تفسير الخازن - ج ٣

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٣

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٤٦٤

قوله عزوجل : (وَذَا النُّونِ) أي واذكر صاحب الحوت أضيف إلى الحوت لابتلاعه إياه وهو يونس بن متى (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) قال ابن عباس في رواية عنه : كان يونس وقومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك فسبى منها تسعة أسباط ونصفا وبقي منهم سبطان ونصف ، فأوحى الله إلى شعياء النبي أن سر إلى حزقيل الملك وقل له يوجه نبيا قويا فإني ألقي في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل فقال له الملك : فمن ترى ، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء. قال : يونس إنه قوي أمين فدعا الملك يونس : وأمره أن يخرج فقال يونس هل الله أمرك بإخراجي؟ قال لا. قال فهل سماني الله لك؟ قال لا. قال ها هنا غيري أنبياء أقوياء ، فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي وللملك وقومه وأتى بحر الروم فركب وقيل ذهب عن قومه مغاضبا لربه لما كشف عنهم العذاب بعد ما أوعدهم وكره أن يكون بين أظهر قوم جربوا عليه الخلف فيما أوعدهم ، واستحيا منهم ولم يعلم السبب الذي رفع العذاب عنهم به فكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده وأنه يسمى كذابا لا كراهية لحكم الله. وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أنهم يقتلون من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتلوه ما لم يأتهم العذاب للميعاد فذهب مغاضبا. قال ابن عباس : أتى جبريل يونس فقال انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم فقال : ألتمس دابة قال : الأمر أعجل من ذلك فغضب وانطلق إلى السفينة.

وقال وهب : إن يونس كان عبدا صالحا وكان في خلقه ضيق فلما حمل أثقال النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل ، فقذفها من يده وخرج هاربا منها فلذلك أخرجه الله من أولي العزم من الرسل وقال لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) وقال (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) وقوله (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي لن نقضي عليه العقوبة. قاله ابن عباس في رواية عنه وقيل معناه فظن أن لن نضيق عليه الحبس وقيل معناه فظن أنه يعجر ربه فلا يقدر عليه ، قيل لما انطلق يونس مغاضبا لربه واستزله الشيطان حتى ظن أن لن يقدر عليه وكان له سلف وعبادة أبى الله أن يدعه للشيطان فقذفه في بطن الحوت فمكث فيه أربعين ما بين يوم وليلة. وقيل سبعة أيام وقيام ثلاثة. وقيل : إن الحوت ذهب به حتى بلغ تخوم الأرض السابعة فتاب إلى ربه وراجع نفسه في بطن الحوت (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي حيث عصيتك وما صنعت من شيء فلم أعبد غيرك فأخرجه الله من بطن الحوت برحمته وروى أبو هريرة مرفوعا قال أوحى الله تعال إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر له عظما فأخذه ثم أهوى به إلى مسكنه في البحر فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا فقال في نفسه ما هذا فأوحى الله إليه هذا تسبيح دواب البحر قال فسبح هو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة وفي رواية صوتا معروفا من مكان مجهول فقال : ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت فقالوا العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال نعم فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل فذلك.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢))

٢٤١

قوله تعالى (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) أي تلك الظلمات (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي من الكروب إذا دعونا واستغاثوا بنا. فإن قلت قد تمسك بمواضع من هذه القصة من أجاز وقوع الذنب من الأنبياء منها قوله (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) ومنها (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) ومنها قوله (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) قلت أما الجواب الكلي فقد اختلفوا في هذه الواقعة هل كانت قبل الرسالة أم لا؟ فقال ابن عباس : كانت رسالته بعد أن أخرجه الله من بطن الحوت بدليل قوله تعالى في الصافات بعد ذكر خروجه (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) فثبت بهذا أن هذه الواقعة كانت قبل النبوة وقد أجاز بعضهم عليه الصغائر قبل النبوة ومنعها بعد النبوة وهو الصحيح. وأما الجواب التفصيلي لقوله إذ ذهب مغاضبا فحمله على أنه لقومه أو للملك أولى بحال الأنبياء وأما قوله (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) فقد تقدم معناه أي لن نضيق عليه وذلك أن يونس ظن أنه مخير إن شاء أقام وإن شاء خرج. وإن الله تعالى لا يضيق عليه في اختياره وقيل هو من القدر لا من القدرة وأما قوله (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فالظلم وضع الشيء في غير موضعه وهذا اعتراف عند بعضهم بذنبه فإما أن يكون لخروجه عن قومه بغير إذن ربه أو لضعفه عما حمله ، أو لدعائه بالعذاب على قومه وفي هذه الأشياء ترك الأفضل مع قدرته على تحصيله فكان ذلك ظلما. وقيل كانت رسالته قبل هذه الواقعة بدليل قوله (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) فعلى هذا يكون الجواب عن هذه الواقعة ما تقدم من التفصيل والله أعلم.

قوله عزوجل (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ) أي دعا ربه فقال (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي وحيدا لا ولد لي يساعدني وارزقني وارثا (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) هو ثناء على الله بأنه الباقي بعد فناء الخلق وأنه الوارث لهم وهذا على سبيل التمثيل والمجاز فهو كقوله وأنت خير الرازقين (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) أي ولدا (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) أي جعلناها ولودا بعد ما كانت عقيما وقيل كانت سيئة الخلق فأصلحها الله تعالى له بأن رزقها حسن الخلق (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يعني الأنبياء المذكورين في هذه السورة. وقيل زكريا وأهل بيته ، والمسارعة في الخيرات من أكبر ما يمدح به المرء لأنها تدل على حرص عظيم في طاعة الله عزوجل (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) يعني أنهم ضموا إلى فعل الطاعات أمرين : أحدهما : الفزغ إلى الله لمكان الرغبة في ثوابه والرهبة من عقابه. والثاني : الخشوع وهو قوله تعالى (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) الخشوع هو الخوف اللازم للقلب فيكون الخاشع هو الحذر الذي لا ينبسط في الأمور خوفا من الوقوع في الإثم. قوله تعالى (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا كما قالت (لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) وهي مريم بنت عمران (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أمرنا جبريل حتى نفخ في جيب درعها فخلقنا بذلك النفخ المسيح في بطنها ، وأضاف الروح إليه تشريفا لعيسى كبيت الله وناقة الله (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً) أي دلالة (لِلْعالَمِينَ) على كمال قدرتنا على خلق ولد من غير أب ، فان قلت هما آيتان فكيف قال آية؟. قلت معنى الكلام وجعلنا شأنهما وأمرهما آية واحدة أي ولادتها إياه من غير أب آية. قوله تعالى (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) أي ملتكم ودينكم (أُمَّةً واحِدَةً) أي دينا واحدا وهو الإسلام فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان والأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد ، وجعلت الشريعة أمة لاجتماع أهلها على مقصد واحد (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) أي لا دين سوى ديني ولا رب لكم غيري فاعبدوني أي وحدوني.

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما

٢٤٢

تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي اختلفوا في الدين فصاروا فرقا وأحزابا حتى لعن بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم من بعض (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) فنجزيهم بأعمالهم (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) أي لا يجحد ولا يبطل سعيه بل يشكر ويثاب عليه (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) أي لعمله وحافظون له. وقيل : الشكر من الله المجازاة ، والكفران ترك المجازاة. قوله عزوجل (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) قال ابن عباس : ومعناه وحرام على أهل قرية أهلكناهم أن يرجعوا بعد الهلاك ، وقيل : معناه وحرام على أهل قرية حكمنا بهلاكهم أن نقبل أعمالهم لأنهم لا يتوبون.

