تفسير الخازن - ج ٣

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٣

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٤٦٤

الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤))

(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) وذلك أن موسى أخذته الغيرة والرقة للإسرائيلي فمد يده ليبطش بالقبطي فظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به لما رأى من غضب موسى وسمع قوله إنك لغوي مبين (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) معناه أنه لم يكن علم أحد من قوم فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي حتى أفشى عليه الإسرائيلي ذلك فسمعه القبطي فأتى فرعون فأخبره بذلك (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) أي بالقتل ظلما وقيل الجبار هو الذي يقتل ويضرب ولا ينظر في العواقب وقيل هو الذي يتعاظم ولا يتواضع لأمر الله تعالى (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) ولما فشا أن موسى قتل القبطي أمر فرعون بقتله فخرجوا في طلبه وسمع بذلك رجل من شيعة موسى يقال إنه مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل وقيل شمعون وقيل سمعان وهو قوله تعالى (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) أي يسرع في مشيه وأخذ طريقا قريبا حتى سبق إلى موسى وأخبره وأنذره بما سمع (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) يعني يتشاورون فيك (لِيَقْتُلُوكَ) وقيل يأمر بعضهم بعضا بقتلك (فَاخْرُجْ) يعني من المدينة (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) يعني في الأمر بالخروج (فَخَرَجَ مِنْها) يعني موسى (خائِفاً) على نفسه من آل فرعون (يَتَرَقَّبُ) يعني ينتظر الطلب هل يلحقه فيأخذه ثم لجأ إلى الله تعالى لعلمه أنه لا ملجأ إلا إليه (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يعني الكافرين.

قوله تعالى (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) يعني قصد نحوها ماضيا قيل إنه وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأن أهل مدين من ولد إبراهيم وموسى من ولد إبراهيم ومدين هو مدين بن إبراهيم سميت البلد باسمه وبين مدين ومصر مسيرة ثمانية أيام ، قيل خرج موسى خائفا بلا ظهر ولا زاد ولا أحد ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ونبات الأرض حتى رأى خضرته في بطنه وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه قال ابن عباس وهو أول ابتلاء من الله لموسى (قالَ) يعني موسى (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) يعني قصد الطريق إلى مدين وذلك أنه لم يكن يعرف الطريق إليها قيل لما دعا موسى جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به إلى مدين. قوله عزوجل (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) هو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم (وَجَدَ عَلَيْهِ) يعني على الماء (أُمَّةً) يعني جماعة (مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) يعني مواشيهم (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) يعني سوى الجماعة وقيل بعيدا من الجماعة (امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) أي تحبسان وتمنعان أغنامهما عن أن تند وتذهب والقول الأول أولى لما بعده وهو قوله (قالَ) يعني موسى للمرأتين (ما خَطْبُكُما) أي ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس (قالَتا لا نَسْقِي) يعني أغنامنا (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) أي حتى يرجع الرعاء من الماء والمعنى أنا امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا نحن مواشينا من فضل ما بقي منهم في الحوض (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) أي لا يقدر أن يسقي مواشيه فلذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم ، قيل أبوهما هو شعيب عليه الصلاة والسلام. وقيل هو بيرون ابن أخي شعيب وكان شعيب قد مات بعد ما كف بصره وقيل هو رجل ممن آمن بشعيب فلما سمع موسى كلامهما رق لهما ورحمهما فاقتلع صخرة من على رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس. وقيل زاحم القوم ونحاهم كلهم عن البئر وسقى لهما الغنم وقيل لما فرغ الرعاء من السقي غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر فجاء موسى فرفع الحجر ونزع دلوا واحدا فيه بالبركة وسقى الغنم فرويت فذلك قوله تعالى (فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) يعني

٣٦١

عدل إلي رأس الشجرة فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) معناه أنه طلب الطعام لجوعه واحتياجه إليه.

قال ابن عباس : إن موسى سأل الله فلقة خبز يقيم بها صلبة وعن ابن عباس قال : لقد قال موسى : «رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير» وهو أكرم خلقه عليه ولقد افتقر إلى شق تمرة وقيل ما سأل إلا الخبز فلما رجعتا إلى أبيهما سريعا قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما ما أعجلكما؟ قالتا وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا أغنامنا فقال لإحداهما اذهبي فادعيه إلي قال الله تعالى :

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨))

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) قيل هي الكبرى واسمها صفوراء وقيل صفراء وقيل بل هي الصغرى واسمها ليا وقيل صفيراء وقال عمر بن الخطاب ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة ولكن جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء وقيل استحيت منه لأنها دعته لتكافئه وقيل لأنها رسول أبيها (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) قيل لما سمع موسى ذلك كره أن يذهب معها ولكن كان جائعا فلم يجد بدا من الذهاب فمشت المرأة ومشى موسى خلفها فكانت الريح تضرب ثوبها فتصف ردفها فكره موسى أن يرى ذلك منها فقال لها امشي خلفي ودليني على الطريق إذا أخطأت ففعلت ذلك فلما دخل موسى على شعيب إذا هو بالعشاء مهيئا فقال : اجلس يا فتى فتعش فقال موسى أعوذ بالله فقال شعيب ولم ذاك ألست بجائع؟ قال بلى ولكني أخاف أن يكون هذا عوضا من الدنيا فقال له شعيب : لا والله يا فتى ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس وأكل فذلك قوله عزوجل (فَلَمَّا جاءَهُ) أي موسى (وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي أخبره بأمره أجمع من خبر ولادته وقتله القبطي وقصد فرعون قتله (قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يعني من فرعون وقومه وإنما قال ذلك لأنه لم يكن لفرعون سلطان على مدين (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) أي اتخذه أجيرا ليرعى أغنامنا (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) يعني إن خير من استعملت من قوي على العمل وأدى الأمانة فقال لها أبوها ما أعلمك بقوته وأمانته؟ قالت أما قوته فإنه رفع الحجر من على رأس البئر ولا يرفعه إلا عشرة.

