفح والإعراض منسوخ بآية القتال ، وقيل فيه بعد لأن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن يظهر الخلق الحسن وأن يعاملهم بالعفو والصفح الخالي من الجزع والخوف (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) يعني أنه سبحانه وتعالى خلق خلقه ، وعلم ما هم فاعلوه وما يصلحهم. قوله عزوجل (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قال ابن الجوزي : سبب نزولها أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد ، فيها أنواع من البز والطيب والجواهر ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله فأنزل الله هذه الآية. وقال : قد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه السبع القوافل ويدل على صحة هذا قوله (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) الآية قال الحسن بن الفضل قلت وهذا القول ضعيف ، أو لا يصح لأن هذه السورة مكية ، بإجماع أهل التفسير وليس فيها من المدني شيء. ويهود قريظة والنضير ، كانوا بالمدينة وكيف يصح أن يقال إن سبع قوافل جاءت في يوم واحد ، فيها أموال عظيمة حتى تمناها المسلمون فأنزل الله هذه الآية ، وأخبرهم أن هذه السبع آيات هي خير من هذه السبع القوافل والله أعلم ، وفي المراد بالسبع المثاني أقوال أحدها

٦١

أنها فاتحة الكتاب ، وهذا قول عمر وعلي وابن مسعود وفي رواية عنه وابن عباس ، وفي رواية الأكثرين عنه وأبي هريرة والحسن ، وسعيد بن جبير وفي رواية عنه ومجاهد وعطاء وقتادة في آخرين. ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب ، والسبع المثاني» أخرجه أبو داود والترمذي (ق) عن أبي سعيد ابن المعلى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أوتيته» أخرجه البخاري. وفيه زيادة أما السبب في تسمية فاتحة الكتاب بالسبع المثاني ، فلأنها سبع آيات بإجماع أهل العلم واختلفوا في سبب تسميتها بالمثاني. فقال ابن عباس والحسن وقتادة : لأنها تثنى في الصلاة تقرأ في كل ركعة. وقيل : لأنها مقسومة بين العبد وبين الله نصفين : فنصفها الأول ثناء على الله. ونصفها الثاني : دعاء ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يقول الله تبارك وتعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» الحديث مذكور في فضل الفاتحة. وقيل سميت مثاني لأن كلماتها مثناة مثل قوله : «الرحمن الرحيم إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين» فكل هذه ألفاظ مثناة. وقال الحسن بن الفضل : لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة ومعها سبعون ألف ملك. وقال مجاهد : لأن الله سبحانه وتعالى استثناها وادخرها لهذه الأمة فلم يعطها لغيرهم. وقال أبو زيد البلخي : لأنها تثني أهل الشرك عن الشر من قول العرب ثنيت عناني. وقال ابن الزجاج : سميت فاتحة الكتاب مثاني لاشتمالها على الثناء على الله تعالى وهو حمد الله وتوحيده ، وملكه وإذا ثبت كون الفاتحة هي السبع المثاني دل ذلك على فضلها وشرفها وأنها من أفضل سور القرآن ، لأن إفرادها بالذكر في قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) مع أنها جزء من أجزاء القرآن وإحدى سوره لا بد. وأن يكون لاختصاصها بالشرف ، والفضيلة. القول الثاني في تفسير قوله سبعا من المثاني أنها السبع الطوال ، وهذا قول ابن عمر وابن مسعود في رواية عنه وابن عباس وفي رواية عنه وسعيد بن جبير وفي رواية عنه السبع الطوال هي سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف. واختلفوا في السابعة فقيل الأنفال مع براءة لأنهما كالسورة الواحدة ، ولهذا لم يكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم. وقيل السابعة هي سورة يونس ويدل على صحة هذا القول ما روي عن ثوبان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله سبحانه وتعالى أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني المائتين مكان الإنجيل وأعطاني مكان الزبور المثاني ، وفضلني ربي بالمفصل» أخرجه البغوي بإسناد الثعلبي ؛ قال ابن عباس : إنما سميت السبع الطوال مثاني لأن الفرائض والحدود ، والأمثال والخبر والعبر ثنيت فيها ، وأورد على هذا القول أن هذه السور الطوال غالبها مدنيات فكيف يمكن تفسير هذه الآية بها ، وهي مكية وأجيب عن هذا الإيراد بأن الله سبحانه وتعالى ، حكم في سابق علمه بإنزال هذه السورة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإذا كان الأمر كذلك صح أن تفسر هذه الآية بهذه السورة ، القول الثالث : أن السبع المثاني هي السور التي هي دون الطوال ، وفوق المفصل وهي المئين ، وحجة هذا القول الحديث المتقدم وأعطاني مكان الزبور المثاني ، والقول الرابع : أن السبع المثاني هي القرآن كله وهذا قول طاوس وحجة هذا القول أن الله سبحانه وتعالى قال «الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني» وسمي القرآن كله مثاني لأن الأخبار والقصص والأمثال ثنيت فيه فإن قلت : كيف يصح عطف القرآن في قوله «والقرآن العظيم» على قوله «سبعا من المثاني» وهل هو إلا عطف الشيء على نفسه؟ قلت : إذا عني بالسبع المثاني فاتحة الكتاب أو السبع الطوال فما وراءهن ينطلق عليه القرآن لأن القرآن اسم يقع على البعض كما يقع على الكل ألا ترى إلى قوله بما أوحينا إليك هذا القرآن يعني سورة يوسف عليه‌السلام. وإذا عنى بالسبع المثاني القرآن كله كان المعنى ولقد آتيناك سبعا من المثاني ، وهي القرآن العظيم وإنما سمي القرآن عظيما ، لأنه كلام الله ووحيه أنزله على خير خلقه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي لا تمدن عينيك يا محمد (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً) يعني أصنافا (مِنْهُمْ) يعني من

٦٢

الكفار متمنيا لها نهى الله عزوجل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرغبة في الدنيا ، ومزاحمة أهله عليها والمعنى أنك قد أوتيت القرآن العظيم الذي فيه غنى عن كل شيء ، فلا تشغل قلبك وسرك بالالتفات إلى الدنيا والرغبة فيها. روي أن سفيان بن عيينة تأول قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» يعني من لم يستغن بالقرآن فتأول هذه الآية. قيل : إنما يكون مادّا عينيه إلى الشيء ، إذا أدام النظر إليه مستحسنا له فيحصل من ذلك تمني ذلك الشيء المستحسن ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينظر إلى شيء من متاع الدنيا ولا يلتفت إليه ولا يستحسنه (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) يعني ولا تغتم على ما فاتك من مشاركتهم في الدنيا وقيل ولا تحزن على إيمانهم إذا لم يؤمنوا ففيه النهي عن الالتفات إلى أموال الكفار ، والالتفات إليهم أيضا وروى البغوي بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تغبطن فاجرا بنعمته فإنك لا تدري ما هو لاق بعد موته إن له عند الله قاتلا لا يموت قيل : وما هو؟ قال : النار» (ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال ، والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه» لفظ البخاري ولمسلم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» قال عوف بن عبد الله بن عتبة : كنت أصحب الأغنياء فما كان أحد أكثر هما مني كنت أرى دابة خيرا من دابتي وثوبا خيرا من ثوبي ، فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء فاسترحت. وقوله سبحانه وتعالى (وَاخْفِضْ جَناحَكَ) يعني ليّن جانبك (لِلْمُؤْمِنِينَ) وارفق بهم لما نهاه الله سبحانه وتعالى عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار ، أمره بالتواضع واللين والرفق بفقراء المسلمين وغيرهم من المؤمنين.

(وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥))

(وَقُلْ) أي وقل لهم يا محمد (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) لما أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالزهد في الدنيا ، والتواضع للمؤمنين أمره بتبليغ ما أرسل به إليهم ، والنذارة تبليغ مع تخويف والمعنى : إني أنا النذير بالعقاب لمن عصاني المبين النذارة (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) يعني أنذركم عذابا كعذاب أنزلناه بالمقتسمين ، قال ابن عباس : أراد بالمقتسمين اليهود والنصارى. وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة : سموا بذلك لأنهم آمنوا ببعض القرآن وكفروا ببعضه ، فما وافق كتبهم آمنوا به وما خالف كتبهم كفروا به ، وقال عكرمة : إنهم اقتسموا سور القرآن فقال واحد منهم هذه السورة لي وقال : آخر هذه السورة لي ، وإنما فعلوا ذلك استهزاء به ، وقال مجاهد : إنهم اقتسموا كتبهم فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها ، وكفر آخرون منهم بما آمن به غيرهم. وقال قتادة وابن السائب : أراد بالمقتسمين كفار قريش سموا بذلك لأن أقوالهم تقسمت في القرآن. فقال بعضهم : إنه سحر وزعم بعضهم أنه كهانة وزعم بعضهم إنه أساطير الأولين وقال ابن السائب : سموا بالمقتسمين لأنهم اقتسموا عقاب مكة وطرقها ، وذلك أن الوليد بن المغيرة بعث رهطا من أهل مكة. قيل ستة عشر. وقيل : أربعين. فقال لهم : انطلقوا فتفرقوا على عقاب مكة وطرقها حيث يمر بكم أهل الموسم ، فإذا سألوكم عن محمد فليقل بعضكم إنه كاهن وليقل بعضكم إنه شاعر ، وليقل بعضكم إنه ساحر فإذا جاءوا إلي صدقتكم فذهبوا وقعدوا على عقاب مكة وطرقها يقولون لمن مر بهم من حجاج العرب : لا تغتروا بهذا الخارج الذي يدعي النبوة منا فإنه مجنون كاهن ، وشاعر. وقعد الوليد بن المغيرة على باب المسجد الحرام فإذا جاءوا وسألوه عما قال : أولئك المقتسمون. قال : صدقوا. وقوله سبحانه وتعالى : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (خ) عن ابن عباس في قوله تعالى الذين جعلوا

٦٣

القرآن عضين. قال : هم اليهود والنصارى جزءوه أجزاء آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، قيل : هو جمع عضة من قولهم عضيت الشيء إذا فرقته ، وجعلته أجزاء وذلك لأنهم جعلوا القرآن أجزاء مفرقة. فقال بعضهم : هو سحر.