قوله عزوجل (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) يريد فتح السد وذلك أن الله يفتحه أخبر عن يأجوج ومأجوج وهما قبيلتان ، يقال إنهما تسعة أعشار بني آدم (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) أي يسرعون النزول من كل الآكام والتلال. وفي هذه الكناية وجهان : أحدهما أن المراد بهم يأجوج ومأجوج وهو الأصح بدليل ما روي عن النواس بن سمعان قال «ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظننا أنه في طائفة النخل فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال : ما شأنكم؟ قلنا : يا رسول الله ذكرت الدجال الغداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال : غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط عينه طافئة كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم قلنا : يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال لا اقدروا له قدره قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر لهم السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأصبغه ضروعا وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه». قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم «ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم عليه‌السلام فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي إلى حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله.

ثم يأتي عيسى عليه‌السلام إلى قوم قد عصمهم الله منه فيمسح على وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى عليه‌السلام إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد أن يقاتلهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقول لقد كان بهذه مرة ماء ويحضر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله فيهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسي كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم

٢٤٣

فتطرحهم حيث شاء الله ، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة. ثم يقال للأرض : أنبتي ثمرتك ودري بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس ، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة» أخرجه مسلم.

شرح غريب ألفاظ الحديث

قوله حتى ظنناه في طائفة النخل أي ناحية النخل وجانبه والطائفة القطعة من الشيء ، وقوله فخفض فيه ورفع خفض صوته ورفعه من شدة ما تكلم به في أمره. وقيل إنه خفض من أمره تهوينا له ورفع من شدة فتنته والتخويف من أمره. قوله إنه شاب قطط أي جعد الشعر وقوله طافئة أي خارجة عن حدها قوله إنه خارج خلة أي إنه يخرج قصدا وطريقا بين جهتين والتخلل الدخول في الشيء. قوله فعاث أي أفسد. قوله اقدروا له قدره أي قدروا قدر يوم من أيامكم المعهودة وصلوا فيه بقدر أوقاته ، وقوله فتروح عليهم سارحتهم أي مواشيهم ، وقوله فيصبحون ممحلين أي مقحطين قد أجدبت أرضهم وغلت أسعارهم. قوله كيعاسيب النحل جمع يعسوب وهو فحل النحل ورئيسها. قوله فيقطعه جزلتين رمية الغرض أي قطعتين والغرض الهدف الذي يرمى بالنشاب. قوله بين مهرودتين رويت بالدال المهملة وبالمعجمة أي شقتين وقيل حلتين وقيل الهرد الصبغ الأصفر بالورس والزعفران. قوله لا يدان لأحد بقتالهم أي لا قدرة ولا قوة لأحد بقتالهم والنغف دود يكون في أنوف الإبل والغنم فرسي جمع فريس وهو القتيل. قوله زهمهم أي ريحهم النتنة. قوله كالزلفة أي كالمرآة وجمعها زلف ويروى بالقاف وأراد به استواءها ونظافتها. قوله تأكل العصابة أي الجماعة قيل يبلغون أربعين وقحف الرمانة في الحديث قشرها ، والرسل بكسر الراء اللبن واللقحة الناقة ذات اللبن ، والفئام الجماعة من الناس ، والفخذ دون القبيلة ، وقوله يتهارجون أي يختلفون والتهارج الاختلاف ، وأصله القتل.

الوجه في تفسير قوله تعالى (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ)

قيل جميع الخلائق يخرجون من قبورهم إلى موقف الحساب (م) عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : اطلع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال : «ما تذكرون قالوا؟ نذكر الساعة قال إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم». قوله عزوجل (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) أي القيامة قال حذيفة لو أن رجلا اقتنى فلوا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة. الفلو المهر (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) قيل معنى الآية أن القيامة إذا قامت شخص أبصار الذين كفروا من شدة الأهوال ولا تكاد تطرف هول ذلك اليوم ويقولون (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) يعني في الدنيا حيث كذبنا به وقلنا إنه غير كائن (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) أي في وضعنا العبادة في غير موضعها. قوله عزوجل (إِنَّكُمْ) الخطاب للمشركين (وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام (حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي حطبها ووقودها وقيل يرمي بهم في النار كما يرمي بالحصباء وأصل الحصب الرمي (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) أي فيها داخلون (لَوْ كانَ هؤُلاءِ) يعني الأصنام (آلِهَةً) أي على الحقيقة (ما وَرَدُوها) أي ما دخل الأصنام النار وعبدوها (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) يعني العابدين والمعبودين (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) قيل الزفير هو أن يملأ الرجل صدره غما ثم يتنفس وقيل هو شدة ما ينالهم من العذاب (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) قال ابن مسعود في هذه الآية : إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخر

٢٤٤

ثم تلك التوابيت في توابيت أخر عليها مسامير من نار فلا يسمعون شيئا ولا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذب غيره.

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧))

قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) قال العلماء : إن هنا بمعنى إلا أي إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى يعني السعادة والعدة الجميلة بالجنة (أُولئِكَ عَنْها) أي عن النار (مُبْعَدُونَ) قيل : الآية عامة من كل من سبقت له من الله السعادة ، وقال أكثر المفسرين عنى بذلك كل من عبد من دون الله وهو لله طائع ولعبادة من يعبده كاره وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليه (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) الآيات الثلاث ثم قام فأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ابن الزبعرى : أما والله لو وجدته لخصمته فدعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له ابن الزبعرى أنت قلت إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم؟ قال نعم قال أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح وبني مليح تعبد الملائكة فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل هم يعبدون الشياطين فأنزل الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) يعني عزيرا والمسيح والملائكة أولئك عنها مبعدون وأنزل في ابن الزبعرى (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) وزعم جماعة أن المراد من الآية الأصنام لأن الله تعالى قال إنكم وما تعبدون من دون الله ، ولو أراد به الملائكة والناس لقال إنكم ومن تعبدون لأن من لمن يعقل وما لمن لا يعقل (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) يعني صوتها وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم في الجنة (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ) أي من النعيم والكرامة (خالِدُونَ) أي مقيمون. قوله تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) قال ابن عباس : يعني النفخة الأخيرة ، وقيل هو حين يذبح الموت وينادى يا أهل النار خلود بلا موت وقيل هو حين يطبق على جهنم وذلك بعد أن يخرج الله منها من يريد أن يخرجه (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي في الدنيا. قوله عزوجل (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) قال ابن عباس : السجل الصحيفة والمعنى كطي الصحيفة على مكتوبها والطي هو الدرج الذي هو ضد النشر. وقيل : السجل اسم ملك يكتب أعمال العباد إذا رفعت إليه والمعنى نطوي السماء كما يطوي السجل الطومار الذي يكتب فيه والتقدير لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم عراة غرلا كذلك نعيدهم يوم القيامة (ق) عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموعظة فقال : «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده» قوله غرلا أي قلفا.

