تفسير الخازن - ج ٣

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٣

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٤٦٤

على الإيمان وقيل نزلت في عكرمة بن أبي جهل وذلك أنه هرب عام الفتح إلى البحر فجاءهم ريح عاصف فقال عكرمة : لئن أنجانا الله من هذا لأرجعن إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأضعن يده في يدي فسكت الريح ورجع عكرمة إلى مكة وأسلم وحسن إسلامه ومنهم من لم يوف بما عاهد وهو المراد بقوله (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) يعني غدار (كَفُورٍ) يعني جحود لأنعمنا عليه. قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) يعني خافوا ربكم (وَاخْشَوْا) يعني وخافوا (يَوْماً لا يَجْزِي) يعني لا يقضي ولا يغني (والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) قيل معنى الآية إن الله ذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد فنبه بالأعلى على الأدنى وبالأدنى على الأعلى فالوالد يجزي عن ولده لكمال شفقته عليه والولد يجزي عن والده لما له من حق التربية وغيرها فإذا كان يوم القيامة فكل إنسان يقول نفسي ولا يهتم بقريب ولا بعيد كما قال ابن عباس كل امرئ تهمه نفسه (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) قيل إنه تحقيق اليوم معناه اخشوا يوما هذا شأنه وهو كائن بوعد الله به ووعده حق وقيل الآية تحقيق بعدم الجزاء يعني لا يجزي والد عن ولده في ذلك اليوم والقول الأول أحسن وأظهر (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) يعني لأنها فانية (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) يعني الشيطان. قال سعيد بن جبير يعمل بالمعاصي ويتمنى المغفرة. قوله تعالى (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الآية نزلت في الحارث بن عمرو بن حارثة بن حفصة من أهل البادية أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عن الساعة ووقتها وقال إن أرضنا أجدبت فقل لي متى ينزل الغيث وتركت امرأتي حبلى فمتى تلد ولقد علمت أين ولدت فبأي أرض أموت فأنزل الله هذه الآية (ق) عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مفاتيح الغيب خمس إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير» ومعنى الآية إن الله عنده علم الساعة فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة أو أي شهر أو أي يوم ليلا أو نهارا (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث ليلا أو نهارا إلا الله (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أذكر أم أنثى أحمر أم أسود تام الخلقة أم ناقص (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) يعني ليس أحد من الناس يعلم أين مضجعه من الأرض في بر أو بحر في سهل أو جبل (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) يعني بهذه الأشياء وبغيرها (خَبِيرٌ) أي ببواطن الأشياء كلها ليس علمه محيطا بالظاهر فقط بل علمه محيط بالظاهر والباطن قال ابن عباس : هذه الخمسة لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مصطفى فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فإنه كفر بالقرآن لأنه خالفه والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

٤٠١

سورة السجدة

وهي مكية قال عطاء إلا ثلاث آيات من قوله أفمن كان مؤمنا وهي تسع وعشرون آية وقيل ثلاثون آية وثلاثمائة وثمانون كلمة وألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥))

قوله عزوجل (الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ) يعني لا شك في أنه (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ) يعني بل يقولون يعني المشركين (افْتَراهُ) يعني اختلقه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تلقاء نفسه (بَلْ هُوَ الْحَقُ) يعني القرآن (مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) يعني العرب كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن قلت إذا لم يأتهم رسول لم تقم عليهم حجة. قلت : أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا من جهة الرسل فلا وأما قيام الحجة بمعرفة الله وتوحيده فنعم لأن معهم أدلة العقل الموصلة إلى ذلك في كل زمان (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) يعني تنذرهم راجيا اهتداءهم (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) تقدم تفسيره. قوله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يعني يحكم الأمر وينزل القضاء والقدر وقيل ينزل الوحي مع جبريل عليه‌السلام (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ) يعني يصعد (إِلَيْهِ) جبريل بالأمر (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) يعني مسافة ما بين السماء والأرض خمسمائة سنة فيكون مقدار نزوله إلى الأرض ثم صعوده إلى السماء في مقدار ألف سنة لو ساره أحد من بني آدم وجبريل ينزل ويصعد في مقدار يوم من أيام الدنيا وأقل من ذلك وكذلك الملائكة كلهم أجمعون وقيل معنى الآية أنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ثم يعرج إليه أي يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا وانقطاع أمر الآمر وحكم الحاكم في يوم كان مقداره ألف سنة وهو يوم القيامة. فإن قلت قد قال في موضع آخر : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فكيف الجمع بينهما. قلت أراد بقوله خمسين ألف سنة مدة المسافة بين الأرض وسدرة المنتهى التي هي مقام جبريل عليه‌السلام يقول يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا. وقيل كلها في القيامة فيكون على بعضهم مثل ألف سنة وعلى بعضهم خمسين ألف سنة وهذا في حال الكفار وأما على المؤمنين فدون ذلك كما جاء في

٤٠٢

الحديث : «إنه يكون على المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا». قال إبراهيم التيمي : لا يكون على المؤمنين إلا كما يكون ما بين الظهر والعصر وقيل يحتمل أن يكون هذا إخبارا عن شدته وهوله ومشقته وقال ابن أبي مليكة : دخلت أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان على ابن عباس فسأله ابن فيروز عن هذه الآية وعن مقدار خمسين ألف سنة. فقال ابن عباس : رضي الله عنهما أيام سماها الله تعالى لا أدري ما هي وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم.

(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤))

