تفسير الخازن - ج ٣

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٣

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٤٦٤

جبريل فقال : يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله تعالى فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حزنا شديدا وخاف من الله تعالى خوفا كبيرا فأنزل الله تعالى هذه الآية يعزيه وكان به رحيما وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وبلغهم سجود قريش وقيل قد أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا : هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا يحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا فلم يدخل أحد منهم إلّا بجوار أو مستخفيا. فلما نزلت هذه الآية قالت قريش : ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك وكان الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم وقوله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) الرسول هو الذي يأتيه جبريل بالوحي عيانا (وَلا نَبِيٍ) النبي هو الذي تكون نبوته إلهاما ، أو مناما فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا إلا إذا تمنى يعني أحب شيئا واشتهاه وحدث به نفسه مما لم يؤمر به (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) يعني في مراده وقال ابن عباس : إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه ووجد إليه سبيلا. والمعنى ما من نبي «إلا تمنى» أن يؤمن قومه ولم يتمن ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضى قومه فينسخ الله ما يلقي الشيطان. وقال أكثر المفسرين معنى تمنى قرأ وتلا كتاب الله ألقى الشيطان في أمنيته يعني في تلاوته قال حسان في عثمان حين قتل :

تمنى كتاب الله أول ليلة

وآخرها لاقى حمام المقادر

فإن قلت : قد قامت الدلائل على صدقة وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه بخلاف ما هو به لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا قال الله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) وقال تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فكيف يجوز الغلط على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التلاوة وهو معصوم منه؟. قلت ذكر العلماء عن هذا الإشكال أجوبة : أحدها : توهين أصل هذه القصة وذلك أنه لم يروها أحد من أهل الصحة ولا أسندها ثقة بسند صحيح أو سليم متصل وإنما رواها المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم والذي يدل على ضعيف هذه القصة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها فقائل يقول إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في الصلاة وآخر يقول قرأها وهو في نادي قومه وآخر يقول قرأها وقد أصابته سنة وآخر يقول بل حدث نفسه بها فجرى ذلك على لسانه وآخر يقول إن الشيطان قالها على لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا عرضها على جبريل قال ما هكذا أقرأتك إلى غير ذلك من اختلاف ألفاظها والذي جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخا من قريش أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته قال عبد الله فلقد رأيته بعد قتل كافرا». أخرجه البخاري ومسلم وصح من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس». رواه البخاري فهذا الذي جاء في الصحيح لم يذكر فيه أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر تلك الألفاظ ولا قرأها والذي ذكره المفسرون عن ابن عباس في هذه القصة. فقد رواه عنه الكلبي وهو ضعيف جدا فهذا توهين هذه القصة الجواب الثاني : وهو من حيث المعنى هو أنّ الحجة قد قامت بالدليل الصحيح وإجماع الأمة على عصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة وهو تمنيه أن ينزل عليه مدح إله غير الله أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه حتى نبهه جبريل عن ذلك فهذا كله ممتنع في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الله عزوجل «ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين». الآية الجواب الثالث : في تسليم وقوع هذه القصة وسبب سجود الكفار أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ يرتل القرآن ترتيلا ويفصل الآي تفصيلا كما صح عنه في قراءته فيحتمل أن الشيطان ترصد لتلك السكنات فدس فيها ما اختلقه من تلك الكلمات محاكيا لصوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسمعه من دنا منه من الكفار فظنوها من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسجدوا معه لسجوده فأما المسلمون فلم يقدح ذلك عندهم لتحققهم من حال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذم الأوثان وعيبها وإنهم كانوا يحفظون السورة كما

٢٦١

أولها الله عزوجل الجواب الرابع : في تحقيق تفسير الآية وقد تقدم أنّ التمني يكون بمعنى حديث النفس وبمعنى التلاوة فعلى الأول : يكون معنى قوله (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) أي خطر بباله وتمنى بقلبه بعض الأمور ولا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة وعلى الثاني : وهو تفسير التمني بالتلاوة فيكون معنى قوله «إلا إذا تمنى» أي تلا وهو ما يقع للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السهو في إسقاط آية أو آيات أو كلمة أو نحو ذلك ولكنه لا يقر على هذا السهو بل ينبه عليه ويذكر به للوقت والحين كما صح في الحديث «لقد أذكرني كذا كذا آية كنت أنسيتها من سورة كذا» وحاصل هذا أن الغرض من هذه الآية أن الأنبياء والرسل وإن عصمهم الله عن الخطأ في العلم فلم يعصمهم من جواز السهو عليهم بل حالهم في ذلك كحال سائر البشر والله تعالى أعلم. قوله عزوجل (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي يبطله ويذهبه (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) أي يثبتها (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قوله عزوجل (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً) أي محنة وبلية والله تعالى يمتحن عباده بما يشاء (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك ونفاق (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) أي الجافية قلوبهم عن قبول الحق وهم المشركون (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي في خلاف شديد.

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨))

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي التوحيد والقرآن والتصديق ينسخ الله ما يشاء (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي الذي أحكم الله من آيات القرآن هو الحق من ربك (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) أي يعتقدوا أنه من الله عزوجل (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) أي تسكن إليه (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إلى طريق قويم وهو الإسلام. قوله عزوجل (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي في شك من القرآن وقيل من الدين الذي هو صراط مستقيم (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي فجأة وقيل أراد بالساعة الموت (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) أي عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة وقيل هو يوم بدر سمي عقيما لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير كالريح العقيم لا تأتي بخير وقيل لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) يعني يوم القيامة (لِلَّهِ) وحده من غير منازع ولا مشارك فيه (يَحْكُمُ) أي يفصل (بَيْنَهُمْ) ثم بين ذلك الحكم فقال تعالى (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ). قوله تعالى (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب رضاه (ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) أي لا ينقطع أبدا وهو رزق الجنة لأنه فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فإن قلت الرازق في الحقيقة هو الله عزوجل لا رازق للخلق غيره فكيف قال وإن الله لهو خير الرازقين. قلت قد يسمى غير الله رازقا على المجاز كقوله رزق السلطان الجند أي أعطاهم أرزاقهم وإن الرزاق في الحقيقة هو الله تعالى وقيل لأنه الله تعالى يعطي الرزق ما لا يقدر عليه غيره.

(لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي

٢٦٢

النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١))

(لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) يعني الجنة يكرمون به ولا ينالهم فيه مكروه (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بنياتهم (حَلِيمٌ) بالعفو عنهم. قوله عزوجل (ذلِكَ) أي الأمر ذلك الذي قصصنا عليك (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) يعني جازى الظالم بمثل ظلمه وقيل يعني قاتل المشركين كما قاتلوه (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) يعني ظلم بإخراجه من منزله يعني ما أتاه المشركون من البغي على المسلمين حتى أحوجوهم إلى مفارقة أوطانهم نزلت في قوم من المشركين أتوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا في المحرم فكره المسلمون قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام فأبى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم وثبت المسلمون فنصرهم الله عليهم فذلك قوله تعالى (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ) يعني عن مساوي المؤمنين (غَفُورٌ) يعني لذنوبهم (ذلِكَ) يعني ذلك النصر (بِأَنَّ اللهَ) القادر على ما يشاء فمن قدرته أنه (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) في معنى هذا الإيلاج قولان ، أحدهما : أنه يجعل ظلمة الليل مكان ضياء النهار وذلك بغيبوبة الشمس ويجعل ضياء النهار مكان ظلمة الليل بطلوع الشمس. القول الثاني : هو ما يزيد في أحدهما وينقص من الآخر من الساعات وذلك لا يقدر عليه إلا الله تعالى (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي ذو الحق في قوله وفعله ، ودينه حق وعبادته حق (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ) يعني المشركين (مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) يعني الأصنام التي ليس عندها ضر ولا نفع (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ) أي العالي على كل شيء (الْكَبِيرُ) أي العظيم في قدرته وسلطانه. قوله عزوجل (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) يعني بالنبات (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) يعني باستخراج النبات من الأرض رزقا للعباد والحيوان (خَبِيرٌ) يعني بما في قلوب العباد إذا تأخر المطر عنهم (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يعني عبيدا وملكا (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) يعني الغني عن عباده الحميد في أفعاله (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) يعني الدواب التي تركب في البر (وَالْفُلْكَ) أي وسخر لكم السفن (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) يعني سخر لها الماء والرياح ولو لا ذلك ما جرت (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ) أي لكيلا تسقط (عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) يعني أنه أنعم بهذه النعم الجامعة بمنافع الدنيا والدين وقد بلغ الغاية في الإنعام والإحسان فهو إذن رؤوف رحيم بكم (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) أي أنشأكم ولم تكونوا شيئا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) أي عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي يوم البعث للثواب والعقاب (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) أي لجحود

٢٦٣

لنعم الله عزوجل. قوله تعالى (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) قال ابن عباس شريعة (هُمْ ناسِكُوهُ) هم عاملون بها وعنه أنه قال عيدا وقيل موضع قربان يذبحون فيه وقيل موضع عبادة (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي في أمر الذبائح نزلت في بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لكم تأكلون مما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون مما قتله الله؟ وقيل معناه لا تنازعهم أنت. قوله تعالى (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي إلى الإيمان به وإلى دينه (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) أي على دين واضح قويم (وَإِنْ جادَلُوكَ) يعني خاصموك في أمر الذبح وغيره (فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) أي من التكذيب (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) يعني فتعلمون حينئذ الحق من الباطل وقيل حكم يوم القيامة يتردّد بين جنة وثواب لمن قبل وبين نار وعقاب لمن رد وأبى. قوله عزوجل (أَلَمْ تَعْلَمْ) الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدخل فيه الأمة (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) يعني في اللوح المحفوظ (إِنَّ ذلِكَ) يعني علمه بجميعه (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي هين وقيل : إن كتب الحوادث مع أنها من الغيب على الله يسير (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) يعني حجة ظاهرة من دليل سمعي (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) يعني أنهم فعلوا ما فعلوه عن جهل لا عن علم ولا دليل عقلي (وَما لِلظَّالِمِينَ) يعني المشركين (مِنْ نَصِيرٍ) يعني مانع يمنعهم من العذاب.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧))

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) يعني القرآن وصفه بذلك لأنه فيه بيان الأحكام والفصل بين الحلال والحرام (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) يعني الإنكار والكراهية يتبين ذلك في وجوههم (يَكادُونَ يَسْطُونَ) يعني يقعون ويبسطون إليكم أيديهم بالسوء وقيل يبطشوه (بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ (قُلْ) يعني قل لهم يا محمد (أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) يعني بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تستمعون (النَّارُ) يعني هي النار (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) فإن قلت الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلا. قلت لما كان المثل في الأكثر نكتة عجيبة غريبة جاز أن يسمى كل كلام كان كذلك مثلا. وقال في الكشاف قد سميت الصفة والقصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب مثلا تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مسيرة عندهم مستحسنة مستغربة (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) يعني تدبروه حق تدبره فإنّ الاستماع بلا تدبر وتعقل لا ينفع والمعنى جعل لي شبيه وشبه به الأوثان أي جعل المشركون الأصنام شركائي يعبدونها ثم بين حالها وصفتها فقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) يعني واحدا في صغره وضعفه وقلته لأنها لا تقدر على ذلك (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) يعني لخلقه ، والمعنى أن هذه الأصنام لو اجتمعت لم يقدروا على خلق ذبابة على ضعفها وصغرها فكيف يليق بالعاقل جعلها معبودا له (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) قال ابن عباس : كانوا يطلون

٢٦٤

الأصنام بالزعفران فإذا جف جاء الذباب فاستلبه منه. وقيل : كانوا يضعون الطعام بين أيدي الأصنام فيقع الذباب عليه ويأكل منه (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) قال ابن عباس الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب الذي على الصنم والمطلوب هو الصنم وقيل الطالب الصنم والمطلوب الذباب أي لو طلب الصنم أو يخلق الذباب لعجز عنه وقيل الطالب عابد الصنم والمطلوب هو الصنم (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) يعني ما عظموه حق عظمته وما عرفوه حق معرفته ولا وصفوه حق صفته حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) يعني غالب لا يقهر. قوله عزوجل (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ) يعني يختار من الملائكة (رُسُلاً) جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وغيرهم (وَمِنَ النَّاسِ) يعني يختار الله من الناس رسلا مثل إبراهيم وعيسى ومحمد وغيرهم من الأنبياء والرسل صلّى الله عليهم أجمعين. نزلت حين قال المشركون أأنزل عليه الذكر من بيننا فأخبر الله تعالى أن الاختيار إليه يختار من يشاء من عباده لرسالته (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يعني بأقوالهم (بَصِيرٌ) يعني لأفعالهم لا تخفى عليه خافية. قوله تعالى (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) قال ابن عباس : ما قدموا (وَما خَلْفَهُمْ) يعني ما خلفوا وقيل يعلم ما عملوا ما هم عاملون وقيل يعلم ما بين أيدي ملائكته ورسله قبل أن يخلقهم ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) يعني في الآخرة. قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) يعني صلوا لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) يعني وحدوه وقيل أخلصوا له العبادة (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) قال ابن عباس : صلة الأرحام ومكارم الأخلاق وقيل فعل الخير ينقسم إلى خدمة المعبود الذي هو عبارة عن التعظيم لأمر الله تعالى وإلى الإحسان الذي هو عبارة عن الشفقة على خلق الله ويدخل فيه البر والمعروف والصدقة وحسن القول وغير ذلك من أعمال البر (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) يعني لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة.