وقال بعضهم : هو كهانة. وقال بعضهم : هو أساطير الأولين. وقيل : هو جمع عضة. وهو الكذب والبهتان وقيل : المراد به العضة وهو السحر يعني أنهم جعلوا القرآن عضين (عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) يعني عما كانوا يقولونه في القرآن. وقيل : عما كانوا يعملون من الكفر والمعاصي. وقيل : يرجع الضمير في لنسألنهم إلى جميع الخلق المؤمن والكافر لأن اللفظ عام فحمله على العموم أولى قال جماعة من أهل العلم عن لا إله إلا الله عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون قال : «عن قول لا إله إلا الله» أخرجه الترمذي. وقال : حديث غريب وقال أبو العالية : يسأل العباد عن خلتين عما كانوا يعبدون ، وماذا أجابوا المرسلين. فإن قلت : كيف الجمع بين قوله لنسألنهم أجمعين وبين قوله (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ)؟ قلت : قال ابن عباس : لا يسألهم هل عملتم لأنه أعلم به منهم ، ولكن يقول لم عملتم كذا واعتمده قطرب فقال : السؤال ضربان سؤال استعلام وسؤال توبيخ فقال تعالى (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) يعني سؤال استعلام وقوله (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) سؤال توبيخ وتقريع وجواب آخر ، وهو يروى عن ابن عباس أيضا أنه قال في الآيتين : أن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف فيسألون في بعض المواقف ولا يسألون في بعضها نظيره قوله سبحانه وتعالى (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) وقال تعالى في آية أخرى (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) قوله سبحانه وتعالى (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) قال ابن عباس : أظهر. ويروى عنه أمضه. وقال الضحاك : أعلم وأصل الصدع الشق والفرق أي أفرق بالقرآن بين الحق والباطل أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية بإظهار الدعوة وتبليغ الرسالة إلى من أرسل إليهم قال عبد الله بن عبيدة. ما زال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية ، فخرج هو وأصحابه (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي اكفف عنهم ولا تلتفت إلى لومهم على إظهار دينك ، وتبليغ رسالة ربك وقيل أعرض عن الاهتمام باستهزائهم ، وهو قوله سبحانه وتعالى (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) أكثر المفسرين على أن هذا الإعراض منسوخ بآية القتال. وقال بعضهم : ما للنسخ وجه لأن معنى الإعراض ترك المبالاة بهم ، والالتفات إليهم ، فلا يكون منسوخا ، وقوله تعالى إنا كفيناك المستهزئين يقول الله تعالى عزوجل لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاصدع بما أمرتك به ولا تخف أحدا غيري فإني أنا كافيك ، وحافظك ممن عاداك فإنا كفيناك المستهزئين وكانوا خمسة نفر من رؤساء كفار قريش ، كانوا يستهزئون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن وهم : الوليد بن المغيرة المخزومي وكان رأسهم ، والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن المطلب بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن زمعة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد دعا عليه فقال : اللهم أعم بصره وأثكله بولده. والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة ، والحارث بن قيس ابن الطلاطلة كذا ذكره البغوي. وقال ابن الجوزي : الحارث بن قيس ابن عيطلة وقال الزهري : عيطلة أمة وقيس أبوه فهو منسوب إلى أبيه وأمة قال المفسرون : أتى جبريل عليه‌السلام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمستهزئون يطوفون بالبيت فقام جبريل ، وقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جنبه فمر به الوليد بن المغيرة فقال جبريل : يا محمد كيف تجد هذا قال بئس عبد الله فقال : قد كفيته وأومأ إلى ساق الوليد فمرّ الوليد برجل من خزاعة نبال بريش نبلا له ، وعليه برد يماني وهو يجر إزاره فتعلقت شظية من النبل بإزار الوليد ، فمنعه الكبر أن يطأطئ رأسه فينزعها وجعلت تضربه في ساقه ، فخذشته فمرض فمات ، ومر بهما العاص بن وائل السهمي فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمد؟ فقال : بئس عبد الله ، فأشار جبريل إلى أخمص قدمه وقال : قد كفيته. فخرج العاص على راحلة يتنزه ، ومعه ابناه فنزل شعبا من تلك الشعاب فوطئ شبرقة فدخل منها شوكة في أخمص رجله ، فقال : لدغت لدغت فطلبوا فلم يجدوا شيئا وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير ، فمات مكانه. ومر بهما الأسود بن المطلب فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمد؟ فقال : عبد سوء فأشار جبريل بيده إلى عينيه. وقال : قد كفيته فعمي. قال ابن

٦٤

عباس : رماه جبريل بورقة خضراء فألهب بصره ووجعت عينه فجعل يضرب برأسه الجدار ، حتى هلك وفي رواية الكلبي قال : أتاه جبريل وهو قاعد في أصل شجرة ومعه غلام له وفي رواية فجعل ينطح رأسه في الشجرة ويضرب وجهه بالشوك فاستغاث بغلامه ، فقال له غلامه : ما أرى أحدا يصنع بك شيئا غيرك فمات ، وهو يقول قتلني محمد ومر بهما الأسود ابن عبد يغوث فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمد؟ فقال : بئس عبد الله على أنه خالي. فقال جبريل : قد كفيته وأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات. وفي رواية الكلبي أنه خرج من أهله. فأصابه سموم فاسود وجهه حتى صار حبشيا ، فأتى أهله فلم يعرفوه وأغلقوا دونه الباب فمات ، وهو يقول : قتلني رب محمد. ومر بهما الحارث بن قيس فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمد؟ فقال : عبد سوء فأومأ جبريل إلى رأسه. وقال قد كفيته فامتخط قيحا فقتله. وقال ابن عباس : إنه أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فلم يزل يشرب الماء حتى أنقد بطنه فمات. فذلك قوله تعالى (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) يعني بك وبالقرآن.

(الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

(الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) يعني إذا نزل بهم العذاب ففيه وعيد وتهديد. قوله سبحانه وتعالى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) يعني بسبب ما يقولون ، وهو ما كانوا يسمعونه من الاستهزاء به ، والقول الفاحش والجبلة البشرية تأبى ذلك فيحصل عند سماع ذلك ضيق الصدر ، فعند ذلك أمره بالتسبيح والعبادة وهو قوله (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) قال ابن عباس : فصلّ بأمر ربك (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) يعني من المتواضعين لله ، وقال الضحاك فسبح بحمد ربك قل سبحان الله وبحمده وكن من الساجدين يعني من المصلين روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، قال بعض العارفين من المحققين : أن السبب في زوال الحزن عن القلب ، إذا أتى العبد بهذه العبادات أنه يتنور باطنه ويشرق قلبه ، وينفسح وينشرح صدره فعند ذلك يعرف قدر الدنيا وحقارتها فلا يلتفت إليها ، ولا يتأسف على فواتها فيزول الهم والغم والحزن عن قلبه.

وقال بعض العلماء : إذا نزل بالعبد مكروه ففزع إلى الصلاة فكأنه يقول : يا رب إنما يجب عليّ عبادتك سواء أعطيتني ما أحب أو كفيتني ما أكره ، فأنا عبدك وبين يديك فافعل بي ما تشاء. قوله تعالى (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) يعني الموت الموقن به الذي لا يشك فيه أحد ، والمعنى واعبد ربك في جميع أوقاتك ، ومدة حياتك حتى يأتيك الموت وأنت في عبادة ربك ، وهذا مثل قوله تعالى في سورة مريم (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) روى البغوي بسنده عن جبير بن نفير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أوحى الله إليّ أن أجمع المال وأكون من التاجرين ، ولكن أوحى إليّ أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» وعن عمر قال : نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلا وعليه إهاب كبش قد تنطق به فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه لقد رأيته بين أبويه يغذيانه بأطيب الطعام والشراب ولقد رأيت عليه حلة شراها ، أو قال : شريت له بمائتي درهم فدعاه حب الله ، وحب رسوله إلى ما ترون» ذكره البغوي بغير سند والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

٦٥

سورة النحل

مكية إلا قوله تعالى (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ). إلى آخر السورة فإنها نزلت بالمدينة في قتل حمزة قاله ابن عباس وفي رواية أخرى عنه أنها مكية غير ثلاث آيات. نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) إلى قوله (تَعْلَمُونَ) وقال قتادة هي مكية إلا خمس آيات وهي قوله (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) وقوله (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) وقوله تعالى (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) إلى آخر السورة زاد مقاتل وقوله : من كفر بالله من بعد إيمانه الآية وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة الآية وقيل كان يقال لسورة النحل سورة النعم لكثرة تعداد النعم فيها ، وهي مائة وثمان وعشرون آية وألفان وثمانمائة وأربعون كلمة وسبعة آلاف وسبعمائة وسبعة أحرف.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢))

