تفسير الخازن - ج ٣

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٣

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٤٦٤

وفي رواية قدر ما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال : لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا» قال : فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيتا لله تعالى ، يبنيه هذا الغلام وأبوه وأن الله لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا. فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي ، وما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا ، وأم إسماعيل عند الماء فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك قالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا : قال ابن عباس قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فألقى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا أهليهم ، فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم وشب الغلام ، وتعلم العربية منهم وآنسهم وأعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه بامرأة منهم وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته أخرجه البخاري بأطول من هذا ، وقد تقدم الحديث بطوله في تفسير سورة البقرة ، وأما تفسير الآية فقوله ربنا إني أسكنت من ذريتي من للتبعيض أي بعض ذريتي وهو إسماعيل عليه‌السلام بواد غير ذي زرع يعني ليس فيه زرع ، لأنه واد بين جبلين جبل أبي قبيس وجبل أجياد وهو واد بمكة عند بيتك المحرم سماه محرما لأنه يحترم عنده ما لا يحترم عند غيره ، وقيل : لأن الله حرمه على الجبابرة فلم ينالوه بسوء وحرم التعرض له والتهاون به ، وبحرمته وجعل ما حوله محرما لمكانه ، وشرفه وقيل : لأنه حرم على الطوفان بمعنى امتنع منه وقيل : سمي محرما لأن الزائرين له يحرمون على أنفسهم أشياء كانت مباحة لهم من قبل وسمي عتيقا أيضا لأنه أعتق من الجبابرة أو من الطوفان. فإن قلت : كيف قال عند بيتك المحرم ولم يكن هناك بيت حينئذ ، وإنما بناه إبراهم بعد ذلك. قلت : يحتمل أن الله عزوجل أوحى إليه وأعلمه أن له هناك بيتا قد كان في سالف الزمان ، وأنه سيعمر فلذلك قال عند بيتك المحرم ، وقيل : يحتمل أن يكون المعنى عند بينك الذي كان ثم رفع عند الطوفان وقيل : يحتمل أن يكون المعنى عند بيتك الذي جرى في سابق علمك أنه سيحدث في هذا المكان (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) اللام في ليقيموا متعلقة بأسكنت يعني أسكنت قوما من ذريتي ، وهم إسماعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا أي لأجل أن يقيموا أو لكي يقيموا الصلاة (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) قال البغوي جمع الموفد (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) تحن وتشتاق إليهم. قال السدي رحمه‌الله : أمل قلوبهم إلى هذا الموضع وقال ابن الجوزي أفئدة من الناس أي قلوب جماعة من الناس فلهذا جعله جمع فؤاد قال ابن الأنباري : وإنما عبر عن القلوب بالأفئدة لقرب القلب من الفؤاد فجعل القلب والفؤاد جارحتين. وقال الجوهري : الفؤاد القلب والجمع أفئدة فجعلهما جارحة واحدة ولفظة من في قوله من الناس للتبعيض ، قال مجاهد : لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم فارس والروم والترك والهند. وقال سعيد بن جبير : لحجت اليهود والنصارى والمجوس ولكنه قال أفئدة من الناس فهم المسلمون تهوي إليهم قال الأصمعي : يقال هوى يهوي هويا إذا سقط من علو إلى أسفل وقال الفراء تهوي إليهم تريدهم كما تقول : رأيت فلانا يهوي نحوك معناه يريدك وقال أيضا تهوي تسرع إليهم ، وقال ابن الأنباري : معناه تنحط إليهم وتنحدر وتنزل هذا قول أهل اللغة في هذا الحرف وأما أقوال المفسرين فقال ابن عباس : يريد تحن إليهم لزيارة بيتك وقال قتادة تسرع إليهم. وفي هذا بيان أن حنين الناس إليهم ، إنما هو لطلب حج البيت لا لأعيانهم ، وفيه دعاء للمؤمنين بأن يرزقهم حج البيت ودعاء لسكان مكة من ذريته بأنهم ينتفعون بمن يأتي إليهم من الناس لزيارة البيت فقد جمع إبراهيم عليه‌السلام في هذا الدعاء من أمر الدين ، والدنيا ما ظهر بيانه وعمت بركاته (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) يعني كما رزقت سكان القرى ذوات الماء والزرع فيكون المراد عمارة قرى بقرب مكة لتحصل تلك الثمار ، وقيل يحتمل أن يكون المراد جلب الثمرات إلى مكة بطريق النقل والتجارة فهو كقوله تعالى يجبى إليه ثمرات كل شيء. وقوله تعالى (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) يعني لعلهم

٤١

يشكرون هذه النعم التي أنعمت بها عليهم ، وقيل : معناه لعلهم يوحدونك ويعظمونك وفيه دليل على أن تحصيل منافع الدنيا ، إنما هو ليستعان بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات.

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١) وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣))

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) يعني إنك تعلم السر كما تعلم العلن عما لا تفاوت فيه ؛ والمعنى أنك تعلم أحوالنا ، وما يصلحنا وما يفسدنا وأنت أرحم بنا منا فلا حاجة بنا إلى الدعاء ، والطلب إنما ندعوك إظهارا للعبودية لك ، وتخشعا لعظمتك وتذللا لعزتك وافتقارا إلى ما عندك ، وقيل : معناه تعلم ما نخفي من الوجد بفرقة إسماعيل وأمه حيث أسكنتهما بواد غير ذي زرع وما نعلن يعني من البكاء ، وقيل : ما نخفي يعني من الحزن المتمكن في القلب ، وما نعلن يعني ما جرى بينه وبين هاجر عند الوداع حين قالت لإبراهيم عليه‌السلام إلى من تكلنا قال : إلى الله قالت إذا لا يضيعنا (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) فقيل : هذا من تتمة قول إبراهيم يعني وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان وقال الأكثرون : إنه من قول الله تعالى تصديقا لإبراهيم فيما قال : فهو كقوله وكذلك يفعلون (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) قال ابن عباس : ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة وقال سعيد بن جبير : بشر إبراهيم بإسحاق وهو ابن مائة وسبع عشرة سنة ، ومعنى قوله : على الكبر مع الكبر لأن هبة الولد في هذا السن من أعظم المنن لأنه سن اليأس من الولد فلهذا شكر الله على هذه المنة. فقال : الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق. فإن قلت : كيف جمع بين إسماعيل وإسحاق في الدعاء في وقت واحد وإنما بشر بإسحاق بعد إسماعيل بزمان طويل؟ قلت : يحتمل أن إبراهيم عليه‌السلام إنما أتى بهذا الدعاء عند ما بشر بإسحاق وذلك أنه لما عظمت المنة على قلبه بهبة ولدين عظيمين عند كبره قال عند ذلك الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ولا يرد على هذا ما ورد في الحديث أنه دعا بما تقدم عند مفارقة إسماعيل وأمه لأن الذي صح في الحديث أنه دعا بقوله ربنا إني أسكنت ذريتي إلى قوله لعلهم يشكرون إذا ثبت هذا فيكون قوله الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق في وقت آخر والله أعلم بحقيقة الحال (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) كان إبراهيم عليه‌السلام قد دعا ربه وسأله الولد بقوله «رب هب لي من الصالحين» فلما استجاب الله دعاءه ووهبه ما سأل شكر الله على ما أكرمه به من إجابة دعائه فعند ذلك قال الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء وهو من قولك سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) يعني ممن يقيم الصلاة بأركانها ويحافظ عليها في أوقاتها (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي واجعل من ذريتي من يقيم الصلاة وإنما أدخل لفظة من التي هي للتبعيض في قوله ومن ذريتي لأنه أعلم بإعلام الله إياه أنه قد يوجد من ذريته جمع من الكفار لا يقيمون الصلاة فلهذا قال ومن ذريتي وأراد بهم المؤمنين من ذريته (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) سأل إبراهيم عليه‌السلام ربه أن يتقبل دعاءه فاستجاب الله لإبراهيم وقيل دعاءه بفضله ومنه وكرمه (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي) فان قلت طلب المغفرة من الله إنما يكون لسابق ذنب قد سلف حتى يطلب المغفرة من ذلك الذنب وقد ثبت عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الذنوب فما وجه طلب المغفرة