وقوله تعالى (وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) يعني الإعادة والبعث بعد الموت. قوله تعالى (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) قيل : الزبور جميع الكتب المنزلة على الأنبياء والذكر هو أم الكتاب الذي عنده ومن ذلك الكتاب تنسخ جميع الكتب ومعنى من بعد الذكر أي بعد ما كتب في اللوح المحفوظ. وقال ابن عباس : الزبور

٢٤٥

والتوراة والذكر الكتب المنزلة من بعد التوراة. وقيل الزبور : كتاب داود والذكر هو القرآن وبعد هنا بمعنى قبل (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) يعني أرض الجنة يرثها أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى أن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ في كتب الأنبياء : أن الجنة يرثها من كان صالحا من عباده عاملا بطاعته. وقال ابن عباس : أراد أن أراضي الكفار يفتحها المسلمون وهذا حكم من الله تعالى بإظهار الدين وإعزاز المسلمين ، وقيل أراد الأرض المقدسة يرثها الصالحون بعد من كان فيها (إِنَّ فِي هذا) أي في القرآن (لَبَلاغاً) أي وصولا إلى البغية يعني من اتبع القرآن وعمل بما فيه وصل إلى ما يرجو من الثواب ، وقيل البلاغ الكفاية أي فيه كفاية لما فيه من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة فهو زاد العباد إلى الجنة وهو قوله تعالى (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) يعني مؤمنين لا يعبدون أحدا من دون الله تعالى وقيل هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان والحج. وقال ابن عباس : عالمين وقيل : هم العالمون العاملون. قوله عزوجل (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) قيل : كان الناس أهل كفر وجاهلية وضلال وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم فبعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب فدعاهم إلى الحق ، وبين لهم سبيل الصواب وشرع لهم الأحكام وبين الحلال من الحرام قال الله تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) قيل يعني المؤمنين خاصة فهو رحمة لهم. وقال ابن عباس : هو عام في حق من آمن ومن لم يؤمن ، فمن آمن فهو رحمة له في الدنيا والآخرة ومن لم يؤمن فهو رحمة له في الدنيا بتأخير العذاب عنه ورفع المسخ والخسف والاستئصال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما أنا رحمة مهداة».

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) يعني منقادون لما يوحى إلي من إخلاص الإلهية والتوحيد لله والمراد بهذا الاستفهام الأمر أي أسلموا (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا ولم يسلموا (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ) أي أعلمتكم بالحرب وأن لا صلح بيننا (عَلى سَواءٍ) أي إنذارا بينا نستوي في علمه لا أستبد أنا به دونكم لتتأهبوا لما يراد بكم والمعنى آذنتكم على وجه نستوي نحن وأنتم في العلم به وقيل معناه لتستووا في الإيمان به وأعلمتكم بما هو الواجب عليكم من التوحيد وغيره (وَإِنْ أَدْرِي) أي وما أعلم (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) يعني يوم القيامة لا يعلمه إلا الله (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) أي لا يغيب عن علمه شيء منكم في علانيتكم وسركم (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ) أي لعل تأخير العذاب عنكم اختبار لكم ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم بكم (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي تتمتعون إلى انقضاء آجالكم (قالَ رَبِّ احْكُمْ) أي افصل بيني وبين من كذبني (بِالْحَقِ) أي بالعذاب كأنه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر. وقيل : معناه افصل بيني وبينهم بما يظهر الحق من الجميع وهو أن تنصرني عليهم والله يحكم بالحق طلب ولم يطلب ومعنى الطلب ظهور الرغبة من الطالب (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي من الشرك والكفر والكذب والأباطيل ، كأنه سبحانه وتعالى قال قل داعيا إلى رب احكم بالحق ، وقل متوعدا للكفار وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

تم الجزء الرابع من تفسير الخازن ويليه الجزء الخامس وأوله : تفسير سورة الحج

٢٤٦

سورة الحج

وهي مكية غير ست آيات من قوله عزوجل (هذانِ خَصْمانِ) إلى قوله (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) وهي ثمان وسبعون آية وألف ومائتان وإحدى وتسعون كلمة وخمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢))

قوله عزوجل (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) يعني احذروا عقابه واعملوا بطاعته (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) الزلزلة شدة الحركة على الحال الهائلة ووصفها بالعظم ولا شيء أعظم مما عظمه الله تعالى. قيل : هي من أشراط الساعة قبل قيامها. وقال ابن عباس : زلزلة الساعة قيامها فتكون معها (يَوْمَ تَرَوْنَها) أي الساعة وقيل الزلزلة (تَذْهَلُ) قال ابن عباس تشغل وقيل تنسي (كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) أي كل امرأة معها ولد ترضعه (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أي تسقط من هول ذلك اليوم كل حامل حملها قال الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام. فعلى هذا القول تكون الزلزلة في الدنيا لأن بعد البعث لا يكون حبل ومن قال تكون الزلزلة في القيامة قال هذا على وجه تعظيم الأمر وتهويله على حقيقته كما تقول أصابنا أمر يشيب فيه الوليد تريد به شدته (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) على التشبيه (وَما هُمْ بِسُكارى) على التحقيق ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وأزال تمييزهم وقيل سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (ق) عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول الله سبحانه وتعالى يوم القيامة يا آدم فيقول لبيك وسعديك».

زاد في رواية «والخير في يديك فينادى بصوت إن الله تعالى يأمرك أن تخرج من ذريتك بعث النار قال رب وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون فحينئذ تضع الحوامل ، ويشيب الوليد وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم» زاد في رواية قالوا يا رسول الله أينا ذلك الرجل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود وفي رواية كالرقمة في ذراع الحمار وأني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة. فكبّرنا ثم قال : ثلث أهل الجنة فكبّرنا ثم قال شطر أهل الجنة فكبّرنا» لفظ البخاري. وفي حديث عمران بن حصين وغيره أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلا فنادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله صلّى الله

٢٤٧

عليه وسلّم فقرأ عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا والناس من بين باك وجالس حزين متفكر. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي يوم ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم قال : ذلك يوم يقول الله لآدم قم فابعث من ذريتك بعث النار» وذكر نحو حديث أبي سعيد وزاد فيه ثم قال «يدخل من أمتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب فقال عمر : سبعون ألفا؟ قال : نعم قال ومع كل واحد سبعون ألفا». قوله عزوجل :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥))

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) نزلت في النضر بن الحارث كان كثير الجدل وكان يقول للملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين وكان ينكر البعث وإحياء من صار ترابا (وَيَتَّبِعُ) يعني في جداله في الله بغير علم (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) يعني المتمرد المستمر في الشر وفيه وجهان أحدهما : أنهم شياطين الإنس وهم رؤساء الكفر الذين يدعون من دونهم إلى الكفر والثاني أنه إبليس وجنوده (كُتِبَ عَلَيْهِ) يعني قضى على الشيطان (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) يعني اتبعه (فَأَنَّهُ) يعني الشيطان (يُضِلُّهُ) يعني يضل من تولاه عن طريق الجنة (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) وفي الآية زجر عن اتباعه والمعنى كتب عليه أنه من يقبل منه فهو في ضلال ثم ألزم الحجة منكري البعث فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) يعني شك (مِنَ الْبَعْثِ) يعني بعد الموت (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) يعني أباكم آدم الذي هو أصل النسل (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) يعني ذريته من المني وأصلها الماء القليل (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) يعني من دم جامد غليظ وذلك أنّ النطفة تصير دما غليظا (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ).

قال ابن عباس : أي تامة الخلق وغير تامة الخلق وقيل مصورة وغير مصورة وهو السقط. وقيل : المخلقة الولد الذي تأتي به المرأة لوقته وغير المخلقة السقط فكأنه سبحانه وتعالى قسم المضغة إلى قسمين أحدهما تام الصورة والحواس والتخطيط ، والقسم الثاني هو الناقص عن هذه الأحوال كلها. وروي عن علقمة عن ابن مسعود موقوفا عليه قال : إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه وقال : أي رب مخلقة أو غير مخلقة فإن قال غير مخلقة قذفها في الرحم دما ولم تكن نسمة وإن قال مخلقة قال الملك : أي رب أذكر أم أنثى شقي أم سعيد ما الأجل ما العمل ما الرزق بأي أرض يموت؟ فيقال له : اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته والذي أخرجاه في الصحيحين عنه قال حدّثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكا يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل عمل أهل الجنة ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه بعمل