(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يعني الذي صنع ما ذكر من خلق السموات والأرض هو عالم الغيب والشهادة أي ما غاب عن خلقه لا تخفى عليه خافية والشهادة بمعنى ما حضر وظهر (الْعَزِيزُ) أي الممتنع المنتقم من أعدائه (الرَّحِيمُ) بأوليائه وأهل طاعته. قوله تعالى (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) قال ابن عباس أتقنه وأحكمه وقيل علم كيف يخلق كل شيء وقيل خلق كل حيوان على صورة لم يخلق البعض على صورة البعض فكل حيوان كامل في صورته حسن في شكله وكل عضو من أعضائه مقدر على ما يصلح به معاشه وقيل معناه ألهم خلقه ما يحتاجون إليه وعلمهم إياه. وقيل معناه أحسن إلى كل خلقه (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) يعني آدم (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) يعني ذريته (مِنْ سُلالَةٍ) أي من نطفة تنسل من الإنسان (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ضعيف (ثُمَّ سَوَّاهُ) أي سوى خلقه (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أضاف إليه الروح إضافة تشريف كبيت الله وناقة الله ثم ذكر ما يترتب على نفخ الروح في الجسد فقال (وَجَعَلَ لَكُمُ) أي خلق بعد أن كنتم نطفا مواتا (السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) قيل قدم السمع لأن الإنسان يسمع أولا كلاما فينظر إلى قائله ليعرفه ثم يتفكر بقلبه في ذلك الكلام ليفهم معناه ووحد السمع لأن الإنسان يسمع الكلام من أي جهة كان (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) يعني أنكم لا تشكرون رب هذه النعمة فتوحدوه إلا قليلا. قوله تعالى (وَقالُوا) يعني منكري البعث (أَإِذا ضَلَلْنا) هلكنا (فِي الْأَرْضِ) والمعنى صرنا ترابا (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) استفهام إنكاري قال الله تعالى : (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) أي بالبعث بعد الموت (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ) أي يقبض أرواحكم حتى لا يبقى أحد ممن كتب عليه الموت (مَلَكُ الْمَوْتِ) وهو عزرائيل عليه‌السلام (الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) أي أنه لا يغفل عنكم وإذا جاء أجل أحدكم لا يؤخر ساعة ولا شغل له إلا ذلك. روي أن ملك الموت جعلت له الدنيا مثل راحة اليد يأخذ منها صاحبها ما أحب من غير مشقة ، فهو يقبض أرواح الخلائق من مشارق الأرض ومغاربها وله أعوان من الملائكة ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. وقال ابن عباس إن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب ، وقال مجاهد : جعلت له الأرض مثل الطست يتناول منها حيث يشاء ، وقيل إن ملك الموت على معراج بين السماء والأرض فتنزع أعوانه روح الإنسان ، فإذا بلغ ثغرة نحره قبضه ملك الموت. عن معاذ بن جبل قال : إن لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب ،

٤٠٣

وهو يتصفح وجوه الناس فما من أهل بيت إلا وملك الموت يتصفحهم في كل يوم مرتين ، فإذا رأى إنسانا قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة وقال له الآن تنزل بك سكرات الموت. وقوله (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي تصيرون إلى ربكم أحياء فيجزيكم بأعمالكم. قوله عزوجل (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ) أي المشركون (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي يطأطئونها حياء من ربهم وندما على ما فعلوا عند ربهم يقولون (رَبَّنا أَبْصَرْنا) أي ما كنا به مكذبين (وَسَمِعْنا) يعني منك تصديق ما أتتنا به رسلك وقيل أبصرنا معاصينا وسمعنا ما قيل فيها (فَارْجِعْنا) أي فارددنا إلى الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) أي في الحال آمنا ولكن لا ينفع ذلك الإيمان (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي رشدها وتوفيقها للإيمان (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي وجب القول مني (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي من كفار الجن والإنس (فَذُوقُوا) يعني فإذا دخلوا النار قالت لهم الخزنة ذوقوا (بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ) أي تركتم الإيمان في الدنيا (هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ) يعني تركناكم بالكلية غير ملتفت إليكم كما يفعل بالناس قطعا لرجائكم (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي من الكفر والتكذيب. قوله تعالى :

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦))

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها) أي وعظوا بها (خَرُّوا سُجَّداً) يعني سقطوا على وجوههم ساجدين (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) يعني صلوا بأمر ربهم وقيل قالوا سبحان الله وبحمده (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) يعني عن الإيمان به والسجود له (ق) عن ابن عمر قال «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ويسجدون حتى ما يجد أحدنا مكانا لوضع جبهته في غير وقت الصلاة». (م) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلنا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار». وهذه من عزائم سجود القرآن فتسن للقارئ وللمستمع. قوله تعالى (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) يعني ترتفع وتنبو (عَنِ الْمَضاجِعِ) جمع مضجع وهو الموضع الذي يضطجع عليه يعني الفرش ، وهم المتهجدون بالليل الذي يقيمون الصلاة ، وقال أنس نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. عن أنس في قوله (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة أخرجه الترمذي وقال الحديث حسن غريب صحيح. وفي رواية أبي داود عنه قال كانوا يتنفلون ما بين المغرب والعشاء أي يصلون ، وهو قول أبي حازم ومحمد بن المنكدر وقيل هي صلاة الأوابين. روي عن ابن عباس قال : إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء وهي صلاة الأوابين وقال عطاء : هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الأخيرة والفجر في جماعة بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله» أخرجه مسلم من حديث عثمان بن عفان. (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا». وأشهر الأقاويل أن المراد منه صلاة الليل وهو قول الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعي وجماعة.

فصل : في فضل قيام الليل والحث عليه

عن معاذ بن جبل قال كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه وهو يسير ، فقلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. قال : «سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه ، تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ، ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل ، ثم قرأ (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ

٤٠٤

الْمَضاجِعِ) حتى بلغ (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت بلى يا رسول الله. قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامة الجهاد ، ثم قال ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؛ قلت بلى يا رسول الله قال فأخذ بلسانه وقال اكفف عليك هذا. فقلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم فقال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» أخرجه الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم وتكفير السيئات ومنهاة عن الآثام ومطردة الداء عن الجسد» أخرجه الترمذي. عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عجب ربنا من رجلين رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته فيقول الله عزوجل لملائكته انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي ، ورجل غزا في سبيل الله وانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع فرجع حتى أهريق دمه. فيقول الله تعالى لملائكته انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه أخرجه الترمذي بمعناه (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل». (ق) عن عائشة قالت «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوم الليل حتى تورمت قدماه فقلت لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبدا شكورا». عن علي قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن في الجنة غرفا يرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها أعدها الله لمن ألان الكلام وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام». أخرجه الترمذي. (خ) عن الهيثم بن أبي سنان أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه في قصة يذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن أخا لكم لا يقول الرفث يعني بذلك ابن رواحة قال :

وفينا رسول الله يتلو كتابه

إذا انشق معروف من الفجر ساطع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا

به موقنات ما إذا قال واقع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالكافرين المضاجع»

أخرجه البخاري وليس للهيثم بن سنان. عن أبي هريرة في الصحيحين غير هذا الحديث. وقوله تعالى (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) قال ابن عباس خوفا من النار وطمعا في الجنة (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قيل أراد به الصدقة المفروضة وقيل بل هو عام في الواجب والتطوع. قوله عزوجل :

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦))

٤٠٥

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) أي مما تقربه أعينهم فلا يلتفتون إلى غيره قال ابن عباس هذا مما لا تفسير له وقيل أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي من الطاعات في دار الدنيا (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يقول الله تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرءوا إن شئتم : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين». قوله تعالى (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، كان بينهما تنازع وكلام في شيء ، فقال الوليد لعلي اسكت فإنك صبي وأنا شيخ وإني أبسط منك لسانا ، وأحد منك سنانا وأشجع منك جنانا وأملأ منك حشوا في الكتيبة ، فقال له علي اسكت فإنك فاسق ، فأنزل الله هذه الآية وقوله لا يستوون أراد جنس المؤمنين وجنس الفاسقين ولم يرد مؤمنا واحدا ولا فاسقا واحدا (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) أي التي يأوي إليها المؤمنون (نُزُلاً) هو ما يهيأ للضيف عند نزوله (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعني من الطاعات في دار الدنيا (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ).

