تفسير الخازن - ج ٣

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٣

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٤٦٤

وكرها ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها ، وأطهرك من الأوثان والأصنام والشيطان ثم مضى سليمان حتى مر بوادي السدير واد من الطائف فأتى على وادي النمل كذا قال كعب الأحبار. وقيل : إنه بالشأم هو واد يسكنه الجن وذلك النمل مراكبهم. وقيل : إن ذلك النمل أمثال الذباب. وقيل كالبخاتي والمشهور أنه النمل الصغير (قالَتْ نَمْلَةٌ) قيل : كانت عرجاء وكانت ذات جناحين وقيل اسمها طاخية وقيل جرمي (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) ولم يقل ادخلن لأنه جعل لهم عقولا كالآدميين فخوطبوا خطاب الآدميين وهذا ليس بمستبعد أن يخلق الله فيها عقلا ونطقا فإنه قادر على ذلك (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) أي لا يكسرنكم (سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) قال أهل التفسير. علمت النملة أن سليمان نبي ليس فيه جبروتية ولا ظلم ، ومعنى الآية أنكم لو لم تدخلوا وطئوكم ، ولم يشعروا فسمع سليمان قولها من ثلاثة أميال وكان لا يتكلم أحد بشيء إلا حملته الريح حتى تلقيه إلى مسامع سليمان ، فلما بلغ وادي النمل حبس جنوده حتى دخلوا بيوتهم. فإن قلت : كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده وهو فوق البساط على متن الريح ، قلت كأنهم أرادوا النزول عند منقطع الوادي ، فلذلك قالت نملة : لا يحطمنكم سليمان وجنوده لأنهم ما دامت الريح تحملهم لا يخاف حطمهم (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) قيل أكثر ضحك الأنبياء تبسم وقيل معنى ضاحكا متبسما ، وقيل : كان أوله التبسم وآخره الضحك (ق) عن عائشة رضي الله عنها قالت : «ما رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم» عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال «ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أخرجه الترمذي. فإن قلت : ما كان سبب ضحك سليمان. قلت شيئان : أحدهما ما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم ، وذلك قولها وهم لا يشعرون يعني أنهم لو شعروا ما يفعلون. الثاني سروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحدا من إدراك سمعه ، ما قالته النملة وقيل : إن الإنسان إذا رأى أو سمع ما لا عهد له به تعجب وضحك ، ثم إن سليمان حمد ربه على ما أنعم به عليه (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) أي أدخلني في جملتهم ، وأثبت اسمي مع أسمائهم واحشرني في زمرتهم.

قال ابن عباس : يريد مع إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين وقيل : أدخلني الجنة مع عبادك الصالحين. قوله عزوجل (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) أي طلبها وبحث عنها والمعنى أنه طلب ما فقد من الطير (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) وكان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه إخلاله بالنوبة ، وذلك أن سليمان كان إذا نزل منزلا تظله وجنده الطير من الشمس ، فأصابته الشمس من موضع الهدهد فنظر فرآه خاليا. وروي عن ابن عباس أنه كان دليله على الماء وكان يعرف موضع الماء ويرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة ، ويعرف قربه من بعده فينقر الأرض فتجيء الشياطين فيحفرونه ويستخرجون الماء منه قال سعيد بن جبير : لما ذكر ابن عباس هذا ، قال نافع بن الأزرق بأوصاف ، انظر ما تقول إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب ، فيجيء بالهدهد ، وهو لا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه ، فقال له ابن عباس ويحك إذا جاء القدر حال دون البصر وفي رواية إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب ، وعمي البصر فنزل سليمان منزلا واحتاج إلى الماء ، فطلبوه فلم يجدوه فتفقد الهدهد ليدله على الماء فقال ما لي لا أرى الهدهد على تقدير أنه مع جنوده ، وهو لا يراه ثم إنه أدركه الشك فقال (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أي أكان وقيل بل كان من أهل الغائبين ، ثم أوعده على غيبته فقال :

(لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢))

٣٤١

(لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) قيل هو أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطا لا يمتنع من النمل ولا من غيره وقيل لأودعنه القفص ولأحبسنه مع ضده ، وقيل لأفرقنّ بينه وبين إلفه (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة بينة على غيبته وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس ، عزم على الخروج إلى أرض الحرم فتجهز للمسير واستصحب جنوده من الجن والإنس ، والطير والوحش فحملتهم الريح فلما وافى الحرم أقام ما شاء الله أن يقيم ، وكان في كل يوم ينحر طول مقامه خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة وقال لمن يحضر من أشراف قومه إن هذا المكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا ، يعطى النصرة على جميع من ناوأه وتبلغ هيبته مسيرة شهر ، القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم قالوا فبأي دين يدين يا نبي الله؟ قال : بدين الحنيفية فطوبى لمن أدركه وآمن به قالوا كم بيننا وبين خروجه يا نبي الله قال مقدار ألف سنة فليبلغ الشاهد الغائب ، فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل قال فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج من مكة صباحا ، وسار نحو اليمن فوافى صنعاء زوالا أي وقت الزوال ، وذلك مسيرة شهر فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها فأحب النزول بها ليصلي ويتغذى فلما نزل قال الهدهد : اشتغل سليمان بالنزول فارتفع نحو السماء لينظر إلى الدنيا ، وعرضها فبينما هو ينظر يمينا وشمالا رأى بستانا لبلقيس فنزل إليه فإذا هو بهدهد آخر وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن يعفير ، فقال يعفير ليعفور : من أين أقبلت وأين تريد قال أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود قال ومن سليمان بن داود؟ قال : ملك الإنس والجن والشياطين ، والطير والوحش والرياح فمن أين أنت يا يعفير قال أنا من هذه البلاد قال : ومن ملكها؟ قال : امرأة يقال لها بلقيس وإن لصاحبك ملكا عظيما ، ولكن ليس ملك بلقيس دونه ، فإنها تملك اليمن وتحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة مع كل ملك أربعة آلاف مقاتل ، ولها ثلاثمائة وزير يديرون ملكها ولها اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد اثنا عشر ألف مقاتل ، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها قال أخاف أن يفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء قال الهدهد اليماني إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة. قال فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها ، وأما سليمان فإنه نزل على غيره ماء فسأل عن الماء الإنس والجن فلم يعلموا فتفقد الهدهد فلم يره فدعا بعريف الطير ، وهو النسر فسأله عن الهدهد فقال أصلح الله الملك ما أدري أين هو ، وما أرسلته إلى مكان فغضب سليمان وقال لأعذبنه الآية ثم دعا العقاب وهو أشد الطير ، فقال له عليّ بالهدهد هذه الساعة فرفع العقاب في الهواء حتى رأى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ، ثم التفت يمينا وشمالا فرأى الهدهد مقبلا من نحو اليمن فانقض العقاب يريده ، فعلم الهدهد أن العقاب يقصده بسوء فقال له بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني ، ولم تتعرض لي بسوء فتركه العقاب وقال ويحك ثكلتك أمك إن نبي الله قد حلف أن يعذبك ، أو أن يذبحك ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما انتهيا إلى العسكر تلقاه النسر والطير ، فقالوا : ويلك أين غبت في يومك هذا فلقد توعدك نبي الله وأخبروه بما قال سليمان. فقال الهدهد : أو ما استثنى نبي الله قالوا بلى ولكنه قال أو ليأتيني بسلطان مبين. قال نجوت إذا فانطلق به العقاب : حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه فقال العقاب قد أتيتك به يا نبي الله فلما قرب منه الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان ، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه. وقال له : أين كنت لأعذبنك عذابا شديدا فقال يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه ، ثم قال ما الذي أبطأك عني فقال الهدهد ما أخبر الله عنه بقوله تعالى (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) معناه أي غير طويل (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي عملت ما لم تعلم وبلغت ما لم تبلغ أنت ولا جنودك ألهم الله الهدهد هذا الكلام فكافح سليمان تنبيها على أن أدنى خلق الله قد أحاط علما بما لم يحط به ليكون لطفا له في ترك الإعجاب. والإحاطة بالشيء علما أن يعلمه من جميع جهاته حتى لا يخفى عليه منه معلوم (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) قيل : هو اسم للبلد وهي مأرب

٣٤٢

والأصح أنه أسم رجل وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وقد جاء في الحديث أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن سبأ فقال : رحل له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة (بِنَبَإٍ) أي بخبر (يَقِينٍ) فقال سليمان وما ذاك فقال :

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨))