وقيل أربعون رجلا وأما أمانته فإنه قال لي امشي خلفي حتى لا تصف الريح بدنك (قالَ) شعيب عند ذلك (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ) أي أزوجك (إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) قيل زوجه الكبرى وقال الأكثرون إنه زوجه الصغرى منهما واسمها صفوراء وهي التي ذهبت في طلب موسى (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) أي تكون لي أجيرا ثمان سنين (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) أي فإن أتممت العشر سنين فذلك تفضل منك وتبرع ليس بواجب عليك (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) أي ألزمك تمام العشر إلا أن تتبرع (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت وقيل يريد بالصلاح حسن المعاملة ولين الجانب وإنما قال إن شاء الله للاتكال على توفيقه ومعونته (قالَ) يعني موسى (ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) يعني ما شرطت علي فلك وما شرطت من تزوج

٣٦٢

إحداهما فلي والأمر بيننا على ذلك (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) أي أيّ الأجلين أتممت وفرغت منه الثمانية أو العشرة (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أي لا ظلم علي بأن أطالب بأكثر منه (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) قال ابن عباس شهيد بيني وبينك (خ) عن سعيد بن جبير قال : سألني يهودي من أهل الحيرة أي الأجلين قضى موسى؟ قلت لا أدري حتى أقدم على خير العرب فاسأله فقدمت فسألت ابن عباس فقال : قضي أكثرهما وأطيبهما لأن رسول الله إذا قال فعل وروي عن أبي ذر مرفوعا : «إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى فقل خيرهما وأبرهما وإذا سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى منهما وهي التي جاءت فقالت يا أبت استأجره فتزوج صغراهما وقضى أوفاهما». وقال وهب أنكحه الكبرى وروى شداد بن أوس مرفوعا بكى شعيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى عمي فرد الله عليه بصره ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره فقال الله له : ما هذا البكاء أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار فقال : لا يا رب ولكن شوقا إلى لقائك فأوحى الله إليه إن يكن ذلك فهنيئا لك لقائي يا شعيب لذلك أخدمتك كليمي موسى ولما تعاقدا هذا العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصاه يدفع بها السباع عن غنمة قيل كانت من آس الجنة حملها آدم معه فتوارثها الأنبياء وكان لا يأخذها غير نبي إلا أكلته فصارت من آدم إلى نوح ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى.

ثم إن موسى لما قضى الأجل سلم شعيب إليه ابنته فقال لها موسى اطلبي من أبيك أن يجعل لنا بعض الغنم فطلبت من أبيها ذلك فقال لكما كل ما ولدت هذا العام على غير شيتها وقيل إن شعيبا أراد أن يجازي موسى على حسن رعيه إكراما وصلة لابنته فقال له : إني قد وهبت لك ولد أغنامي كل أبلق وبلقاء في هذه السنة فأوحى الله تعالى إلى موسى في النوم أن اضرب بعصاك الماء ، ثم اسق الأغنام منه ففعل ذلك فما أخطأت واحدة إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب أن هذا رزق ساقه الله إلى موسى وامرأته فوفى له بشرطه وأعطاه الأغنام. قوله عزوجل :

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥))

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) أي أتمه وفرغ منه (وَسارَ بِأَهْلِهِ) قيل مكث موسى بعد الأجل عند شعيب عشر سنين أخرى ثم استأذنه في العود إلى مصر فأذن له فسار بأهله أي بزوجته قاصدا إلى مصر (آنَسَ) أي أبصر (مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) وذلك أنه كان في البرية في ليلة مظلمة شديدة البرد وأخذ امرأته الطلق (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي عن الطريق لأنه كان قد أخطأ الطريق (أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ) أي قطعة وشعلة من النار وقيل : الجذوة العود الذي اشتعل بعضه (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي تستدفئون (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ

٣٦٣

مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) يعني من جانب الوادي الذي عن يمين موسى (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) جعلها الله مباركة لأن الله تعالى كلم موسى هناك وبعثه نبيا وقيل يريد البقعة المقدسة (مِنَ الشَّجَرَةِ) يعني من ناحية الشجرة قال ابن مسعود : كانت سمرة خضراء تبرق وقيل كانت عوسجة وقيل كانت من العليق وعن ابن عباس إنها العناب (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) قيل إن موسى لما رأى النار في الشجرة الخضراء علم أنه لا يقدر على الجمع بين النار وخضرة الشجرة إلا الله تعالى فعلم بذلك أن المتكلم هو الله تعالى. وقيل : إن الله تعالى خلق في نفس موسى علما ضروريا بأن المتكلم هو الله تعالى وأن ذلك الكلام كلام الله تعالى. وقيل : إنه قيل لموسى كيف عرفت أنه نداء الله قال إني سمعته بجميع أجزائي فلما وجد حس السمع من جميع الأجزاء علم بذلك أنه لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) يعني فألقاها (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) يعني تتحرك (كَأَنَّها جَانٌ) هي الحية الصغيرة والمعنى أنها في سرعة حركتها كالحية السريعة الحركة (وَلَّى مُدْبِراً) يعني هاربا منها (وَلَمْ يُعَقِّبْ) يعني ولم يرجع قال وهب إنها لم تدع شجرة ، ولا صخرة إلا بلعتها حتى إن موسى سمع صرير أسنانها وقعقعة الشجر والصخر في جوفها فحينئذ ولى مدبرا ولم يعقب فنودي عند ذلك (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ).

قوله عزوجل (اسْلُكْ يَدَكَ) يعني أدخل يدك (فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) يعني برص والمعنى أنه أدخل يده فخرجت ولها شعاع كضوء الشمس (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) يعني من الخوف والمعنى إذا هالك أمر يدك وما تراه من شعاعها فأدخلها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى وقال ابن عباس : أمر الله موسى أن يضم يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية وما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه. وقيل المراد من ضم الجناح السكون أي سكن روعك واخفض عليك جناحك لأن من شأن الخائف أن يضطرب قلبه ويرتعد بدنه. وقيل الرهب الكم بلغة حمير ومعناه اضمم إليك يدك وأخرجها من كمك لأنه تناول العصا ويده في كمه (فَذانِكَ) يعني العصا واليد البيضاء (بُرْهانانِ) يعني آيتان (مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) يعني خارجين عن الحق (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً) يعني القبطي (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) يعني به (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) يعني بيانا وإنما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه من وضع الجمرة في فيه (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) يعني عونا (يُصَدِّقُنِي) يعني فرعون وقيل تصديق هارون هو أن يلخص الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل الكفار فهذا هو التصديق المفيد (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) يعني فرعون وقومه (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) يعني سنقويك به وكان هارون بمصر (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) يعني حجة وبرهانا (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) أي بقتل ولا سوء (بِآياتِنا) قيل معناه نعطيكما من المعجزات فلا يصلون إليكما (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) يعني لكما ولأتباعكما الغلبة على فرعون وقومه.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا

٣٦٤

مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥))

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ) يعني واضحات (قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) يعني مختلق (وَما سَمِعْنا بِهذا) يعني بالذي تدعونا إليه (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) يعني أنه يعلم المحق من المبطل (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) يعني العقبى المحمودة في الدار الآخرة (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) يعني الكافرون (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) فيه إنكار لما جاء به موسى من توحيد الله وعبادته (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) يعني اطبخ لي الآجر قيل إنه أول من اتخذ آجرا وبنى به (فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) أي قصرا عاليا وقيل منارة. قال أهل السير لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع هامان العمال والفعلة حتى اجتمع عنده خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء وطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير ، وأمر بالبناء فبنوه ورفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق وأراد الله أن يفتنهم فيه فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه ، وأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي ملطخة دما فقال : قد قتلت إله موسى وكان فرعون يصعده راكبا على البراذين فبعث الله جبريل عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقعت قطعة منه على عسكره فقتلت منهم ألف رجل ووقعت قطعة منه في البحر وقطعة في المغرب فلم يبق أحد عمل شيئا فيه إلا هلك فذلك قوله (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) يعني أنظر إليه وأقف على حاله (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) يعني موسى (مِنَ الْكاذِبِينَ) يعني في زعمه أن للأرض والخلق إلها غيري وأنه أرسله (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ) يعني تعظموا عن الإيمان ولم ينقادوا للحق بالباطل والظلم (بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) يعني للحساب والجزاء (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) يعني فألقيناهم في البحر وهو القلزم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) يعني حين صاروا إلى الهلاك (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) يعني قادة ورؤساء (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي الكفر والمعاصي التي يستحقون بها النار لأن من أطاعهم ضل ودخل النار (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) يعني لا يمنعون من العذاب (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) يعني خزيا وبعدا وعذابا (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) يعني المبعدين وقيل المهلكين.

وقال ابن عباس من المشوهين بسواد الوجوه وزرقة العيون. وقوله عزوجل (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني التوراة (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) يعني قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ممن كانوا قبل موسى (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) ليبصروا ذلك فيهتدوا به (وَهُدىً) يعني من الضلالة لمن عمل به (وَرَحْمَةً) يعني لمن آمن به (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يعني بما فيه من المواعظ (وَما كُنْتَ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي وما كنت يا محمد (بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) يعني بجانب الجبل الغربي قال ابن عباس يريد حيث ناجى موسى ربه (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) يعني عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) يعني الحاضرين ذلك المقام الذي أوحينا إلى موسى فيه فتذكره من ذات نفسك (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) يعني خلقنا بعد موسى أمما (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) يعني طالت عليهم المدة فنسوا عهد الله وتركوا أمره وذلك أن الله عهد إلى موسى وقومه عهودا في محمد والإيمان به فلما طال عليهم العمر وخلفت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها (وَما كُنْتَ ثاوِياً) أي مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) أي كمقام موسى وشعيب فيهم (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) يعني تذكرهم بالوعد والوعيد وقيل معناه لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أي أرسلناك رسولا

٣٦٥

وأنزلنا إليك كتابا فيه هذه الأخبار لتتلوها عليه ولو لا ذلك لما علمتها أنت ولم تخبرهم بها.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣))

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) أي بناحية الجبل الذي كلم الله موسى عليه (إِذْ نادَيْنا) أي موسى خذ الكتاب بقوة وقال وهب قال موسى : يا رب أرني محمدا وأمته قال إنك لن تصل إلى ذلك ولكن إن شئت ناديت أمته وأسمعتك صوتهم قال بلى يا رب قال الله تعالى : يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم. وقال ابن عباس قال الله تعالى : يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب الآباء والأرحام أي أرحام الأمهات لبيك اللهم لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. قال الله تعالى : يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي وعفوي سبق عقابي قد أعطيتكم قبل أن تسألوني وقد أجبتكم قبل أن تدعوني وقد غفرت لكم قبل أن تستغفروني ومن جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي دخل الجنة وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي رحمناك رحمة بإرسالك والوحي إليك واطلاعك على الأخبار الغائبة عنك (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) يعني أهل مكة (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) اعلم أن الله تعالى لما بين قصة موسى عليه الصلاة والسلام لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجمع بين هذه الأحوال الثلاثة العظيمة التي اتفقت لموسى ؛ فالمراد بقوله : «إذ قضينا إلى موسى الأمر» هو إنزال التوراة عليه حتى تكامل دينه واستقر شرعه والمراد بقوله «وما كنت ثاويا في أهل مدين» أول أمر موسى والمراد بقوله إذ نادينا ليلة المناجاة فهذه أعظم أحوال موسى ولما بينها لرسوله ولم يكن في هذه الأحوال حاضرا بين الله أنه بعثه وعرفه هذه الأحوال الدالة على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعجزته كأنه قال في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة دلالة ظاهرة على نبوتك.

قوله تعالى (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) أي عقوبة ونقمة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) يعني من الكفر والمعاصي (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا) أي هلّا (أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ومعنى الآية لو لا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة على كفرهم وقيل معناه لما بعثناك إليهم رسولا ولكنا بعثناك إليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالُوا) يعني كفار مكة (لَوْ لا) أي هلا (أُوتِيَ) محمد (مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) يعني من الآيات كالعصا واليد البيضاء. وقيل : أوتي كتابا جملة واحدة كما أوتي موسى التوراة قال الله تعالى (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) قيل إن اليهود أرسلوا إلى قريش أن يسألوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ما أوتي موسى فقال الله تعالى : أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل يعني اليهود الذين استخرجوا هذا السؤال (قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا) يعني التوراة والقرآن يقوي كل واحد