قوله سبحانه وتعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) يعني جاء ودنا وقرب أمر الله تقول العرب : أتاك الأمر وهو متوقع المجيء ، بعد ما أتى ، ومعنى الآية أتى أمر الله وعدا (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) يعني وقوعا بالمراد به مجيء القيامة. قال ابن عباس : لما نزل قوله سبحانه وتعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قال الكفار : بعضهم لبعض إن هذا الرجل يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا : ما نرى شيئا فنزل قوله تعالى (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) فأشفقوا فلما امتدت الأيام ، قالوا : يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزل (أَتى أَمْرُ اللهِ) فوثب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورفع الناس رؤوسهم ، وظنوا أنها قد أتت حقيقة فنزل (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فاطمأنوا ، والاستعجال طلب مجيء الشيء قبل وقته ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين ويشير بإصبعيه يمدهما» أخرجاه في الصحيحين من حديث سهل بن سعد (ق) عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين كفضل إحداهما على الأخرى ، وضم السبابة إلى الوسطى» وفي رواية «بعثت في نفس الساعة فسبقتها كفضل هذه على الأخرى» قال ابن عباس : كان مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أشراط الساعة ولما مر جبريل بأهل السموات مبعوثا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : الله أكبر قامت الساعة قال قوم : المراد بالأمر هنا عقوبة المكذبين وهو العذاب بالقتل بالسيف وذلك أن النضر بن الحرث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فاستعجل العذاب فنزلت هذه الآية ، وقتل النضر يوم بدر صبرا (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) يعني تنزه الله وتعاظم بالأوصاف الحميدة عما يصفه به المشركون. قوله سبحانه وتعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) يعني بالوحي (مِنْ أَمْرِهِ) وإنما سمي الأمر روحا لأنه تحيا القلوب من موت الجهالات وقال عطاء : بالنبوة. وقال قتادة : بالرحمة. وقيل : الروح هو جبريل والباء

٦٦

بمعنى مع يعني ينزل الملائكة مع الروح وهو جبريل (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) يعني على من يصطفيه من عباده للنبوة ، والرسالة وتبليغ الوحي إلى الخلق (أَنْ أَنْذِرُوا) يعني بأن اعلموا (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) أي فخافون. وقيل : معناه مروا بقول لا إله إلا الله منذرين يعني مخوفين بالقرآن.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢))

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تقدم تفسيره (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) يعني أنه جدل بالباطل بين الخصومة نزلت في أبيّ بن خلف الجمحي ، وكان ينكر البعث فجاء بعظم رميم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : تزعم أن الله يحيي هذا بعد ما رم فنزلت فيه هذه الآية ، ونزل فيه أيضا قوله تعالى «قال من يحيي العظام وهي رميم» والصحيح أن الآية عامة في كل ما يقع من الخصومة في الدنيا ويوم القيامة ، وحملها على العموم أولى ، وفيها بيان القدرة وأن الله خلق الإنسان من نطفة قذرة فصار جبارا كثيرا لخصومة ، وفيه كشف قبيح ما فعله الكفار من جحدهم نعم الله تعالى مع ظهورها عليهم. قوله عزوجل (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) لما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه خلق السموات والأرض ، ثم أتبعه بذكر خلق الإنسان ، ذكر بعده ما ينتفع به في سائر ضروراته. ولما كان أعظم ضرورات الإنسان إلى الأكل واللباس اللذين يقوم بهما بدن الإنسان بدأ بذكر الحيوان المنتفع به في ذلك ، وهو الأنعام. فقال تعالى (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) وهي الإبل والبقر والغنم. قال الواحدي : تم الكلام عند قوله والأنعام خلقها. ثم ابتدأ فقال تعالى (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) قال : ويجوز أيضا أن يكون تمام الكلام عند قوله لكم ثم ابتدأ فقال تعالى : فيها دفء. قال صاحب النظم أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله خلقها ثم يبتدأ بقوله لكم فيها دفء ، والدليل عليه أنه عطف عليه قوله ، ولكم فيها جمال والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال. ولما كانت منافع هذه الأنعام منها ضرورية ، ومنها غير ضرورية ، بدأ الله سبحانه وتعالى بذكر المنافع الضرورية ، فقال تعالى : لكم فيها دفء وهو ما يستدفأ به من اللباس والأكسية ونحوها ، المتخذة من الأصواف والأوبار والأشعار الحاصلة من النعم (وَمَنافِعُ) يعني النسل والدر والركوب ، والحمل عليها وسائر ما ينتفع به من الأنعام (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) يعني من لحومها. فإن قلت : قوله تعالى (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) يفيد الحصر لأن تقديم الظرف مؤذن بالاختصاص ، وقد يؤكل من غيرها. قلت : الأكل من هذه الأنعام هو الذي يعتمده الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط والإوز وصيد البر والبحر ، فغير معتد به في الأغلب : وأكله يجري مجرى التفكه به فخرج ومنها تأكلون مخرج الأغلب في الأكل من هذه الأنعام. فإن قلت : منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللباس فلم أخر منفعة الأكل وقدم منفعة اللباس؟ قلت : منفعة اللباس أكثر وأعظم من منفعة

٦٧

الأكل فلهذا قدم على الأكل. وقوله سبحانه وتعالى (وَلَكُمْ فِيها) أي في الأنعام (جَمالٌ) أي زينة (حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) الإراحة رد الإبل بالعشي إلى مراحها حيث تأوي إليه بالليل. وقال : سرح القوم إبلهم تسريحا إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى. قال أهل اللغة : وأكثر ما تكون هذه الراحة أيام الربيع إذا سقط الغيث ، ونبت العشب والكلأ وخرجت العرب للنجعة ، وأحسن ما تكون النعم في ذلك الوقت فمن الله سبحانه وتعالى بالتجمل بها فيه كما من بالانتفاع بها لأنه من أغراض أصحاب المواشي بل هو من معظمها لأن الرعاة إذا سرحوا النعم بالغداة إلى المرعى ، وروحوها بالعشي إلى الأفنية والبيوت يسمع للإبل رغاء وللشاء ثغاء يجاوب بعضها بعضا ، فعند ذلك يفرح أربابها بها وتتجمل بها الأفنية والبيوت ، ويعظم وقعها عند الناس. فإن قلت : لم قدمت الإراحة على التسريح؟ قلت : لأن الجمال في الإراحة وهو رجوعها إلى البيوت أكثر منها وقت التسريح لأن النعم تقبل من المرعى ملأى البطون حافلة الضروع ، فيفرح أهلها بها بخلاف تسريحها إلى المرعى فإنها تخرج جائعة البطون ضامرة الضروع من اللبن ، ثم تأخذ في التفرق والانتشار للرعي في البرية فثبت بهذا البيان أن التجمل في الإراحة ، أكثر منه في التسريح فوجب تقديمه. وقوله سبحانه وتعالى (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) الأثقال جمع ثقل وهو متاع السفر وما يحتاج إليه من آلات السفر (إِلى بَلَدٍ) يعني غير بلدكم قال ابن عباس : يريد من مكة إلى اليمن ، وإلى الشام وإنما قال ابن عباس : هذا القول لأنه خطاب لأهل مكة وأكثر تجاراتهم وأسفارهم إلى الشام واليمن وحمله على العموم أولى لأنه خطاب عام فدخول الكافة فيه أولى من تخصيصه ببعض المخاطبين (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) يعني بالغي ذلك البلد الذي تقصدونه (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) يعني بالمشقة والجهد والعناء والتعب والشق نصف الشيء ، والمعنى على هذا لم تكونوا بالغيه إلا بنقصان قوة ، النفس وذهاب نصفها (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) يعني بخلقه حيث خلق لهم هذه المنافع. قوله سبحانه وتعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) هذه الآية عطف على ما قبلها ، والمعنى وخلق هذه الحيوانات لأجل أن تركبوها ، والخيل اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والرهط والنساء (وَزِينَةً) يعني وجعلها زينة مع المنافع التي فيها.

فصل

احتج بهذه الآية من يرى تحريم لحوم الخيل ، وهو قول ابن عباس وتلا هذه الآية وقال : هذه للركوب وإليه ذهب الحكم ومالك وأبو حنيفة رحمهم‌الله ، واستدلوا أيضا بأن منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب فلما لم يذكره الله تعالى ، علمنا تحريم أكله فلو كان أكل لحوم الخيل جائزا لكان هذا المعنى أولى بالذكر ، لأن الله سبحانه وتعالى خص الأنعام بالأكل حيث قال ومنها تأكلون وخص هذه بالركوب. فقال : لتركبوها فعلمنا أنها مخلوقة للركوب لا للأكل وذهب مجموعة من أهل العلم إلى إباحة لحوم الخيل ، وهو قول الحسن وشريح وعطاء وسعيد بن جبير : وإليه ذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وأحمد وإسحاق واحتجوا على إباحة لحوم الخيل لما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت : «نحرنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرسا ونحن بالمدينة فأكلناه» أخرجه البخاري ومسلم (ق). عن جابر «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن لحوم الخيل وحمر الوحش ونهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحمار الأهلي» هذه رواية البخاري ومسلم ، وفي رواية أبي داود قال : «ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير وكنا قد أصابتنا مخمصة فنهانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل» وأجاب من أباح لحوم الخيل عن هذه الآية بأن ذكر الركوب والزينة ، لا يدل على أن منفعتها مختصة بذلك ، وإنما خص هاتان المنفعتان بالذكر لأنهما معظم المقصود ، قالوا : ولهذا سكت عن حمل الأثقال على الخيل مع قوله في الأنعام وتحمل أثقالكم ، ولم يلزم من هذا التحريم حمل الأثقال على الخيل ، وقال البغوي : ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم ، بل المراد منها تعريف الله عباده نعمه ، وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته ،