٤٢

له؟ قلت : المقصود منه الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى وقطع الطمع من كل شيء إلا من فضله وكرمه والاعتراف بالعبودية لله تعالى والاتكال على رحمته (وَلِوالِدَيَ). فإن قلت : كيف استغفر إبراهيم لأبويه وكانا كافرين؟ قلت : أراد أنهما إن أسلما وتابا وقيل إنما قال ذلك قبل أن يتبين له أنهما من أصحاب الجحيم وقيل إن أمه أسلمت فدعا لها وقيل أراد بوالديه آدم وحواء (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) يعني واغفر للمؤمنين كلهم (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) يعني يوم يبدو ويظهر الحساب وقيل أراد يوم الناس للحساب فاكتفى بذلك أي بذكر الحساب لكونه مفهوما عند السامع وهذا دعاء للمؤمنين بالمغفرة والله سبحانه وتعالى لا يرد دعاء خليله إبراهيم عليه‌السلام ففيه بشارة عظيمة لجميع المؤمنين بالمغفرة. قوله سبحانه وتعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقائق الأمور وقيل حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ وهذا في حق الله محال فلا بد من تأويل الآية فالمقصود منها أنه سبحانه وتعالى ينتقم من الظالم للمظلوم ففيه وعيد وتهديد للظالم وإعلام له بأن لا يعامله معاملة الغافل عنه بل ينتقم ولا يتركه مغفلا قال سفيان بن عيينة : فيه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم. فإن قلت : تعالى الله عن السهو والغفلة فكيف يحسبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غافلا وهو أعلم الناس به أنه لم غافلا حتى قيل له ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون. قلت : إذا كان المخاطب به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففيه وجهان : أحدهما التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلا فهو كقوله «ولا تكونن من المشركين ـ ولا تدع مع الله إلها آخر» وكقوله سبحانه وتعالى «يا أيها الذين آمنوا آمنوا» أي اثبتوا على ما أنتم عليه من الإيمان. الوجه الثاني أن المراد بالنهي عن حسابه غافلا الإعلام بأنه سبحانه وتعالى عالم بما يفعل الظالمون ولا يخفى عليه شيء وأنه ينتقم منهم فهو على سبيل الوعيد والتهديد لهم والمعنى : ولا تحسبنه معاملهم معاملة الغافل عنهم ولكن يعاملهم معاملة الرقيب الحفيظ عليهم المحاسب لهم على الصغير والكبير وإن كان المخاطب غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا إشكال فيه ولا سؤال لأن أكثر الناس غير عارفين بصفات الله فمن جوز أن يحسبه غافلا فلجهله بصفاته (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) يقال : شخص بصر الرجل إذا بقيت عيناه مفتوحتين لا يطرفهما ، وشخوص البصر يدل على الحيرة والدهشة من هول ما ترى في ذلك اليوم (مُهْطِعِينَ) قال قتادة مسرعين وهذا قول أبي عبيدة فعلى هذا المعنى أن الغالب من حال من بقي بصره شاخصا من شدة الخوف أن يبقى واقفا باهتا فبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن أحوال أهل الوقف يوم القيامة بخلاف الحال المعتادة فأخبر سبحانه وتعالى أنهم مع شخوص الأبصار يكونون مهطعين يعني مسرعين نحو الدعي وقيل المهطع الخاضع الذليل الساكت (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) الاقناع رفع الرأس إلى فوق فأهل الموقف من صفتهم أنهم رافعو رؤوسهم إلى السماء وهذا بخلاف المعتاد لأن من يتوقع البلاء فإنه يطرق ببصره إلى الأرض قال الحسن وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد وهو قوله تعالى (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة الخوف فهي شاخصة لا ترتد إليهم قد شغلهم ما بين أيديهم (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أي خالية. قال قتادة خرجت قلوبهم من صدورهم فصارت في حناجرهم فلا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها ومعنى الآية أن أفئدتهم خالية فارغة لا تعي شيئا ولا تعقل من شدة الخوف. وقال سعيد بن جبير : وأفئدتهم هواء مترددة تهوي في أجوافهم ليس لها مكان تستقر فيه ، ومعنى الآية أن القلوب يومئذ زائلة عن أماكنها والأبصار شاخصة والرؤوس مرفوعة إلى السماء من هول ذلك اليوم وشدته.

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤))

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ) يعني وخوف الناس يا محمد بيوم القيامة وهو قوله سبحانه وتعالى (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ

٤٣

فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) يعني ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) يعني أمهلنا مدة يسيرة قال بعضهم : طلبوا الرجوع إلى الدنيا حتى يؤمنوا فينفعهم ذلك وهو قوله تعالى (نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) فأجيبوا بقوله (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) يعني في دار الدنيا (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) يعني ما لكم عنها انتقال ولا بعث ولا نشور.

(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨))

(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) يعني بالكفر والمعاصي ممن كان قبلكم من كفار الأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) يعني وقد عرفتم كيف كان عقوبتنا إياهم (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) يعني الأمثال التي ضربها الله عزوجل في القرآن ليتدبروها ، ويعتبروا بها فيجب على كل من شاهد أحوال الماضين من الأمم الخالية ، والقرون الماضية ، وعلم ما جرى لهم وكيف أهلكوا أن يعتبر بهم ، ويعمل في خلاص نفسه من العقاب والهلاك. قوله سبحانه وتعالى (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) اختلفوا في الضمير إلى من يعود في قوله ، وقد مكروا فقيل يعود إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، وهذا القول صحيح لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب مذكور وقيل : إن المراد بقوله وقد مكروا كفار قريش الذين مكروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومكرهم ما ذكره الله تعالى بقوله تعالى (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية والمعنى وأنذر الناس يا محمد ، يوم يأتيهم العذاب يعني بسبب مكرهم بك. وقوله تعالى (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) يعني جزاء مكرهم وقيل إن مكرهم مثبت عند الله ليجازيهم به يوم القيامة (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) يعني وإن كان مكرهم لأضعف من أن تزول منه الجبال وقيل : معناه إن مكرهم لا يزيل أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو ثابت كثبوت الجبال وقد حكي عن علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الآية قولا آخر : وهو أنها نزلت في نمرود الجبار الذي حاجّ إبراهيم في ربه فقال نمرود : إن كان ما يقول إبراهيم حقا فلا أنتهي حتى أصعد إلى السماء فأعلم ما فيها فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور فرباهن حتى كبرت وشبت ، واتخذ تابوتا من خشب وجعل له بابا من أعلى وبابا من أسفل ثم جوع النسور ونصب خشبات أربعا في أطراف التابوت وجعل على رؤوس تلك الخشبات لحما أحمر وقعد هو في التابوت ، وأقعد معه رجلا آخر ، وأمر بالنسور فربطت في أطراف التابوت من أسفل فجعلت النسور كلما رأت اللحم رغبت فيه ، وطارت إليه فطارت النسور يوما أجمع حتى بعدت في الهواء فقال نمرود لصاحبه : افتح الباب الأعلى وانظر إلى السماء هل قربنا منها ففتح ونظر فقال له إن السماء كهيئتها فقال له : افتح الباب الأسفل فانظر إلى الأرض كيف تراها ففعل فقال : أرى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان. قال : فطارت النسور يوما آخر وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران فقال نمرود لصاحبه : افتح الباب الأعلى ففعل فإذا السماء كهيئتها ، وفتح الباب الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة فنودي أيها الطاغي أين تريد؟ قال عكرمة : وكان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب وأخذ معه الترس ، ورمى بسهم فعاد إليهم السهم ملطخا بدم سمكة قذفت بنفسها من بحر في الهواء وقيل إن طائرا أصابه السهم فلما رجع إليهم السهم ملطخا بالدم قال كفيت إله السماء ثم أمر نمرود صاحبه أن يصوب الخشبات إلى أسفل ، وينكس اللحم ففعل فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال خفيق التابوت والنسور ففزعت ، وظنت أنه قد حدث حدث من السماء إن الساعة قد قامت فكادت تزول عن أماكنها ،

٤٤

فذلك قوله تعالى وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال واستبعد العلماء هذه الحكاية وقال : إن الخطر فيه عظيم ولا يكاد عاقل أن يقدم على مثل هذا الأمر العظيم وليس فيه خير صحيح يعتمد عليه ، ولا مناسبة لهذه الحكاية بتأويل الآية البتة (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) يعني فلا تحسبن الله يا محمد مخلف ما وعد به رسله من النصر وإعلاء الكلمة ، وإظهار الدين فإنه ناصر رسله وأوليائه ومهلك أعدائه ، وفيه تقديم وتأخير تقديره ولا تحسبن الله مخلف رسله وعده (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي غالب (ذُو انتِقامٍ) يعني من أعدائه قوله عزوجل (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) ذكر المفسرون في معنى هذا التبديل قولين أحدهما أنه تبديل صفة الأرض والسماء لا ذاتهما فأما تبديل الأرض فبتغيير صفتها وهيئتها مع بقاء ذاتها وهو أن تدك جبالها وتسوى وهادها وأوديتها ، وتذهب أشجارها وجميع ما عليها من عمارة وغيرها لا يبقى على وجهها شيء إلا ذهب ، وتمد مد الأديم وأما تبديل السماء فهو أن تنتثر كواكبها وتطمس شمسها ، وقمرها ويكوران كونها تارة كالدهان ، وتارة كالمهل وبهذا القول قال جماعة من العلماء : ويدل على صحة هذا القول ما روي عن سهل بن سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس بها علم لأحد» أخرجاه في الصحيحين العفراء بالعين المهملة ، وهي البيضاء إلى الحمرة ولهذا شبهها بقرصة النقي ، وهو الخبز الجيد البياض الفائق المائل إلى حمرة كأن النار ميلت بياض وجهها إلى الحمرة وقوله : ليس بها علم لأحد يعني ليس فيها علامة لأحد بتبديل هيئتها ، وزوال جبالها وجميع بنائها فلا يبقى فيها أثر يستدل به والقول الثاني : هو تبديل ذوات الأرض والسماء وهذا قول جماعة من العلماء ، ثم اختلفوا في معنى هذا التبديل فقال ابن مسعود في معنى هذه الآية قال : تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاء نقية لم يسفك بها دم ، ولم يعمل عليها خطيئة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : الأرض من فضة والسماء من ذهب. وقال أبيّ بن كعب في معنى التبديل : بأن تصير الأرض نيرانا والسماء جنانا وقال أبو هريرة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه عن أبي سعيد الخدري قال. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة» أخرجاه في الصحيحين بزيادة فيه. قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح هذا الحديث : أما النزل فبضم النون والزاي ويجوز إسكان الزاي وهو ما يعد للضيف عند نزوله وأما الخبزة فبضم الخاء. وقال أهل اللغة : هي الظلمة التي توضع في الملة يتكفؤها بالهمزة بيده أي يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتسوى لأنها ليست منبسطة كالرقاقة ، وقد حققنا الكلام في اليد في حق الله سبحانه وتعالى وتأويلها مع القطع باستحالة الجارحة عليه ليس كمثله شيء ، ومعنى الحديث أن الله سبحانه وتعالى ، يجعل الأرض كالظلمة أي الرغيف العظيم وتكون طعاما نزلا لأهل الجنة والله على كل شيء قدير. فإن قلت : إذا فسرت التبديل بما ذكرت فكيف يمكن الجمع بينه وبين قوله تعالى (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) وهو أن تحدث أخبارها ، وهو أن تحدث بكل ما عمل عليها ، قلت : وجه الجمع بين الآيتين أن الأرض تبدل أولا صفتها مع بقاء ذاتها كما تقدم فيومئذ تحدث أخبارها ثم بعد ذلك تبدل تبديلا ثانيا ، وهو أن تبدل ذاتها بغيرها كما تقدم أيضا ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن عائشة قالت سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله فقال : «على الصراط» أخرجه مسلم وروى ثوبان أن حبرا من اليهود سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض قال : «هم في الظلمة دون الجسر» ذكره البغوي بغير سند ، ففي هذين الحديثين دليل على أن تبديل الأرض ثاني مرة يكون بعد الحساب والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. وقوله تعالى (وَبَرَزُوا) يعني وخرجوا من قبورهم (لِلَّهِ) يعني لحكم الله ، والوقوف بين يديه للحساب (الْواحِدِ الْقَهَّارِ) صفتان لله تعالى فالواحد الذي لا ثاني له ، ولا شريك معه المنزه عن الشبه والضد والند والقهار الذي يقهر عباده على ما يريد ، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قوله تعالى :