(إِنِّي) أي الهدهد (وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) هي بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان ، وكان أبوها ملكا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكا هو آخرهم ، وكان يملك أرض اليمن كلها وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفؤا لي وأبى أن يتزوج منهم فخطب إلى الجن فزوجوه منهم امرأة يقال لها ريحانة بنت السكن. قيل في سبب وصوله إلى الجن حتى خطب منهم ، أنه كان كثير الصيد فربما اصطاد الجن ، وهم على صورة الظباء فيخلي عنهم فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقا ، فخطب ابنته فزوجه إياها وقيل إنه خرج متصيدا فرأى حيتين يقتتلان بيضاء وسوداء ، وقد ظهرت السوداء على البيضاء ، فقتل السوداء وحمل البيضاء وصب عليها الماء فأفاقت ، وأطلقها فلما رجع إلى داره وجلس وحده منفردا ، فإذا معه شاب جميل فخاف منه ، قال : لا تخف أنا الحية البيضاء التي أحييتني والأسود الذي قتلته هو عبد لنا تمرد علينا ، وقتل عدة منا وعرض عليه المال فقال : المال لا حاجة لي به. ولكن إن كان لك بنت فزوجنيها فزوجه ابنته ، فولدت له بلقيس وجاء في الحديث «إن أحد أبوي بلقيس كان جنيا : فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك وطلبت قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وأبى آخرون ، وملكوا عليهم رجلا آخر يقال : إنه ابن أخي الملك وكان خبيثا سيء السيرة في أهل مملكته ، حتى كان يمد يده إلى حريم رعيته ، ويفجر بهن فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه فلما رأت بلقيس ذلك ، أدركتها الغيرة فأرسلت إليه فعرضت نفسها عليه فأجابها الملك وقال : ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا اليأس منك فقالت لا أرغب عنك لأنك كفؤ كريم ، فاجمع رجال أهلي واخطبني منهم ، وخطبها فقالوا لا نراها تفعل فقال : بلى إنها قد رغبت فيّ فذكروا ذلك لها فقالت : نعم فزوجوها منه فلما زفت إليه خرجت في ملأ كثير من خدمها وحشمها ، فلما دخلت به سقته الخمر حتى سكر ثم قتلته وحزت رأسه وانصرفت إلى منزلها من الليل ، فلما أصبحت أرسلت إلى وزرائه وأحضرتهم وقرعتهم وقالت أما كان فيكم من يأنف لكريمته أو كرائم عشيرته ، ثم أرتهم إياه قتيلا وقالت اختاروا رجلا تملكونه عليكم فقالوا لا نرضى غيرك فملكوها وعلموا أن ذلك النكاح كان مكرا وخديعة منها (خ) عن أبي بكرة قال لما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال «لن يفلح قوم ملكوا عليهم امرأة». قوله تعالى (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يعني ما تحتاج إليه الملوك من المال والعدة (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) أي سرير ضخم عال. فإن قلت : كيف استعظم الهدهد عرشها على ما رأى من عظمة ملك سليمان. قلت : يحتمل أنه استعظم ذلك بالنسبة إليها ، ويحتمل أنه لم يكن لسليمان مع عظم ملكه مثله وكان عرش بلقيس من الذهب مكللا بالدر ، والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ، وقوائمه من الياقوت والزمرد ، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق قال ابن عباس : كان عرش

٣٤٣

بلقيس ثلاثين ذراعا ، في ثلاثين ذراعا وطوله في السماء ثلاثون ذراعا. وقيل كان طوله ثمانين في ثمانين وعلوه ثمانون وقيل : كان طوله ثمانين وعرضه أربعين وارتفاعه ثلاثون ذراعا. قوله عزوجل إخبارا عن الهدهد (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) وذلك أنهم كانوا يعبدون الشمس ، وهم مجوس (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) المزين هو الله لأنه الفعال لما يريد ، وإنما ذكر الشيطان لأنه سبب الإغواء (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي عن طريق الحق الذي هو دين الإسلام (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) أي إلى الصواب (أَلَّا يَسْجُدُوا) قرئ بالتخفيف ومعناه ألا يا أيها الناس اسجدوا وهو أمر من الله مستأنف ، وقرئ بالتشديد ومعناه وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا (لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) يعني الخفي المخبأ (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قيل خبء السموات المطر وخبء الأرض النبات (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) والمقصود من هذا الكلام الرد على من يعبد الشمس وغيرها ، من دون الله لأنه لا يستحق العبادة إلا من هو قادر على من في السموات والأرض ، عالم بجميع المعلومات (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي هو المستحق للعبادة والسجود لا غيره.

فصل

وهذه السجدة من عزائم السجود ، يستحب للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها. فإن قلت : قد وصف عرش بلقيس بالعظم وعرش الله بالعظم ، فما الفرق بينهما. قلت وصف عرش بلقيس بالعظم بالنسبة إليها وإلى أمثالها من ملوك الدنيا وأما عرش الله تعالى فهو بالنسبة إلى جميع المخلوقات من السموات والأرض ، فحصل الفرق بينهما فلما فرغ الهدهد من كلامه (قالَ) سليمان (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ) أي فيما أخبرت (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) ثم إن الهدهد دلهم على الماء فاحتفروا الركايا وروى الناس والدواب ، ثم إن سليمان كتب كتابا : من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ «بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين قيل لم يزد على ما نص الله في كتابه ، وكذلك الأنبياء كانوا يكتبون جملا ، لا يطيلون ولا يكثرون فلما كتب سليمان الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمه ، وقال للهدهد (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) إنما قال : إليهم بلفظ الجمع لأنه جعله جوابا لقول الهدهد وجدتها وقومها يسجدون للشمس فقال : فألقه إلى الذين هذا دينهم (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي تنح عنهم فقف قريبا منهم (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) أي يردون من الجواب وقيل : تقدير الآية فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنه ، أي انصرف إلي فأخذ الهدهد الكتاب وأتى به إلى بلقيس وكانت بأرض مأرب من اليمن على ثلاث مراحل من صنعاء ، فوجدها نائمة مستلقية على قفاها وقد غلقت الأبواب ، ووضعت المفاتيح تحت رأسها وكذلك كانت تفعل إذا رقدت فأتى الهدهد وألقى الكتاب على نحرها وقيل : حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على المرأة وحولها القادة والوزراء والجنود ، فرفرف ساعة والناس ينظرون فرفعت بلقيس رأسها فألقى الكتاب في حجرها وقال وهب بن منبه : كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع فيها حين تطلع فإذا نظرت إليها سجدت لها فجاء الهدهد ، وسد الكوة بجناحيه فارتفعت الشمس ، ولم تعلم فلما استبطأت الشمس قامت تنظر ، فرمى بالصحيفة إليها فأخذت بلقيس الكتاب ، وكانت قارئة فلما رأت الخاتم ارتعدت ، وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكا منها فقرأت الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد وجاءت هي حتى قعدت على سرير ملكها ، وجمعت الملأ من قومها وهم الأشراف وقال ابن عباس كان مع بلقيس مائة قيل مع كل قيل مائة ألف والقيل ملك دون الملك الأعظم وقيل كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، كل رجل منهم على عشرة آلاف فلما جاءوا وأخذوا مجالسهم.

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا

٣٤٤

عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥))

(قالَتْ) لهم بلقيس (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) قيل سمته كريما لأنه كان مختوما ، روى ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «كرامة الكتاب ختمه» وقال ابن عباس : كريم أي شريف لشرف صاحبه ، ثم بينت ممن الكتاب فقالت (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) قرأت المكتوب فيه فقالت (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فإن قلت لم قدم إنه من سليمان على بسم الله. قلت : ليس هو كذلك بل ابتدأ سليمان ببسم الله الرحمن الرحيم وإنما ذكرت بلقيس ، أن هذا الكتاب من سليمان ثم ذكرت ما في الكتاب فقالت : وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) قال ابن عباس : لا تتكبروا علي. والمعنى لا تمتنعوا من الإجابة فإن ترك الإجابة ، من العلو والتكبر (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي طائعين مؤمنين وقيل من الاستسلام وهو الانقياد (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أي أشيروا علي فيما عرض لي (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً) أي قاضية وفاصلة (حَتَّى تَشْهَدُونِ) أي تحضرون (قالُوا) يعني الملأ مجيبين لها (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) أي في الجسم على القتال (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي عند الحرب وقيل أرادوا بالقوة كثرة العدد والبأس والشجاعة وهذا تعريض منهم بالقتال أي إن أمرتهم بذلك ثم قالوا (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أيتها الملكة أي في القتال وتركه (فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) أي تجدين مطيعين لأمرك (قالَتْ) بلقيس مجيبة لهم عن التعريض للقتال وما يؤول إليه أمره (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) أي عنوة (أَفْسَدُوها) أي خربوها (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) أي أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر تحذرهم بذلك مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم ثم تناهى الخبر عنها هنا ، وصدق الله قولها فقال تعالى (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) أي كما قالت هي يفعلون وقيل هو من قولها وهو للتأكيد لما قالت ثم قالت (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) يعني إلى سليمان وقومه أصانعه بها على ملكي ، وأختبره بها أملك هو أم نبي فإن كان ملكا قبل الهدية ورجع ، وإن كان نبيا لم يقبل الهدية ، ولم يرضه منا إلا أن نتبعه في دينه وهو قولها (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) وذلك أن بلقيس كانت امرأة لبيبة عاقلة قد ساست الأمور ، وجربتها فأهدت وصفاء ووصائف.