٦٨

والدليل الصحيح المعتمد عليه في إباحة لحوم الخيل أن السنة مبينة للكتاب ولما كان نص الآية يقتضي أن الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة ، وكان الأكل مسكوتا عنه دار الأمر فيه على الإباحة والتحريم فوردت بإباحة لحوم الخيل وتحريم لحوم البغال والحمير ، فأخذنا بها جمعا بين النصين والله أعلم وقوله تعالى (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) لما ذكر الله سبحانه وتعالى الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في جميع حالاته ، وضرورياته على سبيل التفضيل ، ذكر بعدها ما لا ينتفع به الإنسان في الغالب على سبيل الإجمال لأن مخلوقات الله عزوجل في البر والبحر والسموات أكثر من أن تحصى أو يحيط بها عقل أحد أو فهمه ، فلهذا ذكرها على الإجمال ، وقال بعضهم : ويخلق ما لا تعلمون يعني مما أعد الله لأهل الجنة في الجنة ، ولأهل النار في النار مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر وقال قتادة في قوله : ويخلق ما لا تعلمون يعني السوس في النبات والدود في الفواكه. قوله سبحانه وتعالى (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) القصد استقامة الطريق ، يقال : طريق قصد وقاصد إذا أداك إلى مطلوبك وفي الآية حذف تقديره وعلى الله بيان قصد السبيل ، وهو بيان طريق الهدى من الضلالة وقيل : معناه وعلى الله بيان طريق الحق بالآيات والبراهين (وَمِنْها جائِرٌ) يعني ومن السبل سبيل جائر عن الاستقامة بل هو معوج فالقصد من السبيل هو دين الإسلام ، والجائر منها دين اليهودية والنصرانية وسائر ملل الكفر ، وقال جابر بن عبد الله : قصد السبيل بيان الشرائع والفرائض ، وقال عبد الله بن المبارك وسهل بن عبد الله : قصد السبيل السنة ومنها جائر الأهواء والبدع (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) فيه دليل على أن الله تعالى ما شاء هداية الكفار ، وما أراد منهم الإيمان لأن كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فقوله ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين وذلك يفيد أنه تعالى ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم. قوله عزوجل (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) لما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمته على عباده بخلق الحيوانات لأجل الانتفاع والزينة : عقبه بذكر إنزال المطر من السماء ، وهو من أعظم النعم على العباد فقال : هو الذي أنزل من السماء. يعني ، والله الذي خلق جميع الأشياء هو الذي أنزل من السماء ماء يعني المطر (لَكُمْ مِنْهُ) يعني من ذلك الماء (شَرابٌ) يعني تشربونه (وَمِنْهُ) يعني ومن ذلك الماء (شَجَرٌ) الشجر في اللغة ما له ساق من نبات الأرض ، ونقل الواحدي عن أهل اللغة أنهم قالوا : الشجر أصناف ما جل وعظم ، وهو الذي يبقى على الشتاء وما دق وهو صنفان أحدهما تبقى له أدوحة في الشتاء ، وينبت في الربيع ومنها ما لا يبقى له ساق في الشتاء كالبقول ، وقال أبو إسحاق : كل ما ينبت على وجه الأرض فهو شجر وأنشد : نطعمها اللحم إذا عز الشجر أراد أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض ، وقال ابن قتيبة : في هذه الآية يعني الكلأ ومعنى الآية أنه ينبت بالماء الذي أنزل من السماء ما ترعى الراعية من ورق الشجر لأن الإبل ترعى كل الشجر (فِيهِ) يعني في الشجر (تُسِيمُونَ) يعني ترعون مواشيكم. يقال : أسمت السائمة إذا خليتها ترعى وسامت هي إذا رعت حيث شاءت (يُنْبِتُ لَكُمْ) أي ينبت الله لكم وقرئ ينبت على التعظيم لكم (بِهِ) أي بذلك الماء (الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) لما ذكر الله في الحيوان تفصيلا وإجمالا ذكر في الثمار تفصيلا وإجمالا فبدأ بذكر الزرع وهو الحب الذي يقتات به كالحنطة والشعير وما أشبههما لأن به قوام بدن الإنسان ، وثنى بذكر الزيتون لما فيه من الأدم والدهن والبركة ، وثلث بذكر النخيل لأن ثمرتها غذاء وفاكهة ، وختم بذكر الأعناب لأنها شبه النخلة في المنفعة من التفكه ، والتغذية ، ثم ذكر سائر الثمرات إجمالا لينبه بذلك على عظيم قدرته ، وجزيل نعمته على عباده ثم قال تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ) يعني الذي ذكر من أنواع الثمار (لَآيَةً) يعني علامة دالة على قدرتنا ووحدانيتنا (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يعني فيما ذكر من دلائل قدرته ووحدانيته (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ) تقدم تفسيره في سورة الأعراف (مُسَخَّراتٌ) يعني مذللات مقهورات تحت قهره وإرادته ، وفيه رد على الفلاسفة والمنجمين لأنهم يعتقدون أن هذه النجوم هي الفعالة المتصرفة في العالم السفلي فأخبر الله تعالى أن هذه النجوم مسخرات في نفسها مذللات

٦٩

(بِأَمْرِهِ) يعني بأمر ربها مقهورات تحت قهره يصرفها كيف يشاء ، ويختار وأنها ليس لها تصرف في نفسها فضلا عن غيرها ، ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه خلق هذه النجوم وجعلها مسخرات لمنافع عباده ختم هذه الآية بقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يعني أن كل من كان له عقل صحيح سليم علم أن الله سبحانه وتعالى ، هو الفعال المختار وأن جميع الخلق تحت قدرته ، وقهره وتسخيره لما أراده منهم.

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣))

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) يعني وما خلق لكم في الأرض ، وسخر لأجلكم من الدواب والأنعام والأشجار والثمار (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) يعني في الخلقة والهيئة والكيفية واختلاف ألوان المخلوقات مع كثرتها ، حتى لا يشبه بعضها بعضا من كل الوجوه ، فيه دليل قاطع على كمال قدرة الله ولذلك ختم هذه الآية بقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) لما ذكر الله سبحانه وتعالى الدلائل الدالة على قدرته ، ووحدانيته من خلق السموات والأرض ، وخلق الإنسان من نطفة وخلق سائر الحيوان والنبات وتسخير الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك ، من آثار قدرته ، وعجائب صنعته وذكر إنعامه في ذلك على عباده ، ذكر بعد ذلك إنعامه على عباده بتسخير البحر لهم نعمة من الله عليهم ، ومعنى تسخير الله البحر لعباده جعله بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به. فقال تعالى : وهو الذي سخر البحر (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) فبدأ بذكر الأكل لأنه أعظم المقصود ، لأن به قوام البدن وفي ذكر الطري مزيد فائدة دالة على كمال قدرة الله تعالى ، وذلك أن السمك لون كان كله مالحا لما عرف به من قدرة الله تعالى ، ما يعرف بالطري لأنه لما خرج من البحر الملح الزعاق ، الحيوان الطري الذي لحمه في غاية العذوبة علم أنه إنما حدث بقدرة الله ، وخلقه لا بحسب الطبع وعلم بذلك أن الله قادر على إخراج الضد من الضد. المنفعة الثانية قوله تعالى (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) يعني اللؤلؤ والمرجان ، كما قال تعالى : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان والمراد بلبسهم لبس نسائهم لأن زينة النساء بالحلي ، وإنما هو لأجل الرجال فكان ذلك زينة لهم. المنفعة الثالثة قوله تعالى (وَتَرَى الْفُلْكَ) يعني السفن (مَواخِرَ فِيهِ) يعني جواري فيه قال قتادة : مقبلة ومدبرة وذلك أنك ترى سفينتين إحداهما تقبل والأخرى تدبر تجريان بريح واحدة ، وأصل المخر في اللغة الشق يقال : مخرت السفينة مخرا إذا شقت الماء بجؤجؤها. وقال مجاهد : تمخر الرياح السفن يعني أنها إذا جرت يسمع لها صوت قال أبو عبيدة : يعني من صوائح والمخر صوت هبوب الريح عند شدتها وقال الحسن : مواخر يعني مواقر أي مملوءة متاعا (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يعني الأرباح بالتجارة في البحر (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يعني إنعام الله عليكم إذا رأيتم نعم الله فيما سخر لكم (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) يعني جبالا ثقالا (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) يعني لئلا تميل وتضطرب