فصل : في حكم سجود التلاوة هنا

لم يختلف العلماء في السجدة الأولى من هذه السورة واختلفوا في السجدة الثانية فروي عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى أنهم قالوا في الحج سجدتان وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق ، يدل عليه ما روي عن عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله في الحج سجدتان قال : «نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما» أخرجه الترمذي وأبو داود. وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين وقال : إن هذه السورة فضلت بسجدتين. أخرجه مالك في الموطأ وذهب قوم إلى أنّ في الحج سجدة واحدة وهي الأولى وليس هذه بسجدة وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبي حنيفة ومالك بدليل أنه قرن السجود بالركوع فدل ذلك أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة واختلف العلماء في عدة سجود التلاوة. فذهب الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة لكن الشافعي قال في الحج سجدتان وأسقط سجدة ص. وقال أبو حنيفة في الحج سجدة وأثبت سجدة ص وبه قال أحمد في إحدى الروايتين عنه فعنده أن السجدات خمس عشرة سجدة. وذهب قوم إلى أن المفصل ليس فيه سجود يروى ذلك عن أبيّ بن كعب وابن عباس وبه قال مالك فعلى هذا يكون سجود القرآن إحدى عشرة سجدة يدل عليه ما روي عن أبي الدرداء أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «في القرآن إحدى عشرة سجدة» أخرجه أبو داود وقال إسناده واه. ودليل من قال في القرآن خمس عشرة سجدة ما روي عن عمرو بن العاص قال : أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القرآن خمس عشرة سجدة منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج سجدتان. أخرجه أبو داود وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : «سجدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اقرأ وإذا السماء انشقت». أخرجه مسلم وسجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع. وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة هو واجب. قوله عزوجل :

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ

٢٦٥

هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) أي جاهدوا في سبيل الله أعداء الله ومعنى حق جهاده هو استفراغ الطاقة فيه قاله ابن عباس : وعنه قال لا تخافوا في الله لومة لائم فهو حق الجهاد كما تجاهدون في سبيل الله ولا تخافون لومة لائم وقيل معناه اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته قيل نسخها قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وقال أكثر المفسرين حق الجهاد أن يكون بنية صادقة خالصة لله ولتكون كلمة الله هي العليا بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري وقيل مجاهدة النفس والهوى هو حق الجهاد وهو الجهاد الأكبر روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجع من غزوة تبوك قال : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» ذكره البغوي بغير سند قيل أراد بالأصغر جهاد الكفار وبالأكبر جهاد النفس (هُوَ اجْتَباكُمْ) يعني اختاركم لدينه والاشتغال بخدمته وعبادته وطاعته فأي رتبة أعلى من هذا وأي سعادة فوق هذا (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي ضيق وشدة وهو أن المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منه مخرّجا بعضها بالتوبة وبعضها برد المظالم والقصاص وبعضها بأنواع الكفارات من الأمراض والمصائب وغير ذلك فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد فيه سبيلا إلى الخلاص من الذنوب ومن العقاب لمن وفق. وقيل : معناه رفع الضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس عليكم وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا. وقيل : معناه الرخص عند الضرورات كقصر الصلاة والفطر في السفر والتيمم عند عدم الماء وأكل الميتة عند الضرورة والصلاة قاعدا والفطر مع العجز بعذر المرض ونحو ذلك من الرخص التي رخص الله لعباده ، قيل أعطى الله هذه الأمة خصلتين لم يعطهما أحدا غيرهم جعلهم شهداء على الناس وما جعل عليهم في الدين من حرج. وقال ابن عباس : الحرج ما كان على بني إسرائيل من الآصار التي كانت عليهم وضعها الله عن هذه الأمة (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) لأنها داخلة في ملة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن قلت لم يكن إبراهيم أبا للأمة كلها فكيف سماه أبا في قوله «ملة أبيكم إبراهيم». قلت إن كان الخطاب للعرب فهو أبو العرب قاطبة وإن كان الخطاب لكل المسلمين فهو أبو المسلمين. والمعنى وجوب احترامه وحفظ حقه يجب كما يجب احترام الأب فهو كقوله «وأزواجه أمهاتهم» وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنما أنا لكم كالوالد» وفي قوله (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) قولان أحدهما : أن الكناية ترجع إلى الله تعالى يعني أن الله سماكم المسلمين في الكتب القديمة من قبل نزول القرآن القول الثاني : أن الكناية راجعة إلى إبراهيم يعني أنّ إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه من قبل هذا الوقت وهو قوله (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) فاستجاب الله دعاءه فينا (وَفِي هذا) أي وفي القرآن سماكم المسلمين (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) يوم القيامة أن قد بلغكم (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي تشهدون يوم القيامة على الأمم أن رسلهم قد بلغتهم (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) يعني ثقوا به وتوكلوا عليه وقيل تمسكوا بدين الله. وقال ابن عباس : سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره وقيل معناه ادعوا ربكم أن يثبتكم على دينه. وقيل : الاعتصام هو التمسك بالكتاب والسنة (هُوَ مَوْلاكُمْ) يعني وليكم وناصركم وحافظكم (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي الناصر لكم والله تعالى أعلم.

٢٦٦

سورة المؤمنين

وهي مكية وهي مائة وثمان عشرة آية وألف وثمانمائة وأربعون كلمة وأربعة آلاف وثمانمائة حرف وحرفان.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢))

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل فأنزل الله عليه يوما فمكث ساعة ثم سري عنه فقرأ قد أفلح المؤمنون إلى عشر آيات من أولها. وقال : من أقام هذه العشر آيات دخل الجنة ثم استقبل القبلة ورفع يديه وقال اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا اللهم أرضنا وارض عنا» أخرجه الترمذي. قوله عزوجل (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) قال ابن عباس قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة وقيل الفلاح البقاء والنجاة (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) قال ابن عباس : مخبتون أذلّاء خاضعون. وقيل خائفون وقيل : متواضعون وقيل الخشوع من أفعال القلب كالخوف والرهبة وقيل هو من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات وغض البصر. وقيل لا بد من الجمع بين أفعال القلب والجوارح وهو الأولى فالخاشع في صلاته لا بد وأن يحصل له الخشوع في جميع الجوارح ، فأما ما يتعلق بالقلب من الأفعال فنهاية الخضوع والتذلل للمعبود ولا يلتفت الخاطر إلى شيء سوى ذلك التعظيم. وأما ما يتعلق بالجوارح فهو أن يكون ساكنا مطرقا ناظرا إلى موضع سجوده. وقيل الخشوع هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على شماله (ق) عن عائشة قالت : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» الاختلاس هو الاختطاف عن أبي ذر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه». وفي رواية «أعرض عنه» أخرجه أبو داود والنسائي. وقيل الخشوع هو أن لا يرفع بصره إلى السماء (خ) عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال : لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» وقال أبو هريرة كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة فلما نزل الذين هم في صلاتهم خاشعون» رمقوا بأبصارهم إلى موضع السجود. وقيل الخشوع هو أن لا يعبث بشيء من جسده في الصلاة لما روي «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال : لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه». ذكره البغوي بغير سند. عن أبي ذر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإن الرحمة تواجهه» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. وقيل الخشوع في الصلاة هو جمع الهمة والإعراض عمّا سوى الله والتدبر فيما يجري على لسانه من القراءة والذكر. قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ

٢٦٧

حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠))