٣٦٦

منهما الآخر وقيل ساحران يعني محمدا وموسى. وقيل إن مشركي مكة بعثوا إلى رؤوس اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروهم أن نعته في كتابهم التوراة فرجعوا فأخبروهم بقول اليهود فقالوا ساحران تظاهرا (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) يعني بالتوراة والقرآن وقيل بمحمد وموسى (قُلْ) يا محمد (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) يعني من التوراة والقرآن (أَتَّبِعْهُ) يعني الكتاب الذي تأتون به من عند الله وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) أي فإن لم يأتوا بما طلبت (فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) يعني أن ما ركبوه من الكفر لا حجة لهم فيه وإنما آثروا أتباعهم ما هم عليه من الهوى (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) قوله عزوجل (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) قال ابن عباس : بينا وقيل أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضا ، وقيل بينا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم ، وقيل وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي يتعظون (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل من قبل القرآن (هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه وقيل بل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم أربعون رجلا قدموا مع جعفر بن أبي طالب فلما رأوا ما بالمسلمين من الحاجة والخصاصة قالوا : يا رسول الله إن لنا أموالا فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا بها المسلمين فأذن لهم فانصرفوا فأتوا فواسوا بها المسلمين. فنزلت هذه الآيات إلى قوله «ومما رزقناهم ينفقون» وقال ابن عباس : نزلت في ثمانين من أهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الشام ثم وصفهم الله تعالى فقال (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) يعني القرآن (قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا) وذلك أن ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) أي من قبل القرآن مخلصين لله التوحيد ومؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه نبي حق.

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨))

(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١))

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) يعني بإيمانهم بالكتاب الأول والكتاب الآخر (بِما صَبَرُوا) أي على دينهم وعلى أذى المشركين (ق) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها ثم تزوجها فله أجران» (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ

٣٦٧

السَّيِّئَةَ) قال ابن عباس : يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله وقيل يدفعون ما سمعوا من أذى المشركين وشتمهم بالصفح والعفو (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي في الطاعة (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) أي القول القبيح (أَعْرَضُوا عَنْهُ) وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل مكة ويقولون تبا لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم (وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي لنا ديننا ولكم دينكم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ليس المراد منه سلام التحية ولكن سلام المتاركة والمعنى سلمتم منا لا نعارضكم بالشتم (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) يعني لا نحب دينكم الذي أنتم عليه. وقيل : لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال ثم نسخ ذلك بالقتال.

قوله تعالى (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أي هدايته وقيل أحببته لقرابته (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وذلك أن الله تعالى يقذف في القلب نور الهداية فينشرح الصدر للإيمان (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي بمن قدر له الهدى (م) عن أبي هريرة قال «إنك لا تهدي من أحببت ، نزلت في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث راود عمه أبا طالب على الإسلام وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي طالب عند الموت : «يا عم قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة قال لو لا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك» ثم أنشد :

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البرية دينا

لو لا الملامة أو حذار مسبة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا

ولكن على ملة الأشياخ عبد المطلب وعبد مناف ثم مات فأنزل الله هذه الآية (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) يعني نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وذلك أنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا لنعلم أن الذي تقول حق ولكن إن اتبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرض مكة قال الله تعالى (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) وذلك أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضا وأهل مكة آمنون حيث كانوا لحرمة الحرم. ومن المعروف أنه كان تأمن فيه الظباء من الذئاب والحمام من الحدأة (يُجْبى إِلَيْهِ) يعني يجلب ويجمع إليه ويحمل إلى الحرم من الشام ومصر والعراق واليمن (ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) يعني أن أكثر أهل مكة لا يعلمون ذلك. قوله عزوجل (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) يعني من أهل قرية (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) ي أشرت وطغت وقيل عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) قال ابن عباس : لم يسكنها إلا المسافرون سكونا قليلا وقيل لم يعمروا منها إلا أقلها وأكثرها خراب (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) يعني لم يخلفهم فيها أحد بعد هلاكهم وصار أمرها إلى الله تعالى لأنه الباقي بعد فناء الخلق (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) يعني الكافرة أهلها (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) ينذرهم وخص الأم ببعثة الرسول لأنه يبعث إلى الأشراف وهم سكان المدن وقيل حتى يبعث في أم القرى وهي مكة رسولا يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه خاتم الأنبياء (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي أنه يؤدي إليهم ويبلغهم وقيل يخبرهم أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) أي مشركون.

قوله عزوجل (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) أي تتمتعون بها أيام حياتكم ثم هي إلى فناء وانقضاء (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) لأن منافع الآخرة خالصة عن الشوائب وهي دائما غير منقطعة ومنافع الدنيا كالذرة بالقياس إلى البحر العظيم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أن الباقي خير من الفاني وقيل من لم يرجح الآخرة على الدنيا فليس بعاقل. ولهذا قال الشافعي : من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله لأن أعقل الناس من أعطي القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلون بطاعة الله تعالى (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) يعني الجنة (فَهُوَ لاقِيهِ) أي مصيبه وصائر إليه (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي وتزول عنه عن قريب (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي في النار ، قيل هذا في المؤمن والكافر وقيل نزلت في

٣٦٨

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي جهل ، وقيل في علي وحمزة وأبي جهل وقيل في عمار بن ياسر والوليد بن المغيرة. قوله عزوجل :

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥))

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي في الدنيا أنهم من شركائي (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي وجب عليهم العذاب وهم رؤوس الضلالة (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) أي دعوناهم إلى الغي وهم الأتباع (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) أي أضللناهم كما ضللنا (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) معناه تبرأ بعضهم من بعض وصاروا أعداء (وَقِيلَ) يعني للكفار (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي الأصنام لتخلصكم من العذاب (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي لم يجيبوهم (وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) معناه لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما رأوا العذاب في الآخرة (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي يسأل الكفار (فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) أي ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ) أي خفيت واشتبهت عليهم (الْأَنْباءُ) يعني الأخبار والأعذار والحجج (يَوْمَئِذٍ) فلم يكن لهم عذر ولا حجة (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) أي لا يجيبون ولا يحتجون وقيل يسكتون فلا يسأل بعضهم بعضا (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أي من السعداء الناجين وعسى من الله واجب.