٧٠

بكم ، والميد هو اضطراب الشيء العظيم كالأرض ، وقال وهب : لما خلق الله سبحانه وتعالى الأرض جعلت تمور وتتحرك فقالت الملائكة : إن هذه غير مقرة أحدا على ظهرها فأصبحوا ، وقد أرسيت بالجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال (وَأَنْهاراً) يعني وجعل فيها أنهارا لأن في ألقى معنى الجعل ، فقوله سبحانه وتعالى : وأنهارا معطوف على وألقى ، ولما ذكر الله الجبال ذكر بعدها الأنهار لأن معظم عيون الأنهار ، وأصولها تكون من الجبال (وَسُبُلاً) يعني وجعل فيها طرقا مختلفة تسلكونها في أسفاركم ، والتردد في حوائجكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) يعني بتلك السبل إلى ما تريدون فلا تضلون (وَعَلاماتٍ) يعني وجعل فيها علامات تهتدون بها في أسفاركم قال بعضهم : تم الكلام عند قوله : وعلامات ثم ابتدأ (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) قال محمد بن كعب والكلبي : أراد بالعلامات الجبال والنجوم ، فالجبال علامات النهار ، والنجوم علامات الليل. وقال مجاهد : أراد بالكل النجوم فمنها ما يكون علامات ومنها ما يهتدي به. وقال السدي : أراد بالنجم الثريا وبنات نعش والفرقدين والجدي ، فهذه يهتدى بها إلى الطريق والقبلة. وقال قتادة : إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء لتكون زينة السماء ومعالم الطريق ورجوما للشياطين فمن قال غير هذا فقد تكلف ما لا علم له به. قوله سبحانه وتعالى (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) لما ذكر الله عزوجل من عجائب قدرته وغرائب صنعته ، وبديع خلقه ما ذكر على الوجه الأحسن والترتيب الأكمل ، وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدمة كلها دالة على كمال قدرة الله تعالى ، ووحدانيته وأنه تعالى هو المنفرد بخلقها جميعا قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته واشتغل بعبادة هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ، ولا تقدر على شيء (أَفَمَنْ يَخْلُقُ) يعني هذه الأشياء الموجودة المرئية بالعيان ، وهو الله تعالى الخالق لها (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) يعني هذه الأصنام العاجزة التي لا تخلق شيئا البتة ، لأنها جمادات لا تقدر على شيء ، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادتها ويترك عبادة من يستحق العبادة وهو الله خالق هذه الأشياء كلها ، ولهذا المعنى ختم هذه الآية بقوله (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) يعني أن هذا القدر ظاهر غير خاف على أحد فلا يحتاج فيه إلى دقيق الفكر والنظر بل مجرد التذكر فيه ، كفاية لمن فهم وعقل واعتبر بما ذكره. بقي في الآية سؤالان : الأول : قوله : كمن لا يخلق المراد به الأصنام وهي جمادات لا تعقل فكيف يعبر عنها بلفظة من وهي لمن يعقل ، والجواب عنه أن الكفار لما سموا هذه الأصنام آلة وعبدوها أجريت مجرى من يعقل في زعمهم ألا ترى إلى قوله : بعد هذا والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئا فخاطبهم على قدر زعمهم ، وعقولهم. السؤال الثاني : قوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق المقصود منه إلزام الحجة على من عبد الأصنام حيث جعل غير الخالق مثل الخالق ، فكيف قال على سبيل الاستفهام أفمن يخلق كمن لا يخلق والجواب عنه أنه ليس المراد منه الاستفهام بل المراد منه أن من خلق الأشياء العظيمة وأعطى هذه النعم الجزيلة ، كيف يسوى بينه وبين هذه الجمادات الخسيسة في التسمية والعبادة ، وكيف يليق بالعاقل أن يترك عبادة من يستحق العبادة لأنه خالق هذه الأشياء الظاهرة كلها ، ويشتغل بعبادة جمادات لا يخلق شيئا البتة والله أعلم. وقوله تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) يعني أن نعم الله على العبد فيما خلق الله فيه من صحة البدن وعافية الجسم ، وإعطاء النظر الصحيح والعقل السليم ، والسمع الذي يفهم به الأشياء وبطش اليدين وسعي الرجلين إلى غير ذلك مما أنعم به عليه في نفسه ، وفيما أنعم به عليه مما خلق له من جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا لا تحصى حتى لو رام أحد معرفة أدنى نعمة من هذه النعم لعجز عن معرفتها وحصرها فكيف بنعمة العظام التي لا يمكن الوصول إلى حصرها لجميع الخلق فذلك قوله تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) يعني ولو اجتهدتم في ذلك وأتعبتم نفوسكم لا تقدرون عليه (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ) يعني لتقصيركم في القيام بشكر نعمته كما يجب عليكم (رَحِيمٌ) يعني بكم حيث وسع عليكم النعم ، ولم يقطعها عنكم بسبب التقصير ، والمعاصي (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) يعني أن الكفار مع كفرهم كانوا يسرون أشياء. وهو ما كانوا

٧١

يمكرون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما يعلنون يعني ، وما يظهرون من إيذائه فأخبرهم الله عزوجل أنه عالم بكل أحوالهم سرها وعلانيتها لا تخفى عليه خافية وإن دقت وخفيت ، وقيل : إن الله سبحانه تعالى لما ذكر الأصنام وذكر عجزها في الآية المتقدمة ذكر في هذه الآية أن الإله الذي يستحق العبادة ، يجب أن يكون عالما بكل المعلومات سرها وعلانيتها ، وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تستحق العبادة ثم وصف الله هذه الأصنام بصفات فقال تعالى (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام التي تدعونها آلهة من دون الله (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) فإن قلت : قوله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة أفمن يخلق كمن لا يخلق ، يدل على أن هذه الأصنام لا تخلق شيئا فقوله سبحانه وتعالى : لا يخلقون شيئا وهم يخلقون هذا هو نفس المعنى المذكور في تلك الآية فما فائدة التكرار؟ قلت : فائدته أن المعنى المذكور في الآية المتقدمة أنهم لا يخلقون شيئا فقط والمذكور في هذه الآية أنهم لا يخلقون شيئا وإنهم مخلوقون كغيرهم ، فكان هذا زيادة في المعنى وهو فائدة التكرار (أَمْواتٌ) أي جمادات ميتة لا حياة فيها (غَيْرُ أَحْياءٍ) يعني كغيرها ، والمعنى لو كانت هذه الأصنام آلهة كما تزعمون لكانت أحياء غير جائز عليها الموت لأن الإله الذي يستحق أن يعبد هو الحي الذي لا يموت وهذه أموات غير أحياء ، فلا تستحق العبادة فمن عبدها فقد وضع العبادة في غير موضعها. وقوله (وَما يَشْعُرُونَ) يعني هذه الأصنام (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) يعني متى يبعثون وفيه دليل على أن الأصنام تجعل فيها الحياة ، وتبعث يوم القيامة حتى تتبرأ من عابديها. وقيل : معناه ما يدري الكفار الذين عبدوا الأصنام متى يبعثون. قوله سبحانه وتعالى (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) يعني أن الذي يستحق العبادة هو إله واحد ، وهذه أصنام متعددة فكيف تستحق العبادة (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) يعني جاحدة لهذا المعنى (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) يعني عن اتباع الحق لأن الحق إذا تبين كان تركه تكبرا (لا جَرَمَ) يعني حقا (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) يعني عن اتباع الحق (م) عن ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا وفعله حسنا قال : «إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق ، وغمط الناس» قوله بطر الحق هو أن يجعل ما جعله الله حقا من توحيده ، وعبادته باطلا وهذا على قول من جعل أصل البطر من الباطل ، ومن جعله من الحيرة فمعناه يتحير عند سماء الحق فلا يقبله ، ولا يجعله حقا ، وقيل : البطر التكبر يعني أنه يتكبر عند سماع الحق فلا يقبله ، وقوله : وغمط الناس يقال : غمطت حق فلان إذا احتقرته ولم تره شيئا وكذا معنى غمصته أي انتقصت به وازدريته. قوله عزوجل :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢))

٧٢

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) يعني لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم كفار مكة الذين اقتسموا عقابها ، وطرقها إذا سألهم الحاج الذين يقدمون عليهم (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) يعني أحاديثهم وأباطيلهم (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) اللام في ليحملوا لام العاقبة وذلك أنهم لما وصفوا القرآن بكونه أساطير الأولين ، كانت عاقبتهم بذلك أن يحملوا أوزارهم يعني ذنوب أنفسهم وإنما قال سبحانه وتعالى : كاملة لأن البلايا التي أصابتهم في الدنيا وأعمال البر التي عملوها في الدنيا ، لا تكفر عنهم شيئا يوم القيام بل يعاقبون بكل أوزارهم قال الإمام فخر الدين : وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين ، إذ لو كان هذا المعنى حاصلا في حق الكل ، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة. وقوله سبحانه وتعالى (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يعني ويحصل للرؤساء الذين أضلوا غيرهم وصدوهم عن الإيمان ، مثل أوزار الأتباع والسبب فيه ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» أخرجه مسلم ومعنى الآية ، والحديث أن الرئيس أو الكبير إذا سنّ سنة حسنة أو سنة قبيحة ، فتبعه عليها جماعة ، فعملوا بها فإن الله سبحانه وتعالى يعظم ثوابه أو عقابه حتى يكون ذلك الثواب أو العقاب مساويا لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع ، الذين عملوا بسنته الحسنة أو القبيحة ، وليس المراد أن الله تعالى يوصل جميع الثواب أو العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤساء ، لأن ذلك ليس بعدل ويدل عليه قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وقوله تعالى : «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى». قال الواحدي : ولفظة من في قوله ومن أوزار الذين يضلونهم ، بغير علم ليست للتبعيض لأنها لو كانت للتبعيض لنقص عن الأتباع بعض الأوزار ، وذلك غير جائز لقوله عليه الصلاة والسلام «لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» ، ولكنها للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الأتباع وقوله : بغير علم يعني أن الرؤساء إنما يقدمون على إضلال غيرهم ، بغير علم ، بما يستحقونه من العقاب ، على ذلك الإضلال بل يقدمون على ذلك جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد. (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) يعني ألا بئس ما يحملون ففيه وعيد وتهديد. قوله سبحانه وتعالى (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني من قبل كفار قريش وهو نمروذ بن كنعان الجبار ، وكان أكبر ملوك الأرض في زمن إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان من مكره أنه بنى صرحا ببابل ليصعد إلى السماء ، ويقاتل أهلها في زعمه. قال ابن عباس : وكان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع. وقال كعب ومقاتل : كان طوله فرسخين فهبت ريح فقصفته وألقت رأسه في البحر وخر عليهم الباقي فأهلكهم وهم تحته ولما سقط تبلبلت ألسنة الناس من الفزع فتكلموا يومئذ بثلاثة وسبعين لسانا ، فلذلك سميت بابل وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية قلت هكذا ذكره البغوي وفي هذا نظر لأن صالحا عليه‌السلام كان قبلهم وكان يتكلم بالعربية ، وكان أهل اليمن عربا منهم جرهم الذي نشأ إسماعيل بينهم ، وتعلم منهم العربية وكانت قبائل من العرب قديمة قبل إبراهيم عليه‌السلام ، مثل طسم وجديس وكل هؤلاء عرب تكلموا في قدم الزمان بالعربية ، ويدل على صحة هذا قوله : ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى والله أعلم. وقيل : حمل قوله قد مكر الذين من قبلهم على العموم أولى فتكون الآية عامة في جميع الماكرين المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضرر والمكر بالغير ، وقوله سبحانه وتعالى (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) يعني قصد تخريب بنيانهم من أصوله ، وذلك بأن أتاهم بريح قصفت بنيانهم من أعلى ، وأتاهم بزلازل قلعت بنيانهم من قواعده وأساسه ، هذا إذا حملنا تفسير الآية على القول الأول ، وهو ظاهر اللفظ وإن حملنا تفسير الآية على القول الثاني : وهو حملها على العموم كان المعنى أنهم لما رتبوا منصوبات ليمكروا بها على أنبياء الله وأهل الحق من عباده أهلكهم الله تعالى ، وجعل هلاكهم مثل هلاك بنوا بنيانا وثيقا شديدا ودعموه بالأساطين فانهدم ذلك البنيان ، وسقط عليهم فأهلكهم فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لمن مكر بآخر فأهلكه الله بمكره ، ومنه المثل السائر على ألسنة