قوله تعالى (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) أي سوى العذاب الأكبر ، قال ابن عباس العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها ، وعنه أنه الحدود وقيل هو الجوع بمكة حتى أكلوا الجيف والعظام والكلاب سبع سنين ، وقال ابن مسعود هو القتل بالسيف يوم بدر والأكبر هو عذاب جهنم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي إلى الإيمان يعني من بقي منهم بعد القحط وبعد بدر (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أحد أظلم (مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) أي بدلائل وحدانيته وإنعامه عليه (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) أي ترك الإيمان بها (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) يعني المشركين (مُنْتَقِمُونَ) معناه أنهم لما لم يرجعوا بالعذاب الأدنى فانا منهم منتقمون بالعذاب الأكبر. قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ) أي في شك (مِنْ لِقائِهِ) أي من لقاء موسى ليلة المعراج ، قاله ابن عباس (ق) عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى رجلا موبوعا مربوع الخلق إلى الحمرة وإلى البياض سبط الشعر ، ورأيت مالكا خازن النار ، والدجال في آيات أراهن الله إياه فلا تكن في مرية من لقائه (م) عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أتيت على موسى ليلة المعراج ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره». فإن قلت قد صح في حديث المعراج أنه رآه في السماء السادسة عند مراجعته في الصلوات فكيف الجمع بين هذين الحديثين. قلت يحتمل أن تكون رؤيته في قبره عند الكثيب الأحمر ، كان قبل صعوده إلى السماء وذلك في طريقه إلى بيت المقدس ، ثم لما صعد إلى السماء السادسة وجده هناك قد سبقه لما يريد الله عزوجل وهو على كل شيء قدير. فإن قلت كيف تصح منه الصلاة في قبره وهو ميت وقد سقط عنه التكليف وهو في دار الآخرة وليست دار عمل ، وكذلك رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جماعة من الأنبياء وهم يحجون فما الجواب عن هذا؟ قلت يجاب عنه بأجوبة أحدها : أن الأنبياء كالشهداء بل هم أفضل منهم والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ، فلا يبعد أن يحجوا أو يصلوا كما صح في الحديث وأن يتقربوا إلى الله بما استطاعوا وإن كانوا قد ماتوا لأنهم بمنزلة الأحياء في هذه الدار التي هي دار العمل ، إلى أن تفنى ثم يرحلون إلى دار الجزاء التي هي الجنة. الجواب الثاني : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى حالهم الذي كانوا عليه في حياتهم ومثلوا له كيف كانوا وكيف كان حجهم وصلاتهم. الجواب الثالث : أن التكليف وإن ارتفع عنهم في الآخرة لكن الذكر والشكر والدعاء لا يرتفع ، قال الله تعالى (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس» فالعبد يعبد ربه في الجنة أكثر مما كان يعبده في الدنيا وكيف لا يكون ذلك وقد صار حاله مثل حال الملائكة الذين قال الله في حقهم (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) ، غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي على مقتضى الطبع والله أعلم ، وقيل في قوله (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ

٤٠٦

مِنْ لِقائِهِ) أي من تلقى موسى كتاب الله بالرضا والقبول (وَجَعَلْناهُ) أي الكتاب (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل (أَئِمَّةً) أي قادة للخير يقتدى بهم وهم الأنبياء الذين كانوا في بني إسرائيل وقيل هم أتباع الأنبياء (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) يعني يدعون الناس إلى طاعتنا (لَمَّا صَبَرُوا) يعني على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمصر (وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) يعني أنها من الله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ) أي يقضي ويحكم (بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) قيل هم الأنبياء وأممهم وقيل هم المؤمنون والمشركون قوله تعالى (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) أي نبين لهم (كَمْ أَهْلَكْنا) يعني كثرة من أهلكنا (مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) يعني الأمم الخالية (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) يعني أهل مكة يسيرون في بلادهم ومنازلهم إذا سافروا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) يعني آيات الله ومواعظه فيتعظون بها. قوله عزوجل :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) أي الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها قال ابن عباس هي أرض باليمن وقيل هي أبين (فَنُخْرِجُ بِهِ) أي بذلك الماء (زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ) يعني العشب والتبن (وَأَنْفُسُهُمْ) أي من الحبوب والأقوات (أَفَلا يُبْصِرُونَ) يعني فيعتبروا. قوله تعالى (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قيل أراد بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الحكم والقضاء بين العباد ، وذلك أن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا

للكفار إن لنا يوما ننعم فيه ونستريح ويحكم فيه بيننا وبينكم. فقال الكفار استهزاء متى هذا الفتح أي القضاء والحكم ، وقيل هو فتح مكة وقيل يوم بدر ، وذلك أن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يقولون للكفار إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم فيقولون متى هذا الفتح (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ) يعني يوم القيامة (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) يعني لا يقبل منهم الإيمان ومن حمل يوم الفتح على فتح مكة أو القتل يوم بدر ، قال معناهم لا ينفع الذين كفروا إيمانهم إذا جاءهم العذاب وقتلوا (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يعني يمهلون ليتوبوا ويعتذروا (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) قال ابن عباس نسختها آية السيف (وَانْتَظِرْ) يعني موعدي لك بالنصر عليهم (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) أي بك حوادث الزمان وقيل معناه انتظر عذابنا إياهم فهم منتظرون ذلك. (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة الم تنزيل الكتاب وهل أتى على الإنسان». عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل الكتاب وتبارك الذي بيده الملك» أخرجه الترمذي. وقال طاوس تفضلان عن كل سورة في القرآن بسبعين حسنة أخرجه الترمذي. والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

٤٠٧

سورة الأحزاب

مدنية وهي ثلاث وسبعون آية وألف ومائتان وثمانون كلمة وخمسون آلاف وسبعمائة وتسعون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤))