٤٥

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ) يعني مشدودين بعضهم إلى بعض يقال : قرنت الشيء بالشيء إذا شددته معه في رباط واحد (فِي الْأَصْفادِ) يعني في القيود والأغلال. قال ابن عباس : يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة. وقال أبو زيد : تقرن أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد وهي القيود. وقال ابن قتيبة : يقرن بعضهم إلى بعض (سَرابِيلُهُمْ) يعني قمصهم واحدها سربال وقيل السربال كل ما لبس (مِنْ قَطِرانٍ) القطران دهن يتحلب من شجر الأبهل والعرعر والتوت كالزفت تدهن به الإبل إذا جربت ، وهو الهناء يقال هنأت البعير أهنؤه بالهناء وهو القطران قال الزجاج : وإنما جعل لهم القطران سرابيل لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود ولو أراد الله المبالغة في إحراقهم بغير ذلك لقدر ولكنه حذرهم مما يعرفون وقرأ عكرمة ، ويعقوب من قطران على كلمتين منونتين فالقطر النحاس المذاب والآن الذي انتهى حره (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) يعني تعلوها وتجللها (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) يعني من خير أو شر (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يعني إذا حاسب عباده يوم القيامة (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) يعني هذا القرآن فيه تبليغ وموعظة للناس (وَلِيُنْذَرُوا) يعني وليخوفوا بالقرآن ومواعظه وزواجره (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) يعني وليستدلوا بهذه الآيات على وحدانية الله تعالى (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) يعني وليتعظ بهذا القرآن وما فيه من المواعظ ، أولو العقول والأفهام الصحيحة ، فإنه موعظة لمن اتعظ والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

٤٦

سورة الحجر

مكية بإجماعهم وهي تسع وتسعون آية وستمائة ، وأربع وخمسون كلمة وألفان وسبعمائة وستون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣))

قوله سبحانه وتعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) تلك إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والمراد بالكتاب وبالقرآن المبين : الكتاب الذي وعد به الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتنكير القرآن للتفخيم ، والتعظيم والمعنى تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتابا ، وفي كونه قرآنا وأي قرآن كأنه قيل : الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان وقيل : أراد بالكتاب التوراة والإنجيل ، لأن عطف القرآن على الكتاب والمعطوف غير المعطوف عليه وهذا القول ليس بالقوي ، لأنه لم يجر للتوراة والإنجيل ذكر حتى يشار إليهما. وقيل : المراد بالكتاب القرآن وإنما جمعهما بوصفين ، وإن كان الموصوف واحدا لما في ذلك من الفائدة وهي التفخيم والتعظيم ، والمبين الذي يبين الحلال من الحرام ، والحق من الباطل (رُبَما) قرئ بالتخفيف والتشديد وهما لغتان ورب للتقليل وكم للتكثير ، وإنما زيدت ما مع رب ليليها الفعل تقول رب رجل جاءني وربما جاءني زيد وإن شئت جعلت ما بمنزلة شيء كأنك قلت رب شيء فتكون المعنى رب شيء (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقيل : ما في ربما بمعنى حين أي رب حين يود يعني يتمنى الذين كفروا لأن التمني هو : تشهي حصول ما يوده ، واختلف المفسرون في الوقت الذي يتمنى الذين كفروا (لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) على قولين أحدهما : أن ذلك يكون عند معاينة العذاب وقت الموت فحينئذ يعلم الكافر أنه كان على الضلال ، فيتمنى لو كان مسلما ، وذلك حين لا ينفعه ذلك التمني. قال الضحاك : هو عند حالة المعاينة والقول الثاني : إن هذا التمني يكون في الآخرة ، وذلك حين يعاينون أهوال يوم القيامة وشدائده وما يصيرون عليه من العذاب ، فحينئذ يتمنى الذين كفروا لو كانوا مسلمين. وقال الزجاج : أن الكافر كلما رأى حالا من أحوال العذاب ورأى حالا من أحوال المسلم ولو كان مسلما وقيل إذا رأى الكافر أن الله تعالى يرحم المسلمين ، ويشفع بعضهم في بعض حين يقول : من كان من المسلمين فليدخل الجنة فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين والقول المشهور أن ذلك التمني حين يخرج الله المؤمنين من النار عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قال إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة : ألستم مسلمين؟ قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم وأنتم معنا في النار. قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فيغفرها الله لهم بفضل رحمته فيأمر الله بكل من كان من أهل القبلة في النار ، فيخرجون منها فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين» ذكره البغوي بغير سند ، وكذا ذكره ابن الجوزي وقال : وإليه ذهب ابن عباس في رواية عنه عن أنس بن مالك ومجاهد وعطاء وأبو العالية وإبراهيم يعني النخعي.

٤٧

فإن قلت : رب إنما وضعت للتقليل ، وتمني الذين كفروا لو كانوا مسلمين يكثر يوم القيامة فكيف قال : ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. قلت : قال صاحب الكشاف هو وارد على مذهب العرب في قولهم لعلك ستندم على فعلك ، وربما ندم الإنسان على فعله ، ولا يشكون في تندمه ولا يقصدون تقليله ، ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكا فيه أو كان قليلا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغمّ المظنون كما يتحرزون من المتيقن ومن القليل منه كما يتحرزون من الكثير وقال غيره إن هذا القليل أبلغ في التهديد ومعناه يكفيك قليل الندم في كونه زاجرا لك عن هذا الفعل. فكيف بكثيره؟ وقيل : إن شغلهم بالعذاب لا يقرعهم للندامة إنما يخطر ذلك ببالهم. فإن قلت : رب لا تدخل إلا على الماضي فكيف قال : ربما يود وهو في المستقبل قلت لأن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه كأنه قال : ربما ود. قوله سبحانه وتعالى (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) يعني دع يا محمد هؤلاء الكفار يأكلوا في دنياهم ويتمتعوا بلذاتها (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) يعني ويشغلهم طول الأمل عن الإيمان والأخذ بطاعة الله تعالى (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) يعني إذا وردوا القيامة ، وذاقوا وبال ما صنعوا وهذا فيه تهديد ووعيد لمن أخذ بحظه من الدنيا ، ولذاتها ولم يأخذ بحظه من طاعة الله عزوجل ، وقال بعض أهل العلم : ذرهم تهديد وفسوف يعلمون تهديد آخر فمتى يهنأ العيش بين تهديدين وهذه الآية منسوخة بآية القتال ، وفي الآية دليل على أن إيثار التلذذ ، والتنعم في الدنيا يؤدي إلى طول الأمل وليس ذلك من أخلاق المؤمنين. قال علي بن أبي طالب : إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمل واتباع الهوى فإن طول الأمل ، ينسي الآخرة ، واتباع الهوى يصد عن الحق.

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧))

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) يعني من أهل قرية وأراد إهلاك الاستئصال (إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أي أجل مضروب ، ووقت معين لا يتقدم العذاب عليه ، ولا يتأخر عنه ولا يأتيهم إلا في الوقت الذي حدد لهم في اللوح المحفوظ (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) من زائدة ، في قوله : من أمة كقولك ما جاءني من أحد. وقيل : هي على أصلها لأنها تفيد التبعيض إلى هذا الحكم فيكون ذلك في إفادة عموم النفي آكد ، ومعنى الآية أن الأجل المضروب لهم وهو وقت الموت ، أو نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر وهو قوله سبحانه وتعالى : (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) وإنما أدخل الهاء في أجلها لإرادة الأمة ، وإخراجها من قوله وما يستأخرون لإرادة الرجال. قوله عزوجل (وَقالُوا) يعني مشركي مكة (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) يعني القرآن وأرادوا به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) إنما نسبوه إلى الجنون لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يظهر عند نزول الوحي عليه ما يشبه الغشي ، فظنوا أن ذلك جنون فلهذا السبب نسبوه إلى الجنون ، وقيل : إن الرجل إذا سمع كلاما مستغربا من غيره فربما نسبه إلى الجنون ، ولما كانوا يستبعدون كونه رسولا من عند الله ، وأتى بهذا القرآن العظيم أنكروه ونسبوه إلى الجنون ، وإنما قالوا : يا