٧٣

الناس : من حفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيه. وقوله تعالى (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) يعني سقط عليهم السقف فأهلكهم وقوله : من فوقهم للتأكيد لأن السقف لا يخر إلا من فوقهم. وقيل : يحتمل أنهم لم يكونوا تحت السقف عند سقوطه ، فلما قال من فوقهم علم أنهم كانوا تحته ، وأنه لما خر عليهم أهلكوا وماتوا تحته (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) يعني في مأمنهم ، وذلك أنهم لما اعتمدوا على قوة بنيانهم ، وشدته كان ذلك البنيان سبب هلاكهم (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) يعني يهينهم بالعذاب ، وفيه إشارة بأن العذاب يحصل لهم في الدنيا والآخرة لأن الخزي هو العذاب مع الهوان (وَيَقُولُ) يعني ويقول : الله لهم يوم القيامة (أَيْنَ شُرَكائِيَ) يعني في زعمكم واعتقادكم (الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) يعني كنتم تعادون وتخالفون المؤمنين وتخاصمونهم في شأنهم لأن المشاقة عبارة عن كون كل واحد من الخصمين في شق غير شق صاحبه ، والمعنى : ما لهم لا يحضرون معكم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم من العذاب والهوان (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يعني المؤمنين وقيل الملائكة (إِنَّ الْخِزْيَ) يعني الهوان (الْيَوْمَ) يعني في هذا اليوم وهو يوم القيامة (وَالسُّوءَ) يعني العذاب (عَلَى الْكافِرِينَ) وإنما يقول المؤمنون : هذا يوم القيامة لأن الكفار كانوا يستهزئون بالمؤمنين في الدنيا ، وينكرون عليهم أحوالهم فإذا كان يوم القيامة ظهر أهل الحق ، وأكرموا بأنواع الكرامات وأهين أهل الباطل وعذبوا بأنواع العذاب فعند ذلك يقول المؤمنون : إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين وفائدة هذا القول إظهار الشماتة بهم فيكون أعظم في الهوان ، والخزي قوله تعالى (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) تقبض أرواحهم الملائكة ، وهم ملك الموت وأعوانه (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) يعني بالكفر (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) يعني أنهم استسلموا وانقادوا لأمر الله الذي نزل بهم وقالوا (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) يعني شركا وإنما قالوا : ذلك من شدة الخوف (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يعني فلا فائدة لكم في إنكاركم. قال عكرمة : عنى بذلك ما حصل من الكفار يوم بدر (فَادْخُلُوا) أي فيقال لهم ادخلوا (أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) يعني مقيمين فيها لا يخرجون منها. وإنما قال ذلك لهم ليكون أعظم في الغم والحزن ، وفيه دليل على أن الكفار بعضهم أشد عذابا من بعض (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) يعني عن الإيمان قوله عزوجل (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون إلى مكة أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا جاء الوافد سأل الذين كانوا يقعدون على طرقات مكة من الكفار ، فيقولون : هو ساحر كاهن شاعر كذاب مجنون وإذا لم تلقه خير لك. فيقول الوافد : أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي من دون أن أدخل مكة فألقاه فيدخل مكة ، فيرى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسألهم عنه فيخبرونه بصدقه ، وأمانته وأنه نبي مبعوث من الله عزوجل ، فذلك قوله سبحانه وتعالى : وقيل الذين اتقوا يعني اتقوا الشرك ، وقول الزور والكذب ماذا أنزل ربكم؟ قالوا : خيرا يعني أنزل خيرا فان قلت لم رفع الأول وهو قوله : أساطير الأولين ونصب الثاني ، وهو قوله قالوا خيرا قلت ليحصل الفرق بين الجوابين جواب المنكر الجاحد ، وجواب المقر المؤمن وذلك أنهم لما سألوا الكفار عن المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا : هو أساطير الأولين وليس هو من الإنزال في شيء لأنهم لم يعتقدوا كونه منزلا ، ولما سألوا المؤمنين على المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتلعثموا ، وأطبقوا الجواب على السؤال بيّنا مكشوفا معقولا للإنزال فقالوا : خيرا أي أنزل خيرا ، وتم الكلام عند قوله خيرا فهو ، وقف تام ثم ابتدأ بقوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) يعني للذين أتوا بالأعمال الصالحة الحسنة ثوابها حسنة مضاعفة من الواحد إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة ، وقال الضحاك : هي النصر والفتح. وقال مجاهد : هي الرزق الحسن. فعلى هذا يكون معنى الآية للذين أحسنوا ثواب إحسانهم في هذه الدنيا حسنة ، وهي النصر والفتح والرزق الحسن ، وغير ذلك مما أنعم الله به على عباده في الدنيا ، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) يعني ما لهم في الآخرة مما أعد الله لهم في الجنة خير مما يحصل لهم في الدنيا (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) يعني الجنة وقال الحسن : هي الدنيا لأن أهل التقوى

٧٤

يتزودون منها إلى الآخرة والقول الأول أولى وهو قول جمهور المفسرين لأن الله فسر هذه الدار بقوله (جَنَّاتُ عَدْنٍ) يعني بساتين إقامة من قولهم : عدن بالمكان ، أي أقام به (يَدْخُلُونَها) يعني تلك الجنات لا يرحلون عنها ولا يخرجون منها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) يعني تجري الأنهار في هذه الجنات من تحت دور أهلها وقصورهم ومساكنهم (لَهُمْ فِيها) يعني في الجنات (ما يَشاؤُنَ) يعني ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين مع زيادات غير ذلك ، وهذه الحالة لا تحصل لأحد إلا في الجنة لأن قوله فيها ما يشاءون لا يفيد الحصر ، وذلك يدل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريد في الدنيا (كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) أي هكذا يكون جزاء المتقين ، ثم عاد إلى وصف المتقين فقال تعالى (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) يعني مؤمنين طاهرين من الشرك. قال مجاهد : زاكية أقوالهم وأفعالهم وقيل : إن قوله طيبين كلمة جامعة لكل معنى حسن فيدخل فيه أنهم ، أتوا بكل ما أمروا به من فعل الخيرات والطاعات ، واجتنبوا كل ما نهوا عنه من المكروهات ، والمحرمات مع الأخلاق الحسنة والخصال الحميدة ، والمباعدة من الأخلاق المذمومة والخصال المكروهة القبيحة وقيل معناه إن أوقاتهم تكون طيبة سهلة لأنهم يبشرون عند قبض أرواحهم بالرضوان والجنة والكرامة ، فيحصل لهم عند ذلك الفرح والسرور والابتهاج ، فيسهل عليهم قبض أرواحهم ويطيب لهم الموت على هذه الحالة (يَقُولُونَ) يعني الملائكة لهم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) يعني تسلم عليهم الملائكة أو تبلغهم السلام من الله (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يعني في الدنيا من الأعمال الصالحة. فإن قلت : كيف الجمع بين قوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وبين قوله : صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته» أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة؟ قلت : قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه‌الله في شرح مسلم. اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب ولا غيرها إلا بالشرع ومذهب أهل السنة أيضا أن الله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بل العالم كله ملكه والدنيا والآخرة في سلطانه يفعل فيهما ما يشاء فلو عذب المطيعين والصالحين أجمعين ، وأدخلهم النار كان ذلك عدلا منه ، وإذا أكرمهم ورحمهم وأدخلهم الجنة فهو فضل منه ولو نعم الكافرون ، وأدخلهم الجنة كان ذلك له ومنه فضلا ، ولكنه سبحانه وتعالى أخبر وخبره صادق أنه لا يفعل هذا بل يغفر للمؤمنين ، ويدخلهم الجنة برحمته ويعذب الكافرين ويدخلهم النار عدلا منه. وأما المعتزلة فيثبتون الأحكام بالعقل ، ويوجبون ثواب الأعمال ويوجبون الأصلح في خبط طويل لهم ، تعالى الله عن اختراعاتهم الباطلة المنابذة لنصوص الشرع. وفي ظاهر هذا الحديث دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته. وأما قوله سبحانه وتعالى : «ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ـ وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون» ونحوها من الآيات التي تدل على أن الأعمال الصالحة يدخل بها الجنة ، فلا تعارض بينها ، وبين هذا الحديث بل معنى الآيات : أن دخول الجنة بسبب الأعمال والتوفيق للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله تعالى وفضله فيصح أنه لم يدخل الجنة بمجرد العمل وهو مراد الحديث ويصح أنه دخل بالأعمال أي بسببها وهي من الرحمة ، والفضل والمنة والله أعلم بمراده قوله تعالى :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ

٧٥

فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨))