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) قال ابن عباس عن الشرك وقيل عن المعاصي وقيل هو كل باطل ولهو وما لا يجمل من القول والفعل وقيل هو معارضة الكفار الشتم والسب (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) أي الزكاة الواجبة مؤدّون فعبر عن التأدية بالفعل لأنها فعل وقيل الزكاة ها هنا هي العمل الصالح والأول أولى (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) الفرج اسم لسوأة الرجل والمرأة وحفظه التعفف عن الحرام (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) على بمعنى من (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) يعني الإماء والجواري والآية في الرجال خاصة لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكها (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) يعني بعدم حفظ فرجه من امرأته وأمته فإنه لا يلام على ذلك وإنما لا يلام فيما إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتي وفي حال الحيض والنفاس فإنه محظور فلا يجوز ومن فعله فإنه ملوم (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) أي التمس وطلب سوى الأزواج والولائد وهن الجواري المملوكة (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي الظالمون المجاوزون الحد من الحلال إلى الحرام. وفيه دليل على أن الاستمناء باليد حرام وهو قول أكثر العلماء. سئل عطاء عنه فقال : مكروه سمعت أن قوما يحشرون وأيديهم حبالى فأظن أنهم هؤلاء وقال سعيد بن جبير عذب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم. قوله عزوجل (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي حافظون يحفظون ما ائتمنوا عليه والعقود التي عاقدوا الناس عليها يقومون بالوفاء بها. والأمانات تختلف فمنها ما يكون بين العبد وبين الله تعالى كالصلاة والصوم وغسل الجنابة وسائر العبادات التي أوجبها الله تعالى على العباد فيجب الوفاء بجميعها. ومنها ما يكون بين العباد كالودائع والصنائع والأسرار وغير ذلك فيجب الوفاء به أيضا (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي يداومون ويراعون أوقاتها وإتمام أركانها وركوعها وسجودها وسائر شروطها. فإن قلت كيف كرر ذكر الصلاة أولا وآخرا. قلت هما ذكران مختلفان فليس تكرارا وصفهم أولا بالخشوع في الصلاة وآخرا بالمحافظة عليها. قوله عزوجل (أُولئِكَ) يعني أهل هذه الصفة (هُمُ الْوارِثُونَ) يعني يرثون منازل أهل النار من الجنة. عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فمن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله» وذلك قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) ذكره البغوي بغير سند وقيل معنى الوراثة هو أن يؤول أمرهم إلى الجنة وينالوها كما يئول أمر الميراث إلى الوارث.

(الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨))

(الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) هو أعلى الجنة. عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إنّ في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة

٢٦٨

ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» أخرجه الترمذي (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي لا يخرجون منها ولا يموتون. قوله عزوجل (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني ولد آدم الإنسان اسم جنس (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) قال ابن عباس السلالة صفوة الماء وقيل هي المني لأن النطفة تسل من الظهر من طين يعني طين آدم لأن السلالة تولدت من طين خلق منه آدم وقيل : المراد من الإنسان هو آدم ، وقوله من سلالة أي سل من كل تربة (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً) يعني الذي هو الإنسان جعلناه نطفة (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي حريز وهو الرحم وسمي مكينا لاستقرار النطفة فيه إلى وقت الولادة (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي صيرنا النطفة قطعة دم جامد (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي جعلنا الدم الجامد قطعة لحم صغيرة (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) وذلك لأن اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة له. قيل إن بين كل خلق وخلق أربعين يوما (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي مباينا للخلق الأول قال ابن عباس : هو نفخ الروح فيه وقيل جعله حيوانا بعد ما كان جمادا وناطقا بعد ما كان أبكم وسميعا وكان أصم وبصيرا وكان أكمه وأودع باطنه وظاهره عجائب صنعه وغرائب فطره وعن ابن عباس قال : إن ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الرضاع إلى القعود والقيام إلى المشي إلى الفطام إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها (فَتَبارَكَ اللهُ) أي استحق التعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي المصورين والمقدرين. فإن قلت كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وقوله (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ؟). قلت الخلق له معان : منها الإيجاد والإبداع ولا موجد ولا مبدع إلّا الله تعالى. ومنها التقدير كما قال الشاعر :

ولأنت تفري ما خلقت وبعض

القوم يخلق ثم لا يفري

معناه أنت تقدّر الأمور وتقطعها وغيرك لا يفعل ذلك فعلى هذا يكون معنى الآية الله أحسن المقدرين. وجواب آخر وهو أنّ عيسى عليه الصلاة والسلام خلق طيرا وسمّى نفسه خالقا بقوله (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) فقال (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد ما ذكر من تمام الخلق (لَمَيِّتُونَ) أي عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) أي للحساب والجزاء. قوله عزوجل (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) يعني سبع سموات طرائق لأن بعضها فوق بعض وقيل لأنها طرائق الملائكة في الصعود والهبوط (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) يعني بل كنا لهم حافظين من أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم. وقيل معناه بنينا فوقهم سماء أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب. وقيل ما تركناهم سدى بغير أمر ونهي وقيل معناه إنما خلقنا السماء فوقهم لتنزل عليهم الأرزاق والبركات منها. وقيل معناه وما كنا عن الخلق غافلين أي عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم لا تخفى علينا خافية (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) أي يعلمه الله من حاجتهم إليه وقيل بقدر ما يكفيهم لمعايشهم في الزرع والغرس والشرب وأنواع المنفعة (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) يعني ما يبقى في الغدران والمستنقعات مما ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر. وقيل أسكناه في الأرض ثم أخرجناه منها ينابيع كالعيون والآبار فكل ماء في الأرض من السماء (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة» أخرجه مسلم. وعن ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله عزوجل أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل ، أنزلها الله عزوجل من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس فذلك قوله (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله عزوجل جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) فإذا رفعت هذه الأشياء كلها من الأرض فقد أهلها خير

٢٦٩

الدين والدنيا وروى هذا الحديث البغوي في تفسيره. وقال روى هذا الحديث الإمام الحسن بن سفيان بن عثمان بن سعيد بالإجازة عن سعيد بن سابق الإسكندراني عن مسلمة بن علي عن مقاتل بن حيّان عن عكرمة عن ابن عباس. ثم ذكر ما أنبت بالماء فقال تعالى :

(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩))