٤٨

أيها الذي نزل عليه الذكر على طريق الاستهزاء وقيل : معناه يا أيها الذي نزل عليه الذكر في زعمه ، واعتقاده واعتقاد أصحابه وأتباعه إنك لمجنون في ادعائك الرسالة (لَوْ ما) قال الزجاج والفراء : لو ما ولو لا لغتان ومعناهما هلا يعني هلا (تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) يعني يشهدون لك بأنك رسول من عند الله حقا (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) يعني في قولك وادعائك الرسالة (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) يعني بالعذاب أو وقت الموت ، وهو قوله تعالى (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) يعني لو نزلت الملائكة إليهم لم يمهلوا ولم يؤخروا ساعة واحدة وذلك أن كفار مكة كانوا يطلبون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنزال الملائكة عيانا فأجابهم الله عزوجل بهذا ، والمعنى لو نزلوا عيانا لزال عن الكفار الإمهال وعذبوا في الحال إن لم يؤمنوا ويصدقوا (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) يعني القرآن أنزلناه عليك يا محمد ، وإنما قال سبحانه وتعالى : إنا نحن نزلنا الذكر جوابا لقولهم : يا أيها الذي نزل عليه الذكر فأخبر الله عزوجل أنه هو الذي نزل الذكر على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الضمير في له يرجع إلى الذكر يعني ، وإنا للذكر الذي أنزلناه على محمد لحافظون يعني من الزيادة فيه ، والنقص منه والتغيير والتبديل والتحريف ، فالقرآن العظيم محفوط من هذه الأشياء كلها لا يقدر أحد من جميع الخلق من الجن والإنس أن يزيد فيه ، أو ينقص منه حرفا واحدا أو كلمة واحدة ، وهذا مختص بالقرآن العظيم بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل على بعضها التحريف ، والتبديل والزيادة والنقصان ولما تولى الله عزوجل حفظ هذا الكتاب بقي مصونا على الأبد محروسا من الزيادة والنقصان ، وقال ابن السائب ومقاتل : الكناية في له راجعة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني وإنا لمحمد لحافظون ممن أراده بسوء فهو كقوله تعالى «والله يعصمك من الناس» ووجه هذا القول أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الإنزال ، والمنزل دل ذلك على المنزل عليه وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحسن صرف الكناية إليه لكونه أمرا معلوما إلا أن القول الأول أصح ، وأشهر ، وهو قول الأكثرين لأنه أشبه بظاهر التنزيل ورد الكناية إلى أقرب مذكور أولى ، وهو الذكر وإذا قلنا : إن الكناية عائدة إلى القرآن ، وهو الأصح فاختلفوا في كيفية حفظ الله عزوجل للقرآن فقال بعضهم : حفظه بأن جعله معجزا باقيا مباينا لكلام البشر فعجز الخلق عن الزيادة فيه ، والنقصان منه لأنهم لو أرادوا الزيادة فيه والنقصان منه لتغيير نظمه ، وظهر ذلك لكل عالم عاقل وعلموا ضرورة أن ذلك ليس بقرآن ، وقال آخرون : إن الله حفظه وصانه من المعارضة فلم يقدر أحد من الخلق أن يعارضه. وقال آخرون : بل أعجز الله الخلق عن إبطاله وإفساده بوجه من الوجوه فقيض الله له العلماء الراسخين يحفظونه ، ويذبون عنه إلى آخر الدهر لأن دواعي جماعة من الملاحدة واليهود متوفرة على إبطاله وإفساده فلم يقدروا على ذلك بحمد الله تعالى قوله سبحانه وتعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) لما تجرأ كفار مكة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخاطبوه بالسفاهة وهو قولهم : إنك لمجنون وأساؤوا الأدب عليه أخبر الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عادة الكفار في قديم الزمان مع أنبيائهم ، كذلك فلك يا محمد أسوة في الصبر على أذى قومك بجميع الأنبياء ففيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الآية محذوف تقديره ولقد أرسلنا رسلا من قبلك يا محمد ، فحذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه ، وقوله تعالى في شيع الأولين : الشيعة هم القوم المجتمعة المتفقة كلمتهم وقال الفراء : الشيعة هم الأتباع وشيعة الرجل أتباعه. وقيل : الشيعة من يتقوى بهم الإنسان. وقوله في شيع الأولين من باب إضافة الصفة إلى الموصوف (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) السلوك النفاذ في الطريق ، والدخول فيه والسلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط ، ومعنى الآية كما سلكنا الكفر والتكذيب والاستهزاء في قلوب شيع الأولين ، كذلك نسلكه أي ندخله في قلوب المجرمين يعني مشركي مكة ، وفيه رد على القدرية والمعتزلة وهي أبين آية في ثبوت القدر لمن أذعن للحق ، ولم يعاند قال الواحدي قال أصحابنا : أضاف الله سبحانه وتعالى إلى نفسه إدخال الكفر في قلوب الكفار ، وحسن ذلك منه فمن آمن بالقرآن فليستحسنه ، وقال الإمام فخر الدين الرازي : احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل ، والضلال في

٤٩

قلوب الكفار فقالوا قوله : كذلك نسلكه أي كذلك نسلك الباطل ، والضلال في قلوب المجرمين وقالت المعتزلة لم يجر للضلال ، والكفر ذكر فيما قيل هذا اللفظ فلا يمكن أن يكون الضمير عائد إليه ، وأجيب عنه بأنه سبحانه وتعالى قال : ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون فالضمير في قوله كذلك نسلكه عائد إليه ، والاستهزاء بالأنبياء كفر وضلال فثبت صحة قولنا : إن المراد من قوله كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ، أنه الكفر والضلال. قوله تعالى (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل بالقرآن (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) فيه وعيد وتهديد لكفار مكة ، يخوفهم أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم الماضية المكذبة للرسل ، والمعنى وقد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل من الأمم الماضية فاحذروا يا أهل مكة أن يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) يعني ولو فتحنا على هؤلاء الذين قالوا : لو ما تأتينا بالملائكة بابا من السماء فظلوا. يقال : ظل فلان يفعل كذا إذا فعله بالنهار ، كما يقل بات يفعل كذا إذا فعله بالليل فيه يعني في ذلك الباب يعرجون يعني يصعدون ، والمعارج المصاعد وفي المشار إليه بقوله : فظلوا به يعرجون قولان : أحدهما أنهم الملائكة وهو قول ابن عباس والضحاك ، والمعنى : لو كشف عن أبصار هؤلاء الكفار فرأوا بابا من السماء مفتوحا والملائكة تصعد فيه لما آمنوا. والقول الثاني : أنهم المشركون وهو قول الحسن وقتادة والمعنى : فظل المشركون يصعدون في ذلك الباب فينظرون في ملكوت السموات ، وما فيها من الملائكة لما آمنوا لعنادهم وكفرهم ، ولقالوا إنا سحرنا وهو قوله تعالى : (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) قال ابن عباس : سدت أبصارنا مأخوذ من سكر النهر إذا حبس ، ومنع من الجري وقيل : هو من سكر الشراب والمعنى أن أبصارهم حارت ، ووقع بها من فساد النظر مثل ما يقع للرجل السكران من تغيير العقل ، وفساد النظر وقيل سكرت يعني غشيت أبصارنا وسكنت عن النظر ، وأصله من السكور يقال سكرت عينه إذا تحيرت ، وسكنت عن النظر (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) يعني سحرنا محمد ، وعمل فينا سحره. وحاصل الآية أن الكفار لما طلبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن ينزل عليهم الملائكة فيروهم عيانا ، ويشهدوا بصدقه أخبر الله سبحانه وتعالى أنه لو حصل لهم هذا وشاهدوه عيانا لما أمنوا ولقالوا سحرنا لما سبق لهم في الأزل من الشقاوة. قوله سبحانه وتعالى (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) يعني البروج التي تنزلها الشمس في مسيرها واحدها برج ، وهي بروج الفلك الاثنا عشر برجا وهي : الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت. وهذه البروج مقسومة على ثمانية وعشرين منزلا لكل برج منزلان وثلث منزل ، وقد تقدم ذكر منازل القمر في تفسير سورة يونس ، وهذه البروج مقسومة على ثلاثمائة وستين درجة لكل برج منها ثلاثون درجة تقطعها الشمس في كل سنة مرة ، وبها تتم دورة الفلك ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يوما ، قال ابن عباس في هذه الآية يريد بروج الشمس والقمر ، يعني منازلهما وقال ابن عطية : هي قصور في السماء عليها الحرس. وقال الحسن ومجاهد وقتادة : هي النجوم العظام. قال أبو إسحاق يريدون نجوم هذه البروج ، وهي نجوم على ما صورت به. وسميت وأصل هذا كله من الظهور (وَزَيَّنَّاها) يعني السماء بالشمس والقمر والنجوم (لِلنَّاظِرِينَ) يعني المعتبرين المستدلين بها على وحيد خالقها ، وصانعها وهو الله الذي أوجد كل شيء وخلقه وصوره (وَحَفِظْناها) يعني السماء (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي مرجوم فعيل بمعنى مفعول ، وقيل : ملعون مطرود من رحمة الله. قال ابن عباس : كانت الشياطين لا يحجبون عن السموات وكانوا يدخلونها ، ويأتون بأخبارها إلى الكهنة فيلقونها إليهم ، فلما ولد عيسى عليه‌السلام منعوا من ثلاث سموات فلما ولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منعوا من السموات أجمع فما منهم من أحد يريد أن يسترق السمع إلا رمي بشهاب فلما منعوا من تلك المقاعد ذكروا ذلك لإبليس فقال : لقد حدث في الأرض حدث فبعثهم ينظرون فوجدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو القرآن فقالوا : هذا والله حدث.

(إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ

٥٠

شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢))

(إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) هذا استثناء منقطع ، معناه لكن من استرق السمع (فَأَتْبَعَهُ) أي لحقه (شِهابٌ مُبِينٌ) والشهاب شعلة من نار ساطع سمي الكوكب شهابا لأجل ما فيه من البريق شبه بشهاب النار ، قال ابن عباس في قوله إلا من استرق السمع : يريد الخطفة اليسيرة ، وذلك أن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء يسترقون السمع من الملائكة فيرمون بالكواكب ، فلا تخطئ أبدا فمنهم من تقتله ، ومنهم من تحرق وجهه أو جنبه أو يده ، أو حيث يشاء الله ومنهم من تخبله فيصير غولا يضل الناس في البوادي (خ) عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا : الذي قال الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض ، ووصف سفيان بكفه فحذفها ، وبدد أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب ، قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة ، فيقال له : أليس قال لنا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء».