قوله عزوجل (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) نزلت في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن سفيان السلمي ، وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين بعد قتال أحد ، وقد أعطاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمان على أن يكلموه فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده عمر بن الخطاب ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة ، وقل إن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك ، فشق ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عمر يا رسول الله ائذن لي في قتلهم. فقال إني أعطيتهم الأمان. فقال عمر اخرجوا في لعنة الله وغضبه فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر أن يخرجهم من المدينة. فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) أي دم على التقوى وقيل معناه اتق الله ولا تنقض العهد بينك وبينهم وقيل الخطاب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به أمته ولا (تُطِعِ الْكافِرِينَ) يعني من أهل مكة يعني أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور والمنافقين يعني من أهل المدينة عبد الله بن أبي وعبد الله بن سعد وطعمة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) أي بخلقه قبل أن يخلقهم (حَكِيماً) أي فيما دبره لهم (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) يعني من وفاء العهد وترك طاعة الكافرين والمنافقين (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي ثق بالله وكل أمرك إليه (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) يعني حافظا لك وقيل كفيلا برزقك. قوله تعالى (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) نزلت في أبي معمر جميل بن معمر الفهري ، وكان رجلا لبيبا حافظا لما يسمع فقالت قريش ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان ، وكان يقول إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد ، فلما هزم الله المشركين يوم بدر انهزم أبو معمر فيهم فلقيه أبو سفيان وإحدى نعليه في يده والأخرى في رجله ، فقال له يا أبا معمر ما حال الناس. فقال انهزموا فقال له فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك. فقال أبو معمر ما شعرت إلا أنهما في رجلي. فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده. وعن أبي ظبيان قال : قلنا لابن عباس أرأيت قول الله (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ما عنى بذلك؟ قال «قام نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما يصلي

٤٠٨

فخطر خطرة. فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترون أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فأنزل الله (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) «أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن قوله خطر خطرة يريد الوسوسة التي تحصل للإنسان في صلاة. قيل في معنى الآية أنه لما قال الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) فكان ذلك أمرا بالتقوى. فكأنه قال ومن حقها أن لا يكون في قلبك تقوى غير الله ، فإن المرء ليس له قلبان حتى يتقي الله بأحدهما وبالآخر غيره ، وقيل إن هذا مثل ضربه الله تعالى للمظاهر من امرأته وللمتبني ولد غيره ، فكما لا يكون لرجل قلبان لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب ، فالآخر فضله عليه محتاج إليه ، وإما أن يفعل بهذا ما لا يفعل بذاك ، فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريدا كارها عالما جاهلا موقنا شاكا في حالة واحدة ، وهما حالتان متنافيتان فكذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون له أمان ولا يكون ولد واحد ابن رجلين. قوله تعالى (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) وصورة الظهار أن يقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي ، يقول الله وما جعل نساءكم التي تقولون لهن هذا في التحريم كأمهاتكم ، ولكنه منكم منكر وزور وفيه كفارة ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في سورة المجادلة. قوله تعالى (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ) يعني الذين تتبنونهم (أَبْناءَكُمْ) وفيه نسخ التبني ، وذلك أن الرجل كان في الجاهلية يتبنى الرجل فيجعله كالابن المولود يدعوه إليه الناس ويرث ميراثه ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعتق زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي وتبناه قبل الوحي ، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب ، فلما تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة ، قال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك فأنزل الله هذه الآية ونسخ بها التبني (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي لا حقيقة له يعني قولهم زيد بن محمد وادعاء النسب لا حقيقة له (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) يعني قوله الحق (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) يعني يرشد إلى سبيل الحق.

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦))

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) يعني الذين ولدوهم فقولوا زيد بن حارثة (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) يعني أعدل عند الله (ق) عن ابن عمر قال : إن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) الآية (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) يعني فهم إخوانكم (وَمَوالِيكُمْ) أي كانوا محررين وليسوا ببنيكم أي فسموهم بأسماء إخوانكم في الدين ، وقيل معنى مواليكم أولياؤكم في الدين (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) أي قبل النهي فنسبتموه إلى غير أبيه (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) أي من دعائهم إلى غير آبائهم بعد النهي وقيل فيما أخطأتم به أن تدعوه إلى غير أبيه وهو يظن أنه كذلك (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً). (ق) عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام» قوله عزوجل (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) يعني من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه ، عليهم ووجوب طاعته وقال ابن عباس إذا دعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى بهم من طاعة أنفسهم ، وهذا صحيح لأن أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم ، وقيل هو أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه ، وقيل كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرج إلى الجهاد فيقول قوم نذهب فنستأذن من آبائنا وأمهاتنا ، فنزلت الآية. (ق) عن أبي هريرة قال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما من

٤٠٩

مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة ، واقرءوا إن شئتم (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فأيما مؤمن ترك مالا فلترثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه». عصبة الميت من يرثه سوى من له فرض مقدر وقوله أو ضياعا أي عيالا وأصله مصدر ضاع يضيع ضياعا ، وإن كسرت الضاد كان جمع ضائع.

قوله تعالى (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) يعني أمهات المؤمنين في تعظيم الحرمة وتحريم نكاحهن على التأبيد لا في النظر إليهن والخلوة بهن ، فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب ولا يقال لبناتهن هن أخوات المؤمنين ولا لإخوانهن وأخواتهن هن أخوال المؤمنين وخالاتهم. قال الشافعي تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر وهي أخت عائشة أم المؤمنين ولم يقل هي خالة المؤمنين ، وقيل إن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كن أمهات المؤمنين والمؤمنات الرجال والنساء وقيل كن أمهات الرجال دون النساء ، بدليل ما روي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة يا أمه. فقالت لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم. فبان بذلك أن معنى الأمومة إنما هو تحريم نكاحهن (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) يعني في الميراث قيل كان المسلمون يتوارثون بالهجرة ، وقيل آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الناس فكان يؤاخي بين الرجلين فإذا مات أحدهما ورثه الآخر دون عصبته ، حتى نزلت (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) وقيل في معنى الآية لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر (فِي كِتابِ اللهِ) أي في حكم الله (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الذين آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم (وَالْمُهاجِرِينَ) يعني أن ذوي القرابات أولى بعضهم ببعض فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة وصارت الموارثة بينهم بالقرابة (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) يعني الوصية للذين يتولونه من المعاقدين ، وذلك أن الله تعالى لما نسخ التوارث بالخلف والإخاء والهجرة ، أباح أن يوصي لمن يتولاه بما أحب من ثلث ماله ، وقيل أراد بالمعروف النصر وحفظ الحرمة بحق الإيمان والهجرة ، وقيل معناه إلا أن توصوا إلى قرابتكم بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة (كانَ ذلِكَ) أي الذي ذكر من أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض (فِي الْكِتابِ) أي في اللوح المحفوظ وقيل في التوراة (مَسْطُوراً) أي مكتوبا مثبتا. قوله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩))