(هَلْ يَنْظُرُونَ) يعني هؤلاء الذين أشركوا بالله وجحدوا نبوتك يا محمد (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) يعني لقبض أرواحهم (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) يعني بالعذاب في الدنيا وهو عذاب الاستئصال. وقيل : المراد به يوم القيامة (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني من الكفر والتكذيب (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) يعني بتعذيبه إياهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يعني باكتسابهم المعاصي ، والكفر والأعمال القبيحة الخبيثة ، (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) يعني فأصابهم عقوبات ما اكتسبوا من الأعمال الخبيثة (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) والمعنى ونزل بهم جزاء استهزائهم (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا) يعني أن مشركي مكة قالوا هذا على طريق الاستهزاء. والحاصل أنهم تمسكوا بهذا القول في إنكار النبوة ، فقالوا : لو شاء الله منا الإيمان لحصل جئت أو لم تجيء ولو شاء الله منا الكفر لحصل جئت أو لم تجيء. وإذا كان كذلك فالكل من الله ، فلا فائدة في بعثة رسل إلى الأمم والجواب عن هذا أنهم لما قالوا : إن الكل من الله فكانت بعثة الرسل عبثا كان هذا اعتراضا على الله تعالى ، وهو جار مجرى طلب العلة في أحكام الله ، وفي أفعاله وهو باطل لأن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلا اعتراض لأحد عليه في أحكامه وأفعاله ، ولا يجوز لأحد أن يقول له لم فعلت هذا ، ولم لم تفعل هذا وكان في حكم الله وسنته في عباده إرسال الرسل إليهم ليأمروهم بعبادة الله تعالى ، وينهوهم عن عبادة غيره وأن الهداية والإضلال إليه فمن هداه فهو المهتدي ، ومن أضله فهو الضال وهذه سنة الله في عباده أنه يأمر الكل بالإيمان به وينهاهم عن الكفر. ثم إنه سبحانه وتعالى يهدي من يشاء إلى الإيمان ، ويضلّ من يشاء فلا اعتراض لأحد عليه. ولما كانت سنة الله قديمة ببعثة الرسل إلى الأمم الكافرة المكذبة كان قول هؤلاء لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا جهلا منهم ، لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل وهذا الاعتقاد باطل فلا جرم استحقوا عليه الذم والوعيد. وأما قوله تعالى (وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) يعني الوصيلة والسائبة والحام. والمعنى : فلولا أن الله رضيها لنا لغير ذلك ولهدانا إلى غيره (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني أن من تقدم هؤلاء من كفار مكة ومن الأمم الماضية كانوا على هذه الطريقة ، وهذا الفعل الخبيث فإنكار بعثة الرسل كان قديما في الأمم الخالية (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) يعني ليس إليهم هداية أحد إنما عليهم تبليغ ما أرسلوا به إلى من أرسلوا إليه (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) يعني كما بعثنا فيكم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) يعني أن الرسل كانوا يأمرونهم بأن يعيدوا الله وأن يجتنبوا عبادة الطاغوت ، وهو اسم كل معبود من دون الله (فَمِنْهُمْ) يعني فمن الأمم الذين جاءتهم الرسل (مَنْ هَدَى اللهُ) يعني هداه الله إلى الإيمان به وتصديق رسله (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) يعني ، ومن الأمم من وجبت عليه الضلالة بالقضاء السابق في الأزل حتى مات على الكفر والضلال ، وفي هذه الآية أبين دليل على أن الهادي ، والمضل هو الله تعالى لأنه المتصرف في عباده فيهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض لأحد عليه بما حكم به في سابق علمه (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) يعني فسيروا في الأرض معتبرين متفكرين لتعرفوا مآل من كذب الرسل ، وهو خراب منازلهم بالعذاب والهلاك ، ولتعرفوا أن العذاب نازل بكم إن أصررتم على الكفر والتكذيب كما نزل بهم. قوله سبحانه وتعالى (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء ، وإيمانهم وتجتهد كل الاجتهاد (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) قرئ بفتح الياء وكسر الدال يعني لا يهدي الله من أضله ، وقيل : معناه لا يهتدي من

٧٦

أضله الله وقرئ بضم الياء ، وفتح الدال ومعناه من أضله الله فلا هادي له (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي مانعين يمنعونهم من العذاب (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) قال ابن الجوزي : سبب نزولها أن رجلا من المسلمين كان له على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به المسلم : والذي أرجوه بعد الموت. فقال المشرك : إنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت ، وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت فنزلت هذه الآية قاله أبو العالية. وتقرير الشبهة التي حصلت للمشركين في إنكار البعث بعد الموت أن الإنسان ليس هو ، إلا هذه البنية المخصوصة ، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه وبلى امتنع عوده بعينه لأن الشيء إذا عدم فقد فني ، ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه ، فهذا هو أصل شبهتهم ومعتقدهم في إنكار البعث بعد الموت ، فذلك قوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) فرد الله عليهم ذلك ، وكذبهم في قولهم فقال تعالى (بَلى) يعني بلى يبعثهم بعد الموت لأن لفظة بلى إثبات لما بعد النفي. والجواب عن شبهتهم أن الله سبحانه وتعالى ، خلق الإنسان وأوجده من العدم ولم يك شيئا فالذي أوجده بقدرته ثم أعدمه قادر على إيجاده بعد إعدامه لأن النشأة الثانية أهون من الأولى (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) يعني أن الذي وعد به من البعث بعد الموت وعد حق لا خلف فيه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) يعني لا يفهمون كيف يكون ذلك العود والله سبحانه وتعالى ، قادر على كل شيء.

(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠))

(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) يعني من أمر البعث ويظهر لهم الحق الذي لا خلق فيه (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) يعني في قولهم لا بعث بعد الموت (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يعني أن الله سبحانه وتعالى قادر إذا أراد أن يحيي الموتى ، ويبعثهم للحساب والجزاء فلا تعب عليه في إحيائهم وبعثهم إنما يقول لشيء أراده كن فيكون على ما أراد لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء أراده (خ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تبارك وتعالى يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني ، وما ينبغي له أن يكذبني أما شتمه إياي فيقول إن لي ولدا ، وأما تكذيبه إياي فقوله ليس يعيدني كما بدأني» وفي رواية «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ، ولم يكن له ذلك أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون من إعادته وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد» وقوله تعالى (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) يعني أوذوا وعذبوا نزلت في بلال وصهيب وخباب وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل ، أخذهم المشركون بمكة فجعلوا يعذبونهم ليرجعوا عن الإسلام إلى

٧٧

الكفر ، وهم المستضعفون. فأما بلال فكان أصحابه يخرجونه إلى بطحاء مكة في شدة الحر ويشدونه ، ويجعلون على صدره الحجارة وهو يقول أحد أحد فاشتراه منهم أبو بكر الصديق وأعتقه واشترى معه ستة نفر آخرين ، وأما صهيب فقال لهم إني رجل كبير إن كنت معكم فلن أنفعكم وإن كنت عليكم فلا أضركم فاشترى نفسه بماله فباعوه منه فمر به أبو بكر الصديق. فقال : يا صهيب ربح البيع. وأما باقيهم فأعطوهم بعض ما يريدون ، فخلوا عنهم. وقال قتادة : هم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طائفة بالحبشة ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة ، فهاجروا إليها وجعل لهم أنصارا من المؤمنين فآووهم ونصروهم وواسوهم ، وهذه الآية تدل على فضل المهاجرين ، وفضل الهجرة وفيه دليل على أن الهجرة إذا لم تكن لله خالصة لم يكن لها موقع ، وكانت بمنزلة الانتقال من بلد إلى آخر ومنه حديث «الأعمال بالنيات» وفيه «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» الحديث أخرجاه في الصحيحين من رواية عمر بن الخطاب وقوله تعالى (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) يعني لنبوأنهم تبوئة حسنة وهو أنه تعالى أنزلهم المدينة ، وجعلها لهم دار هجرة والمعنى لنبوأنهم في الدنيا دارا حسنة أو بلدة حسنة ، وهي المدينة روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له : خذ هذا بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل ، ثم يقول هذه الآية. وقيل : معناه ليحسنن إليهم في الدنيا بأن يفتح لهم مكة ، ويمكنهم من أهلها الذين ظلموهم وأخرجوهم منها ثم ينصرهم على العرب قاطبة ، وعلى أهل المشرق والمغرب وقيل المراد بالحسنة في الدنيا التوفيق والهداية في الدين (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) يعني أعظم وأفضل وأشرف مما أعطاهم في الدنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) قيل : الضمير يرجع إلى الكفار لأن المؤمنين يعلمون ما لهم في الآخرة ، والمعنى لو كان هؤلاء الكفار يعلمون أن أجر الآخرة أكبر مما هم فيه من نعيم الدنيا لرغبوا فيه ، وقيل : إنه راجع إلى المهاجرين والمعنى لو كانوا يعلمون ما أعد الله لهم في الآخرة ، لزادوا في الجد والاجتهاد والصبر على ما أصابهم من أذى الماكرين (الَّذِينَ صَبَرُوا) يعني في الله على ما نالهم ، وبذل الأنفس والأموال في سبيل الله (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يعني في أمورهم كلها قال بعضهم ذكر الله الصبر والتوكل في هذه الآية ، وهما مبدأ السلوك إلى الله تعالى ومنتهاه أما الصبر فهو قهر النفس وحبسها على أعمال البر وسائر الطاعات ، واحتمال الأذى من الخلق والصبر عن الشهوات المباحات والمحرمات والصبر على المصائب ، وأما التوكل فالانقطاع عن الخلق بالكلية والتوجه إلى الحق تعالى بالكلية فالأول هو مبدأ السلوك إلى الله تعالى ، والثاني هو آخر الطريق ومنتهاه (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) نزلت هذه الآية جوابا لمشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا الله أعظم وأجل من أن يكون رسوله بشرا فهلا بعث ملكا إلينا فأجابهم الله عزوجل بقوله : وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا يعني مثلك نوحي إليهم والمعنى أن عادة الله عزوجل جارية من أول مبدأ الخلق أنه لم يبعث إلا رسولا من البشر فهذه عادة مستمرة ، وسنة جارية قديمة (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) يعني أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ، وإنما أمرهم الله بسؤال أهل الكتاب لأن كفار مكة كانوا يعتقدون أن أهل الكتاب أهل علم ، وقد أرسل الله إليهم رسلا منهم مثل موسى وعيسى وغيرهم من الرسل ، وكانوا بشرا مثلهم فإذا سألوهم فلا بد ، وأن يخبروهم بأن الرسل الذين أرسلوا إليهم كانوا بشرا ، فإذا أخبروهم بذلك زالت الشبهة عن قلوبهم (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الخطاب لأهل مكة يعني إن كنتم يا هؤلاء لا تعلمون ذلك (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) اختلفوا في المعنى الجالب لهذه الباء فقيل المعنى ، وما أرسلنا من قبلك بالبيّنات والزبر إلا رجالا يوحى إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر ، وقيل الذكر بمعنى العلم في قوله فاسألوا أهل الذكر يعني أهل العلم والمعنى فاسئلوا أهل الذكر الذي هو العلم بالبينات والزبر إن كنتم لا تعلمون أنتم ذلك. والبينات والزبر اسم جامع لكل ما يتكامل به أمر الرسالة ،