قوله تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) نزلت هذه الآية جوابا للمشركين حين قالوا «لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» يعني الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم لأنه المالك المطلق وله أن يخص ما يشاء بما يشاء لا اعتراض البتة (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي ليس لهم الاختيار ، أو ليس لهم أن يختاروا على الله. وقيل معناه ويختار الله ما كان هو الأصلح والخير لهم فيه ، ثم نزه الله تعالى نفسه فقال (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُ) أي تخفي (صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) أي يظهرون (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) أي يحمده أولياؤه في الدنيا ويحمدونه في الآخرة في الجنة (وَلَهُ الْحُكْمُ) أي فصل القضاء بين الخلق وقال ابن عباس يحكم لأهل طاعته بالمغفرة ولأهل المعصية

٣٦٩

بالشقاوة (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) قوله عزوجل (قُلْ) أي قل يا محمد لأهل مكة (أَرَأَيْتُمْ) يعني أخبروني (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) أي دائما (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) لا نهار فيه (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) أي بنهار تطلبون فيه المعيشة (أَفَلا تَسْمَعُونَ) أي سماع فهم وقبول (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي لا ليل فيه (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي ما أنتم عليه من الخطأ قيل إن من نعمة الله تعالى على الخلق أن جعل الليل والنهار يتعاقبان لأن المرء في حال الدنيا وفي حال التكليف مدفوع إلى التعب ليحصل ما يحتاج إليه ولا يتم له ذلك لو لا ضوء النهار ولأجله يحصل الاجتماع فتمكن المعاملات ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالراحة والسكون بالليل فلا بد منهما فأما في الجنة فلا تعب ولا نصب فلا حاجة بهم إلى الليل ولذلك يدوم لهم الضياء أبدا فبين الله تعالى أنه القادر على ذلك ليس غيره فقال (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي يتعاقبان بالظلمة والضياء (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي بالنهار (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي نعم الله فيهما (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) كرر ذلك النداء للمشركين لزيادة التقريع والتوبيخ (وَنَزَعْنا) يعني أخرجنا وقيل ميزنا (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) يعني رسولهم يشهد عليهم بأنه بلغهم رسالة ربهم ونصح لهم (فَقُلْنا) يعني للأمم المكذبة لرسلهم (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي حجتكم بأن معي شريكا (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أي التوحيد لله (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي يختلقون في الدنيا من الكذب على الله. قوله عزوجل :

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩))

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) قيل كان ابن عم موسى لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب وموسى بن عمران بن قاهث. وقيل كان عم موسى ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ منه للتوراة ولكنه نافق كما نافق السامري (فَبَغى عَلَيْهِمْ) قيل كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل فظلمهم وبغى عليهم وقيل بغى عليهم بكثرة ماله وقيل زاد في طول ثيابه شبرا (ق) عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثيابه خيلاء». أخرجاه في الصحيحين وقيل بغى عليهم بالكبر والعلو (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) جمع مفتح وهو الذي يفتح به الباب وقيل مفاتحه يعني خزائنه (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) معناه لثقلهم وتميل بهم إذا حملوها لتثقلها. قيل العصبة ما بين العشرة إلى الخمسة عشر وقال ابن عباس : ما بين الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى الأربعين. وقيل إلى السبعين قال ابن عباس : كان يحمل مفاتيحه أربعون رجلا أقوى ما يكون من الرجال وقيل كان قارون أينما ذهب تحمل معه مفاتيح كنوزه وكانت من حديد فلما كثرت وثقلت عليه جعلها من خشب فثقلت فجعلها من جلود البقر كل مفتاح على قدر الأصبع وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) يعني لا تبطر ولا تأشر ولا تمرح (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) يعني الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم قيل إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها فأما من يعلم أنه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح ولقد أحسن من قال :

٣٧٠

أشد الغم عندي في سرور

تيقن عنه صاحبه انتقالا

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) يعني اطلب فيما أعطاك الله من الأموال الجنة وهو أن تقوم بشكر الله فيما أنعم عليك وتنفقه في رضا الله (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل فيها للآخرة بالصدقة وصلة الرحم وقيل لا تنس صحتك وقوتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة. عن عمرو بن ميمون الأزدي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرجل وهو يعظه : «اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك» هذا حديث مرسل وعمرو بن ميمون لم يلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أي أحسن بطاعة الله كما أحسن إليك بنعمته وقيل أحسن إلى الناس (وَلا تَبْغِ) أي ولا تطلب (الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) وكل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قالَ) يعني قارون (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي على فضل وخير علمه الله عندي فرآني أهلا لذلك ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره. وقيل هو علم الكيمياء وكان موسى يعلمه فعلم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقنا ثلثه وعلم قارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه ، فكان يصنع من الرصاص فضة ومن النحاس ذهبا وكان ذلك سبب كثرة أمواله وقيل كان علمه حسن التصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب قال الله عزوجل (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) أي للأموال (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) قيل معناه أن الله تعالى إذا أراد عقاب المجرمين فلا حاجة به إلى سؤالهم لأنه عالم بحالهم وقيل لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال توبيخ وتقريع وقيل لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم. قوله عزوجل (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) قيل : خرج هو وقومه وهم سبعون ألفا عليهم الثياب الحمر والصفر والمعصفرات وقيل خرج على براذين بيض عليها سرج الأرجوان.

وقيل : خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب وعليه الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس وعليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلاثمائة جارية بيضاء عليهم الحلي والثياب الحمر وهن على البغال الشهب (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي من المال.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢))

(الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي بما وعد الله في الآخرة وقال ابن عباس : يعني الأحبار من بني إسرائيل للذين تمنوا مثل ما أوتي قارون (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ) أي ما عند الله من الثواب والخير (خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ) أي صدق بتوحيد الله (وَعَمِلَ صالِحاً) أي ذلك خير مما أوتي قارون في الدنيا (وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) أي لا يؤتى الأعمال الصالحة إلا الصابرون وقيل لا يؤتى هذه الكلمة وهي قوله (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ إِلَّا الصَّابِرُونَ) أي على طاعة الله وعن زينة الدنيا. قوله تعالى (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ).

ذكر قصة قارون :

قال أهل العلم بالأخبار والسير : كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون وأقرأهم للتوراة

٣٧١

وأجملهم وأغناهم. وكان حسن الصوت فبغى وطغى وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطا أخضر كلون السماء يذكرونني به إذا نظروا إلى السماء ويعلمون أني منزل منها كلامي. فقال موسى : يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضرا فإن بني إسرائيل تستصغر هذه الخيوط فقال له ربه يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير فإذا لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير فدعاهم موسى فقال إن الله يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطا كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها ففعل بنو إسرائيل ما أمرهم به موسى واستكبر قارون فلم يطعه وقال : إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم فكان هذا بدء عصيانه وبغيه فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعلت الحبورة لهارون ، وهي رئاسة المذبح فكان بنو إسرائيل يأتون بقربانهم إلى هارون فيضعها على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله فوجد قارون من ذلك في نفسه فأتى إلى موسى فقال له يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء من ذلك ، وأنا أقرأ التوراة لا صبر لي على هذا فقال أما أنا ما جعلتها لهارون بل الله جعلها له فقال له قارون : والله لا أصدقك حتى تريني بيانه فجمع موسى رؤساء بني إسرائيل فقال هاتوا عصيكم فحزمها وألقاها في قبته التي يتعبد فيها وجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال موسى يا قارون ترى هذا فقال له قارون والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر واعتزل قارون موسى بأتباعه وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه كل وقت ولا يزيد إلا عتوا وتجبرا ومعاداة لموسى حتى بنى دارا وجعل لها بابا من الذهب. وضرب على جدرانها صفائح الذهب وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه.