(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ) أي بالماء (جَنَّاتٍ) أي بساتين (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) إنما أفردهما بالذكر لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام والإدام والفواكه رطبا ويابسا (لَكُمْ فِيها) أي في الجنات (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي شتاء وصيفا (وَشَجَرَةً) أي وأنشأنا لكم شجرة وهي الزيتون (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) أي من جبل مبارك وقيل من جبل حسن قيل هو بالنبطية وقيل بالحبشية وقيل السريانية ومعناه الجبل الملتف بالأشجار. وقيل كل جبل فيه أشجار مثمرة يسمى سيناء وسينين وقيل هو من السناء وهو الارتفاع وهو الجبل الذي منه نودي موسى بين مصر وأيلة وقيل هو جبل فلسطين وقيل سيناء اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده. وقيل هو اسم المكان الذي فيه هذا الجبل (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أي تنبت وفيها الدهن وقيل تنبت بثمر الدهن وهو الزيت (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) الصبغ الإدام الذي يكون مع الخبز ويصبغ به جعل الله في هذه الشجرة المباركة أدما وهو الزيتون ودهنا وهو الزيت وخصّ جبل الطور بالزيتون لأنه منه نشأ وقيل إن أول شجرة نبتت بعد الطوفان الزيتون وقيل إنها تبقى في الأرض نحو ثلاثة آلاف سنة. قوله عزوجل (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) أي آية تعتبرون بها (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) أي ألبانها ووجه الاعتبار فيه أن اللبن يخلص إلى الضرع من بين فرث ودم بإذن الله تعالى ليس فيه منهما شيء فيستحيل إلى الطهارة وإلى طعم يوافق الشهوة والطبع ويصير غذاء ، وتقدّم بسط الكلام بما فيه كفاية في سورة النحل (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) يعني كما تنتفعون بها وهي حية فكذلك تنتفعون بها بعد الذبح للأكل (وَعَلَيْها) أي وعلى الإبل (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي على الإبل في البر وعلى السفن في البحر. قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي ما لكم معبودا سواه (أَفَلا تَتَّقُونَ) أي أفلا تخافون عقابه إذا عبدتم غيره (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي آدمي مثلكم مشارك لكم في جميع الأمور (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي إنه يحب الشرف والرياسة متبوعا وأنتم له تبع (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) يعني بإبلاغ الوحي (ما سَمِعْنا بِهذا) يعني الذي يدعونا إليه نوح (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) يعني جنون (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) يعني إلى

٢٧٠

الموت فتستريحوا منه (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) يعني أعني بإهلاكهم بتكذيبهم إياي (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) يعني بمرأى منا قاله ابن عباس. وقيل بعلمنا وحفظنا لئلا يتعرض له أحد ولا يفسد عليه عمله (وَوَحْيِنا) قيل : إن جبريل علمه عمل السفينة ووصف له كيفية اتخاذها (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) يعني عذابنا (وَفارَ التَّنُّورُ) قيل هو التنور الذي يخبز فيه وكان من حجارة ، وقيل التنور هو وجه الأرض والمعنى أنك إذا رأيت الماء يفور من التنور (فَاسْلُكْ فِيها) يعني فأدخل في السفينة (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) يعني من كل حيوان ذكر وأنثى (وَأَهْلَكَ) يعني وسائر من آمن بك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) يعني وجب عليه العذاب (مِنْهُمْ) يعني الكفار وقيل أراد بأهله أهل بيته خاصة والذي سبق عليه القول منهم هو ابنه كنعان (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) قوله عزوجل (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ) يعني اعتدلت (أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) يعني في السفينة (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يعني الكافرين (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) قيل موضع النزول وهو السفينة عند الركوب. وقيل هو وجه الأرض بعد الخروج من السفينة وأراد بالبركة النجاة من الغرق وكثرة النسل بعد الإنجاء (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) معناه أنه قد يكون الإنزال من غير الله كما يكون من الله فحسن أن يقول وأنت خير المنزلين لأنه يحفظ من أنزله ويكلؤه في سائر أحواله ويدفع عنه المكره بخلاف منزل الضيف فإنه لا يقدر على ذلك.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤))

(إِنَّ فِي ذلِكَ) يعني الذي ذكر من أمر نوح والسفينة وإهلاك أعداء الله (لَآياتٍ) يعني دلالات على قدرتنا (وَإِنْ كُنَّا) يعني وما كنا (لَمُبْتَلِينَ) يعني إلا مختبرين إياهم بإرسال نوح ووعظه وتذكيره لننظر ما هم عاملون قبل نزول العذاب بهم. قوله تعالى (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني من بعد إهلاكهم (قَرْناً آخَرِينَ) يعني عادا (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) يعني هودا قاله أكثر المفسرين وقيل القرن ثمود والرسول صالح والأول أصح (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) يعني هذه الطريقة التي أنتم عليها مخافة العذاب (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) يعني بالمصير إليها (وَأَتْرَفْناهُمْ) يعني نعمناهم ووسعنا عليهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) يعني من مشربكم (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) يعني لمغبونون (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) يعني من قبوركم أحياء (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) قال ابن عباس أي بعيد بعيد (لِما تُوعَدُونَ) استبعد القوم بعثهم بعد الموت إغفالا منهم

٢٧١

للتفكر في بدء أمرهم وقدرة الله على إيجادهم وأرادوا بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبدا (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) قيل معناه نحيا ونموت لأنهم كانوا ينكرون البعث وقيل يموت الآباء ويحيا الأبناء وقيل معناه يموت قوم ويحيا قوم (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) يعني بعد الموت (إِنْ هُوَ) يعنون رسولهم (إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) يعني بمصدقين بالبعث بعد الموت (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَ) يعني ليصيرن (نادِمِينَ) على كفرهم وتكذيبهم (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِ) يعني صيحة العذاب وقيل صاح بهم جبريل فتصدعت قلوبهم وقيل أراد بالصيحة الهلاك (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) هو ما يحمله السيل من حشيش وعيدان شجر ، والمعنى صيرناهم هلكى فيبسوا يبس الغثاء من نبات الأرض (فَبُعْداً) يعني ألزمنا بعدا من الرحمة (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). قوله عزوجل (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) يعني أقواما آخرين (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) يعني وقت هلاكها (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) يعني عن وقت هلاكهم (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) يعني مترادفين يتبع بعضهم بعضا غير متواصلين لأن بين كل رسولين زمنا طويلا (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) يعني بالهلاك فأهلكنا بعضهم في أثر بعض (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يعني سمرا وقصصا يتحدث من بعدهم بأمرهم وشأنهم (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ). قوله تعالى :

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠))

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) يعني بحجة بينة كالعصا واليد وغيرهما (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا) يعني تعظموا عن الإيمان (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) يعني متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم (فَقالُوا) يعني فرعون وقومه (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) يعنون موسى وهارون (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) يعني مطيعون متذللون (فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) يعني بالغرق (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني التوراة (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) يعني لكي يهتدي به قومه. قوله عزوجل (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) يعني دلالة على قدرتنا لأنه خلقه من غير ذكر وأنطقه في المهد. فإن قلت لم قال آية ولم يقل آيتين. قلت معناه جعلنا شأنهما آية لأن عيسى ولد من غير ذكر وكذلك مريم ولدته من غير ذكر فاشتركا في هذه الآية فكانت آية واحدة (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) يعني مكان مرتفع قيل هي دمشق وقيل هي الرملة وقيل أرض فلسطين وقال ابن عباس هي بيت المقدس. قال كعب بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وقيل هي مصر وسبب الإيواء أنها فرت بابنها إليها. وقوله (ذاتِ قَرارٍ) يعني منبسطة واسعة يستقر عليها ساكنوها (وَمَعِينٍ) هو الماء الجاري الذي تراه العيون. قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) قيل أراد بالرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده وقيل أراد به عيسى عليه‌السلام وقيل أراد جميع الرسل وأراد بالطيبات الحلال (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي استقيموا على ما يوجبه الشرع (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فيه