قال ابن عباس : مائة وصيف ومائه وصيفة قال وهب وغيره عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية ، فألبست الجواري لبس الغلمان الأقبية والمناطق ، وألبست الغلمان لبس الجواري وجعلت في أيديهم أساور الذهب ، وفي أعناقهم أطواق الذهب وفي آذانهم أقرطة ، وشنوفا مرصعات بأنواع الجواهر وحملت الجواري على خمسمائة رمكة ، والغلمان على خمسمائة برذون على كل فرس سرج من الذهب مرصع بالجواهر ، وأغشية الديباج وبعثت إليه لبنات من الذهب ولبنات من الفضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت ، وأرسلت بالمسك والعنبر والعود اليلنجوج وعمدت إلى حق جعلت فيه درة بقيمة ثمينة غير مثقوبة ، وخرزة جزع معوجة الثقب ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له : المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالا من قومها أصحاب عقل ورأي وكتبت مع المنذر كتابا تذكر فيه الهدية ، وقالت : إن كنت نبيا ميز بين الوصفاء والوصائف ، وأخبرنا بما في الحق قبل أن تفتحه واثقب الدرة ثقبا مستويا وأدخل في الخرزة خيطا من غير علاج إنس ولا جن ، وأمرت بلقيس الغلمان فقالت : إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء ، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال ، ثم قالت للرسول انظر إذا دخلت ، فإن نظر إليك نظرا فيه غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك أمره ومنظره فأنا أعز منه وإن رأيت الرجل بشاشا لطيفا فافهم أنه نبي فتفهم قوله ورد الجواب

٣٤٥

فانطلق الرسول بالهدايا ، وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان ، فأخبره فأمر سليمان الجن أن يضربوا لبنا من الذهب والفضة ، ففعلوا وأمرهم بعمل ميدان مقدار تسعة فراسخ وأن يفرشوا لبن الذهب والفضة ، وأن يخلوا مقدار تلك اللبنات التي معهم وأن يعملوا حائطا شرفه من الذهب والفضة ، ففعلوا ثم قال أي دواب البر والبحر أحسن فقالوا يا نبي الله ما رأينا أحسن من دابة من دواب البحر يقال لها كذا وكذا مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص ، قال : علي بها الساعة فأتوا بها قال شدوها بين يمين الميدان وشماله ثم قال للجن علي بأولادكم ، فاجتمع منهم خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان ، وعلى شماله وأمر الإنس والجن والشياطين ، والوحوش والطير والسباع فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله ، فلما دنا القوم إلى الميدان ونظروا إلى ملك سليمان رأوا أول الأمر الدواب ، التي لا يرى مثلها تروث في لبنات الذهب والفضة ، فلما رأوا ذلك تقاصرت أنفسهم وخبؤوا ما معهم من الهدايا وقيل إن سليمان فرش الميدان بلبنات الذهب والفضة ، وترك على طريقهم موضعا على قدر ما معهم من اللبن في ذلك الموضع فلما رأى الرسل موضع اللبنات خاليا خافوا أن يتهموا بذلك ، فوضعوا ما معهم من اللبن في ذلك الموضع ، ولما رأوا الشياطين هالهم ما رأوا وفزعوا فقالت لهم الشياطين جوزوا لا بأس عليكم ، فكانوا يمرون على كردايس الإنس والجن والوحش والطير حتى وقفوا بين يدي سليمان ، فأقبل عليهم بوجه طلق وتلقاهم تلقيا حسنا ، وسألهم عن حالهم فأخبره رئيس القوم بما جاءوا فيه وأعطوه كتاب الملكة فنظر فيه ، وقال أين الحق؟ فأتى به فحركه فجاءه جبريل فأخبره بما فيه ، فقال لهم : أن فيه درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة معوجة الثقب قال الرسول : صدقت فاثقب الدرة وأدخل الخيط في الجزعة فقال سليمان : من لي بثقبها وسأل الإنس والجن ، فلم يكن عندهم علم ثم سأل الشياطين فقالوا : نرسل إلى الأرضة فلما جاءت الأرضة أخذت شعرة في فيها ودخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر فقال سليمان ما حاجتك قالت : تصير رزقي في الشجر. فقال : لك ذلك ثم قال من لي بهذه الخرزة فقالت دودة بيضاء أنا لها يا نبي الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر. فقال لها سليمان : ما حاجتك فقالت يكون رزقي في الفواكه قال : لك ذلك ثم ميز بين الغلمان والجواري ، بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها ، تضرب بها الأخرى وتغسل وجهها والغلام يأخذ الماء بيديه ويغسل به وجهه ، وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها والغلام على ظاهره فميز بين الغلمان والجواري ، ثم رد سليمان الهدية كما أخبر الله تعالى فقال تعالى :

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩))

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ) أي ما أعطاني من الدين والنبوة والحكمة والملك (خَيْرٌ) أي أفضل (مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) معناه أنتم أهل مفاخرة ومكاثرة بالدنيا تفرحون بإهداء بعضكم إلى بعض ، وأما أنا فلا أفرح بالدنيا وليست الدنيا من حاجتي لأن الله قد أعطاني منها ما لم يعط أحدا ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة ، ثم قال للمنذر بن عمرو أمير الوفد (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) أي بالهدية (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ) أي لا طاقة (لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) أي من أرض سبأ (أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) أي إن لم يأتوني مسلمين قال وهب وغيره من أهل الكتاب : لما رجعت رسل بلقيس إليها أي من عند سليمان ، وبلغوها ما قال سليمان قالت والله لقد عرفت ما هذا بملك وما لنا به من طاقة. فبعثت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك ، وما الذي تدعو إليه من دينك ، ثم أمرت بعرشها فجعلته في آخر سبعة أبيات بعضها داخل

٣٤٦

بعض ثم أغلقت عليه سبعة أبواب ، ووكلت به حراسا يحفظونه ثم قالت لمن خلفت على ملكها احتفظ بما قبلك وسرير ملكي لا يخلص إليه أحد ، ثم أمرت مناديا ينادي في أهل مملكتها تؤذنهم بالرحيل ، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن كل قيل تحت يده ألوف كثيرة ، قال ابن عباس : وكان سليمان رجلا مهيبا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه. فخرج يوما فجلس على سريره فرأى رهجا قريبا منه قال ما هذا؟ قالوا : بلقيس قد نزلت منا بهذا المكان وكان على مسيرة فرسخ من سليمان فأقبل سليمان على جنوده (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) قال ابن عباس يعني طائعين وقيل مؤمنين. قيل : غرض سليمان في إحضار عرشها ليريها قدرة الله تعالى وإظهار معجزة دالة على نبوته ، وقيل أراد أن ينكره ويغيره قبل مجيئها ليختبر بذلك عقلها وقيل : إن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه لأنه أعجبه وصفه ، لما وصفه له الهدهد وقيل أراد أن يعرف قدر ملكها لأن السرير على قدر المملكة (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ) وهو المارد القوي ، وقال ابن عباس العفريت الداهية قال وهب : اسمه كوذي. وقيل : ذكوان. وقيل : هو صخر المارد وكان مثل الجبل يضع قدمه عند منتهى طرفه (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) أي مجلس قضائك قال ابن عباس : وكان له في الغداة مجلس يقضي فيه إلى متسع النهار وقيل نصفه (وَإِنِّي عَلَيْهِ) أي على حمله (لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) أي على ما فيه من الجواهر وغيرها قال سليمان : أريد أسرع من ذلك.