اختلف العلماء هل كانت الشياطين ترمى بالنجوم قبل مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم لا على قولين : أحدهما أنها لم تكن ترمى بالنجوم ، قبل مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما ظهر ذلك في بدء أمره فكان ذلك أساسا لنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدل على صحة هذا القول ما روي عن ابن عباس قال : انطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين ، وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب. أخرجاه في الصحيحين. فظاهر هذا الحديث يدل على أن هذا الرمي بالشهب لم يكن قبل مبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما بعث حدث هذا الرمي. ويعضده ما روي أن يعقوب بن المغيرة بن الأخنس بن شريق قال : أول من فزع للرمي بالنجوم هذا الحي من ثقيف ، وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له : عمرو بن أمية أحد بني علاج وكان أهدى العرب فقالوا له : ألم تر ما حدث في السماء من القذف بالنجوم؟ فقال : بلى. ولكن انظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر ويعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء ، لما يصلح الناس من معايشهم هي التي يرمى بها فهو والله طي الدنيا وهلاك الخلق الذين فيها وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا الأمر أراده الله من الخلق قال الزجاج : ويدل على أنها كانت بعد مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن شعراء العرب الذين ذكروا البرق ، والأشياء المسرعة لم يوجد في شعرهم ذكر الكواكب المنقضة فما حدثت بعد مولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استعملت الشعراء ذكرها قال ذو الرمة :

كأنه كوكب في أثر عفرية

مسوم في سواد الليل منقضب

والقول الثاني : إن ذلك كان موجودا قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن لما بعث شدد وغلظ عليهم. قال معمر : قلت للزهري أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال : نعم. قلت : أفرأيت قوله وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فقال : غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدل على صحة هذا القول ما روي عن ابن عباس قال أخبرني رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأنصار أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ رمى بنجم واستنار فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا ، قالوا كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم أو مات رجل عظيم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإنها لا يرمى بها لموت أحد ، ولا لحياته ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح إلى أهل هذه السماء ، ثم قال : الذين

٥١

يلون حملة العرش لحملة العرش ، ماذا قال ربكم فيخبرونهم بما قال ، فيستخبر بعض أهل السماء بعضا حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا ، فتخطف الجن السمع فيقذفونه إلى أوليائهم ، ويرمون فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يقذفون فيه ويزيدون» أخرجه مسلم وقال ابن قتيبة : أن الرجم كان قبل مبعثه ، ولكن لم يكن في شدة الحراسة مثل بعد مبعثه ، قال وعلى هذا وجدنا الشعر القديم قال بشر بن أبي حازم وهو جاهلي :

فالعير يرهقها الغبار وجحشها

ينقض خلفهما انقضاض الكوكب

وقال أوس بن حجر وهو جاهلي :

فانقض كالدر يتبعه

نقع يثور تخاله طنبا

والجمع بين هذين القولين : أن الرمي بالنجوم كان موجودا قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما بعث شدد ذلك وزيد في حفظ السماء وحراستها صونا لأخبار الغيوب والله أعلم. قوله سبحانه وتعالى : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) يعني بسطناها على وجه الماء كما يقال : إنها دحيت من تحت الكعبة ثم بسطت هذا قول أهل التفسير ، وزعم أرباب الهيئة أنها كرة عظيمة بعضها في الماء ، وبعضها خارج عن الماء ، وهو الجزء المغمور منها واعتذروا عن قوله تعالى : والأرض مددناها بأن الكرة إذا كانت عظيمة كان كل جزء منها ، كالسطح العظيم فثبت بهذا الأمر أن الأرض ممدودة مبسوطة وأنها كرة ، ورد هذا أصحاب التفسير بأن الله أخبر في كتابه بأنها ممدودة ، وأنها مبسوطة ولو كانت كرة لأخبر بذلك والله أعلم بمراده ، وكيف مد الأرض (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) يعني جبالا ثوابت وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما خلق الأرض على الماء مادت ورجفت فأثبتها بالجبال (وَأَنْبَتْنا فِيها) أي في الأرض ، لأن أنواع النبات المنتفع به تكون في الأرض ، وقيل : الضمير يرجع إلى الجبال لأنها أقرب مذكور لقوله تعالى (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) وإنما يوزن ما تولد في الجبال من المعادن ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : موزون أي معلوم ، وقال مجاهد وعكرمة أي مقدور فعلى هذا يكون المعنى معلوم القدر عند الله تعالى لأن الله سبحانه وتعالى يعلم القدر الذي يحتاج إليه الناس في معايشهم وأرزاقهم فيكون إطلاق الوزن عليه مجازا ، لأن الناس لا يعرفون مقادير الأشياء إلا بالوزن ، وقال الحسن وعكرمة وابن زيد : أنه عنى به الشيء الموزون كالذهب والفضة والرصاص والحديد والكحل ونحو ذلك مما يستخرج من المعادن ، لأن هذه الأشياء كلها توزن وقيل : معنى موزون متناسب في الحسن والهيئة والشكل ، تقول العرب فلان موزون الحركات إذا كانت حركاته متناسبة حسنة ، وكلام موزون إذا كان متناسبا حسنا بعيدا من الخطأ والسخف وقيل إن جميع ما ينبت في الأرض والجبال نوعان : أحدهما ما يستخرج من المعادن وجميع ذلك موزون. والثاني النبات وبعضه موزون أيضا : وبعضه مكيل وهو يرجع إلى الوزن لأن الصاع والمدّ مقدران بالوزن (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) جمع معيشة. وهو ما يعيش به الإنسان مدة حياته في الدنيا من المطاعم والمشارب والملابس ونحو ذلك (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) يعني الدواب والوحش والطير أنتم منتفعون بها ، ولستم لها برازقين لأن رزق جميع الخلق على الله ومنه قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) وتكون من في قوله تعالى : ومن لستم بمعنى ما لأن من لمن يعقل وما لمن لا يعقل ، وقيل : يجوز إطلاق لفظة من على من لا يعقل كقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) وقيل أراد بهم العبيد والخدم فتكون من على أصلها ، ويدخل معهم ما لا يعقل من الدواب والوحش (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) الخزائن جمع خزانة هي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء للحفظ يقال : خزن الشيء إذا أحرزه.

فقيل أراد مفاتيح الخزائن وقيل : أراد بالخزائن المطر لأنه سبب الأرزاق والمعايش لبني آدم والدواب والوحش والطير ومعنى عندنا أنه في حكمه وتصرفه وأمره وتدبيره قوله تعالى : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) يعني بقدر الكفاية. وقيل : إن لكل أرض حدا ومقدار من المطر. يقال : لا تنزل من السماء قطرة مطر إلا ومعها ملك

٥٢

يسوقها إلى حيث يشاء الله تعالى. وقيل : إن المطر ينزل من السماء كل عام بقدر واحد لا يزيد ولا ينقص ولكن الله يمطر قوما ، ويحرم آخرين وقيل : إذا أراد الله بقوم خيرا أنزل عليهم المطر والرحمة وإذا أراد بقوم شرا صرف المطر عنهم إلى حيث لا ينتفع به ، كالبراري والقفار والرمال والبحار ونحو ذلك. وحكى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده أنه قال في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البر والبحر. وهو تأويل قوله وإن من شيء إلا عندنا خزائنه (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) قال ابن عباس يعني للشجر ، وهو قول الحسن وقتادة وأصل هذا من قولهم : لقحت الناقة وألقحها الفحل إذا ألقى إليها الماء ، فحملته فكذلك الرياح كالفحل للسحاب وقال ابن مسعود في تفسير هذه الآية : يرسل الله الرياح لتلقح السحاب فتحمل الماء فتمجه في السحاب ثم تمر به فتدر كما تدر اللقحة ، وقال عبيد بن عمير : يرسل الله الريح المبشرة فتقم الأرض قما ، ثم يرسل المثيرة فتثير السحاب ، ثم يرسل المؤلفة فتؤلف السحاب بعضه إلى بعض فتجعله ركاما ، ثم يرسل اللواقح فتلقح الشجر والأظهر في هذه الآية إلقاحها السحاب لقوله بعده فأنزلنا من السماء ماء قال أبو بكر بن عياش : لا تقطر قطرة من السماء إلا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيها فالصبا تهيج السحاب ، والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه. وقال أبو عبيد : لواقح هنا بمعنى ملاقح جمع ملقحة حذفت الميم وردت إلى الأصل. وقال الزجاج : يجوز أن يقال لها لواقح وإن ألقحت غيرها ، لأن معناها النسبة كما يقال : درهم وازن أي ذو وزن واعترض الواحدي على هذا.

فقال هذا ليس بمغن لأنه كان يجب أن يصح اللاقح بمعنى ذات لقح حتى يوافق قول المفسرين ، وأجاب الرازي عنه بأن قال : هذا ليس بشيء. لأن اللاقح هو المنسوب إلى اللقحة ، ومن أفاد غير اللقحة فله نسبة إلى اللقحة وقال صاحب المفردات لواقح أي ذات لقاح وقيل إن الريح في نفسها لاقح لأنها حاملة للسحاب والدليل عليه قوله تعالى (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً) ثقالا ، أي حملت فعلى هذا تكون الريح لاقحة بمعنى حاملة تحمل السحاب. وقال الزجاج : ويجوز أن يقال للريح لقحت إذا أتت بالخير كما قيل لها عقيم إذا لم تأت بخير ، وورد في بعض الأخبار أن الملقح الرياح الجنوب ، وفي بعض الآثار ما هبت رياح الجنوب إلا واتبعت عينا غدقة (ق) عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا عصفت الريح قال : «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها ، وشر ما فيها وشر ما أرسلت به» وروى البغوي بسنده إلى الشافعي إلى ابن عباس قال : ما هبت ريح قط إلا جثا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ركبتيه ، وقال : «اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» قال ابن عباس في كتاب الله عزوجل (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) وقال : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) وقال (يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) وقوله سبحانه وتعالى (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) يعني المطر (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) يعني جعلنا لكم المطر سقيا يقال أسقى فلان فلانا إذا جعل له سقيا ، وسقاه إذا أعطاه ما يشرب ، وتقول العرب : سقيت الرجل ماء ، ولبنا إذا كان لسقيه فإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته يقال : أسقيناه (وَما أَنْتُمْ لَهُ) يعني للمطر (بِخازِنِينَ) يعني : إن المطر في خزائننا لا في خزائنكم. وقيل : وما أنتم له بمانعين.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠))

(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) يعني بيدنا إحياء الخلق وإماتتهم لا يقدر على ذلك أحد إلا الله سبحانه

٥٣

وتعالى ، لأن قوله تعالى : وإنا لنحن يفيد الحصر يعني لا يقدر على ذلك سوانا (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) وذلك بأن نميت جميع الخلق ، فلا يبقى أحد سوانا فيزول ملك كل مالك ويبقى جميع ملك المالكين لنا والوارث هو الباقي بعد ذهاب غيره والله سبحانه وتعالى هو الباقي بعد ذهاب غيره والله سبحانه وتعالى هو الباقي بعد فناء خلقه الذين أمتعهم بما آتاهم في الحياة الدنيا لأن وجود الخلق. وما آتاهم كان ابتداؤه منه تعالى فإذا فني جميع الخلائق رجع الذي كانوا يملكونه في الدنيا على المجاز إلى مالكه على الحقيقة ، وهو الله تعالى. وقيل مصير الخلق إليه.