قال ابن عباس : فلما نزلت الزكاة على موسى أتاه قارون فصالحه على كل ألف دينار عنها دينار وعلى كل ألف درهم عنها درهم وكل ألف شاة عنها شاة وكذلك سائر الأشياء ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده شيئا كثيرا فلم تسمح نفسه بذلك فجمع بني إسرائيل وقال لهم إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا : أنت كبيرنا فمرنا بما شئت قال آمركم أن تجيئوا فلانة البغي وتجعلوا عليكم لها جعلا على أن تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل فرفضوه فدعوها فجعل لها قارون ألف دينار وألف درهم. وقيل طستا من ذهب وقيل قال لها قارون أنزلك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل ثم أتى موسى فقال : إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم فخرج إليهم موسى وهم في مرج من الأرض فقام فيهم فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة جلدة ومن زنى وله امرأة رجمناه إلى أن يموت فقال قارون وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا قال فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة البغي قال : ادعوها فلما جاءت قال لها موسى : بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت فتداركها الله بالتوفيق فقالت في نفسها أحدث توبة أفضل من أن أوذي رسول الله فقالت لا والله ولكن قارون جعل لي جعلا على أن أقذفك بنفسي فخرّ موسى ساجدا يبكي. ويقول : اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله إليه أني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت فقال موسى : يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليثبت مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا فلم يبق مع قارون إلا رجلان ثم قال موسى يا أرض خذيهم فأخذتهم بأقدامهم. وقيل كان على سريره وفرشه فأخذته الأرض حتى غيبت سريره ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وأصحابه في ذلك يتضرعون إلى موسى ويناشده قارون الله والرحم ، حتى قيل إنه ناشده أربعين مرة. وقيل سبعين مرة وموسى في ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه ثم قال يا أرض خذيهم فأطبقت عليهم الأرض

٣٧٢

فأوحى الله إلى موسى ما أغلظ قلبك يستغيث بك قارون سبعين مرة فلم تغثه أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة لأغثته وفي بعض الآثار لا أجعل الأرض بعدك طوعا لأحد.

قال قتادة خسف به الأرض فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قرارها إلى يوم القيامة وأصبح بنو إسرائيل يقولون فيما بينهم إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله فدعا الله موسى حتى خسف بداره وكنوزه وأمواله الأرض فذلك قوله تعالى (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ) يعني جماعة (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني يمنعونه من الله (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) من الممتنعين مما نزل به من الخسف (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) يعني صار أولئك الذين تمنوا ما رزقه الله من الأموال والزينة يندمون على ذلك التمني (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ) ألم تعلم وقيل ألم تر. وقيل هي كلمة تقرير معناها أما ترى صنع الله وإحسانه وقيل ويك ، بمعنى ويلك اعلم أن الله. وروي أن وي مفصولة من كأن والمعنى أن القوم ندموا فقالوا متندمين على ما سلف منهم وي وكأن معناها أظن وأقدر أن الله (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) قال ابن عباس أي يوسع لمن يشاء ويضيق على من يشاء (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أي بالإيمان (لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) قوله عزوجل :

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) أي استكبارا عن الإيمان وقيل علوا واستطالة على الناس وتهاونا بهم وقيل يطلبون الشرف والعز عند ذي سلطان وعن علي أنها نزلت في أهل التواضع من الولاة وأهل المقدرة (وَلا فَساداً) قيل الذين يدعون إلى غير عبادة الله تعالى وقيل أخذ أموال الناس بغير حق وقيل العمل بالمعاصي (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي العاقبة المحمودة لمن اتقى عقاب الله بأداء أوامره واجتناب نواهيه وقيل عاقبة المتقين الجنة (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تقدم تفسيره. قوله تعالى (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي أنزل عليك القرآن وقيل معناه أوجب عليك العمل بالقرآن (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قال ابن عباس إلى مكة. أخرجه البخاري عنه قال القتيبي : معاد الرجل بلده لأنه ينصرف فيعود إلى بلده وذلك أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج من الغار مهاجرا إلى المدينة سار على غير الطريق مخافة الطلب فلما أمن رجع في الطريق ونزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها فأتاه جبريل عليه‌السلام وقال له : أتشتاق إلى بلدك؟ قال نعم قال : فإن الله تعالى يقول الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد وهذه الآية نزلت بالجحفة ليست بمكية ولا مدنية. وقال ابن عباس أيضا لرادك إلى الموت وقيل إلى القيامة ، وقيل إلى الجنة (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) هذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنك لفي ضلال مبين فقال الله تعالى لهم (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) يعني نفسه (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يعني المشركين ومعناه هو أعلم بالفريقين. قوله عزوجل (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) أي يوحى إليك

٣٧٣

القرآن (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) فأعطاك القرآن (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً) أي معينا (لِلْكافِرِينَ) على دينهم ذلك حين دعوه إلى دين آبائه فذكره نعمه عليه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ) يعني القرآن (بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) إلى معرفته وتوحيده (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قال ابن عباس : الخطاب في الظاهر للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به أهل دينه أي ولا تظاهر الكفار ولا توافقهم (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) معناه أنه واجب على الكل إلا أنه خاطبه به مخصوصا لأجل التعظيم. فإن قلت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان معصوما من أن يدعو مع الله إلها آخر فما فائدة هذا النهي. قلت الخطاب معه والمراد به غيره وقيل معناه لا تتخذ غيره وكيلا على أمورك كلها ولا تعتمد على غيره (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ) أي فان (إِلَّا وَجْهَهُ) أي إلا هو والوجه يعبر به عن الذات وقيل معناه إلا ما أريد به وجهه لأن عمل كل شيء أريد به غير الله فهو هالك (لَهُ الْحُكْمُ) أي فصل القضاء بين الخلق (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم والله أعلم بمراده.