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) قيل هو جبريل. وقيل : هو ملك أيد الله به سليمان وقيل هو آصف بن برخيا وكان صديقا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى وقيل هو سليمان نفسه لأنه أعلم بني إسرائيل بالكتاب وكان الله قد آتاه علما وفهما ، فعلى هذا يكون المخاطب العفريت الذي كلمه فأراد سليمان إظهار معجزة ، فتحداهم أولا ثم بين للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتأتى للعفريت قيل : كان الدعاء الذي دعا به : يا ذا الجلال والإكرام وقيل : يا حي يا قيوم. وروي ذلك عن عائشة وروي عن الزهري قال دعاء الذي عنده علم من الكتاب : يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ، ائتني بعرشها ، وقال ابن عباس : إن آصف قال لسليمان حين صلى مد عينيك حتى ينتهي طرفك فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمن ودعا آصف ، فبعث الله الملائكة فحملوا السرير يجرون به تحت الأرض ، حتى نبع من بين يدي سليمان وقيل : خر سليمان ساجدا ودعا باسم الله الأعظم فغاب العرش تحت الأرض حتى ظهر عند كرسي سليمان فقال : ما قال (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) قال سليمان : هات قال أنت النبي ابن النبي وليس أحد عند الله أوجه منك فإن دعوت الله كان عندك : قال صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت (فَلَمَّا رَآهُ) يعني رأى سليمان العرش (مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) أي محولا إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف (قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي) يعني لتمكن من حصول المراد (أَأَشْكُرُ) أي نعمته علي (أَمْ أَكْفُرُ) فلا أشكرها (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما

٣٤٧

يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) أي يعود نفع شكره إليه وهو أن يستوجب به تمام النعمة ، ودوامها لأن الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ) أي عن شكره لا يضره ذلك الكفران (كَرِيمٌ) يعني بالإفضال عليه لا يقطع نعمة عنه بسبب إعراضه عن الشكر وكفران النعمة (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) يعني غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته قيل : هو أن يزاد فيه أو ينقص منه وقيل : إنما يجعل أسفله أعلاه ويجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر ومكان الأخضر أحمر (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي) إلى معرفة عرشها (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) إلى معرفته ، وإنما حمل سليمان على ذلك ما قال وهب ومحمد بن كعب ، وغيرهما أن الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أسرار الجن ، لأن أمها كانت جنية وإذا ولدت ولدا لا ينفكون من تسخير سليمان وذريته من بعده فأساءوا الثناء عليها ليزهدوه فيها ، وقالوا : إن في عقلها شيئا وإن رجلها كحافر الحمار ، وإنها شعراء الساقين فأراد سليمان ، أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ) لها (أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) قيل : إنها عرفته ولكن شبهت عليهم كما شبهوا عليها ، وقيل : إنها كانت حكيمة لم تقل نعم خوفا من الكذب ولا قالت : لا خوفا من التكذيب أيضا فقالت : كأنه هو فعرف سليمان كمال عقلها بحيث لم تقر ولم تنكر اشتبه عليها أمر العرش ، لأنها تركته في بيت عليه سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها قيل فإنه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الأبواب ثم قالت (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها) يعني من قبل الآية في العرش (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) يعني منقادين مطيعين خاضعين لأمر سليمان وقيل : قوله تعالى وأوتينا العلم أي بالله وبصحة نبوة سليمان بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبلها أي من قبل الآية في العرش ، وكنا مسلمين أو معناه وأوتينا العلم بالله ، وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة وكنا مسلمين ويكون الغرض من هذا شكر نعمة الله عليه أن خصه بمزيد العلم ، والتقدم في الإسلام وقيل معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها طائعة وكنا مسلمين لله.

قوله تعالى (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني منعتها عبادة الشمس عن التوحيد وعبادة الله وقيل معناه صدها سليمان ، عما كانت تعبد من دون الله وحال بينها وبينه (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) أخبر الله أنها كانت من قوم يعبدون الشمس ، فنشأت بينهم ولم تعرف إلا عبادة الشمس (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) وذلك أن سليمان لما اختبر عقلها بتنكير العرش وأراد أن ينظر إلى قدميها وساقيها من غير أن يسألها كشفهما لما أخبرته الجن أن رجليها كحافر حمار ، وهي شعراء الساقين أمر الشياطين ، فعملوا لها قصرا من الزجاج الأبيض كالماء وقيل : الصرح صحن الدار وأجرى تحته الماء ، وألقى فيه السمك والضفادع وغيرهما من دواب البحر ثم وضع سريره في صدر المجلس وجلس عليه وقيل إنما عمل الصرح ليختبر به فهمها كما فعلت في الوصفاء والوصائف.

فلما جلس على السرير دعا بلقيس ، ولما جاءت قيل لها ادخلي الصرح (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً) أي ماء عظيما (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) لتخوض الماء إلى سليمان ، فإذا هي أحسن النساء ساقا وقدما إلا أنها كانت شعراء الساقين فلما نظر سليمان ذلك صرف بصره عنها (قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) أي مملس (مِنْ قَوارِيرَ) زجاج وليس بماء فحينئذ سترت ساقيها وعجبت من ذلك وعلمت أن ملك سليمان من الله تعالى واستدلت بذلك على التوحيد والنبوة (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بعبادة غيرك (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي أخلصت له التوحيد والعبادة ، وقيل : إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت : في نفسها إن سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل أهون من هذا فلما تبين لها خلاف ذلك قالت : رب إني ظلمت نفسي بذلك الظن. واختلفوا في أمر بلقيس بعد إسلامها ، فقيل انتهى أمرها إلى قولها أسلمت لله رب العالمين ولا عمل لأحد وراء ذلك ، لأنه لم يذكر في الكتاب ولا في خبر صحيح وقال بعضهم : تزوجها سليمان وكره ما رأى من كثرة شعر ساقيها ، فسأل الإنس عما يذهب ذلك فقالوا الموسى. فقالت المرأة إني لم يمسني حديد قط فكره سليمان الموسى وقال : إنها تقطع ساقيها

٣٤٨

فسأل الجن فقالوا لا ندري فسأل الشياطين. فقالوا : نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا النورة ، والحمام فكانت النورة والحمامات من يومئذ. فلما تزوجها سليمان أحبها حبا شديدا ، وأقرها على ملكها وأمر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا ، وهي سلحين وبيسنون وغمدان ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة ، ويقيم عندها ثلاثة أيام يبكر من الشام إلى اليمن ومن اليمن إلى الشام وولدت له ولدا ذكرا. وقال وهب : زعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان اختاري رجلا من قومك حتى أزوجك إياه ، فقالت : ومثلي يا نبي الله ينكح الرجال وقد كان لي من قومي الملك والسلطان ، قال : نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله قالت : فإن كان ولا بد فزوجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه وذهب بها إلى اليمن ، وملك زوجها ذا تبع على اليمن ، ودعا زوبعة ملك الجن وقال له اعمل لذي تبع ما استعملك فيه فلم يزل يعمل له ما أراد إلى أن مات سليمان وحال الحول ، وعلم الجن موت سليمان ، فأقبل رجل منهم حتى بلغ جوف اليمن وقال بأعلى صوته : يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا وانقضى ملك سلمان وملك ذي تبع وملك بلقيس ، وبقي الملك لله الواحد القهار قيل إن سليمان ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩))

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أي وحدوه لا تشركوا به شيئا (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ) أي مؤمن وكافر (يَخْتَصِمُونَ) أي في الدين كل فريق يقول الحق معنا (قالَ) يعني صالحا للفريق المكذب (يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ) أي بالبلاء والعقوبة (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي العافية والرحمة (لَوْ لا) أي هلا (تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) أي بالتوبة إليه من الكفر (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لا تعذبون في الدنيا (قالُوا اطَّيَّرْنا) أي تشاءمنا (بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) قيل : إنما قالوا ذلك لتفرق كلمتهم وقيل : لإمساك القطر عنهم قالوا إنما أصابنا هذا الضر والشدة من شؤمك وشؤم أصحابك (قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي ما يصيبكم من الخير والشر بأمر الله مكتوب عليكم ، سمي طائرا لأنه لا شيء أسرع من نزول القضاء المحتوم وقال ابن عباس الشؤم الذي أتاكم من عند الله بكفركم وقيل طائركم أي عملكم ، عند الله ، سمي طائرا لسرعة صعوده إلى السماء (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) قال ابن عباس تختبرون بالخير والشر وقيل معناه تعذبون. قوله تعالى (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ) يعني مدينة ثمود وهي الحجر (تِسْعَةُ رَهْطٍ) يعني من أبناء أشرافهم (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) أي بالمعاصي (وَلا يُصْلِحُونَ) أي لا يطيعون وهم غواة قوم صالح الذين اتفقوا على عقر الناقة ورأسهم قدار بن سالف (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ) يعني يقول بعضهم لبعض احلفوا بالله أيها القوم (لَنُبَيِّتَنَّهُ) أي لنقتلنه ليلا (وَأَهْلَهُ) يعني قومه الذين آمنوا معه (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ) أي لولي دمه (ما شَهِدْنا) يعني ما حضرنا (مَهْلِكَ أَهْلِهِ) أي ما ندري من قتله ولا هلاك أهله (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) يعني في قولنا ما شهدنا ذلك.