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) أي على الوفاء بما حملوا وأن يصدق بعضهم بعضا ويبشر بعضهم ببعض ، وقيل على أن يعبدوا الله ويدعوا الناس إلى عبادته وينصحوا لقومهم (وَمِنْكَ) يعني يا محمد (وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) خص هؤلاء الخمسة بالذكر من بين النبيين لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولو العزم من الرسل ، وقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الذكر تشريفا له وتفضيلا. ولما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث». قال قتادة وذلك قول الله (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) فبدأ به صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي عهدا شديدا على الوفاء بما حملوا من تبليغ الرسالة (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) يعني أخذ ميثاقهم لكي يسأل الصادقين يعني النبيين عن تبليغهم الرسالة والحكمة في سؤالهم مع علمه سبحانه وتعالى صادقون تبكيت من أرسلوا إليهم وقيل ليسأل الصادقين عن صدقهم عن عملهم لله عزوجل وقيل ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم في قلوبهم (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وذلك حين حوصر المسلمون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة أيام الخندق (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) يعني الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير (فَأَرْسَلْنا

٤١٠

عَلَيْهِمْ رِيحاً) يعني الصبا قال عكرمة قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقالت الشمال إن الحرة لا تسري بالليل. فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور». وقيل الصبا ريح فيها روح ما هبت على محزون إلا ذهب حزنه. قوله تعالى (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) يعني الملائكة ، ولم تقاتل ملائكة يومئذ فبعث الله عزوجل تلك الليلة ريحا باردة فقلعت الأوتاد وقطعت أطناب الفساطيط وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم ، حتى كان سيد كل حي يقول يا بني فلان النجاء النجاء هلموا إلي فإذا اجتمعوا عنده قال النجاء النجاء فانهزموا من غير قتال لما بعث الله عليهم من الرعب (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً).

ذكر غزوة الخندق وهي الأحزاب

قال : البخاري قال موسى بن عقبة : كانت في شوال سنة أربع من الهجرة. وروى محمد بن إسحاق عن مشايخه قال : دخل حديث بعضهم في بعض أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهو ابن قيس وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل ، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة ، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فقالت لهم قريش يا معشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، فديننا خير أم دينه؟ قالوا دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين قال الله تعالى فيهم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) إلى قوله (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً). قال فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فاجتمعوا على ذلك ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان وقيسا وغيلان فاجتمعوا على ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه ، وإن قريشا قد بايعوهم على ذلك فأجابوهم وخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة ، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة ، ومسعر بن رخيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع. فلما سمع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة ، وكان الذي أشار على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخندق سلمان الفارسي وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يومئذ حر. فقال يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا ضربنا خندقا علينا ، فعمل فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون حتى أحكموه. وروي «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خط الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي ، وكان رجلا قويا فقال المهاجرون سلمان منا وقال الأنصار سلمان منا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلمان منا أهل البيت».

قال عمرو بن عوف كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعا فحفرنا ، حتى إذا كنا تحت أخرج الله من بطن الخندق صخرة مروة حتى كسرت حديدنا وشقت علينا ، فقلنا يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره بخبر هذه الصخرة ، فإما أن يعدل عنها فإن المعدل قريب وإما أن يأمرنا فيها أمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه ، قال فرقي سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية ، فقال يا رسول الله خرجت لنا صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجيبنا منها شيء قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمرك فإنا لا نحب أن نجاوز خطك ، فهبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع سلمان إلى الخندق واستند على شق الخندق وأخذ عليه الصلاة والسلام المعول من سلمان وضربها به ضربة صدعها وبرق منها برق

٤١١

أضاء ما بين لابتيها يعني المدينة ، حتى كأنه مصباح في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون معه ، ثم ضربها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثانية فبرق منها برق حتى أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون معه ثم ضربها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكسرها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون معه وأخذ بيد سلمان ورقي فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى القوم وقال : أرأيتم ما يقول سلمان قالوا نعم يا رسول الله قال : ضربت ضربتي الأولى فبرق البرق الذي رأيتم فأضاء لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاء لي منها قصور قيصر من أرض الروم ، كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، ثم ضربت الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاء لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحصر فقال المنافقون ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه ينظر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا قال : فنزل القرآن : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً). وأنزل الله : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) الآية (ق) عن أنس قال «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم ، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال «اللهم إن العيش عيش الآخرة ؛ فاغفر للأنصار والمهاجرة» فقالوا مجيبين له :

نحن الذين بايعوا محمدا

على الجهاد ما حيينا أبدا

عن البراء بن عازب قال «رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينقل معنا التراب وهو يقول :

والله لولا الله ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

والمشركون قد بغوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا

ويرفع بها صوته. «وفي رواية قد وارى التراب بياض إبطيه» رجعنا إلى حديث ابن إسحاق قال «فلما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من دومة من الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة ، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نعمى إلى جانب أحد ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون معه حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذراري والنساء فرفعوا إلى الآطام ، وخرج عدو الله حييّ بن أخطب من بني النضير حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وكان قد واعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قومه وعاهده على ذلك ، فلما سمع صوت ابن أخطب أغلق دونه حصته فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له ، فناداه حييّ يا كعب افتح لنا فقال : ويحك يا حييّ إنك امرؤ مشؤوم إني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه ولم أر منه إلا وفاء وصدقا فقال : ويحك افتح أكلمك قال : ما أنا بفاعل. قال : والله إن أغلقت دوني إلا خوفا أن آكل معك فأحفظ الرجل ففتح له فقال ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وبحر طام جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نعمى إلى جانب أحد قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه. فقال : له كعب جئتني والله بذلّ الدهر وبجام قد يهرق ماؤه ويرعد ويبرق ليس فيه شيء دعني ومحمدا وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل حييّ بن أخطب بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له على أن أعطاه