٣٧٤

سورة العنكبوت

وهي مكية وآياتها تسع وستون آية وكلماتها تسعمائة وثمانون كلمة وحروفها أربعة آلاف ومائة وخمسة وستون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))

قوله عزوجل (الم أَحَسِبَ النَّاسُ) أي أظن الناس (أَنْ يُتْرَكُوا) أي بغير اختبار وابتلاء (أَنْ) أي بأن (يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم كلا لنختبرنهم لنبين المخلص من المنافق والصادق من الكاذب. قيل : نزلت هذه الآية في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا يقبل منكم الإقرار بالإسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين إلى المدينة فأتبعهم المشركون فقاتلهم الكفار ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا فنزل الله هاتين الآيتين. وقال ابن عباس : أراد بالناس الذين آمنوا بمكة سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وعمار بن ياسر وغيرهم. وقيل في عمار كان يعذب في الله تعالى وقيل في مهجع بن عبد الله مولى عمر وكان أول من قتل من المسلمين يوم بدر فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» فجزع أبواه وامرأته فأنزل الله هذه الآية ثم عزاهم فقال تعالى (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني الأنبياء فمنهم من نشر بالمنشار ومنهم من قتل وابتلي بنو إسرائيل بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) أي في قولهم (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) والله تعالى عالم بهم قبل الاختبار ومعنى الآية فليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلومه. وقيل إن آثار أفعال الحق صفة يظهر فيها كل ما يقع وما هو واقع. قوله تعالى (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) يعني الشرك (أَنْ يَسْبِقُونا) أي يعجزونا فلا نقدر على الانتقام منهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) قال ابن عباس من كان يخشى البعث والحساب وقيل من كان يطمع في ثواب الله (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب. وقيل يوم القيامة لكائن والمعنى أن من يخشى الله ويؤمله فليستعد له وليعمل لذلك اليوم (وَهُوَ السَّمِيعُ

٣٧٥

الْعَلِيمُ) أي يعلم ما يعمل العباد من الطاعة والمعصية فيثيبهم أو يعاقبهم أو يعفو.

قوله تعالى (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) أي له ثوابه وهذا بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق فإن الكريم إذا وعد وفي والجهاد هو الصبر على الأعداء والشدة وقد يكون في الحرب وقد يكون على مخالفة النفس (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) أي عن أعمالهم وعبادتهم وفيه بشارة وتخويف أما البشارة فلأنه إذا كان غنيا عن الأشياء فلو أعطي جميع ما خلقه لعبد من عبيده لا شيء عليه لاستغنائه عنه. وهذا يوجب الرجاء التام وأما التخويف فلأن الله إذا كان غنيا عن العالمين فلو أهلكهم بعذابه فلا شيء عليه لاستغنائه عنهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي لنطلبنها حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل والتكفير إذهاب السيئة بالحسنة (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعة وقيل يعطيهم أكثر مما عملوا. قوله عزوجل (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) معناه برا بهما وعطفا عليهم والمعنى ووصينا الإنسان بوالديه أن يفعل بهما ما يحسن نزلت هذه الآية والتي في سورة لقمان والأحقاف في سعد بن أبي وقاص. وقال ابن إسحاق : سعد بن مالك الزهري وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس لما أسلم وكان من السابقين الأولين وكان بارا بأبيه. قالت له أمه : ما هذا الذي أحدثت والله ما آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر ويقال يا قاتل أمه ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل فأصبحت وقد جهدت ثم مكثت كذلك يوما آخر وليلة فجاءها فقال : يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني فكلي إن شئت وإن شئت فلا تأكلي فلما أيست منه أكلت وشربت فأنزل الله هذه الآية وأمره بالبر بوالديه والإحسان إليهما وأن لا يطيعهما في الشرك فذلك قوله تعالى (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) وفي الحديث «لا طاعة لمخلوق في معصية الله» ثم أوعد بالمصير إليه فقال تعالى (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ) أي فأخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بصالح أعمالكم وسيئاتها أي فأجازيكم عليها.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨))

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي في زمرة الصالحين وهم الأنبياء والأولياء وقيل في مدخل الصالحين وهو الجنة. قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ) يعني أصابه بلاء

٣٧٦

من الناس افتتن (فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) أي جعل أذى الناس وعذابهم كعذاب الله في الآخرة والمعنى أنه جزع من أذى الناس ولم يصبر عليه فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عذابه وهو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين وكفر (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) أي فتح ودولة للمؤمنين (لَيَقُولُنَ) أي هؤلاء المنافقون للمؤمنين (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أي على عدوكم وكنا مسلمين وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا فأكذبهم الله تعالى فقال (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) أي من الإيمان والنفاق (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا فثبتوا على الإيمان والإسلام عند البلاء. (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) أي بترك الإسلام عند البلاء قيل نزلت هذه الآية في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الناس أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا. وقال ابن عباس : نزلت في الذين أخرجهم المشركون معهم إلى بدر وهم الذين نزلت فيهم (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) وقيل هذه الآيات العشر من أول السورة إلى ها هنا مدنية وباقي السورة مكية (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني من أهل مكة قيل قاله أبو سفيان (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي من قريش (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) يعني ديننا وملة آبائنا ونحن الكفلاء بكل تبعة من الله تصيبكم فذلك قوله (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أي أوزاركم والمعنى إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم فأكذبهم الله عزوجل بقوله (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قولهم نحمل خطاياكم (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) أي أوزار أعمالهم التي عملوها بأنفسهم (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي أوزار من أضلوا وصدوا عن سبيل الله مع أوزار أنفسهم. فإن قلت قد قال أولا وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء وقال ها هنا وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم فكيف الجمع بينهما. قلت : معناه إنهم لا يرفعون عنهم خطيئة بل كل واحد يحمل خطيئة نفسه ورؤساء الضلال يحملون أوزارهم ويحملون أوزارا بسبب إضلال غيرهم فهو كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» رواه مسلم (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) أي سؤال توبيخ وتقريع لأنه تعالى عالم بأعمالهم وافترائهم. قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ) أي فأقام (فِيهِمْ) يدعوهم إلى عبادة الله وتوحيده (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) فإن قلت فما فائدة هذا الاستثناء وهلا قال تسعمائة وخمسين سنة قلت فيه فائدتان إحداهما : أن الاستثناء يدل على التحقيق وتركه يظن به التقريب فهو كقول القائل عاش فلان مائة سنة فقد يتوهم السائل أنه يقول مائة سنة تقريبا لا تحقيقا فإن قال مائة سنة إلا شهرا أو إلا سنة زال ذلك التوهم وفهم منه التحقيق. الفائدة الثانية : هي لبيان أن نوحا صبر على أذى قومه صبرا كثيرا وأعلى مراتب العدد ألف سنة. وكان المراد التكثير فلذلك أتى بعقد الألف لأنه أعظم وأفخم هذه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أعلم أن الأنبياء قد ابتلوا قبله وأن نوحا لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم فصبر في الدعاء ولم يؤمن من قومه إلا قليل فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة من آمن بك.