٧٨

لأن مدار أمر الرسول على المعجزات الدالة على صدقه ، وهي بالبينات وعلى بيان الشرائع والتكاليف ، وهي المراد بالزبر يعني الكتب المنزلة على الرسل من الله عزوجل (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني : وأنزلنا عليك يا محمد الذكر الذي هو القرآن وإنما سماه ذكرا لأن فيه مواعظ ، وتنبيها للغافلين (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) يعني ما أجمل إليك من أحكام القرآن ، وبيان الكتاب يطلب من السنة والمبين لذلك المجمل هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذا قال بعضهم : متى وقع تعارض بين القرآن والحديث وجب تقديم الحديث لأن القرآن مجمل ، والحديث مبين بدلالة هذه الآية والمبين مقدم على المجمل وقال بعضهم القرآن منه محكم ، ومنه متشابه فالمحكم يجب أن يكون مبينا والمتشابه هو المجمل ويطلب بيانه من السنة فقوله تعالى : لتبين للناس ما نزل إليهم محمول على ما أجمل فيه دون المحكم البين المفسر (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) يعني فيما أنزل إليهم فيعملوا به (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) فيه حذف تقديره المنكرات السيئات وهم كفار قريش مكروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأصحابه ، وبالغوا في أذيتهم والمكر عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء ، وقيل : المراد بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله فيكون مكرهم على أنفسهم والصحيح أن المراد بهذا المكر السعي في أذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين. وقيل : المراد بالذين مكروا السيئات نمروذ ، ومن هو مثله والصحيح أن المراد بهم كفار مكة (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) يعني كما خسف بقرون من قبلهم (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) يعني أن العذاب يأتيهم بغتة فيهلكهم فجأة كما أهلك قوم لوط وغيرهم (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) يعني في تصرفهم في الأسفار فإنه سبحانه وتعالى ، قادر على إهلاكهم في السفر كما هو قادر على إهلاكهم في الحضر ، وقال ابن عباس يأخذهم في اختلافهم. وقال ابن جريج : في إقبالهم وإدبارهم يعني أنه تعالى قادر على أن يأخذهم في ليلهم ونهارهم ، وفي جميع أحوالهم (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) يعني بسابقين الله أو يفوتونه بل هو قادر عليهم (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) قال ابن عباس ومجاهد : يعني على تنقص. قال ابن قتيبة : التخوف التنقص ومثله التخون. يقال تخوفه الدهر وتخونه إذا انتقصه وأخذ ماله وحشمه ، ويقال : هذه لغة هذيل فعلى هذا القول يكون المراد به أنه ينقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يهلك جميعهم وقيل هو على أصله من الخوف فيحتمل أنه سبحانه وتعالى لا يأخذهم بالعذاب أولا ، بل يخوفهم ثم يعذبهم بعد ذلك وقال الضحكاك والكلبي :

هو من الخوف يعني يهلك طائفة فيتخوف الآخرون أن يصيبهم مثل ما أصابهم ، فيحتمل أنه سبحانه وتعالى خوفهم بخسف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء ، أو بآفات تحدث دفعة أو بآفات ، تحدث قليلا قليلا إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم ثم إنه سبحانه وتعالى ، ختم الآية بقوله (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) يعني أنه سبحانه وتعالى ، لا يعجل بالعقوبة والعذاب. قوله سبحانه وتعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا) قرئ بالتاء على خطاب الحاضرين وبالياء على الغيبة (إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) يعني من جسم قائم له ظل ، وهذه الرؤية لما كانت بمعنى النظر وصلت بإلى لأن المراد منها الاعتبار ، والاعتبار لا يكون إلا بنفس الرؤية ، التي يكون معها نظر إلى الشيء ليتأمل أحواله ، ويتفكر فيه فيعتبر به (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) يعني تميل وتدور من جانب إلى جانب فهي من أول النهار على حال ثم تقلص ثم تعود في آخر النهار إلى حالة أخرى ويقال للظل بالعشي فيء ، لأنه من فاء يفيء إذا رجع من المغرب إلى المشرق ، والفيء الرجوع قال الأزهري تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي وما انصرفت عنه الشمس ، والظل يكون بالغداة ، وهو ما لم تنله الشمس وقوله ظلاله جمع ظل وإنما أضاف الظلال ، وهو جمع مفرد وهو قوله : من شيء لأنه يراد به الكثرة ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) قال العلماء : إذا طلعت الشمس من المشرق وأنت متوجه إلى القبلة كان ظلك عن يمينك فإذا ارتفعت الشمس واستوت في وسط السماء كان ظلك خلفك فإذا مالت الشمس إلى الغروب كان ظلك عن يسارك. وقال الضحاك أما اليمين فأول النهار وأما الشمال فآخر النهار وإنما وحد اليمين وإن كان

٧٩

المراد به الجمع للإيجاز والاختصار في اللفظ وقيل اليمين راجع إلى لفظ الشيء وهو واحد والشمائل راجع إلى المعنى لأن لفظ الشيء يراد به الجمع (سُجَّداً لِلَّهِ) في معنى هذا السجود قولان : أحدهما أن المراد به الاستسلام والانقياد والخضوع. يقال سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب ، وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل والمعنى أن جميع الأشياء التي لها ظلال فهي منقادة لله تعالى مستسلمة لأمره غير ممتنعة عليه ، فيما سخرها له من التفيؤ وغيره وقال مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله ، والقول الثاني في معنى هذا السجود أن الظلال واقعة على الأرض ، ملتصقة بها كالساجد على الأرض فلما كانت الظلال يشبه شكلها الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ وقيل ظل كل شيء ساجد لله سواء كان ذلك الشيء يسجد لله أو لا ويقال إن ظل الكافر ساجد لله وهو غير ساجد لله ، (وَهُمْ داخِرُونَ) أي صاغرون أذلاء والداخر الصاغر الذي يفعل ما تأمره به شاء أم أبى وذلك أن جميع الأشياء منقادة لأمر الله تعالى. فإن قلت الظلال ليست من العقلاء فكيف عبر عنا بلفظ من يعقل وجمعها بالواو والنون. قلت : لما وصفها الله سبحانه وتعالى بالطاعة والانقياد لأمره ، وذلك صفة من يعقل عبر عنها بلفظ من يعقل ، وجاز جمعها بالواو والنون ، وهو جمع العقلاء قوله عزوجل (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) قال العلماء : السجود على نوعين سجود طاعة ، وعبادة كسجود المسلم لله عزوجل ، وسجود انقياد وخضوع كسجود الظلال فقوله : ولله يسجد ما في السموات ، وما في الأرض من دابة يحتمل النوعين لأن سجود كل شيء بحسبه فسجود المسلمين ، والملائكة لله سجود عبادة وطاعة وسجود غيرهم سجود انقياد ، وخضوع وأتى بلفظ ما في قوله ما في السموات وما في الأرض للتغليب لأن ما لا يعقل أكثر ممن يعقل في العدد ، والحكم للأغلب كتغليب المذكر على المؤنث ، ولأنه لو أتى بمن التي هي للعقلاء لم يكن فيها دلالة على التغليب بل كانت متناولة للعقلاء خاصة فأتى بلفظة ما ليشمل الكل ، ولفظة الدابة مشتقة من الدبيب وهو عبارة عن الحركة الجسمانية ، فالدابة اسم يقع على كل حيوان جسماني يتحرك ويدب فيدخل فيه الإنسان ، لأنه مما يدب على الأرض ، ولهذا أفرد الملائكة في قوله (وَالْمَلائِكَةُ) لأنهم أولو أجنحة يطيرون بها أو أفردهم بالذكر ، وإن كانوا من جملة من في السموات لشرفهم. وقيل : أراد ولله يسجد ما في السموات من الملائكة ، وما في الأرض من دابة فسجود الملائكة والمسلمين للطاعة ، وسجود غيرهم تذليلها وتسخيرها لما خلقت له وسجود ما لا يعقل ، وسجود الجمادات يدل على قدرة الصانع سبحانه وتعالى ، فيدعو الغافلين إلى السجود لله عند التأمل والتدبر (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) يعني الملائكة (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) وكقوله «وهو القاهر فوق عباده» وقد تقدم تفسيره (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) عن أبي ذر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا ، وملك واضع جبهته ساجدا والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى» قال أبو ذر : لوددت أني كنت شجرة تعضد أخرجه الترمذي وقال عن أبي ذر موقوفا.

فصل

وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن ، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها وسماعها. قوله سبحانه وتعالى :

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ

٨٠