(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ

٣٤٩

أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣))

(وَمَكَرُوا مَكْراً) أي غدروا غدرا حين قصدوا تبيت صالح وأهله (وَمَكَرْنا مَكْراً) يعني جازيناهم على مكرهم بتعجيل العذاب (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) يعني أهلكناهم أي التسعة قال ابن عباس : أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه فأتت التسعة دار صالح شاهرين سلاحهم ، فرمتهم الملائكة بالحجارة وهم يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلتهم وأهلك الله جميع القوم بالصيحة (وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) أي بظلمهم وكفرهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي لعبرة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي قدرتنا (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا ، وَكانُوا يَتَّقُونَ) يقال إن الناجين كانوا أربعة آلاف. قوله تعالى (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي الفعلة القبيحة (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي تعلمون أنها فاحشة وهو من بصر القلب وقيل : معناه يبصر بعضكم بعضا وكانوا لا يستترون عتوا منهم (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) فإن قلت إذا فسر تبصرون بالعلم وقد قال : بعده «قوم تجهلون» فيكون العلم جهلا. قلت : معناه تفعلون فعل الجاهلين وتعلمون أنه فاحشة. وقيل : تجهلون العاقبة وقيل أراد بالجهل السفاهة التي كانوا عليها (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) يعني من أدبار الرجال (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) أي قضينا عليها بأن جعلناها من الباقين في العذاب (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أي الحجارة (فَساءَ) أي فبئس (مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) قوله عزوجل (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) هذا خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية ، وقيل : يحمده على جميع نعمه وسلام على عباده الذين اصطفى يعني الأنبياء والمرسلين وقال ابن عباس : هم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) فيه تبكيت للمشركين وإلزام الحجة عليهم بعد هلاك الكفار. والمعنى آلله خير لمن عبده أم الأصنام لمن عبدها فإن الله خير لمن عبده وآمن به لإغنائه عنه من الهلاك والأصنام ، لم تغن شيئا عن عابديها عند نزول العذاب ، ولهذا السبب ذكر أنواعا تدل على وحدانيته وكمال قدرته.

فالنوع الأول قوله تعالى : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ذكر أعظم الأشياء المشاهدة الدالة على عظيم

٣٥٠

قدرته. والمعنى الأصنام خير أم الذي خلق السموات والأرض ثم ذكر نعمه فقال (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) يعني المطر (فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) أي بساتين جمع حديقة ، وهو البستان المحيط عليه فإن لم يكن عليه حائط فليس بحديقة (ذاتَ بَهْجَةٍ) أي ذات منظر حسن والبهجة الحسن يبتهج به من يراه (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) يعني ما ينبغي لكم ، لأنكم لا تقدرون على ذلك لأن الإنسان قد يقول : أنا المنبت للشجرة بأن أغرسها وأسقيها الماء فأزال هذه الشبهة بقوله (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) لأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف ، والطعوم والروائح المختلفة والزروع تسقى بماء واحد ، لا يقدر عليه إلا الله تعالى ؛ ولا يتأتى لأحد وإن تأتى ذلك لغيره محال (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يعني هل معه معبود أعانه على صنعه (بَلْ) يعني ليس معه إله ولا شريك (هُمْ قَوْمٌ) يعني كفار مكة (يَعْدِلُونَ) يشركون وقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر إلى الباطل. النوع الثاني قوله عزوجل (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) أي دحاها وسواها للاستقرار عليها ، وقيل لا تميد بأهلها (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) أي وسطها بأنهار تطرد بالمياه (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) يعني العذب والملح (حاجِزاً) أي مانعا لا يختلط أحدهما بالآخر (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي توحيد ربهم وقدرته وسلطانه. النوع الثالث قوله تعالى (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ) أي المكروب المجهود ، وقيل : المضرور بالحاجة المحوجة من مرض أو نازلة من نوازل الدهر يعني إذا نزلت بأحد بادر إلى الالتجاء والتضرع إلى الله تعالى وقيل : هو المذنب إذا استغفر (إِذا دَعاهُ) يعني فيكشف ضره (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) أي الضر لأنه لا يقدر على تغيير حال من فقر إلى غنى ، ومن مرض إلى صحة ومن ضيق إلى سعة إلا القادر ، الذي لا يعجز والقاهر الذي لا يغلب ولا ينازع (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أي سكانها ، وذلك أنه ورثهم سكانها والتصرف فيها قرنا بعد قرن وقيل يجعل أولادكم خلفاء لكم وقيل : جعلكم خلفاء الجن في الأرض (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي تتعظون. النوع الرابع قوله عزوجل (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي يهديكم بالنجوم والعلامات إذا جن عليكم الليل مسافرين في البر والبحر (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي قدام المطر (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) النوع الخامس قوله تعالى :

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨))

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي نطفا في الأرحام (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد الموت (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي من السماء بالمطر ومن الأرض بالنبات (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي حجتكم على قولكم إن مع الله إلها

٣٥١

آخر (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قوله تعالى (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن وقت الساعة. والمعنى أن الله هو الذي يعلم الغيب وحده ويعلم متى تقوم الساعة (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) يعني أن من في السموات وهم الملائكة ومن في الأرض وهم بنو آدم لا يعلمون متى يبعثون والله تعالى تفرد بعلم ذلك (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ) أي بلغ ولحق علمهم (فِي الْآخِرَةِ) هو ما جهلوه في الدنيا وسقط عنهم علمه. وقيل بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكوا فيه وعلموا عنه في الدنيا وهو قوله تعالى (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أي هم اليوم في شك من الساعة (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) جمع عم وهو أعمى القلب وقيل معنى الآية أن الله أخبر عنهم إذا بعثوا يوم القيامة يستوي علمهم في الآخرة ، وما وعدوا فيها من الثواب والعقاب وإن كانت علومهم مختلفة في الدنيا.

قوله تعالى (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي مشركو مكة (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) أي من قبورنا أحياء (لَقَدْ وُعِدْنا هذا) أي هذا البعث (نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس ذلك بشيء (إِنْ هذا) أي ما هذا (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي بتكذيبهم إياك وإعراضهم عنك. (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) نزلت في المستهزئين الذي اقتسموا عقاب مكة (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ) أي دنا وقرب (لَكُمْ) وقيل معناه ردفكم (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) أي من العذاب فحل بهم ذلك يوم بدر. قوله عزوجل (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) يعني على أهل مكة حيث لم يعجل لهم بالعذاب (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) أي ذلك (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) أي تخفي (وَما يُعْلِنُونَ) أي من عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما مِنْ غائِبَةٍ) أي من جملة غائبة من مكتوم سر وخفي أمر وشيء غائب (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) يعني في اللوح المحفوظ (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي يبين لهم (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي من أمر الدين ، وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابا يطعن بعضهم على بعض فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه (وَإِنَّهُ) يعني القرآن (لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) أي يفصل بينهم ويحكم بين المختلفين في الدين يوم القيامة (بِحُكْمِهِ) أي الحق (هُوَ الْعَزِيزُ) الممتنع الذي لا يرد له أمر (الْعَلِيمُ) أي بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء منها.

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢))

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي فثق به (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي البين (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) يعني موتى القلوب وهم الكفار (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ ، إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي معرضين. فإن قلت ما معنى مدبرين والأصم لا يسمع صوتا سواء أقبل أو أدبر؟. قلت : هو تأكيد ومبالغة وقيل : إن الأصم إذا كان حاضرا قد يسمع برفع الصوت ، أو يفهم بالإشارة فإذا ولى لم يسمع ولم يفهم. ومعنى الآية إنه لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميت الذي لا سبيل إلى سماعه ، وكالأصم الذي لا يسمع ولا يفهم (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) معناه ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى قلبه عن الإيمان (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) إلا من يصدق بالقرآن أنه من الله (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي مخلصون. قوله تعالى : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) يعني إذا وجب عليهم العذاب وقيل : إذا غضب الله عليهم وقيل إذا وجبت الحجة عليهم ، وذلك أنهم لم يأمروا بالمعروف ، ولم ينهوا

٣٥٢

عن المنكر وقيل إذا لم يرج صلاحهم وذلك في آخر الزمان قبل قيام الساعة (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ).