٢٤٨

أهل الجنة فيدخلها» وقوله تعالى (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) أي كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف خلقكم ولتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة وقيل : لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في العبادة وقيل لنبين لكم أنّ تغير المضغة إلى الخلقة هو اختيار الفاعل المختار فإنّ القادر على هذه الأشياء كيف يكون عاجزا عن الإعادة (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) أي لا تسقطه ولا تمجه (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي وقت خروجه من الرحم تام الخلق (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) أي وقت الولادة من بطون أمهاتكم (طِفْلاً) أي صغارا وإنّما وحد الطفل لأن الغرض الدلالة على الجنس (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي كمال القوة والعقل والتمييز (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) أي قبل بلوغ الكبر (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي الهرم والخرف (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي يبلغ من السن ما يتغير به عقله فلا يعقل شيئا فيصير كما كان في أول طفوليته ضعيف البنية سخيف العقل قليل الفهم ثم ذكر دليلا آخر على البعث فقال تعالى (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) أي يابسة لا نبات فيها (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) يعني المطر (اهْتَزَّتْ) أي تحركت بالنبات (وَرَبَتْ) أي ارتفعت وذلك أنّ الأرض ترتفع بالنبات (وَأَنْبَتَتْ) هو مجاز لأن الله تعالى هو المنبت وأضيف إلى الأرض توسعا (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي من كل صنف حسن نضير والبهيج هو المبهج وهو الشيء المشرق الجميل ثم إنّ الله تعالى لمّا ذكر هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب فقال تعالى :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣))

(ذلِكَ) أي ذكرنا ذلك لتعلموا (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) وإن هذه الأشياء دالة على وجود الصانع (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) أي إنه إذا لم يستبعد منه إيجاد هذه الأشياء فكيف يستبعد منه إعادة الأموات (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي من كان كذلك كان قادرا على جميع الممكنات (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي ما ذكر من الدلائل لتعلموا أن الساعة كائنة لا شك فيها وأنّها حق وأنّ البعث بعد الموت حق قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يعني النضر بن الحرث (وَلا هُدىً) أي ليس معه من الله بيان ولا رشاد (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي ولا كتاب من الله له نور (ثانِيَ عِطْفِهِ) أي لاوي جنبه وعنقه متبخترا لتكبّره معرضا عما يدعى إليه من الحق تكبّرا (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن دين الله (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أي عذاب وهوان وهو أنه قتل يوم بدر صبرا هو وعقبة بن أبي معيط (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ) أي يقال له ذلك (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي فيعذبهم بغير ذنب والله تعالى على أي وجه أراد يتصرف في عبده فحكمه عدل وهو غير ظالم.

قوله عزوجل (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) الآية نزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهرا وولدت امرأته غلاما وكثر ماله ، قال هذا دين حسن وقد أصبت فيه خيرا واطمأن له وإن صابه مرض وولدت امرأته جارية ولم تلد

٢٤٩

فرسه وقل ماله قال ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلّا شرا فينقلب عن دينه وذلك هو الفتنة فأنزل الله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) أي على شك وأصله من حرف الشيء وهو طرفه نحو حرف الجبل والحائط الذي غير مستقر فقيل للشاك في الدين أنه يعبد الله على حرف لأنه لم يدخل فيه على الثبات والتمكن.

وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم على سكينة وطمأنينة ولو عبدوا الله بالشكر على السراء والصبر على الضراء لم يكونوا على حرف وقيل هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قبل (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) أي صحة في جسمه وسعة في معيشته (اطْمَأَنَّ بِهِ) أي رضي به وسكن إليه (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) أي بلاء في جسمه وضيق في معيشته (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي ارتد ورجع على عقبه إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) أي خسر في الدنيا العز والكرامة ولا يبقى دمه وماله مصونا.

وقيل خسر في الدنيا ما كان يؤمل والآخرة بذهاب الدين والخلود في النار (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي الظاهر (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ) إن عصاه ولم يعبده (وَما لا يَنْفَعُهُ) أي إن أطاعه وعبده (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي عن الحق والرشد (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) فإن قلت قد قال الله تعالى في الآية الأولى (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) وقال في هذه الآية (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) وهذا تناقض فكيف الجمع بينهما. قلت إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم وذلك أنّ الله تعالى قال في الآية الأولى : ما لا يضره أي لا يضره ترك عبادته وقوله لمن ضره أي ضر عبادته وقيل : إنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن عبادتها سبب الضرر وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها وقيل : إن الله تعالى سفه الكافر حيث عبد جمادا لا يضر ولا ينفع وهو يعتقد بجهله وضلاله أنه ينتفع به حين يستشفع وقيل الآية في الرؤساء وهم الذين كانوا يفزعون إليهم لأنه يصح منهم أن يضروا وينفعوا وحجة هذا القول أن الله تعالى بين في الآية الأولى أنّ الأوثان لا تضر ولا تنفع وهذه الآية تقتضي كون المذكور فيها ضارا نافعا ، فلو كان المذكور في هذه الأوثان لزم التناقض فثبت أنهم الرؤساء بدليل قوله (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أي الناصر والمصاحب المعاشر. قوله عزوجل :

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨))

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) أي بأوليائه وأهل طاعته من الكرامة وبأهل معصيته من الهوان قوله تعالى (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) يعني نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فِي الدُّنْيا) أي بإعلاء كلمته وإظهار دينه (وَالْآخِرَةِ) أي وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) أي بحبل (إِلَى السَّماءِ) أي سقف البيت على قول الأكثرين والمعنى ليشدّد حبلا في سقف بيته فليختنق به حتى يموت (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) أي الحبل بعد الاختناق وقيل ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقا (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) أي صنيعه وحيلته (ما يَغِيظُ) أي فليختنق غيظا. وليس هذا على سبيل

٢٥٠

الحتم لأنه لا يمكنه القطع والنظر بعد الاختناق ولكنه كما يقال للحاسد مت غيظا وقيل المراد بالسماء السماء المعروفة والمعنى من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ويكيد في أمره ليقطعه عنه فليقطعه من أصله فإنّ أصله في السماء فليطلب سببا يصل به إلى السماء ، ثم ليقطع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحي الذي يأتيه فلينظر هل يتهيّأ له الوصول إلى السماء بحيلة وهل يقدر على إذهاب غيظه بهذا الفعل فإذا كان ذلك ممتنعا كان غيظه عديم الفائدة.

وفي الآية زجر للكافر عن الغيظ فيما لا فائدة فيه. روي أنّ الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان دعاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام وكان بينهم وبين اليهود محالفة فقالوا : لا يمكننا أن نسلم لأنّنا نخاف أن لا ينصر محمد ولا يظهر أمره فتنقطع المحالفة بيننا وبين اليهود فلا يميرونا ولا يؤوونا وقيل النصر معناه الرزق. ومعنى الآية من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإنّ ذلك لا يجعله مرزوقا تقول العرب من ينصرني نصره الله أي من يعطني أعطاه الله (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) يعني القرآن (آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) يعني عبدة الأوثان وقيل الأديان ستة واحد لله وهو الإسلام وخمسة للشياطين وهو ما عدا الإسلام (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) أي يحكم بينهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) وقيل يفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعا فلا يجازيهم جزاء واحدا بغير تفاوت ولا يجمعهم في موطن واحد (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي إنه عالم بما يستحقه كل واحد منهم فلا يجزي في ذلك الفصل ظلم ولا حيف وقد تقدّم بسط الكلام على معنى هذه الآية في تفسير سورة البقرة. قوله عزوجل (أَلَمْ تَرَ) أي لم تعلم وقيل ألم تر بقلبك (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ) قيل سجود هذه الأشياء تحول ظلالهما وقيل ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجدا حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه وقيل معنى سجودها الطاعة فإنه ما من جماد إلّا وهو مطيع لله تعالى خاشع ومسبح له كما وصفهم بالخشية والتسبيح : وهذا مذهب أهل السنة وهو أنّ هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي خلقها الله تعالى فيها من غير امتناع البتة أشبهت بمطاوعتها أفعال المكلف وهو السجود الذي كل خضوع دونه.