٤١٢

من الله عهدا وميثاقا لئن رجعت قريش ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب بن أسد العهد وبرىء مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما انتهى الخبر إلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى المسلمين بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل ، وهو يومئذ سيد الأوس وسعد بن عبادة أحد بني ساعدة وهو يومئذ سيد بني الخزرج ، ومعهما عبد الله بن رواحة أخو الحارث بن الخزرج وخوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف. فقال : انطلقوا حتى تنظروا ما بلغنا عن هؤلاء القوم أحق أم لا فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ، ولا تفتوا أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا للناس ، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم ونالوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : لا عقد بيننا وبينه ولا عهد فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه وكان رجلا عنده حدة ، فقال له سعد بن معاذ : دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلموا وقالوا : عضل والقارة لغدر ، عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه. فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين ، وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق من بعض المنافقين ، حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. وقال : أوس بن قيظي أحد بني حارثة يا رسول الله إن بيوتنا لعورة من العدو ، وذلك على ملأ من رجال قومه ، فأذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنها خارجة من المدينة ، فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقام المشركون عليها بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى ، فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فجرى بينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة فذكر ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما فيه. فقالا : يا رسول الله أشيء أمرك الله به لا بدلنا من العمل به أم أمر تحبه فتصنعه أم شيء تصنعه لنا. قال بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم. فقال : له سعد بن معاذ يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأصنام لا نعبد الله ولا نعرفه ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة واحدة إلا قرى أو بيعا فحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ما لنا بهذا من حاجة والله ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنت وذاك فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ثم قال ليجهدوا علينا فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون وعدوهم محاصروهم ولم يكن بينهم قتال ، إلا أن فوارس من قريش عمرو بن عبد ود أخو بني عامر بن لؤي وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ونوفل بن عبد الله بن ضرار بن الخطاب ومرداس أخو بني محارب بن فهر قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيلهم ، فمروا على بني كنانة فقالوا تهيؤوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان ، ثم أقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا عليه فلما رأوه قالوا والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها ، ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا وضربوا خيولهم فاقتحمت منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع ، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليه الثغرة التي اقتحموا منها وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم ، وكان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحدا ، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه فلما وقف هو وخيله ، قال علي يا عمرو إنك كنت تعاهد الله لا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه إحداهما. قال : أجل قال له علي : فإني أدعوك إلى الله ورسوله وإلى الإسلام قال لا حاجة لي بذلك. قال : إني أدعوك إلى النزال قال : ولم يا ابن أخي فو الله ما أحب أن أقتلك. فقال علي : لكني والله أحب أن أقتلك

٤١٣

فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ثم أقبل علي علي فتناولا وتجاولا فقتله علي وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة ، وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات بمكة ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة. فقال : يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه فنزل إليه علي فقتله فغلب المسلمون على جسده فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبيعهم جسده فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا حاجة لنا في جسدهم وثمنه فشأنكم به فخلى بينهم وبينه قالت عائشة أم المؤمنين : كنا يوم الخندق في حصن بني حارثة وكان من أحرز حصون المدينة وكانت أم سعد بن معاذ معنا في الحصن ، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فمر سعد بن معاذ وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها وفي يده حربة وهو يقول :

لا بأس بالموت إذا حان الأجل

فقالت : له أمه الحق يا بني فقد والله أجزت. قالت عائشة : يا أم سعد والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي وخفت عليه حيث أصاب السهم منه. قالت : فرمي سعد يومئذ بسهم فقطع منه الأكحل رماه خباب بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي فلما أصابه قال خذها وأنا ابن العرقة. قال سعد : عرق الله وجهك في النار ، ثم قال سعد : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فابقني لها فإنه لا قوم أحب لي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة ، وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية. قال محمد بن إسحاق : فيما بلغه أن صفية بنت عبد المطلب كانت في فارع حصن حسان بن ثابت قالت وكان حسان معنا مع النساء والصبيان ، قالت صفية : فمر بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمسلمون في نحر عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذا أتانا آت ، قالت : فقلت يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من اليهود وقد شغل عنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فانزل إليه فاقتله. فقال : يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب ، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. قالت فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئا اعتجرت ثم أخذت عمودا ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته ، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن. فقلت يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل ، قال : ما لي بسلبه حاجة يا بنت عبد المطلب قالوا : وأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم ، ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن غطفان أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فأمرني بما شئت. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة. فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان نديما لهم في الجاهلية. فقال لهم : يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم ، قالوا صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم إن قريشا وغطفان جاءوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه وإن قريشا وغطفان ليسوا كهيئتكم البلد بلدكم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره وإن قريشا وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره إن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين هذا الرجل والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به ، إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه ، قالوا لقد أشرت برأي ونصح ثم خرج حتّى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمدا فقد بلغني أمر رأيت حقا على أن أبلغكم نصحا لكم فاكتموا علي. قالوا نفعل. قال : تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أن قد

٤١٤

ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك عنا أن نأخذ من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فنضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم. فأرسل إليهم أن نعم. فإن بعث إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا. ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهمونني. قالوا : صدقت قال فاكتموا علي. قالوا نفعل فقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم مثلما حذرهم. فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس وكان مما صنع الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان. فقالوا لهم إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا. وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابهم ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا فإننا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمد ، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان تعلمن والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحقّ فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن وجدوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك شمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم ، فأرسلوا إلى قريش وغطفان إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا فأبوا عليهم. وخذل الله عزوجل بينهم وبعث عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم فلما انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما اختلف من أمرهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا. وروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي وروى غيره عن إبراهيم التيمي عن أبيه قالا قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبتموه قال نعم يا ابن أخي. قال : كيف كنتم تصنعون قال والله لقد كنا نجهد. قال الفتى والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا ولخدمناه وفعلنا معه وفعلنا فقال حذيفة : يا ابن أخي لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال من يذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنة فما قام منا رجل ثم صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هونا من الليل ثم التفت إلينا فقال مثله فسكت القوم وما قام منا رجل ثم صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هونا من الليل ثم التفت إلينا فقال : هل من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا حذيفة ولم يكن لي بد من القيام حين دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : لبيك يا رسول الله ، وقمت حتى أتيته فأخذني بيدي ومسح رأسي ووجهي ثم قال ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ولا تحدثن شيئا حتى ترجع إلي. ثم قال : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته. فأخذت سهمي وشددت على أسلابي انطلقت أمشي نحوهم كأنما أمشي في حمام فذهبت فدخلت في القوم وقد أرسل الله عليهم ريحا وجنودا وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء قال وأبو سفيان قاعد يصطلي فأخذت سهما فوضعته في كبد قوسي فأردت أن أرميه ولو رميته لأصبته فذكرت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تحدثن حدثا حتى ترجع ، فرددت سهمي في كنانتي ، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء قام فقال يا معشر قريش ليأخذ كل منكم بيد جليسه فلينظر من هو؟ فأخذت بيد جليسي فقلت : من أنت؟؟ فقال سبحان الله أما تعرفني أنا فلان بن فلان رجل من هوازن فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم

٤١٥

ضربه فوثب على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم. وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم. قال : فرجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأني أمشي في حمام فأتيته وهو قائم يصلي فلما سلم أخبرته فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل ، فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفء فأدفأني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنا مني عند رجليه وألقى عليّ طرف ثوبه وألصق صدري ببطن قدميه ، فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت ، قال : قم يا نومان فذلك قوله عزوجل :

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠))

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ) أي من فوق الوادي من قبل المشرق وهم أسد وغطفان وعليهم مالك بن عوف النصري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود قريظة (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) يعني من بطن الوادي من قبل المغرب وهم قريش وكنانة عليهم أبو سفيان بن حرب من قريش ومن تبعه ، وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق وكان الذي جر غزوة الخندق فيما قيل إجلاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني النضير من ديارهم (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) أي مالت وشخصت من الرعب وقيل مالت عن كل شيء فلم تنظر إلى عدوها (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) أي زالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع والحنجرة جوف الحلقوم ، وهذا على التمثيل عبر به عن شدة الخوف ، وقيل معناه أنهم جبنوا وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته وإذا انتفخت رئته رفعت القلب إلى الحنجرة فلهذا يقال : للجبان انتفخ سحره (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) أي اختلفت الظنون بالله فظن المنافقون استئصال محمد وأصحابه وظن المؤمنون النصر والظفر لهم.

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨))

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) أي عند ذلك اختبر المؤمنون بالحصر والقتال ليتبين المخلصون من المنافقين (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) أي حركوا حركة شديدة (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) يعني معتب بن قشير وقيل عبد الله بن أبيّ وأصحابه (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك وضعف اعتقاد (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) هو قول أهل النفاق يعدنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله هذا هو الغرور. قوله تعالى (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي من المنافقين وهم أوس بن قيظي وأصحابه (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) يعني يا أهل المدينة وقيل يثرب اسم الأرض ومدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ناحية منها سميت يثرب باسم رجل من العماليق كان قد نزلها في قديم الزمان. وفي بعض الأخبار أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى أن تسمى المدينة يثرب وقال هي طيبة كأنه كره هذه اللفظة

٤١٦

لما فيها من التثريب وهو التقريع والتوبيخ (لا مُقامَ لَكُمْ) أي لا مكان لكم تنزلون وتقيمون فيه (فَارْجِعُوا) أي إلى منازلكم وقيل عن اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل عن القتال (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) يعني بني حارثة وبني سلمة (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أي خالية ضائعة وهي مما يلي العدو ونخشى عليها السراق فكذبهم الله تعالى بقوله (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) أي أنهم لا يخافون ذلك إنما يريدون الفرار من القتال (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها) يعني لو دخل هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم وهم الأحزاب من نواحي المدينة وجوانبها (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) أي الشرك (لَآتَوْها) أي لجاءوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام (وَما تَلَبَّثُوا بِها) أي ما احتبسوا عن الفتنة (إِلَّا يَسِيراً) أي لأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبة به نفوسهم ، وقيل معناه وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا. قوله عزوجل (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل غزوة الخندق (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) أي لا ينهزمون ، قيل هم بنو حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة ، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها ، وقيل هم أناس غابوا عن وقعة بدر فلما رأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة قالوا لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن فساق الله إليهم ذلك (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) أي عنده في الآخرة (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) أي الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أو قتل لا بد من ذلك (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ) أي بعد الفرار (إِلَّا قَلِيلاً) أي مدة آجالكم وهي قليل (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ) أي يمنعكم (مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) أي هزيمة (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أي نصرا (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي ناصرا يمنعهم (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) أي المثبطين الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) أي ارجعوا إلينا ودعوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا تشهدوا معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك ، قيل هم أناس من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون لهم ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ولو كانوا لحما لالتهمهم أي ابتلعهم أبو سفيان وأصحابه دعوا الرجل فإنه هالك. وقيل نزلت في المنافقين وذلك أن اليهود أرسلت إليهم ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه ، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا وإنا نشفق عليكم فأنتم إخواننا وجيراننا هلموا إلينا فأقبل عبد الله بن أبيّ ابن سلول وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه ، وقالوا لئن قدر اليوم عليكم لم يستبق منك أحدا أما ترجعون عن محمد ما عنده خير ما هو إلا أن يقتلنا ها هنا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعني اليهود ، فلم يزدد المؤمنين بقول المنافقين إلا إيمانا واحتسابا وقوله تعالى (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) يعني الحرب (إِلَّا قَلِيلاً) أي رياء وسمعة من غير احتساب ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا.

(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣))

(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أي بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة وصفهم الله بالبخل والجبن (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ

٤١٧

رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) أي في رؤوسهم من الخوف والجبن (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيه أسبابه فإنه يذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرف (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) أي زال (سَلَقُوكُمْ) أي آذوكم. ورموكم في حالة الأمن (بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي ذربة تفعل كفعل الحديد قال ابن عباس معناه عضوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة ، وقيل بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة يقولون أعطونا فإنا شهدنا معكم القتال فلستم بأحق بالغنيمة منا فهم عند الغنيمة أشجع قوم وعند الحرب أجبن قوم (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي يشاحون المؤمنين عند الغنيمة فعلى هذا المعنى يكون المراد بالخير المال (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) أي لم يؤمنوا حقيقة الإيمان وإن أظهروا الإيمان لفظا (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أي التي كانوا يأتون بها مع المسلمين قيل هي الجهاد وغيره (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي إحباط أعمالهم مع أن كل شيء على الله يسير. قوله تعالى (يَحْسَبُونَ) يعني هؤلاء المنافقين (الْأَحْزابَ) يعني قريشا وغطفان واليهود (لَمْ يَذْهَبُوا) أي لم ينصرفوا عن قتالهم جبنا وفرقا وقد انصرفوا عنهم (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) أي يرجعوا إليهم للقتال بعد الذهاب (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) أي يتمنون لو أنهم كانوا في بادية مع الأعراب من الجبن والخوف (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي عن أخباركم وما آل إليه أمركم (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) يعني هؤلاء المنافقين (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) يعني يقاتلون قليلا يقيمون به عذرهم فيقولون قد قاتلنا معكم وقيل هو الرمي بالحجارة وقيل رياء من غير احتساب.