٢٧٢

تحذير من مخالفة ما أمرهم به وإذا كان الرسل مع علو شأنهم كذلك فلأن يكون تحذيرا لغيرهم أولى لما روي عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) وقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطمعه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فإنّى يستجاب لذلك» أخرجه مسلم. قوله عزوجل (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) أي ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها (أُمَّةً واحِدَةً) أي ملة واحدة وهي الإسلام (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) أي فاحذرون وقيل معناه أمرتكم بما أمرت به المرسلين قبلكم فأمركم واحد وأنا ربكم فاتقون (فَتَقَطَّعُوا) أي تفرقوا فصاروا فرقا يهودا ونصارى ومجوسا وغير ذلك من الأديان المختلفة (أَمْرَهُمْ) أي دينهم (بَيْنَهُمْ زُبُراً) أي فرقا وقطعا مختلفة وقيل معنى زبرا أي كتبا ، والمعنى تمسك كل قوم بكتاب فآمنوا به وكفروا بما سواه من الكتب (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي مسرورون معجبون بما عندهم من الدين (فَذَرْهُمْ) الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فِي غَمْرَتِهِمْ) قال ابن عباس في كفرهم وضلالتهم وقيل في عمايتهم وغفلتهم (حَتَّى حِينٍ) أي إلى أن يموتوا (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) أي ما نعطيهم ونجعله لهم مددا من المال والبنين في الدنيا (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) أي نعجل لهم ذلك في الخيرات ونقدمه ثوابا لأعمالهم لمرضاتنا عنهم (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أي إن ذلك استدراج لهم ثم ذكر المسارعين في الخيرات فقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي خائفون ، والمعنى أنّ المؤمنين بما هم عليه من خشية الله خائفون من عقابه. قال الحسن البصري المؤمن جمع إحسانا وخشية والمنافق جمع إساءة وأمنا (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) يعني يصدقون (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات. وقيل معناه يعملون ما عملوا من أعمال البر (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أي خائفة أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله وأنّ أعمالهم لا تقبل منهم (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أي إنهم يوقنون أنهم إلى الله صائرون. قال الحسن عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم. عن عائشة قالت : «قلت يا رسول الله والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصدّيق ولكن هم الذين يصومون ويتصدّقون ويخافون أن لا يقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات» أخرجه الترمذي ، وقوله :

(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١))

(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي يبادرون إلى الأعمال الصالحة (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أي إليها وقال ابن عباس سبقت لهم من الله السعادة وقيل سبقوا الأمم إلى الخيرات. قوله عزوجل (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي طاقتها من الأعمال ، فمن لم يستطع القيام فليصل قاعدا ومن لم يستطع الصوم فليفطر (وَلَدَيْنا

٢٧٣

كِتابٌ) هو اللوح المحفوظ (يَنْطِقُ بِالْحَقِ) أي يبين الصدق والمعنى قد أثبتنا عمل كل عامل في اللوح المحفوظ فهو ينطق به ويبينه وقيل هو كتاب أعمال العباد التي تكتبها الحفظة (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم ثم ذكر الكفار فقال تعالى (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ) أي غفلة وجهالة (مِنْ هذا) يعني القرآن (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) أي للكفار أعمال خبيثة من المعاصي والخطايا محكومة عليهم (مِنْ دُونِ ذلِكَ) يعني من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله في قوله (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ هُمْ) يعني الكفار (لَها) أي لتلك الأعمال الخبيثة (عامِلُونَ) أي لا بد لهم من أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم في الأزل من الشقاوة (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) أي رؤساءهم وأغنياءهم (بِالْعَذابِ) قال ابن عباس : هو السيف يوم بدر وقيل هو الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف» (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي يصيحون ويستغيثون ويجزعون (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) يعني لا تجزعوا ولا تضجوا اليوم (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) يعني لا تمنعون منا ولا ينفعكم تضرعكم (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني القرآن (فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) يعني ترجعون القهقرى وتتأخرون عن الإيمان (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) قال ابن عباس : أي بالبيت الحرام كناية عن غير مذكور أي مستعظمين بالبيت وذلك أنهم كانوا يقولون نحن أهل حرم الله وجيران بيته فلا يظهر علينا أحد ولا نخاف أحدا فيأمنون فيه وسائر الناس في الخوف. وقيل مستكبرين به أي بالقرآن فلم يؤمنوا به والقول الأول أظهر (سامِراً) يعني أنهم يسمرون بالليل حول البيت وكان عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا أو شعرا ونحو ذلك من القول فيه وفي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قوله (تَهْجُرُونَ) من الإهجار وهو الإفحاش في القول وقيل معنى تهجرون تعرضون عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الإيمان به وبالقرآن وقيل هو من الهجر وهو القول القبيح أي تهذون وتقولون ما لا تعلمون (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) يعني أفلم يتدبروا ما جاءهم من القرآن فيعتبرون بما فيه من الدلالات الواضحة على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) يعني فأنكروا يريد إنا قد بعثنا من قبلهم رسلا إلى قومهم فكذلك بعثنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) قال ابن عباس : أليس قد عرفوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم صغيرا وكبيرا وعرفوا نسبه وصدقه وأمانته ووفاءه بالعهود وهذا على سبيل التوبيخ لهم على الإعراض عنه بعد ما عرفوه بالصدق والأمانة (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون وليس هو كذلك (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) بالصدق والقول الذي لا تخفى صحته وحسنه على عاقل (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ). قوله عزوجل (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) قيل الحق هو الله تعالى والمعنى ولو اتبع الله مرادهم فيما يفعل. وقيل : لو سمى لنفسه شريكا وولدا كما يقولون وقيل : الحق هو القرآن أي لو نزل القرآن بما يحبون وما يعتقدون (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) أي لفسد العالم (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) قال ابن عباس بما فيه شرفهم وفخرهم وهو القرآن (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ) أي شرفهم (مُعْرِضُونَ).

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ

٢٧٤

قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨))

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ) أي على ما جئتهم به (خَرْجاً) أي أجرا وجعلا (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) تقدم تفسيره (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إلى دين الإسلام (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ) أي عن دين الحق (لَناكِبُونَ) أي لعادلون عنه ومائلون (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) أي قحط وجدوبة (لَلَجُّوا) أي لتمادوا (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي لم ينزعوا عنه (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) وذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا على قريش أن يجعل الله عليهم سنين كسني يوسف فأصابهم القحط. فجاء أبو سفيان إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال بلى فقال : إنهم قد أكلوا القد والعظام وشكا إليه الضر فادع الله أن يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله هذه الآية (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) ما خضعوا وما ذلوا لربهم (وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي لم يتضرعوا إلى ربهم بل مضوا على تمردهم (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) قال ابن عباس يعني القتل يوم بدر وقيل هو الموت وقيل هو قيام الساعة (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي آيسون من كل خير. قوله عزوجل (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي لتسمعوا بها وتبصروا وتعقلوا (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي لم تشكروا هذه النعم (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي خلقكم (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تبعثون (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان وقيل جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي ما ترون من صنعه فتعتبروا (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) أي كذبوا كما كذب الأولون ، وقيل معناه أنكروا البعث مثل ما أنكر الأولون مع وضوح الأدلة (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي لمحشورون قالوا ذلك على طريق الإنكار والتعجب (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ) أي هذا الوعد (وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) أي وعد آباؤنا قوم ذكروا أنهم رسل الله فلم نر له حقيقة (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أكاذيب الأولين. قوله تعالى (قُلْ) أي يا محمد لأهل مكة (لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) من الخلق (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي خالقها ومالكها (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أي لا بد لهم من ذلك لأنهم يقرون أنها مخلوقة لله (قُلْ) أي قل لهم يا محمد إذا أقروا بذلك (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي فتعلموا أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي عبادة غيره وقيل معناه أفلا تحذرون عقابه (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي ملك كل شيء (وَهُوَ يُجِيرُ) أي يؤمن من يشاء (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي لا يؤمن من أخافه الله وقيل يمنع هو من يشاء من السوء ولا يمتنع منه من أراده بسوء (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي فأجيبوا.