فإن قلت هذا التأويل يبطله قوله (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) فإن السجود بالمعنى الذي ذكر عام في الناس كلهم فإسناده إلى كثير من الناس يكون تخصيصا من غير فائدة. قلت المعنى الذي ذكرته وإن كان عاما في حق الكل إلّا أن بعضهم تمرد وتكبّر وترك السجود في الظاهر فهذا وإن كان ساجدا بذاته لكنه متمرد بظاهره وأمّا المؤمن فإنه ساجد بذاته وبظاهره أيضا فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر وقيل معنى الآية (اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول : بمعنى الانقياد ، والثاني : بمعنى الطاعة والعبادة. فإن قلت قوله من في السموات ومن في الأرض لفظ عموم فيدخل فيه الناس فلم قال وكثير من الناس. قلت لو اقتصر على ما تقدّم لأوهم أن كل الناس يسجدون طوعا دون بعض وهم الذين قال فيهم (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) وهم الكفار أي حق عليهم العذاب بكفرهم وتركهم السجود ومع كفرهم وامتناعهم من السجود تسجد ظلالهم لله عزوجل (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) أي من يذله الله فلا يكرمه أحد (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي يكرم الله بالسعادة من يشاء ويهين بالشقاوة من يشاء وقيل هو الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب.

(فصل)

هذه السجدة من عزائم سجود القرآن فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند تلاوتها أو سماع تلاوتها. قوله عزوجل :

٢٥١

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤))

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي جادلوا في دينه وأمره واختلفوا في هذين الخصمين فروي عن قيس بن عبادة قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) نزلت في الذين برزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة أخرجاه في الصحيحين (خ) عن علي بن أبي طالب قال : أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة. قال قيس بن عبادة فيهم نزلت «هذان خصمان اختصموا في ربهم» قال هم الذين تبارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة. قال محمد بن إسحاق : خرج يوم بدر عتبة بن ربيعة بن أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة ، ودعوا إلى المبارزة فخرج إليهم فئة من الأنصار ثلاثة عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء وعبد الله بن رواحة فقالوا رهط من الأنصار فقالوا حين انتسبوا أكفاء كرام ثم نادى مناديهم يا محمد اخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قم يا عبيدة بن الحارث ويا حمزة بن عبد المطلب ويا علي بن أبي طالب فلما دنوا منهم قالوا : من أنتم فذكروا أنفسهم قالوا نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة وبارز حمزة شيبة وبارز علي الوليد ابن عتبة فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة وعلي الوليد واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتان كلاهما أثبت صاحبه فكرّ حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا واحتملا عبيدة إلى أصحابه وقد قطعت رجله ومخها يسيل. فلما أتوا به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ألست شهيدا يا رسول الله قال : بلى فقال عبيدة : لو كان أبو طالب حيا لعلم أنا أحق بما قال منه حيث يقول :

ونسلمه حتى نصرع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وقال ابن عباس : نزلت الآية في المسلمين وأهل الكتاب قال أهل الكتاب نحن أولى بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم وقال المسلمون نحن أحق بالله آمنا بنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنتم تعرفون نبينا وكتابنا وكفرتم حسدا فهذه خصومتهم في ربهم وقيل هم المؤمنون والكافرون من أي ملة كانوا فالمؤمنون خصم والكفار خصم وقيل الخصمان الجنة والنار (ق) عن أبي هريرة قال قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة : فما لي لا يدخلني إلّا ضعفاء الناس وسقطهم» زاد في رواية «وغزاتهم فقال الله عزوجل للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار إنّما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله فتقول قط قط فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم ربك من خلقه أحدا.

وأما الجنة فإنّ الله تعالى ينشئ لها خلقا» وللبخاري «اختصمت الجنة والنار» وهذا القول ضعيف والأقوال الأولى أولى بالصحة لأن حمل الكلام على ظاهره أولى وقوله هذان كالإشارة إلى سبب تقدم ذكره وهو أهل الأديان الستة وأيضا فإنه ذكر صنفين أهل طاعته وأهل معصيته وذكر مآل الخصمين فقال تعالى : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) قال سعيد بن جبير : ثياب من نحاس مذاب وليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حرا منه وسمي باسم الثياب. لأنها تحيط بهم كإحاطة الثياب وقيل يلبس أهل النار مقطعات من نار (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ

٢٥٢

رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) أي الماء الحار الذي انتهت حرارته (يُصْهَرُ بِهِ) أي يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رؤوسهم (ما فِي بُطُونِهِمْ) من الشحوم والأحشاء (وَالْجُلُودُ) عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إنّ الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ حتى يخلص إلى جوف أحدهم ، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان» أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب صحيح (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) يعني سياط من حديد وهي الجزر من الحديد. وفي الخبر «لو وقع مقمع من حديد في الأرض ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض» (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍ) يعني كلما حاولوا الخروج من النار لما يلحقهم من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفاسهم (أُعِيدُوا فِيها) يعني ردوا إليها بالمقامع.

قيل إن جهنم لتجيش بهم فتلقيهم إلى أعلاها فيريدون الخروج منها فتضربهم الزبانية بمقامع الحديد فيهوون فيها سبعين خريفا (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) يعني تقول لهم الملائكة ذلك والحريق بمعنى المحرق فهذا وصف حال أحد الخصمين وهم الكفار وقال تعالى في وصف الخصم الآخر وهم المؤمنون (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) وهو الإبريسم الذي حرم لبسه على الرجال في الدنيا. عن معاوية هو جد بهز بن حكيم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد». أخرجه الترمذي وقال : حديث صحيح (ق) عن أبي موسى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن عليهم التيجان أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب (ق) عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة». قوله تعالى (وَهُدُوا) من الهداية يعني أرشدوا (إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) قال ابن عباس : هو شهادة أن لا إله إلّا الله. وقيل هو لا إله إلّا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله وقيل إلى القرآن وقيل هو قول أهل الجنة «والحمد لله الذي صدقنا وعده» (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) يعني إلى دين الله وهو الإسلام والحميد هو الله المحمود في أفعاله. قوله عزوجل :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨))

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي بالمنع من الهجرة والجهاد والإسلام (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يعني ويصدون عن المسجد الحرام (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ) أي قبلة لصلاتهم ومنسكا ومتعبدا (سَواءً الْعاكِفُ) أي المقيم (فِيهِ) قال بعضهم ويدخل فيه الغريب إذا جاور وأقام به ولزم التعبد فيه (وَالْبادِ) أي الطارئ المنتاب إليه من غيره واختلفوا في معنى الآية فقيل سواء العاكف فيه والبادي في تعظيم حرامته وقضاء النسك به. وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة قالوا : والمراد منه نفس المسجد الحرام ومعنى التسوية هو التسوية في تعظيم الكعبة وفي فضل الصلاة فيه والطواف به. وعن جبير بن مطعم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