(م) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «بادروا بالأعمال قبل ست : طلوع الشمس من مغربها والدخان والدجال والدابة وخويصة أحدكم وأمر العامة» (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى ، وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا» عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى فتجلو وجه المؤمن وتخطم أنف الكافر بالخاتم : حتى إن أهل الحق ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا يا كافر» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن ، وروى البغوي بإسناده عن الثعلبي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية لا يدخل ذكرها القرية ، يعني مكة ثم تمكث زمنا طويلا ، ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة فيفشو ذكرها بالبادية ، ويدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم بينا الناس يوما في أعظم المساجد على الله حرمة ، وأكرمها على الله يعني المسجد الحرام لم يرعهم ، إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو ، كذا قال عمر وما بين الركب الأسود إلى باب بني مخزوم ، عن يمين الخارج في وسط من ذلك فارفض الناس عنها وتثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله ، فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية ، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب حتى أن الرجل ، ليقوم فيعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلي فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه ، فيتجاور الناس في ديارهم ويصطحبون في أسفارهم ويشتركون في الأموال يعرف الكافر من المؤمن فيقال للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر» وبإسناد الثعلبي عن حذيفة بن اليمان ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدابة قلت : يا رسول الله من أين تخرج قال «من أعظم المساجد حرمة على الله فبينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض ، وينشق الصفا مما يلي المسعى وتخرج الدابة من الصفا أول ما يخرج منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها الطالب ، ولن يفوتها هارب تسم الناس مؤمنا وكافرا ؛ فأما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري وتكتب بين عينيه مؤمن ؛ وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه كافر» وروي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال : إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه وعن ابن عمر قال تخرج الدابة ليلة جمع والناس يسيرون إلى منى ، وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «بئس الشعب شعب أجياد مرتين أو ثلاثا قيل : ولم ذاك يا رسول الله؟ قال : تخرج منه الدابة تصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين» وروي عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال : رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل وقرنها قرن إيل وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هر ، وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا. وعن عبد الله بن عمرو قال : تخرج الدابة من شعب أجياد فتمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض وروي عن علي قال : ليست بدابة لها ذنب ولكن لها لحية وقال وهب : وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير فتخبر من رآها أن أهل مكة ، كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون (تُكَلِّمُهُمْ) أي بكلام فصيح قيل تقول هذا مؤمن وهذا كافر. وقيل : تقول ما أخبر الله تعالى (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) تخبر الناس عن أهل مكة أنهم لم يؤمنوا بالقرآن والبعث. وقرئ تكلمهم بتخفيف اللام من الكلم ، وهو الجرح وقال ابن الجوزي : سئل ابن عباس عن هذه الآية تكلمهم وتكلمهم فقال : كل ذلك تفعل تكلم المؤمن وتكلم الكافر. قوله تعالى :

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا

٣٥٣

اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧))

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) أي نحشر من كل قرن جماعة (مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعون ثم يساقوا إلى النار (حَتَّى إِذا جاؤُ) يعني يوم القيامة (قالَ) الله تعالى لهم (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) أي ولم تعرفوها حق معرفتها (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي حين لم تتفكروا فيها وقيل : معنى الآية أكذبتم بآياتي غير عالمين بها ولم تتفكروا في صحتها بل كنتم بها جاهلين (وَوَقَعَ الْقَوْلُ) أي وجب العذاب (عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا) أي بما أشركوا (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) أي بحجة وقيل إن أفواههم مختومة (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا) أي أنا خلقنا (اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي مضيئا يبصر فيه. وفي الآية دليل على البعث بعد الموت لأن القادر على قلب الضياء ظلمة ، والظلمة ضياء قادر على الإعادة بعد الموت (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي يصدقون فيعتبرون. قوله تعالى (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) هو قرن ينفخ فيه إسرافيل قال الحسن : الصور هو القرن ومعنى كلامه إن الأرواح تجتمع في القرن ثم ينفخ فيه فتذهب في الأجساد فتحيا بها الأجساد (فَفَزِعَ) أي فصعق (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي ماتوا. والمعنى أنه يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا. وقيل ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات ، نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) روى أبو هريرة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن قوله تعالى «إلا من شاء الله» قال هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش وقال ابن عباس : هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم لا يصل إليهم الفزع. وقيل : يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل فلا يبقى بعد النفخة إلا هؤلاء الأربعة ويروى أن الله تعالى يقول لملك الموت خذ نفس إسرافيل فيأخذ نفسه ثم يقول : من بقي يا ملك الموت فيقول : سبحانك ربي تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام ، وجهك الباقي الدائم بقي جبريل وميكائيل ، وملك الموت فيقول : خذ نفس ميكائيل. فيأخذ نفس ميكائيل فيقع ، كالطود العظيم فيقول من بقي من خلقي فيقول : سبحانك ربي تباركت وتعاليت بقي جبريل ، وملك الموت فيقول مت يا ملك الموت فيموت فيقول يا جبريل من بقي فيقول : تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام بقي وجهك الدائم الباقي وجبريل ، الميت الفاني فيقول الله : يا جبريل لا بد من موتك فيقع ساجدا يخفق بجناحيه. فيروى أن فضل خلقه على ميكائيل كفضل الطود العظيم على ظرب من الظراب. ويروى أنه يبقى مع هؤلاء الأربعة حملة العرش ثم روح ملك الموت ، فإذا لم يبق أحد إلا الله تبارك وتعالى طوى السماء كطي السجل للكتاب ثم يقول الله «أنا الجبار لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد فيقول الله تعالى : لله الواحد القهار (ق) عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى ، فأكون أول من رفع رأسه فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أكان ممن استثنى الله عزوجل أم رفع رأسه قبلي ، ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» وقيل الذين استثنى الله هم رضوان والحور ومالك والزبانية. وقوله تعالى (وَكُلٌ) أي وكل الذين أحيوا بعد الموت (أَتَوْهُ) أي جاءوه (داخِرِينَ) أي صاغرين.

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ

٣٥٤

شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))

قوله تعالى (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) أي قائمة واقفة (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أي تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض فتستوي بها وذلك أن كل شيء عظيم وكل جسم كبير وكل جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وعظمه وبعد ما بين أطرافه فهو في حساب الناظر واقف وهو سائر كذلك سير الجبال يوم القيامة لا يرى لعظمها كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) يعني أنه تعالى ، لما قدم هذه الأشياء كلها التي لا يقدر عليها غيره جعل ذلك الصنع من الأشياء التي أتقنها وأحكمها وأتى بها على وجه الحكمة والصواب (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ). قوله تعالى (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) أي بكلمة الإخلاص ، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وقيل الإخلاص في العمل ، وقيل الحسنة كل طاعة عملها لله عزوجل (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) قال ابن عباس فيها يصل إلى الخير بمعنى أن له من تلك الحسنة خير يوم القيامة وهو الثواب والأمن من العذاب أما من يكون له شيء خير من الإيمان فلا ، لأنه لا شيء خير من لا إله إلا الله ، وقيل : هو جزاء الأعمال والطاعات الثواب والجنة وجزاء الإيمان والإخلاص رضوان الله والنظر إليه لقوله «ورضوان من الله» وقيل : معنى خير منها الأضعاف أعطاه الله بالواحدة عشر أضعافها ، لأن الحسنة استحقاق العبد والتضعيف تفضيل الرب تبارك وتعالى (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) فإن قلت كيف نفى الفزع هنا وقد قال قبله ففزع من في السموات ومن في الأرض. قلت : إن الفزع الأول هو ما لا يخلو عنه أحد عند الإحساس بشدة تقع وهول يفجأ من رعب وهيبة وإن كان المحسن يأمن وصول ذلك الضرر إليه فأما الفزع الثاني فهو الخوف من العذاب فهم آمنون منه. وأما ما يلحق الإنسان من الرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك منه أحد (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) يعني بالشرك (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) عبر بالوجه عن جميع البدن كأنه قال كبوا وطرحوا جميعهم في النار (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي تقول لهم خزنة جهنم «هل تجزون إلا ما كنتم تعملون» في الدنيا من الشرك.