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ

٢٧٥

أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١))

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي فإنّى تخدعون وتصرفون عن توحيده وطاعته وكيف يخيل لكم الحق باطلا (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) أي بالصدق (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي فيما يدعون من الشريك والولد (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) أي من شريك (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) أي لانفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه ولم يرض أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره ومنع كل إله الآخر عن الاستيلاء على ما خلقه هو (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي طلب بعضهم مغالبة بعض كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم وإذا كان كذلك فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء ويقدر على كل شيء ثم نزه نفسه تعالى فقال (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي من إثبات الولد والشريك (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تعظم من أن يوصف بما لا يليق به. قوله عزوجل (قُلْ رَبِ) أي يا رب (إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) أي ما وعدتهم من العذاب (رَبِ) أي يا رب (فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي تهلكني بهلاكهم (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ) أي من العذاب (لَقادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يعني بالخلة التي هي أحسن وهي الصفح والإعراض والصبر (السَّيِّئَةَ) يعني أذاهم أمر بالصبر على أذى المشركين والكف عن المقاتلة ثم نسخها الله بآية السيف (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي يكذبون ويقولون من الشرك.

قوله عزوجل (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ) أي أمتنع وأعتصم بك (مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) قال ابن عباس نزغاتهم وقيل وساوسهم وقيل نفخهم ونفثهم وقيل دفعهم بالإغواء إلى المعاصي (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي في شيء من أموري وإنما ذكر الحضور لأن الشيطان إذا حضره يوسوس له عن جبير بن مطعم أنه رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي صلاة قال عمر ولا أدري أي صلاة هي قال : «الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا ثلاثا وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه. قال نفثه الشعر ونفخه الكبر وهمزه الموتة». أخرجه أبو داود وقد جاء تفسير هذه الألفاظ في متن الحديث وتزيده إيضاحا قوله نفثه الشعر أي لأن الشعر تخرج من القلب فيلفظ به اللسان وينفثه كما ينفث الريق. قوله ونفخه الكبر وذلك أن المتكبر ينتفخ ويتعاظم ويجمع نفسه فيحتاج إلى أن ينفخ. وقوله وهمزه الموتة الموتة الجنون لأنه المجنون ينخسه الشيطان ثم أخبر الله عزوجل أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال تعالى (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) قيل المراد به الله وهو على عادة العرب فإنهم يخاطبون الواحد بلفظ الجمع على وجه التعظيم. وقيل هذا خطاب مع الملائكة الذين يقبضون روحه فعلى هذا يكون معناه أنه استغاث بالله أولا ثم رجع إلى مسألة الملائكة الرجوع إلى الدنيا. وقيل ذكر الرب للقسم فكأنه قال عند المعاينة بحق الله ارجعون (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) أي ضيعت وقيل تركت أي منعت وقيل خلفت من التركة أو المعنى أقول لا إله إلّا الله وأعمل بطاعته فيدخل فيه الأعمال البدنية والمالية قال قتادة ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله فرحم الله امرأ عمل فيما تمناه الكافر إذ رأى العذاب (كَلَّا) كلمة ردع وزجر أي لا يرجع إليها (إِنَّها) يعني مسألته الرجعة (كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) أي لا ينالها (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) أي من أمامهم ومن بين أيديهم حاجز (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) معناه أن بينهم وبين الرجعة حجابا ومانعا عن الرجوع وهو الموت وليس المعنى أنهم يرجعون يوم البعث وإنما هو إقناط كلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة. قوله تعالى (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) قال ابن عباس إنها النفخة الأولى نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض فلا أنساب بينهم (يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ)

٢٧٦

ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون وعن ابن مسعود أنها النفخة الثانية. قال : «يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد هذا فلان ابن فلان فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه ثم قرأ ابن مسعود (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) وفي رواية عن ابن عباس أنها النفخة الثانية فلا أنساب بينهم يعني لا يتفاخرون بالأنساب يومئذ كما كانوا يتفاخرون في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت ومن أي قبيلة أنت ولم يرد أن الأنساب تنقطع. فإن قلت قد قال ها هنا ولا يتساءلون وقال في موضع آخر وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. قلت قال ابن عباس إن للقيامة أحوالا ومواطن ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون. قوله عزوجل :

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤))

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا) أي غبنوا (أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ) أي تسفح وقيل تحرق (وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) أي عابسون وقد بدت أسنانهم وتقلصت شفاههم كالرأس المشوي على النار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وهم فيها كالحون قال تشويه النار فتنقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته». أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح غريب. قوله تعالى (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني قوارع القرآن وزواجره تخوفون بها (فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) أي التي كتبت علينا فلم نهتد (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) أي عن الهدى (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) أي من النار (فَإِنْ عُدْنا) أي لما تكره (فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها) أي أبعدوا فيها كما يقال للكلب إذا طرد اخسأ (وَلا تُكَلِّمُونِ) أي في رفع العذاب فإني لا أرفعه عنكم فعند ذلك أيس المساكين من الفرج.

قال الحسن : هو آخر كلام يتكلم به أهل النار ثم لا يتكلمون بعد ذلك ما هو إلا الزفير والشهيق وعواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون. وروي عن عبد الله بن عمرو «إن أهل جهنم يدعون مالكا خازن جهنم أربعين عاما يا مالك ليقض علينا ربك فلا يجيبهم ثم يقول إنكم ماكثون ثم ينادون ربهم ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيدعهم مثل عمر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم اخسئوا فيها ولا تكلمون فيما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة إن كان إلا الزفير والشهيق». ذكره البغوي بغير سند وأخرجه الترمذي بمعناه عن أبي الدرداء قوله فما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة أي سكتوا ولم يتكلموا بكلمة وقيل إذا قال لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنم (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) يعني المؤمنين (يَقُولُونَ رَبَّنا

٢٧٧

آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) أي تسخرون منهم وتستهزءون بهم (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) اشتغالكم بالاستهزاء بهم ذكري (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) نزل في كفار قريش كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل بلال وعمار وصهيب وخباب ثم قال الله (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) أي على أذاكم واستتهزائكم في الدنيا (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) أي جزيتهم بصبرهم الفوز بالجنة (قالَ) يعني أن الله قال للكفار يوم البعث (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي في الدنيا وفي القبور (عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) معناه أنهم نسوا مدة لبثهم في الدنيا لعظم ما هم بصدده من العذاب (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ) أي ما لبثتم في الدنيا (إِلَّا قَلِيلاً) سماه قليلا لأن المرء وإن طال لبثه في الدنيا. فإنه يكون قليلا في جنب ما يلبث في الآخرة (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعني قدر لبثكم في الدنيا قوله عزوجل :

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) أي لعبا وباطلا لا لحكمة وقيل العبث معناه لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب وإنما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عزوجل (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) أي في دار الآخرة للجزاء. روى البغوي بسنده عن الحسن : «أن رجلا مصابا مرّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما ذا رقيت في أذنه فأخبره فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على الجبل لزال» ثم نزه الله تعالى عمّا يصفه به المشركون فقال عزوجل (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) أي هو التام الملك الجامع لأصناف المملوكات (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي الحسن وقيل الرفيع المرتفع وإنما خصّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) يعني لا حجة ولا بينة له به إذ لا يمكن إقامة برهان ولا دليل على إلهية غير الله ولا حجة في دعوى الشرك (فَإِنَّما حِسابُهُ) أي جزاؤه (عِنْدَ رَبِّهِ) أي هو مجازيه بعلمه (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) يعني لا يسعد من جحد وكذب (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).