قوله عزوجل (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) عن ابن عباس قال : كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحسن الناس فكان بعض الناس يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها. ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر ، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله عزوجل ولقد علمنا المستقدمين منكم ، ولقد علمنا المستأخرين أخرجه النسائي وأخرجه الترمذي وقال فيه وقد روي عن ابن الجوزي نحوه. ولم يذكر فيه عن ابن عباس وهذا أشبه أن يكون أصح قال البغوي وذلك أن النساء كن يخرجن إلى الجماعة فيقفن خلف الرجال فربما كان من الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى آخر صف الرجال ، ومن النساء من في قلبها ريبة فتتقدم إلى أول صف النساء لتقرب من الرجال فنزلت هذه الآية فعند ذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها ، وخير صفوف النساء آخرها. وشرها أولها» أخرجه مسلم عن أبي هريرة. وقال ابن عباس : أراد بالمستقدمين من خلق الله وبالمستأخرين من لم يخلق الله تعالى بعد. وقال مجاهد : المستقدمون القرون الأولى والمستأخرون أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الحسن : المستقدمون يعني في الطاعة والخير والمستأخرون يعني فيهما. وقال الأوزاعي : أراد بالمستقدمين المصلين في أول الوقت وبالمستأخرين المؤخرين لها إلى آخره. وقال مقاتل : أراد بالمستقدمين وبالمستأخرين في صف القتال. وقال ابن عيينة : أراد من يسلم أولا ومن يسلم آخرا.

وقال ابن عباس في رواية أخرى عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرض على الصف الأول فازدحموا عليه ، وقال قوم كانت بيوتهم قاصة عن المسجد : لنبيعن دورنا ونشتري دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم. فنزلت هذه الآية ، ومعناها إنما تجزون على النيات فاطمأنوا وسكنوا فيكون معنى الآية على القول الأول المستقدم للتقوى والمستأخر للنظر ، وعلى القول الأخير المستقدم لطلب الفضيلة والمستأخر للعذر ، ومعنى الآية أن علمه سبحانه وتعالى محيط بجميع خلقه مقدمهم ومتأخرهم طائعهم وعاصيهم ، لا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) يعني على ما علم منهم ، وقيل : إن الله سبحانه وتعالى يميت الكل ثم يحشرهم الأولين والآخرين على ما ماتوا عليه (م) عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يبعث كل عبد على ما مات عليه» قوله سبحانه وتعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني آدم عليه‌السلام في قول جميع المفسرين سمي إنسانا لظهوره وإدراك البصر إياه ، وقيل من النسيان لأنه عهد إليه فنسي من (صَلْصالٍ) يعني من اليابس ، إذا نقرته سمعت له صلصلة يعني صوتا ، وقال ابن عباس : هو الطين الحر الطيب الذي إذا نضب عنه الماء تشقق فإذا حرك تقعقع. وقال مجاهد : هو الطين المنتن. واختاره الكسائي وقال : هو من صل اللحم إذا أنتن (مِنْ حَمَإٍ) يعني من الطين الأسود (مَسْنُونٍ) أي متغير قال مجاهد وقتادة : هو المنتن المتغير. وقال أبو عبيدة : هو المصبوب.

تقول العرب : سننت الماء إذا أصببته قال ابن عباس : هو التراب المبتل المنتن جعل صلصالا كالفخار ، والجمع بين هذه الأقاويل على ما ذكره بعضهم أن الله سبحانه وتعالى لما أراد خلق آدم عليه‌السلام ، قبض قبضة من تراب الأرض فبلها بالماء حتى اسودت وأنتن ريحها ، وتغيرت وإليه الإشارة بقوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) ثم إن ذلك التراب بله بالماء وخمره حتى اسودت ، وأنتن ريحه وتغير وإليه الإشارة بقوله : من حمأ مسنون ثم ذلك الطين الأسود المتغير صوره صورة إنسان أجوف ، فلما جف ويبس كانت تدخل فيه الريح فتسمع له صلصلة يعني صوتا ، وإليه الإشارة بقوله من صلصال كالفخار وهو الطين اليابس ، إذا تفخّر في الشمس

٥٤

ثم نفخ فيه الروح فكان بشرا سويا قوله تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) يعني من قبل آدم عليه‌السلام. قال ابن عباس : الجان أبو الجن كما أن آدم أبو البشر. وقال قتادة : هو إبليس. وقيل : الجان أبو الجن وإبليس أبو الشياطين ، وفي الجن مسلمون وكافرون يأكلون ويشربون ويحيون ويموتون كبني آدم. وأما الشياطين فليس فيهم مسلمون ولا يموتون إلا إذا مات إبليس. وقال وهب : إن من الجن من يولد له ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين ، ومن الجن من هو بمنزلة الريح لا يتوالدون ، ولا يأكلون ولا يشربون وهم الشياطين والأصح أن الشياطين نوع من الجن لاشتراكهم في الاستتار ، سموا جنا لتواريهم واستتارهم عن الأعين من قولهم : جن الليل إذا ستر والشيطان هو العاتي المتمرد الكافر ، والجن منهم المؤمن ومنهم الكافر (مِنْ نارِ السَّمُومِ) يعني من ريح حارة تدخل مسام الإنسان من لطفها ، وقوة حرارتها فتقتله. ويقال للريح الحارة التي تكون بالنهار : السموم. وللريح الحارة التي تكون بالليل : الحرور ، وقال أبو صالح : السموم نار لا دخان لها والصواعق تكون منها ، وهي نار بين السماء والحجاب ، فإذا حدث أمر خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت به فالهدة التي تسمعون من خرق ذلك الحجاب وهذا على قول أصحاب الهيئة أن الكرة الرابعة تسمى كرة النار ، وقيل : من نار السموم يعني من نار جهنم. وقال ابن مسعود : هذه السموم جزء من سبعين جزء من السموم التي خلق منها الجان ، وتلا هذه الآية. وقال ابن عباس : كان إبليس من حي من الملائكة يسمون الجان خلقوا من نار السموم ، وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وخلقت الملائكة من النور. قوله عزوجل (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) أي واذكر يا محمد : إذ قال ربك للملائكة (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً) سمي الآدمي بشرا ، لأنه جسم كثيف ظاهر البشرة ظاهر الجلد (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) تقدم تفسيره (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) يعني عدلت صورته ، وأتممت خلقه (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) النفخ عبارة عن إجراء الريح في تجاويف جسم آخر ، ومنه نفخ الروح في النشأة الأولى ، وهو المراد من قوله : ونفخت فيه من روحي وأضاف الله عزوجل روح آدم إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم لها كما يقال بيت الله وناقة الله وعبد الله وسيأتي الكلام على الروح في تفسير سورة الإسراء عند قوله : «ويسألونك عن الروح» إن شاء الله تعالى (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) الخطاب للملائكة ، الذين قال الله لهم : إني خالق بشرا أمرهم بالسجود لآدم بقوله فقعوا له ساجدين. وكان هذا السجود تحية لا سجود عبادة (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ) يعني الذين أمروا بالسجود لآدم (أَجْمَعُونَ) قال سيبويه : هذا توكيد بعد توكيد ، وسئل المبرد عن هذه الآية فقال : لو قال فسجد الملائكة لاحتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال كلهم لزم إزالة ذلك الاحتمال فظهر بهذا أنهم سجدوا بأسرهم ثم عند هذا بقي احتمال آخر ، وهو أنهم سجدوا في أوقات متفرقة ، أو في دعة واحدة فلما قال : أجمعون ظهر أن الكل سجدوا دفعة واحدة ، ولما حكى الزجاج هذا القول عن المبرد قال : قول الخليل وسيبويه أجود لأن أجمعين معرفة فلا تكون حالا. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله سبحانه وتعالى أمر جماعة من الملائكة ، بالسجود لآدم فلم يفعلوا فأرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم. ثم قال لجماعة أخرى : اسجدوا لآدم فسجدوا.

(إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١))

٥٥

(إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) يعني مع الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم فسجدوا (قالَ) يعني قال الله (يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ) يعني إبليس (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أراد إبليس أنه أفضل من آدم لأن آدم طيني الأصل وإبليس ناري الأصل. والنار أفضل من الطين فيكون إبليس في قياسه أفضل من آدم ، ولم يدر الخبيث أن الفضل فيما فضله الله تعالى (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) يعني من الجنة وقيل من السماء (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي طريد (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) قيل : إن أهل السموات يلعنون إبليس كما يلعنه أهل الأرض ، فهو ملعون في السموات والأرض فإن قلت : إن حرف إلى لانتهاء الغاية فهل ينقطع اللعن عنه يوم الدين الذي هو يوم القيامة؟ قلت : لا بل يزداد عذابا إلى اللعنة التي عليه كأنه قال تعالى ، وإن عليك اللعنة فقط إلى يوم الدين. ثم تزداد معها بعد ذلك عذابا دائما مستمرا لا انقطاع له (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) يعني أخّرني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) يعني يوم القيامة وأراد بهذا السؤال أنه لا يموت أبدا لأنه إذا أمهل إلى يوم القيامة ، ويوم القيامة لا يموت فيه أحد لزم من ذلك أنه لا يموت أبدا ، فلهذا السبب سأل الإنظار إلى يوم يبعثون ، فأجابه الله سبحانه وتعالى بقوله : (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) يعني الوقت الذي يموت فيه جميع الخلائق وهو النفخة الأولى فيقال : إن مدة موت إبليس أربعون سنة ، وهو ما بين النفختين ، ولم تكن إجابة الله تعالى إياه في الإمهال إكراما له بل كان ذلك الإمهال زيادة له في بلائه وشقائه وعذابه. وإنما سمي يوم القيامة بيوم الوقت المعلوم ، لأن ذلك اليوم لا يعلمه أحد إلا الله تعالى فهو معلوم عنده وقيل : إن جميع الخلائق يموتون فيه فهو معلوم بهذا الاعتبار وقيل لما سأل إبليس الإنظار إلى يوم يبعثون ، أجابه الله بقوله : فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم يعني اليوم الذي عينت وسألت الإنظار إليه (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) الباء للقسم في قوله بما وما ومصدرية ، وجواب القسم (لَأُزَيِّنَنَ) والمعنى فبإغوائك إياي لأزينن لهم في الأرض ، وقيل هي باء السبب. يعني بسبب كوني غاويا لأزينن (لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) يعني لأزينن لهم حب الدنيا ومعاصيك (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) يعني بإلقاء الوسوسة في قلوبهم ، وذلك أن إبليس لما علم أنه يموت على الكفر غير مغفور له حرص على إضلال الخلق بالكفر ، وإغوائهم ثم استثنى فقال (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) يعني المؤمنين الذين أخلصوا لك التوحيد والطاعة والعبادة ، ومن فتح اللام من المخلصين يكون المعنى إلا من أخلصته واصطفيته لتوحيدك وعبادتك. وإنما استثنى إبليس المخلصين ، لأنه علم أن كيده ووسوسته لا تعمل فيهم ، ولا يقبلون منه وحقيقة الإخلاص فعل الشيء خالصا لله عن شائبة الغير فكل من أتى بعمل من أعمال الطاعات فلا يخلو ، إما أن مراده بتلك الطاعات وجه الله فقط ، أو غير الله أو مجموع الأمرين. أما ما كان لله تعالى فهو الخالص المقبول ، وأما ما كان لغير الله فهو الباطل المردود ، وأما من كان مراده مجموع الأمرين فإن ترجح جانب الله تعالى كان من المخلصين الناجحين ، وإن ترجح الجانب الآخر كان من الهالكين لأن المثل يقابله المثل فيبقى القدر الزائد ، وإلى أي الجانبين رجح أخذ به (قالَ) يعني قال الله تبارك وتعالى (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) قال الحسن معناه هذا صراط إلي مستقيم. وقال مجاهد : الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لا يعرج إلى شيء. وقال الأخفش : معناه على الدلالة على الصراط المستقيم. وقال الكسائي : هذا على طريق التهديد والوعيد كما يقول الرجل لمن يخاصمه : طريقك علي ، أي لا تنفلت مني. وقيل : معناه علي استقامته بالبيان والبرهان والتوفيق والهداية. وقيل : هذا عائد إلى الإخلاص والمعنى أن الإخلاص طريق علي وإلي يؤدي إلى كرامتي ورضواني.

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥))

٥٦

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي قوة وقدرة وذلك أن إبليس لما قال : لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ، أوهم بهذا الكلام أن له سلطانا على غير المخلصين فبين الله سبحانه وتعالى ، أنه ليس له سلطان على أحد من عبيده سواء كان من المخلصين ، أو لم يكن من المخلصين. قال أهل المعاني : ليس لك عليهم سلطان على قلوبهم ، وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية فقال : معناه ليس لك عليهم سلطان أن تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي ، وهؤلاء خاصته أي الذين هداهم ، واجتباهم من عباده (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) يعني إلا من اتبع إبليس من الغاوين ، فإن له عليهم سلطانا بسبب كونهم منقادين له فيما يأمرهم به (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) يعني موعد إبليس وأتباعه وأشياعه (لَها) يعني لجهنم (سَبْعَةُ أَبْوابٍ) يعني سبع طبقات. قال علي بن أبي طالب : تدرون كيف أبواب جهنم هكذا ووضع إحدى يديه على الأخرى أي سبعة أبواب بعضها فوق بعض. قال ابن جريج : النار سبع دركات أولها جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) يعني لكل دركة قوم يسكنونها والجزء بعض الشيء ، وجزأته جعلته أجزاء ، والمعنى أن الله سبحانه وتعالى يجزئ أتباع إبليس سبعة أجزاء فيدخل كل قسم منهم في النار دركة من النار والسبب فيه أن مراتب الكفر مختلفة فلذلك اختلفت مراتبهم في النار. قال الضحاك : في الدركة الأولى أهل التوحيد الذين أدخلوا النار يعذبون فيها بقدر ذنوبهم ثم يخرجون منها ، وفي الثانية النصارى ، وفي الثالثة اليهود ، وفي الرابعة الصابئون ، وفي الخامسة المجوس ، وفي السادسة أهل الشرك ، وفي السابعة المنافقون فذلك ، قوله سبحانه وتعالى «إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار» عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمتي أو قال على أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أخرجه الترمذي. وقال : حديث غريب قوله سبحانه وتعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) المراد بالمتقين الذين اتقوا الشرك في قول جمهور المفسرين وقيل : هم الذين اتقوا الشرك والمعاصي والجنات والبساتين والعيون والأنهار الجارية في الجنات ، وقيل : يحتمل أن تكون هذه العيون غير الأنهار الكبار التي في الجنة ، وعلى هذا فهل يختص كل واحد من أهل الجنة بعيون أو تجري هذه العيون من بعضهم إلى بعض؟ وكلا الأمرين محتمل فيحتمل أن كل واحد من أهل الجنة يختص بعيون تجري في جناته ، وقصوره ودوره فينتفع بها هو ومن يختص به من حوره وولدانه ، ويحتمل أنها تجري من جنات بعضهم إلى جنات بعض لأنهم قد طهروا من الحسد والحقد.

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠))

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠))

(ادْخُلُوها) أي يقال لهم : ادخلوها والقائل هو الله تعالى أو بعض ملائكته (بِسَلامٍ آمِنِينَ) يعني ادخلوا الجنة مع السلامة والأمن من الموت ومن جميع الآفات (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) الغل الحقد الكامن في القلب. ويطلق على الشحناء والعداوة والبغضاء والحقد والحسد ، وكل هذه الخصال المذمومة داخلة في

٥٧

الغل لأنها كامنة في القلب يروى أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص بعضهم من بعض ثم يؤمر بهم إلى الجنة ، وقد نقيت قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد (إِخْواناً) يعني في المحبة والمودة والمخالطة ، وليس المراد منه إخوة النسب (عَلى سُرُرٍ) جمع سرير. قال بعض أهل المعاني : السرير مجلس رفيع عال مهيأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور. وقال ابن عباس : على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت والسرير مثل صنعاء إلى الجابية (مُتَقابِلِينَ) يعني يقابل بعضهم بعضا لا ينظر أحد منهم في قفا صاحبه ، وفي بعض الأخبار أن المؤمن في الجنة إذا أراد أن يلقى أخاه المؤمن سار سرير كل واحد منهما إلى صاحبه فيلتقيان ويتحدثان (لا يَمَسُّهُمْ فِيها) يعني في الجنة (نَصَبٌ) أي تعب ولا إعياء (وَما هُمْ مِنْها) يعني من الجنة (بِمُخْرَجِينَ) هذا نص من الله في كتابه على خلود أهل الجنة في الجنة ، والمراد منه خلود بلا زوال وبقاء بلا فناء ، وكمال بلا نقصان وفوز بلا حرمان. قوله سبحانه وتعالى (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) قال ابن عباس : يعني لمن تاب منهم وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على أصحابه وهم يضحكون فقال : «أتضحكون وبين أيديكم النار فنزل جبريل بهذه الآية وقال : يقول لك ربك يا محمد مم تقنط عبادي» ذكره البغوي بغير سند (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) قال قتادة بلغنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع عن حرام ولو يعلم العبد قدر عذابه لبخع نفسه» يعني لقتل نفسه (خ) عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله سبحانه وتعالى خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة ، وأدخل في خلقه كلهم رحمة واحدة ، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار» وفي الآية لطائف منها أنه سبحانه وتعالى أضاف العباد إلى نفسه بقوله نبىء عبادي وهذا تشريف وتعظيم لهم ، ألا ترى أنه لما أراد أن يشرف محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج لم يزد على قوله «سبحان الذي أسرى بعبده ليلا» فكل من اعترف على نفسه بالعبودية لله تعالى فهو داخل في هذا التشريف العظيم ، ومنها أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة أولها قوله : أني وثانيها أنا وثالثها إدخال الألف واللام في الغفور الرحيم ، وهذا يدل على تغليب جانب الرحمة والمغفرة. ولما ذكر العذاب لم يقل إني أنا المعذب ، وما وصف نفسه بذلك. بل قال : وأن عذابي هو العذاب الأليم على سبيل الإخبار ، ومنها أنه سبحانه وتعالى أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبلغ عباده هذا المعنى فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة. قوله سبحانه وتعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) هذا معطوف على ما قبله أي وأخبر يا محمد عبادي عن ضيف إبراهيم. وأصل الضيف الميل يقال ضفت إلى كذا إذا ملت إليه والضيف من مال إليك نزولا بك وصارت الضيافة متعارفة في القرى وأصل الضيف مصدر ، ولذلك استوى فيه الواحد والجمع في عامة كلامهم ، وقد يجمع فيقال أضياف وضيوف وضيفان وضيف إبراهيم هم الملائكة الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى ، ليبشروا إبراهيم بالولد ويهلكوا قوم لوط (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) يعني إذ دخل الأضياف على إبراهيم عليه‌السلام (فَقالُوا سَلاماً) أي نسلم سلاما (قالَ) يعني إبراهيم (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي خائفون وإنما خاف إبراهيم منهم لأنهم لم يأكلوا طعامه (قالُوا لا تَوْجَلْ) يعني لا تخف (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) يعني أنهم بشروه بولد ذكر غلام في صغره عليم في كبره ، وقيل عليم بالأحكام والشرائع والمراد به إسحاق عليه‌السلام فلما بشروه بالولد عجب إبراهيم من كبره وكبر امرأته (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي) يعني بالولد (عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) يعني على حالة الكبر ، قاله على طريق التعجب (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) يعني فبأي شيء تبشرون ، وهو استفهام بمعنى التعجب كأنه عجب من حصول الولد على الكبر (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) يعني بالصدق الذي قضاه الله بأن يخرج منك ولدا ذكرا ، تكثر ذريته وهو إسحاق (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) يعني فلا تكن من الآيسين من الخير. والقنوط : هو الإياس من الخير (قالَ) يعني إبراهيم (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) يعني من ييأس من رحمة ربه إلا المكذبون ، وفيه