وقوله تعالى (إِنَّما أُمِرْتُ) يعني يقول الله تعالى لرسوله قل إنما أمرت (أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) يعني أمرت أن أخص بعبادتي وتوحيدي الله الذي هو رب هذه البلدة يعني مكة ، وإنما خصها من بين سائر البلاد بالذكر لأنها مضافة إليه وأحب البلاد وأكرمها عليه ، وأشار إليها إشارة تعظيم لأنها موطن نبيه ومهبط وحيه (الَّذِي حَرَّمَها) أي جعلها الله حرما آمنا لا يسفك فيها دم ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلاها ولا يدخلها إلا محرم ، وإنما ذكر أنه هو الذي حرمها لأن العرب كانوا معترفين بفضيلة مكة ، وأن تحريمها من الله لا من الأصنام (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) أي خلقا وملكا (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لله المطيعين له (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) أي أمرت أن أتلو القرآن ولقد قام صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكل ما أمر به أتم قيام على ما أمر به (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي نفع اهتدائه يرجع إليه (وَمَنْ ضَلَ) أي عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى (فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي من المخوفين ، وما علي إلا البلاغ نسختها آية القتال (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي على جميع نعمه ، وقيل : على ما وفقني من القيام بأداء الرسالة والإنذار (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) الباهرة ودلائله القاهرة قيل : هو يوم بدر وهو ما أراهم من القتل والسبي وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم وقيل : آياته في السموات والأرض وفي أنفسكم (فَتَعْرِفُونَها) أي فتعرفون الآيات والدلالات (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيه وعيد بالجزاء على أعمالهم والله سبحانه وتعالى أعلم.

٣٥٥

سورة القصص

وهي مكية إلا قوله تعالى (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) إلى قوله (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) وفيها آية نزلت بين مكة والمدينة وهي قوله (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) وهي ثمان وثمانون آية وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة وخمسة آلاف وثمانمائة حرف.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢))

قوله عزوجل (طسم تِلْكَ) إشارة إلى آيات السورة (آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) قيل هو اللوح المحفوظ وقيل هو الكتاب الذي أنزله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووصفه بأنه مبين لأنه بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام.

(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧))

(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ) أي خبر (مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِ) أي بصدق (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي يصدقون بالقرآن (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا) أي تجبر وتكبر (فِي الْأَرْضِ) أي أرض مصر (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي فرقا في أنواع الخدمة والتسخير (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) يعني بني إسرائيل (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) سمى هذا استضعافا لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أي بالقتل والتجبر في الأرض (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَ) أي ننعم (عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) يعني بني إسرائيل (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أي قادة في الخير يقتدى بهم وقيل ولاة ملوكا (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) يعني أملاك فرعون ، وقومه بأن نجعلهم في مساكنهم (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي نوطن لهم أرض مصر والشام ، ونجعلها لهم سكنا (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) أي يخافون وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل وكانوا على حذر منه فأراهم الله ما كانوا يحذرون. قوله تعالى (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) هو وحي إلهام ، وذلك بأن قذف في قلبها واسمها يوحانذ من نسل لاوي بن يعقوب (أَنْ أَرْضِعِيهِ) قيل أرضعته ثمانية أشهر وقيل أربعة وقيل ثلاثة وكانت ترضعه ، وهو لا يبكي ولا يتحرك في حجرها (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) أي الذبح (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) أي في البحر وأراد نيل مصر (وَلا

٣٥٦

تَخافِي) أي عليه من الغرق وقيل الضيعة (وَلا تَحْزَنِي) أي على فراقه (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) قال ابن عباس إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس ، وعملوا بالمعاصي ولم يأمروا بالمعروف ، ولم ينهوا عن المنكر فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم الله على يد نبيه موسى عليه الصلاة والسلام.

ذكر القصة في ذلك

قال ابن عباس : إن أم موسى لما تقاربت ولادتها ، كانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى فلما ضربها الطلق أرسلت إليها ، وقالت لها : قد نزل بي ما نزل فلينفعني حبك إياي اليوم ، فعالجت قبالها فلما وقع موسى بالأرض هالها نور عيني موسى فارتعش كل مفصل فيها ، ودخل حب موسى قلبها ثم قالت لها يا هذه ما جئت إليك حين دعوتني إلا مرادي قتل ولدك ، ولكن وجدت لولدك حبا ما وجدت حب شيء مثل حبه فاحفظي ابنك ، فإني أراه عدونا فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاؤوا إلى بابها ليدخلوا إلى أم موسى ، فقالت أخته : يا أماه هذا الحرس بالباب فلفته بخرقة وألقته في التنور وهو مسجور ، وطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع قال فدخلوا فإذا التنور مسجور ورأوا أم موسى ولم يتغير لها لون ، ولم يظهر لها لبن فقالوا ما أدخل القابلة قالت هي مصافية لي فدخلت علي زائرة ، فخرجوا من عندها فرجع إليها عقلها فقالت لأخته فأين الصبي؟ فقالت : لا أدري فسمعت بكاء الصبي في التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما فاحتملته ، قال : ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها ، فقذف الله في قلبها أن تتخذ تابوتا له ثم تقذف التابوت في النيل فانطلقت إلى رجل نجار من قوم فرعون ، فاشترت منه تابوتا صغيرا فقال النجار ما تصنعين بهذا التابوت؟ فقالت : ابن لي أخبئه في التابوت ، وكرهت الكذب قال ولم تقل أخشى عليه كيد فرعون ، فلما اشترت التابوت وحملته ، وانطلقت به انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى فلما هم بالكلام أمسك الله لسانه ، فلم يطلق الكلام وجعل يشير بيديه فلم تدر الأمناء ما يقول ، فلما أعياهم أمره قال كبيرهم : اضربوه فضربوه وأخرجوه فلما انتهى النجار إلى موضعه رد الله عليه لسانه فتكلم فانطلق أيضا يريد الأمناء فأتاهم ليخبرهم فأخذ لسانه وبصره فلم يطق الكلام ، ولم يبصر شيئا فضربوه وأخرجوه ، وبقي حيران فجعل لله عليه إن رد عليه لسانه وبصره أن لا يدل عليه وأن يكون معه فيحفظه ، حيثما كان فعرف الله صدقه فرد عليه لسانه وبصره فخر لله ساجدا فقال يا رب : دلني على هذا العبد الصالح فدله عليه فآمن به وصدقه وقال وهب لما حملت أم موسى بموسى ، كتمت أمرها عن جميع الناس فلم يطلع على حملها أحد من خلق الله تعالى ، وذلك شيء ستره الله تعالى لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل فلما كانت السنة التي ولد فيها ، بعث فرعون القوابل وتقدم الأمين ففتش النساء تفتيشا لم يفتش قبل ذلك مثله ، وحملت بموسى ولم يتغير لونها ولم ينب بطنها فكانت القوابل لا تتعرض لها فلما كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم وأوحى الله إليها (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) فكتمته ثلاثة أشهر فلما خافت عليه عملت تابوتا ، مطبقا ، ثم ألقته في اليم وهو البحر ليلا.

قال ابن عباس وغيره : كان لفرعون يومئذ بنت ولم يكن له ولد غيرها وكانت من أكرم الناس عليه وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إليه وكان بها برص شديد وكان فرعون قد جمع لها الأطباء والسحرة فنظروا في أمرها فقالوا : أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك وذلك في يوم كذا في ساعة كذا حين تشرق الشمس فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ البحر

٣٥٧

مع جواريها تلاعبهن وتنضح الماء على وجوههن إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج فقال فرعون : إن هذا الشيء في البحر قد تعلق بالشجر ائتوني به فابتدروه بالسفن من كل ناحية حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه. فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا لم يره غيرها فعالجته ففتحت الباب فإذا هي بصبي صغير في التابوت وإذا نور بين عينيه وقد جعل الله رزقه في إبهامه يمص منه لبنا فألقى الله محبته في قلب آسية وأحبه فرعون وعطف عليه. وأقبلت بنت فرعون فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت إلى ما يسيل من أشداقه من ريقه فلطخت به برصها فبرأت ثم قبلته وضمته إلى صدرها فقالت : الغواة من قوم فرعون أيها الملك إنا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه من بني إسرائيل هو هذا رمي به في البحر فزعا منك فهم فرعون بقتله فقالت آسية : قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أي فنصيب منه خيرا أو نتخذه ولدا وكانت لا تلد فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها. وقال فرعون : أما أنا فلا حاجة لي فيه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو قال يومئذ قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها الله» فقيل لآسية سميه فقالت سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر لأن موسى هو الماء وهو الشجر فذلك قوله تعالى :

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢))