٢٧٨

سورة النور

وهي مدنية وهي اثنتان وقيل أربع وستون آية بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١))

قوله عزوجل (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) أي أوجبنا ما فيها من الأحكام وألزمناكم العمل بها وقيل معناه قدرنا ما فيها من الحدود وقيل أوجبناها عليكم وعلى من بعدكم ، إلى قيام الساعة (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) أي واضحات (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) يعني تتعظون. قوله تعالى :

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣))

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) الزنا هو من الكبائر وموجب للحد وهو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا. والشروط المعتبرة في وجوب الحد العقل والبلوغ ويشترط الإحصان في الرجم ويجب على العبد والأمة نصف الحد ولا رجم عليهما لأنه لا يتنصف وقوله فاجلدوا أي فاضربوا يقال جلده إذا ضرب جلده ولا يضرب بحيث يبلغ اللحم كل واحد منهما أي الزانية والزاني مائة جلدة. وقد وردت السنة بجلد مائة وتغريب عام وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة التغريب إلى رأي الإمام وقال مالك يجلد الرجل مائة جلدة ويغرب وتجلد المرأة ولا تغرب وإن كان الزاني محصنا فعليه الرحم (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) أي رحمة ورقة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها. وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي وقيل معنى الرأفة أن تحفظوا الضرب بل أوجعوهما ضربا وهو قول سعيد بن المسيب والحسن. قال الزهري يجتهد في حد الزنا والفرية أي القذف ويخفف في حد الشرب وقيل يجتهد في حد الزنا ويخفف دون ذلك في حد الفرية دون ذلك في حد الشرب (فِي دِينِ اللهِ) أي في حكم الله. وروي أن عبد الله بن عمر جلد جارية له زنت فقال للجلاد اضرب ظهرها ورجليها فقال له ابنه ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله فقال يا بني إن الله لم يأمرني بقتلها وقد ضربت فأوجعت (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) معناه أن المؤمن لا تأخذه الرأفة إذا جاء أمر الله وقيل هو من باب التهييج ، والتهاب التغضب لله تعالى ولدينه ومعناه إن كنتم تؤمنون فلا تتركوا إقامة الحدود (وَلْيَشْهَدْ) يعني وليحضر (عَذابَهُما) أي حدهما إذا أقيم عليهما (طائِفَةٌ) يعني نفر (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قيل أقله رجل واحد فصاعدا وقيل رجلان وقيل ثلاثة وقيل أربعة بعدد شهود الزنا. قوله عزوجل (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) اختلف العلماء في معنى

٢٧٩

الآية وحكمها فقال قوم قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر وفي المدينة نساء بغايا هنّ أخصب أهل المدينة فرغب ناس من فقراء المسلمين في نكاحهن لينفقن عليهم فاستأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك فنزلت هذه الآية فحرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك البغايا لأنهنّ كن مشركات. وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والزهري والشعبي ورواية عن ابن عباس. وقال عكرمة نزلت في نساء كن بمكة والمدينة لهن رايات يعرفن بها منهن أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي. وكان في الجاهلية ينكح الزانية يتخذها مأكله فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الصفة فاستأذن رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نكاح أم مهزول واشترطت له أن تنفق عليه فأنزل الله عزوجل هذه الآية وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : «كان رجل يقال له مرثد بن مرثد الغنوي وكان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة وكانت بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقة له في الجاهلية فلما أتى مكة دعته عناق إلى نفسها. فقال مرثد إن الله حرم الزنا قالت فانكحني فقال حتى أسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فأتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت يا رسول الله أنكح عناقا؟ فأمسك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يرد شيئا فنزلت الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فدعاني فقرأها علي وقال لا تنكحها». أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داود بألفاظ متقاربة المعنى فعلى قول هؤلاء كان التحريم خاصا في حق أولئك دون سائر الناس. وقال قوم المراد من النكاح هو الجماع ومعنى الآية الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة والزانية لا تزني إلا بزان أو مشرك. وهذا قول سعيد بن جبير والضحاك ورواية عن ابن عباس قال يزيد بن هارون إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك وإن جامعها وهو محرم فهو زان. وكان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية ويقول إذا تزوج الزاني الزانية فهما زانيان وقال سعيد بن المسيب وجماعة إن حكم الآية منسوخ وكان نكاح الزانية حراما بهذه الآية ثم نسخت بقوله تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) فدخلت الزانية في هذا العموم واحتج من جوز نكاح الزانية بما روي عن جابر : «أن رجلا أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله إن امرأتي لا تمنع يد لامس فقال طلقها قال إني أحبها وهي جميلة قال استمتع بها» وفي رواية غيره فأمسكها إذا وروى هذا الحديث أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال النسائي رفعه أحد الرواة إلى ابن عباس ولم يرفعه بعضهم قال وهذا الحديث ليس بثابت. وروي أنّ عمر بن الخطاب ضرب رجلا وامرأة في زنا وحرص على أن يجمع بينهما فأبى الغلام (١) وقيل في معنى الآية إن الفاجر الخبيث لا يرغب في نكاح الصالحة من النساء وإنما يرغب في نكاح فاجرة خبيثة مثله أو مشركة والفاسقة الخبيثة لا ترغب في نكاح الصلحاء من الرجال وإنما ترغب في نكاح فاسق خبيث مثلها أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين أي صرف الرغبة بالكلية إلى نكاح الزواني وترك الرغبة في الصالحات العفائف محرم على المؤمنين ولا يلزم من حرمة هذا حرمة التزوج بالزانية. قوله :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧))

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) أي يقذفون بالزنا (الْمُحْصَناتِ) يعني المسلمات الحرائر العفائف (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي يشهدون على الزنا (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) بيان حكم الآية أن من قذف محصنا أو محصنة بالزنا فقال له : يا زاني أو يا زانية أو زنيت فيجب عليه جلد ثمانين إن كان القاذف حرا وإن كان عبدا يجلد أربعين وإن

__________________

(١). ظن أن المراد بالغلام هنا الشاب الذي قد زنى بها أبى الزواج منها بعد إقامة الحد عليهما ا ه مصححه.

٢٨٠