٢٥٣

«يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلّى أية ساعة شاء من ليل أو نهار» أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي. وقيل : المراد منه جميع الحرم ومعنى التسوية أنّ المقيم والبادي سواء في النزول به ليس أحدهما أحق بالمنزل من الآخر غير أنه لا يزعج أحد أحدا إذا كان قد سبق إلى منزله وقول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد قالوا : هما سواء في البيوت والمنازل قال عبد الرحمن بن سابط : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق منهم وكان عمر بن الخطاب ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم فعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها قالوا : إنّ أرض مكة لا تملك لأنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والبادي فلما استويا ثبت أن سبيلها سبيل المساجد وإليه ذهب أبو حنيفة. قالوا : والمراد بالمسجد الحرام جميع الحرم وعلى القول الأول الأقرب إلى الصواب أنه يجوز بيع دور مكة وإجارتها وهو قول طاوس وعمرو بن دينار. وإليه ذهب الشافعي احتج الشافعي في ذلك قوله تعالى : «الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق». أضاف الديار إلى مالكيها وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة : «من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» فنسب الديار إليهم نسبة ملك واشترى عمر بن الخطاب دار السجن بأربعة آلاف درهم فدلت هذه النصوص على جواز بيعها وقوله تعالى (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ) أي في المسجد الحرام (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) أي يميل إلى الظلم قيل الإلحاد فيه هو الشرك وعبادة غير الله. وقيل : هو كل شيء كان منهيا عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم. وقيل هو دخول الحرم بغير إحرام أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم من قتل صيد وقطع شجر. وقال ابن عباس : هو أن تقتل فيه من لا يقتلك أو تظلم فيه من لا يظلمك. وقال مجاهد : تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات وقيل : احتكار الطعام بمكة بدليل ما روى يعلى بن أمية أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه». أخرجه أبو داود وقال عبد الله بن مسعود في قوله ومن يرد فيه بإلحاد بظلم (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) قال لو أنّ رجلا همّ بخطيئة لم تكتب عليه ما لم يعملها ولو أنّ رجلا همّ بقتل رجل بمكة وهو بعدن أبين أو ببلد آخر أذاقه الله من عذاب أليم. قال السدي : إلّا أن يتوب. وروي عن عبد الله بن عمرو أنّه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فسئل عن ذلك فقال كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله وبلى والله. قوله تعالى (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) قال ابن عباس : جعلنا وقيل وطأنا وقيل بينا وإنما ذكر مكان البيت لأن الكعبة رفعت إلى السماء زمن الطوفان فلما أمر الله تعالى إبراهيم عليه‌السلام ببناء البيت لم يدر أي جهة يبني فبعث الله تعالى ريحا خجوجا (١) فكنست له ما حول البيت عن الأساس وقيل بعث الله سحابة بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن على قدري فبنى عليه (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) أي عهدنا إلى إبراهيم وقلنا له : لا تشرك بي شيئا (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) أي من الشرك والأوثان والأقذار (لِلطَّائِفِينَ) أي الذين يطوفون بالبيت (وَالْقائِمِينَ) أي المقيمين فيه (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي المصلين. قوله عزوجل (وَأَذِّنْ) أي أعلم وناد ، والأذان في اللغة الإعلام (فِي النَّاسِ) قال ابن عباس : أراد بالناس أهل القبلة (بِالْحَجِ) فقال إبراهيم عليه‌السلام وما يبلغ صوتي فقال الله عليك الأذان وعلينا الإبلاغ فقام إبراهيم على المقام حتى صار كأطول الجبال وأدخل إصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا وقال يا أيّها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتا وكتب عليكم الحج إلى البيت فأجيبوا ربكم فأجابه كل من يحج من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات : لبيك اللهم لبيك. قال ابن عباس : فأول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجا وروي أنّ إبراهيم صعد أبا قبيس ونادى. وزعم الحسن أن المأمور بالتأذين هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع (م) عن أبي هريرة قال : «خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا أيّها الناس قد فرض الله عليكم الحج

__________________

(١). الخجوج للريح الشديد ، المراد الملتوية في هبوبها كالخجوجات. ا ه قاموس.

٢٥٤

فحجوا» (يَأْتُوكَ رِجالاً) أي مشاة على أرجلهم جمع راجل (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) أي ركبانا على الإبل المهزولة من كثرة السير وبدأ بذكر المشاة تشريفا لهم (يَأْتِينَ) أي جماعة الإبل (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي من كل طريق بعيد فمن أتى مكة حاجا فكأنه قد أتى إبراهيم لأنه مجيب نداءه.

قوله تعالى (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) قيل العفو والمغفرة وقيل : التجارة وقال ابن عباس : الأسواق وقيل ما يرضى به الله من أمر الدنيا والآخرة (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) يعني عشر ذي الحجة في قول أكثر المفسرين قيل لها معلومات للحرص عليها من أجل وقت الحج في آخرها. وعن ابن عباس أنها أيام عرفة والنحر وأيام التشريق وقيل : إنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) يعني الهدايا والضحايا من النعم وهي الإبل والبقر والغنم وفيه دليل على أنّ الأيام المعلومات يوم النحر وأيام التشريق لأنه التسمية على بهيمة الأنعام عند نحرها ونحر الهدايا يكون في هذه الأيام (فَكُلُوا مِنْها) أمر إباحة ليس بواجب وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئا فأمر الله بمخالفتهم. واتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعا يجوز للمهدي أن يأكل منه وكذلك أضحية التطوع لما روى عن جابر بن عبد الله في قصة تطوعا يجوز للمهدي أن يأكل منه وكذلك أضحية التطوع لما روى عن جابر بن عبد الله في قصة حجة الوداع قال «وقدم علي ببدن من اليمن وساق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مائة بدنة فنحر منها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا وستين بدنة ونحر علي ما غبر وأشركه في بدنه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر وطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها» أخرجه مسلم قوله ما غبر أي ما بقي قوله ببضعة أي بقطعة. واختلف العلماء في الهدي الواجب بالشرع مثل دم التمتع والقرآن والدم الواجب بإفساد الحج وفوته وجزاء الصيد هل يجوز للمهدي أن يأكل منه شيئا قال الشافعي : لا يأكل منه شيئا وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر وقال ابن عمر : لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ويأكل مما سوى ذلك وبه قال أحمد وإسحاق. وقال مالك يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه إلّا من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور وعند أصحاب الرأي أنه يأكل من دم التمتع والقران ولا يأكل من واجب سواهما. وقوله تعالى (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) يعني الزمن الذي لا شيء له وقوله تعالى :

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠))

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) أي ليزيلوا أدرانهم وأوساخهم والمراد منه الخروج عن الإحرام بالحلق وقص الشارب ونتف الإبط وقلم الأظفار والاستحداد ولبس الثياب والحاج أشعث أغبر إذا لم يزل هذه الأوساخ. وقال ابن عمر وابن عباس : قضاء التفث مناسك الحج كلها (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) أراد نذر الحج والهدي وما ينذر الإنسان من شيء يكون في الحج أي ليتموها بقضائها. وقيل المراد منه الوفاء بما نذر وهو على ظاهره وقيل : أراد به الخروج عمّا وجب عليه نذره أو لم ينذره (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أراد به طواف الواجب وهو طواف الإفاضة ووقته يوم النحر بعد الرمي والحلق. والطواف ثلاثة طواف القدوم وهو أنّ من قدم مكة يطوف بالبيت سبعا يرمل ثلاثا من الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه ويمشي أربعا وهذا الطواف سنة لا شيء على من تركه (ق) عن عائشة : «إن أول شيء بدأ به حين قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه توضأ ثم طاف ثم لم تكن عمرة ثم حجّ أبو بكر وعمر مثله» (ق) عن ابن عمر «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا طاف الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا». زاد في رواية «ثم يصلي ركعتين يعني بعد الطواف بالبيت ثم يطوف بين الصفا والمروة». ولفظ أبي داود «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا طاف في الحج أو