قوله عزوجل (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي قدوة صالحة أي اقتدوا به اقتداء حسنا وهو أن تنصروا دين الله وتؤازروا رسوله ولا تتخلفوا عنه وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذ قد كسرت رباعيته وجرح وجهه وقتل عمه وأوذي بضروب الأذى فصبر وواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم كذلك أيضا واستنوا بسنته (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) يعني أن الأسوة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن كان يرجو الله قال ابن عباس يرجو ثواب الله (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) يعني ويخشى يوم البعث الذي فيه الجزاء (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) أي في جميع المواطن على السراء والضراء ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال تعالى (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) أي قالوا ذلك تسليما لأمر الله وتصديقا بوعده (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) أي فيما وعدا وهو في مقابلة قول المنافقين «ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا» وقولهم «وصدق الله ورسوله» ليس إشارة إلى ما وقع فإنهم كانوا يعرفون صدق الله ورسوله قبل الوقوع ، وإنما هو إشارة إلى البشارة في جميع ما وعد فيقع الكل مثل فتح مكة وفتح الروم وفارس ، وقيل إنهم وعدوا أن تلحقهم شدة وبلاء فلما رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً) أي تصديقا لله (وَتَسْلِيماً) أي لأمره. قوله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) أي قاموا بما جاهدوا الله عليه ووفوا به (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) أي فرغ من نذره ووفى بعهده وصبر على الجهاد حتّى استشهد ، وقيل قضى نحبه يعني أجله فقتل على الوفاء يعني حمزة وأصحابه ، وقيل قضى نحبه أي بذل جهده في الوفاء بالعهد وقيل قضى نحبه استشهد يوم بدر وأحد (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) يعني من بقي بعد هؤلاء من المؤمنين ينتظرون أحد الأمرين إما الشهادة أو النصر على الأعداء (وَما بَدَّلُوا) يعني عهدهم (تَبْدِيلاً) (ق) عن أنس قال غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون قال اللهم إني اعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وابرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين ، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحا من دون أحد فقال سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه قال أنس كنا نرى أو نظن أن هذه

٤١٨

الآية نزلت فيه وفي أشباهه : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه إلى آخر الآية. (ق) عن خباب بن الأرت قال «هاجرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نلتمس وجه الله. فوقع أجرنا على الله فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد وترك نمرة وكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجليه بدت رأسه ، فأمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه من الإذخر ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها» النمرة كساء ملون من صوف ، وقوله ومنا من أينعت أي أدركت ونضجت له ثمرته ، وهذه استعارة لما فتح الله لهم من الدنيا ، وقوله يهدبها أي يجتنيها ويقطعها. عن أبي موسى بن طلحة قال «دخلت على معاوية فقال ألا أبشرك سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : طلحة ممن قضى نحبه». أخرجه الترمذي. وقال هذا حديث غريب (خ) عن قيس بن أبي حازم قال «رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد». قوله عزوجل :

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦))

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) أي جزاء صدقهم وصدقهم هو الوفاء بالعهد (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أي فيهديهم إلى الإيمان ويشرح له صدورهم (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني من قريش وغطفان (بِغَيْظِهِمْ) أي لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) أي ظفرا (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) أي بالملائكة والريح (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا) أي في ملكه (عَزِيزاً) أي في انتقامه. قوله تعالى (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المسلمين وهم بنو قريظة (مِنْ صَياصِيهِمْ) أي من حصونهم ومعاقلهم واحدها صيصية (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي الخوف (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) يعني الرجال يقال كانوا ستمائة (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) يعني النساء والذراري يقال كانوا سبعمائة قيل وخمسين.

(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩))

(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) يعني بعد قيل هي خيبر ويقال إنها مكة وقيل فارس والروم وقيل هي كل أرض تفتح على المسلمين إلى يوم القيامة (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً).

قيل كانت في آخر ذي القعدة سنة خمس. وعلى قول البخاري المتقدم في غزوة الخندق عن موسى بن عقبة أنها كانت في سنة أربع. قال العلماء بالسير إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم انصرف صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون عن الخندق إلى المدينة ووضعوا السلاح ، فلما كان الظهر أتى جبريل عليه‌السلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متعمما بعمامة من إستبرق على بغلة بيضاء عليها رحالة وعليها من قطيفة من ديباج ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند زينب بنت جحش وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقه فقال جبريل يا رسول الله قد وضعت السلاح؟ قال : نعم قال : جبريل عفا الله عنك ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة وما رجعت الآن إلا من

٤١٩

طلب القوم. وروى أنه كان الغبار على وجه جبريل وفرسه فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح الغبار عن وجهه ووجه فرسه فقال إن الله تعالى يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إلى بني قريظة فانهز إليهم فإني قد قطعت أوتارهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مناديا فأذن أن من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ، وقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرها الناس ، وسار علي حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجع حتى لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالطريق فقال : يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث. قال : أظنك سمعت لي منهم أذى قال : نعم يا رسول الله قال : لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلما دنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حصونهم قال «يا إخوان القردة قد أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته». قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولا ؛ ومر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال «هل مر بكم أحد؟» فقالوا : يا رسول الله مر بنا دحية بن خليفة على بغلة بيضاء عليها رحالة وعليها قطيفة ديباج. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ذاك جبريل عليه‌السلام بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم» فلما أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية أموالهم وتلاحق به الناس فأتاه رجال بعد صلاة العشاء الأخيرة ولم يصلوا العصر لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» ، فصلوا العصر بها بعد العشاء الأخيرة فما عابهم الله بذلك ولا عنفهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال العلماء : حاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب وكان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان ووفى لكعب بن أسد بما كان عاهده ، فلما أيقنوا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد يا معشر يهود إنكم قد نزل من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم. قالوا : وما هن؟ قال نتابع هذا الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتؤمنون على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. فقالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره. قال : فإذا أبيتم هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف ولا نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئا نخشى عليه وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء. قالوا : نقتل هؤلاء المساكين فما في العيش بعدهم خير. قال : فإن أبيتم هذه الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فانزلوا فلعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا : نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من قبلنا إلا ما قد علمت فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك. قال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه حازما ليلة من الدهر ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ابعث لنا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا. فأرسله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم. فلما رأوه قام إليه الرجال والنساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم. فقالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد قال نعم وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح ، قال أبو لبابة فو الله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ربط في المسجد إلى عمود من عمده وقال والله لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت وعاهد الله لا يطأ أرض بني قريظة أبدا ولا يراني الله في بلد قد خنت الله ورسوله فيه أبدا. فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبره وأبطأ عليه قال أما لو قد جاءني لاستغفرت له فأما إذ فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه ، ثم إن الله أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في بيت أم سلمة قالت أم سلمة فسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضحك فقلت : مم ضحكت يا رسول الله أضحك الله سنك؟ قال : تيب على أبي لبابة. فقلت : ألا أبشره بذلك يا رسول الله قال بلى إن شئت قال فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب. فقالت : يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك. قال : فثار الناس إليه ليطلقوه فقال لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده فلما مر عليه

٤٢٠