٥٨

دليل على أن إبراهيم عليه‌السلام لم يكن من القانطين ، ولكنه استبعد حصول الولد على الكبر فظنت الملائكة أن به قنوطا فنفى ذلك عن نفسه ، وأخبر أن القانط من رحمة الله تعالى من الضالين لأن القنوط من رحمة الله كبيرة ، كالأمن من مكر الله ولا يحصل إلا عند من يجهل كون الله تعالى قادرا على ما يريد ، ومن يجهل كونه سبحانه وتعالى عالما بجميع المعلومات فكل هذه الأمور سبب للضلالة (قالَ) يعني إبراهيم (فَما خَطْبُكُمْ) يعني فما شأنكم وما الأمر الذي جئتم فيه (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) والمعنى ما الأمر الذي جئتم به سوى ما بشرتموني به من الولد (قالُوا) يعني الملائكة (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يعني لهلاك قوم مجرمين (إِلَّا آلَ لُوطٍ) يعني أشياعه وأتباعه من أهل دينه (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ) يعني امرأة لوط (قَدَّرْنا) يعني قضينا وإنما أسند الملائكة القدر إلى أنفسهم وإن كان ذلك لله عزوجل ، لاختصاصهم بالله وقربهم منه كما تقول خاصة الملك نحن أمرنا ، ونحن فعلنا وإن كان قد فعلوه بأمر الملك (إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) يعني لمن الباقين في العذاب والاستثناء من النفي إثبات ، ومن الإثبات نفي فاستثناء امرأة لوط من الناجين يلحقها بالهالكين.

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠))

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) وذلك أن الملائكة عليهم‌السلام لما بشروا إبراهيم بالولد ، وعرفوه بما أرسلوا به ساروا إلى لوط وقومه فلما دخلوا على لوط (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) وإنما قال هذه المقالة لوط لأنهم دخلوا عليه وهم في زي شبان مردان حسان الوجوه ، فخاف أن يهجم عليهم قومه فلهذا السبب قال هذه المقالة. وقيل : إن النكرة ضد المعرفة فقوله : إنكم قوم منكرون يعني لا أعرفكم ولا أعرف من أي الأقوام أنتم ، ولا لأي غرض دخلتم فعند ذلك (قالُوا) يعني الملائكة (بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) يعني جئناك بالعذاب الذي كانوا يشكون فيه (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) يعني باليقين الذي لا شك فيه (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) يعني فيما أخبرناك به من إهلاكهم (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) بقطع من الليل يعني آخر الليل ، والقطع القطعة من الشيء وبعضه (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) يعني واتبع آثار أهلك وسر خلفهم (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) يعني حتى لا يرى ما نزل بقومه من العذاب فيرتاع بذلك ، وقيل : المراد الإسراع في السير وترك الالتفات إلى ورائه ، والاهتمام بما خلفه كما تقول امض لشأنك ولا تعرج على شيء وقيل جعل ترك الالتفات علامة لمن ينجو من آل لوط ، ولئلا يتخلف أحد منهم فيناله العذاب (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) قال ابن عباس : يعني إلى الشام وقيل : الأردن ، وقيل إلى حيث يأمركم جبريل وذلك أن جبريل أمرهم أن يسيروا إلى قرية معينة ، ما عمل أهلها عمل قوم لوط (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) يعني وأوحينا إلى لوط ذلك الأمر الذي حكمنا به على قومه ، وفرغنا منه ثم إنه سبحانه وتعالى فسر ذلك الأمر الذي قضاه بقوله (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) يعني أن هؤلاء القوم يستأصلون عن آخرهم بالعذاب وقت الصبح وإنما أبهم الأمر الذي قضاه عليهم أولا ، وفسر ثانيا تفخيما له وتعظيما لشأنه (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) يعني مدينة سدوم وهي مدينة قوم لوط (يَسْتَبْشِرُونَ) يعني يبشر بعضهم بعضا بأضياف لوط والاستبشار : إظهار الفرح والسرور ، وذلك أن الملائكة لما نزلوا على لوط ظهر أمرهم في المدينة ، وقيل إن امرأته أخبرتهم بذلك ، وكانوا شبانا مردا في غاية الحسن ونهاية الجمال فجاء قوم لوط إلى داره طمعا منهم في ركوب الفاحشة (قالَ) يعني

٥٩

قال لوط لقومه (إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي) وحق على الرجل إكرام ضيفه (فَلا تَفْضَحُونِ) يعني فيهم يقال فضحه يفضحه إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار بسببه (وَاتَّقُوا اللهَ) يعني خافوا الله في أمرهم (وَلا تُخْزُونِ) يعني ولا تخجلون (قالُوا) يعني : قوم لوط الذين جاءوا إليه (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) يعني أولم ننهك عن أن تضيف أحدا من العالمين. وقيل : معناه أو لم ننهك أن تدخل الغرباء إلى بيتك ، فانا نريد أن نركب منهم الفاحشة : وقيل : معناه ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحد من العالمين إذا قصدناه بالفاحشة.

(قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥))

(وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠))

(قالَ) يعني قال لوط لقومه الذين قصدوا أضيافه (هؤُلاءِ بَناتِي) أزوجكم إياهن إن أسلمتم فأتوا الحلال ودعوا الحرام وقيل : أراد بالبنات نساء قومه لأن النبي كالوالد لأمته (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) يعني ما آمركم به (لَعَمْرُكَ) الخطاب فيه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ابن عباس : معناه وحياتك يا محمد وقال ما خلق الله نفسا أكرم عليه من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أقسم بحياة أحد إلا بحياته والعمر واحد وهو اسم لمدة عمارة بدن الإنسان بالحياة والروح وبقائه مدة حياته. قال النحويون : ارتفع لعمرك بالابتداء والخبر محذوف والمعنى لعمرك قسمي فحذف الخبر لأن في الكلام دلالة عليه. (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ) يعني في حيرتهم وضلالتهم وقيل غفلتهم (يَعْمَهُونَ) يعني يترددون متحيرين وقال قتادة : يلعبون (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) يعني حين أضاءت الشمس فكان ابتداء العذاب الذي نزل بهم وقت الصبح وتمامه وانتهاؤه حين أشرقت الشمس (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) تقدم تفسيره في سورة هود (إِنَّ فِي ذلِكَ) يعني الذي نزل بهم من العذاب (لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال ابن عباس : للناظرين. وقال قتادة : للمعتبرين. وقال مقاتل : للمتفكرين. وقال مجاهد : للمتفرسين ويعضد هذا التأويل ما روي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ إن في ذلك لآيات للمتوسمين» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. الفراسة بالكسر اسم من قولك تفرست في فلان الخير. وهي على نوعين : أحدهما ما دل عليه ظاهر الحديث ، وهو ما يوقعه الله في قلوب أوليائه فيعلمون بذلك أحوال الناس بنوع من الكرامات ، وإصابة الحدس والنظر والظن والتثبت ، والنوع الثاني ما يحصل بدلائل التجارب والخلق والأخلاق تعرف بذلك أحوال الناس أيضا وللناس في علم الفراسة تصانيف قديمة وحديثة. قال الزجاج : حقيقة المتوسمين في اللغة المتثبتين في نظرهم حتى يعرفوا سمة الشيء وصفته وعلامته فالمتوسم الناظر في سمة الدلائل ، تقول توسمت في فلان كذا أي عرفت وسم ذلك وسمته (وَإِنَّها) يعني قرى قوم لوط (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) يعني بطريق واضح. قال مجاهد : بطريق معلم ليس بخفي ولا زائل والمعنى : أن آثار ما أنزل الله بهذه القرى من عذابه وغضبه لبسبيل مقيم ثابت لم يدثر ولم يخف ، والذين يمرون عليها من الحجاز إلى الشام يشاهدون ذلك ويرون أثره (إِنَّ فِي ذلِكَ) يعني الذي ذكر من عذاب قوم لوط ، وما أنزل بهم (لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) يعني المصدقين لما أنزله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) يعني كان أصحاب الأيكة وهي الغيضة ، واللام في قوله لظالمين للتأكيد وهم قوم شعيب عليه‌السلام كانوا أصحاب غياض ، وشجر ملتف وكان عامة شجرهم المقل وكانوا قوما كافرين فبعث الله عزوجل إليهم شعيبا رسولا فكذبوه فأهلكهم الله فهو قوله تعالى (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) يعني بالعذاب ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى أخذ

٦٠