٢٥٥

العمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أشواط ويمشي أربعا ثم يصلي سجدتين». والطواف الثاني هو طواف الإفاضة وذلك يوم النحر بعد الرمي والحلق (ق) عن عائشة قالت : «حاضت صفية ليلة النفر فقالت : ما أراني إلا حابستكم قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقرى حلقى أطافت يوم النحر قيل نعم قال فانفري». قوله عقرى وحلقى معناه عقرها الله أي أصابها بالعقر وبوجع في حلقها وقيل معناه مشئومة مؤذية ولم يرد به الدعاء عليها وإنّما هو شيء يجري على ألسنة العرب كقولهم : لا أم لك وتربت يمينك وفيه دليل على أن من لم يطف يوم النحر طواف الإفاضة لا يجوز له أن ينفر. الثالث طواف الوداع لا رخصة لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر في أن يفارقها حتى يطوف سبعا فمن تركه فعليه دم إلا المرأة الحائض فإنه يجوز لها تركه للحديث المتقدم ولما روى ابن عباس قال «أمر الناس أن يكون الطواف آخر عهدهم بالبيت إلا أنه رخص للمرأة الحائض» متفق عليه. الرمل سنة تختص بطواف القدوم ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع وقوله «بالبيت العتيق» قال ابن عباس وغيره سمي عتيقا لأن الله أعتقه من أيدي الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه فلم يظهر عليه جبار قط ، وقيل لأنه أول بيت وضع للناس وقيل لأن الله أعتقه من الغرق فإنه رفع أيام الطوفان وقيل لأنه لم يملك. قوله عزوجل (ذلِكَ) أي الأمر ذلك يعني ما ذكر من أعمال الحج (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) أي ما نهى الله عنه من معاصيه وتعظيمها ترك ملابستها وقيل : حرمات الله ما لا يحل انتهاكه وقيل الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه وقيل : الحرمات هنا مناسك الحج وتعظيمها إقامتها وإتمامها وقيل الحرمات هنا البيت الحرام والبلد الحرام والمسجد الحرام والشهر الحرام ومعنى التعظيم العلم بأنه يجب القيام بمراعاتها وحفظ حرمتها (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي ثواب تعظيم الحرمات خير له عند الله في الآخرة (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) أي أن تأكلوها بعد الذبح وهي الإبل والبقر والغنم (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي تحريمه وهو قوله في سورة المائدة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) الآية (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) أي اتركوا عبادتها فإنها سبب الرجس وهو العذاب وقيل سمى الأوثان رجسا لأنّ عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) يعني الكذب والبهتان.

وقال ابن عباس : هي شهادة الزور وروي عن أيمن بن خريم قال : «إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام خطيبا فقال أيها الناس عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور» أخرجه الترمذي وقال قد اختلفوا في روايته ولا نعرف لأيمن سماعا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخرجه أبو داود عن خريم بن فاتك بنحوه وقيل : هو قول المشركين في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه وما ملك. قوله تعالى :

(حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤))

(حُنَفاءَ لِلَّهِ) يعني مخلصين له (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) فدل ذلك على أن المكلف ينوي بما يأتيه من العبادة الإخلاص لله بها لا غيره وقيل كانوا في الشرك يحجون ويحرمون البنات والأمهات والأخوات وكانوا حنفاء فنزلت «حنفاء لله غير مشركين به» أي حجوا لله مسلمين موحدين ومن أشرك لا يكون حنيفا (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ) أي سقط (مِنَ السَّماءِ) إلى الأرض (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) يعني تسلبه وتذهب به (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ) يعني تميل وتذهب به (فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) يعني بعيد. ومعنى الآية أنّ من أشرك بالله بعيد من الحق والإيمان كبعد من سقط من السماء فذهبت به الطير أو هوت به الريح فلا يصل إليه بحال وقيل شبه حال المشرك بحال الهاوي

٢٥٦

من السماء لأنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع حيث تسقط الريح فهو هالك لا محالة. إما باستلاب الطير لحمه أو بسقوطه في المكان السحيق. وقيل معنى الآية من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس وراءه إهلاك بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير ففرقت أجزاءه في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة. وقيل شبه الإيمان بالسماء في علوه والذي ترك الإيمان بالساقط من السماء والأهواء التي توزع أفكاره بالطير المختطفة والشياطين التي تطرحه في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة. قوله عزوجل (ذلِكَ) يعني الذي ذكر من اجتناب الرجس وقول الزور (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) يعني تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب قال ابن عباس : شعائر الله البدن والهدي وأصلها من الإشعار ، وهو العلامة التي يعرف بها أنها هدى وتعظيمها استسمانها واستحسانها وقيل شعائر الله أعلام دينه وتعظيمها من تقوى القلوب (لَكُمْ فِيها) أي في البدن (مَنافِعُ) قيل هي درها ونسلها وصوفها ووبرها وركوب ظهرها (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى أن يسميها ويوجبها هديا فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها. وهو قول مجاهد وقتادة والضحّاك ورواية عن ابن عباس وقيل معناه لكم في الهدايا منافع بعد إيجابها وتسميتها هدايا بأن تركبوها وتشربوا من ألبانها عند الحاجة إلى أجل مسمى يعني إلى أن تنحروها وهو قول عطاء. واختلف العلماء في ركوب الهدي فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق : يجوز ركوبها والحمل عليها من غير ضرر بها لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال : «اركبها فقال يا رسول الله إنّها بدنة فقال : اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة». أخرجاه في الصحيحين. وكذلك يجوز له أن يشرب من لبنها بعد ما يفضل عن ري ولدها. وقال أصحاب الرأي : لا يركبها إلّا أن يضطر إليه وقيل أراد بالشعائر المناسك ومشاهدة مكة لكم فيها منافع يعني بالتجارة والأسواق (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يعني إلى الخروج من مكة وقيل (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) يعني بالأجر والثواب في قضاء المناسك إلى انقضاء أيام الحج (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) يعني منحرها عند البيت العتيق يريد به جميع أرض الحرم. وروي عن جابر في حديث حجة الوداع أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «نحرت ها هنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم» ومن قال الشعائر المناسك قال معنى ثم محلها يعني محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق يطوفون به طواف الزيارة. قوله تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) يعني جماعة مؤمنة سلفت قبلكم (جَعَلْنا مَنْسَكاً) قرئ بكسر السين يعني مذبحا وهو موضع القربان منسكا بفتح السين وهو إراقة الدم وذبح القرابين (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) يعني عند ذبحها ونحرها سماها بهيمة لأنها لا تتكلم وقيد بالأنعام لأن ما سواها لا يجوز ذبحه في القرابين وإن جاز أكله. قوله عزوجل (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) يعني سموا على الذبح اسم الله وحده فإنّ إلهكم إله واحد (فَلَهُ أَسْلِمُوا) يعني أخلصوا وانقادوا وأطيعوا (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) قال ابن عباس : المتواضعين وقيل المطمئنين إلى الله وقيل الخاشعين الرقيقة قلوبهم وقيل هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لا ينتصرون ثم وصفهم فقال تعالى :

(الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧) إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ

٢٥٧

لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠))

(الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) يعني خافت من عقاب الله فيظهر عليها الخشوع والتواضع لله تعالى (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) يعني من البلاء والمرض والمصائب ونحو ذلك مما كان من الله تعالى وما كان من غير الله فله أن يصبر عليه وله أن ينتصر لنفسه (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) يعني في أوقاتها محافظة عليها (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) يعني يتصدّقون. قوله تعالى (وَالْبُدْنَ) جمع بدنة سميت بدنة لعظمها وضخامتها ، يريد الإبل الصحاح الأجسام والبقر ولا تسمى الغنم بدنة لصغرها (جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) يعني من أعلام دينه قيل لأنها تشعر وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم بذلك أنها هدي (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) يعني نفع في الدنيا وثواب في العقبى (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) يعني عند نحرها (صَوافَ) يعني قياما على ثلاث قوائم قد صفت رجليها ويدها اليمنى والأخرى معقولة فينحرها كذلك (ق) عن زياد بن جبير قال : «رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها قال ابعثها قياما مقيدة سنّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) يعني سقطت بعد النحر ووقع جنبها على الأرض (فَكُلُوا مِنْها) أمر إباحة (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) قيل القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل. والمعتر هو الذي يسأل وعن ابن عباس القانع هو الذي لا يسأل ولا يتعرض. وقيل : القانع هو الذي يسأل والمعتر هو الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل وقيل القانع المسكين والمعتر الذي ليس بمسكين ولا تكون له ذبيحة يجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم (كَذلِكَ) يعني مثل ما وصفنا من نحرها قياما (سَخَّرْناها لَكُمْ) يعني لتتمكنوا من نحرها (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يعني إنعام الله عليكم (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لطخوا الكعبة بدمائها يزعمون أن ذلك قربة إلى الله تعالى فأنزل الله (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) يعني لن ترفع إلى الله لحومها ولا دماؤها (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) يعني ولكن ترفع إليه الأعمال الصالحة والإخلاص وهو ما أريد به وجه الله (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) يعني البدن (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) وأرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه وهو أن يقول الله : أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) قال ابن عباس الموحدين.

قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم منهم وينصرهم عليهم (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) أي خوان في أمانة الله كفور لنعمته. قال ابن عباس : خانوا الله فجعلوا منه شريكا وكفروا نعمه. وقيل من تقرّب إلى الأصنام بذبيحته وسمى غير الله عليها فهو خوان كفور. قوله عزوجل (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي أذن الله لهم بالجهاد ليقاتلوا المشركين قال المفسرون كان مشركوا أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يزالون يجيئون من بين مضروب ومشجوج ويشكون ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول لهم : «اصبروا فإني لم أومر بقتال» حتى هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال. وقيل نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فاعترضهم مشركو مكة فأذن الله لهم في قتال الكفار الذين يمنعون من الهجرة بأنهم ظلموا أي بسبب ما ظلموا واعتدوا عليهم بالإيذاء (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) فيه وعد من الله بنصر المؤمنين ثم وصفهم. فقال تعالى (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) يعني أنهم أخرجوا بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتعظيم والتمكين لا موجب الإخراج (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي بالجهاد وإقامة الحدود (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ) هي معابد الرهبان المتخذة في الصحراء (وَبِيَعٌ) هي معابد النصارى في البلد وقيل الصوامع للصابئين والبيع للنصارى (وَصَلَواتٌ) هي كنائس اليهود ويسمونها بالعبرانية صلوتا

٢٥٨

(وَمَساجِدُ) يعني مساجد المسلمين (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) يعني في المساجد. ومعنى الآية ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شريعة كل نبي مكان صلواتهم فهدم في زمن موسى الكنائس وفي زمن عيسى البيع والصوامع وفي زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المساجد (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي ينصر دينه ونبيه (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) أي على نصر من ينصر دينه (عَزِيزٌ) أي لا يضام ولا يمنع مما يريده. قوله عزوجل :

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧))

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي نصرناهم على عدوهم تمكنوا من البلاد (أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) هذا وصف أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : هم جميع هذه الأمة وقيل هم المهاجرون وهو الأصح لأنه قوله «الذين إن مكناهم» صفة لمن تقدم ذكرهم وهو قوله «الذين أخرجوا من ديارهم» وهم المهاجرون (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي آخر أمور الخلق مصيرها إليه وذلك أنه يبطل فيها كل ملك سوى ملكه فتصير الأمور إليه بلا منازع. قوله تعالى (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) فيه تسلية وتعزية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى وإن كذبك قومك (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى) فإن قلت لم قال وكذب موسى ولم يقل وقوم موسى؟. قلت فيه وجهان أحدهما : أن موسى لم يكذبه قومه وهم بنو إسرائيل وإنما كذبه غير قومه وهو القبط الثاني : كأنه قيل بعد ما ذكرت تكذيب كل قوم رسولهم قال وكذب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أي أمهلتهم وأخرت العقوبة عنهم (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) أي عاقبتهم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري عليهم ما فعلوا من التكذيب بالعذاب والهلاك يخوف به من خالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذبه. قوله عزوجل (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) وقرئ أهلكناها على التعظيم (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي وأهلها ظالمون (فَهِيَ خاوِيَةٌ) أي ساقطة (عَلى عُرُوشِها) أي على سقوفها (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) أي وكم من بئر معطلة أي متروكة مخلاة عن أهلها (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أي رفيع طويل عال وقيل مجصص وقيل إن البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن. أما القصر فعلى قمة جبل والبئر في سفحه ولكل واحد منهما قوم كانوا في نعمة فكفروا فأهلكهم الله وبقي البئر والقصر خاليين. وقيل إن هذه البئر كانت بحضر موت في بلدة يقال لها : حاضوراء وذلك أن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح عليه‌السلام لما نجوا من العذاب أتوا إلى حضر موت ومعهم صالح فلما حضروه مات صالح فسمي المكان حضر موت. لذلك ولما مات صالح بنو حاضوراء وقعدوا على هذه البئر وأمروا عليهم رجلا منهم فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا وعبدوا الأصنام وكفروا فأرسل الله تعالى إليهم نبيا يقال له حنظلة بن صفوان. وكان حمالا فيهم فقتلوه في السوق فأهلكهم الله وعطلت بئرهم وخرب قصرهم. قوله تعالى (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) يعني كفار مكة فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) أي يعلمون بها (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) يعني ما يذكر لهم من أخبار

٢٥٩

القرون الماضية فيعتبرون بها (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) المعنى أن عمى القلب هو الضار في أمر الدين لا عمى البصر لأن البصر الظاهر بلغة ومتعة وبصر القلوب النافع (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) نزلت في النضر بن الحارث (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) أي إنه أنجز ذلك يوم بدر (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) قال ابن عباس : يعني يوما من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض. وقيل يوما من أيام الآخرة يدل عليه ما روي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة» أخرجه أبو داود بزيادة فيه وأخرج الترمذي نحوه ومعنى الآية أنهم يستعجلون بالعذاب وإن يوما من أيام عذابهم في الآخرة كألف سنة. وقيل إن يوما من أيام العذاب في الثقل والاستطالة كألف سنة فكيف يستعجلونه وقيل معناه أن يوما عنده وألف سنة في الإمهال سواء لأنه قادر متى شاء أخذهم لا يفوته شيء بالتأخير فيستوي في قدرته وقوع ما يستعجلونه من العذاب وتأخيره وهذا معنى قول ابن عباس.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢))

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها) يعني أمهلتها (وَهِيَ ظالِمَةٌ) يعني مع استمرار أهلها على الظلم (ثُمَّ أَخَذْتُها) يعني أنزلت بهم العذاب (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) يعني مصيرهم إلي في الآخرة ففيه وعيد وتهديد. قوله عزوجل (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أمر رسول الله أن يديم لهم التخويف والإنذار وأن يقول لهم إنما بعثت لكم منذرا (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) لما أمر الله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول «إنما أنا نذير مبين» أردف ذلك بأن أمره بوعد من آمن ووعيد من عصى فقال «فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة» يعني ستر لصغائر ذنوبهم وقيل للكبائر أيضا مع التوبة ورزق كريم يعني لا ينقطع أبدا وقيل هو الجنة (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) يعني عملوا في إبطال آياتنا (مُعاجِزِينَ) يعني مثبطين الناس عن الإيمان وقرئ معاجزين يعني معاندين مشاقين وقيل معناه ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا ويفوتوننا فلا نقدر عليهم بزعمهم أن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) قال ابن عباس وغيره من المفسرين : لما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تولي قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من الله تعالى تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم فكان يوما في مجلس لقريش فأنزل الله عزوجل سورة والنجم فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بلغ «أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى» ألقى الشيطان على لسانه ما كان يحدث به نفسه ويتمناه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى. فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قراءته فقرأ السورة كلها وسجد في آخرها وسجد المسلمون بسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد غير الوليد بن المغيرة وأبي أحيحة سعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ويقولون قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فإن جعل لها محمد نصيبا فنحن معه فلما أمسى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه

٢٦٠