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) الالتقاط هو وجود الشيء من غير طلب (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) أي عاقبة أمرهم إلى ذلك لأنهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوا وحزنا (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) أي آثمين وقيل : هو من الخطأ ومعناه أنهم لم يشعروا أنه الذي يذهب بملكهم (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) قال وهب لما نظر إليه فرعون قال عبراني من الأعداء فغاظه ذلك وقال كيف أخطأ هذا الغلام الذبح وكانت آسية امرأة فرعون من خيار النساء ومن بنات الأنبياء. وكانت أما للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم فقالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه هذا الوليد أكبر من ابن سنة وأنت أمرت أن تذبح ولدان هذه السنة فدعه يكون عندي. وقيل : إنها قالت إنه أتانا من أرض أخرى وليس هو من بني إسرائيل فاستحياه فرعون وألقى الله محبته عليه قال ابن عباس لو أن عدو الله قال في موسى كما قالت آسية عسى أن ينفعنا لنفعه الله ولكنه أبى للشقاء الذي كتبه الله عليه قوله تعالى (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) أي خاليا من كل شيء إلا من ذكر موسى وهمه وقيل معناه ناسيا للوحي الذي أوحى الله عزوجل إليها حين أمرها أن تلقيه في اليم ولا تخاف ولا تحزن والعهد الذي عهد إليها أن يرده إليها ويجعله من المرسلين ، فجاءها الشيطان وقال كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجره وثوابه وتوليت أنت قتله وألقيته في البحر وأغرقته. ولما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه في النيل قالت إنه قد وقع في يد عدوه الذي فررت منه فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي لتصرح بأنه ابنها من شدة وجلها.

قال ابن عباس كادت تقول وا ابناه وقيل لما رأت التابوت ترفعه موجة وتحطه أخرى خشيت عليه الغرق فكادت تصيح من شدة شفقتها عليه. وقيل كادت تظهر أنه ابنها حين سمعت الناس يقولون موسى ابن فرعون

٣٥٨

فشق عليها ذلك وكادت تقول هو ابني وقيل كادت تبدي بالوحي الذي أوحى الله إليها (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) أي بالعصمة والصبر والتثبت (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي من المصدقين بوعد الله إياها (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ) أي لمريم أخت موسى (قُصِّيهِ) أي اتبعي أثره حتى تعطي خبره (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) أي عن بعد قيل كانت تمشي جانبا وتنظره اختلاسا ترى أنها لا تنظره (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنها أخته وأنها ترقبه (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) المراد به المنع قيل مكث موسى ثمان ليال لا يقبل ثديا قال ابن عباس إن امرأة فرعون كان همها من الدنيا أن تجد من ترضعه كلما أتوا بمرضعة لم يأخذ ثديها وهم في طلب من يرضعه لهم (مِنْ قَبْلُ) أي قبل مجيء أم موسى وذلك لما رأته أخت موسى التي أرسلتها أمه في طلب ذلك (فَقالَتْ) يعني أخت موسى (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) أي يضمونه ويرضعونه وهي امرأة قتل ولدها فأحب ما تدعى إليه أن تجد صغيرا ترضعه (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) أي لا يمنعونه ما ينفعه من تربيته وغذائه والنصح إخلاص العمل من شوائب الفساد. قيل لما قالت : وهم له ناصحون قالوا : إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله قالت ما أعرفه ولكن قلت وهم للملك ناصحون وقيل : إنها قالت إنما قلت ذلك رغبة في سرور الملك واتصالنا به. وقيل قالوا من هم قالت أمي قالوا ولأمك ولد قالت نعم هارون وكان هارون ولد في السنة التي لا يقتل فيها قالوا صدقت فأتينا بها فانطلقت إليها وأخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه ريا قيل كانوا يعطونها كل يوم دينارا فذلك قوله تعالى :

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨))

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) أي برد موسى إليها (وَلا تَحْزَنَ) أي لئلا تحزن (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي برده إليها (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن الله وعدها أن يرده إليها (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) قيل الأشد ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين سنة وقيل الأشد ثلاث وثلاثون سنة (وَاسْتَوى) أي بلغ أربعين سنة قاله ابن عباس : وقيل انتهى شبابه وتكامل (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي عقلا وفهما في الدين فعلم وحكم موسى قبل أن يبعث نبيا (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) قوله تعالى (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) يعني موسى والمدينة قيل هي منف من أعمال مصر وقيل هي قرية يقال لها حابين على رأس فرسخين من مصر وقيل هي مدينة شمس (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) قيل هي نصف النهار واشتغال الناس بالقيلولة وقيل دخلها ما بين المغرب والعشاء وقيل سبب دخول المدينة في ذلك الوقت أن موسى كان يسمى ابن فرعون وكان يركب في مراكب فرعون ويلبس لباسه فركب فرعون يوما وكان موسى غائبا فلما جاء قيل له إن فرعون قد ركب فركب موسى في أثره فأدركه المقيل بأرض منف فدخلها وليس في أطرافها أحد. وقيل كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه ويقتدون به فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه فخالفهم في دينه حتى أنكروا ذلك منه وخافوه وخافهم فكان لا يدخل قرية إلا خائفا مستخفيا على حين غفلة من أهلها.

٣٥٩

وقيل لما ضرب موسى فرعون بالعصا في صغره فأراد فرعون قتله قالت امرأته هو صغير فتركه وأمر بإخراجه من مدينته فأخرج منها فلم يدخل عليهم حتى كبر وبلغ أشده فدخل على حين غفلة من أهلها يعني عن ذكر موسى ونسيانهم خبره لبعد عهدهم به. وعن علي أنه كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) أي يتخاصمان ويتنازعان (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) أي من بني إسرائيل (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) يعني من القبط وقيل هذا مؤمن وهذا كافر وقيل الذي كان من الشيعة هو السامري والذي من عدوه هو طباخ فرعون واسمه فاتون وكان القبطي يريد أن يأخذ الإسرائيلي يحمله الحطب. وقال ابن عباس : لما بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع وكان بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم فوجد موسى رجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ) يعني الإسرائيلي (عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) يعني الفرعوني والاستغاثة طلب الغوث والمعنى أنه سأله أن يخلصه منه وأن ينصره عليه فغضب موسى واشتد غضبه لأنه أخذه وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم ولا يعلم الناس إلا أنه من قبل الرضاعة فقال موسى للفرعوني : خلّ سبيله فقال : إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك فنازعه فقال الفرعوني لقد هممت أن أحمله عليك وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدة في القوة (فَوَكَزَهُ مُوسى) يعني ضربه بجميع كفه وقيل الوكز الضرب في الصدر وقيل الوكز الدفع بأطراف الأصابع (فَقَضى عَلَيْهِ) يعني قتله وفرغ من أمره فندم موسى عليه ولم يكن قصد القتل فدفنه في الرمل (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) يعني بين الضلالة وقيل في قوله هذا إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه ، والمعنى أن عمل هذا المقتول من عمل الشيطان والمراد منه بيان كونه مخالفا لله سبحانه وتعالى مستحقا للقتل وقيل هذا إشارة إلى المقتول يعني أنه من جند الشيطان وحزبه (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) يعني بقتل القبطي من غير أمر وقيل هو على سبيل الاتضاع لله تعالى والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه وإن لم يكن هناك ذنب. وقوله (فَاغْفِرْ لِي) يعني ترك هذا المندوب وقيل يحتمل أن يكون المراد «رب إني ظلمت نفسي» حيث فعل هذا فإن فرعون إذا عرف ذلك قتلني به فقال أي فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون (فَغَفَرَ لَهُ) أي فستره عن الوصول إلى فرعون (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قالَ رَبِّ بِما) أي بالمغفرة والستر الذي (أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) معناه فأنا لا أكون معاونا لأحد من المجرمين قال ابن عباس الكافرين وفيه دليل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرا.

قال ابن عباس لم يستثن فابتلي في اليوم الثاني أي لم يقل فلم أكن إن شاء الله ظهيرا للمجرمين (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ) أي التي قتل فيها القبطي (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أي ينتظر سوءا والترقب انتظار المكروه وقيل ينتظر متى يؤخذ به (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) أي يستغيث به من بعد. قال ابن عباس : أتي فرعون فقيل له إن بني إسرائيل قتلوا منا رجلا فخذ لنا بحقنا فقال اطلبوا قاتله ومن يشهد عليه فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة إذ مر موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا فاستغاثه على الفرعوني وكان موسى قد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي (قالَ لَهُ مُوسى) للإسرائيلي (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر الغواية قاتلت رجلا بالأمس فقتلته بسببك وتقاتل اليوم آخر وتستغيثني عليه.

(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ

٣٦٠