قال ابن عباس : بعث نوح لأربعين سنة وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس فكان عمره ألفا وخمسين عاما. وقيل في عمره غير ذلك. قوله تعالى (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) أي فأغرقهم (وَهُمْ ظالِمُونَ) قال ابن عباس مشركون (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) يعني من الغرق (وَجَعَلْناها) يعني السفينة (آيَةً) أي عبرة (لِلْعالَمِينَ) قيل إنها بقيت على الجودي مدة مديدة وقيل جعلنا عقوبتهم بالغرق عبرة. قوله تعالى (وَإِبْراهِيمَ) أي وأرسلنا إبراهيم (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) أي أطيعوا الله وخافوه (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ما هو خير لكم مما هو شر لكم ولكنكم لا تعلمون (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي تقولون كذبا وقيل تصنعون أصناما بأيديكم وتسمونها آلهة (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) أي لا يقدرون أن يرزقوكم (فَابْتَغُوا) أي فاطلبوا (عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) فإنه القادر على ذلك (وَاعْبُدُوهُ) أي وحدوه (وَاشْكُرُوا لَهُ) لأنه المنعم عليكم بالرزق (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

٣٧٧

أي في الآخرة (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم فأهلكهم الله (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) قوله تعالى :

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩))

(أَوَلَمْ يَرَوْا) قيل هذه الآيات إلى قوله فما كان جواب قومه يحتمل أن تكون من تمام قول إبراهيم لقومه وقيل إنها وقعت معترضة في قصة إبراهيم وهي في تذكير أهل مكة وتحذيرهم ومعنى أو لم يروا أو لم يعلموا (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) أي يخلقهم نطفة ثم علقة ثم مضغة (ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي في الآخرة عند البعث (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي الخلق الأول والخلق الثاني (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) أي انظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بدأ خلقهم (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) أي ثم إن الله الذي خلقهم ينشئهم نشأة ثانية بعد الموت والمعنى فكما لم يتعذر عليه إحداثهم مبدئا كذلك لا يتعذر عليه إنشاؤهم معيدا بعد الموت ثانيا (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي من البداءة والإعادة (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) عدلا منه (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) تفضلا (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي تردون (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) قيل معناه ولا من في السماء بمعجزين والمعنى أنه لا بعجزه أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء في السماء وقيل معنى قوله ولا في السماء لو كنتم فيها (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) أي يمنعكم مني (وَلا نَصِيرٍ) أي ينصركم من عذابي (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) يعني بالقرآن (وَلِقائِهِ) أي البعث (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) يعني الجنة (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فهذا آخر الآيات في تذكير أهل مكة ثم عاد إلى قصة إبراهيم عليه‌السلام فقال تعالى (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) قال ذلك بعضهم لبعض وقيل قال الرؤساء للأتباع (اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) أي بأن جعلها بردا وسلاما قيل إن ذلك اليوم لم ينتفع أحد بنار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يصدقون (وَقالَ) يعني إبراهيم لقومه (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة وقيل معناه إنكم تتوادون على عبادتها وتتواصلون عليها في الدنيا (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ

٣٧٨

وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) تتبرأ الأوثان من عابديها وتتبرأ القادة من الأتباع ويلعن الأتباع القادة (وَمَأْواكُمُ النَّارُ) يعني العابدين والمعبودين جميعا (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي مانعين من عذابه (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) أي صدقه برسالته لما رأى معجزاته وهو أول من صدق إبراهيم وأما في أصل التوحيد فإنه كان مؤمنا لأن الأنبياء لا يتصور فيهم الكفر (وَقالَ) يعني إبراهيم (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) إلى حيث أمرني ربي فهاجر من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران ثم هاجر إلى الشام ومعه لوط وامرأته سارة وهو أول من هاجر إلى الله تعالى وترك بلده وسار إلى حيث أمره الله بالمهاجرة إليه. قيل هاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) أي الذي لا يغلب والذي يمنعني من أعدائي (الْحَكِيمُ) الذي لا يأمرني إلا بما يصلحني.

قوله تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) يقال إن الله تعالى لم يبعث نبيا بعد إبراهيم إلا من نسله (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) هو الثناء الحسن فكل أهل الأديان يتولونه ويحبونه ويحبون الصلاة عليه والذرية الطيبة والنبوة من نسله هذا له في الدنيا (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي في زمرة الصالحين قال ابن عباس مثل آدم ونوح. قوله عزوجل (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي الفعلة القبيحة (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) أي لم يفعلها أحد قبلكم ثم فسر الفاحشة فقال (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) يعني أنكم تقضون الشهوة من الرجال (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) وذلك أنهم كانوا يأتون الفاحشة بمن مر بهم من المسافرين فترك الناس الممر بهم لأجل ذلك وقيل معناه تقطعون سبيل النسل بإيثار الرجال على النساء (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) أي مجالسكم والنادي مجلس القوم ومتحدثهم عن أم هانئ بنت أبي طالب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله وتأتون في دنياكم المنكر قال «كانوا يحذفون أهل الأرض ويسخرون منهم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب الحذف هو رمي الحصى بين الأصابع قيل إنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه قال : أنا أولى به وقيل : إنه كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثة دراهم وقيل إنهم كانوا يجامعون بعضهم بعضا في مجالسهم وقيل إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم وعن عبد الله بن سلام كان يبزق بعضهم على بعض. وقيل كان أخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحل الإزار والصفير والحذف والرمي بالجلاهق واللوطية (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) أي لما أنكر عليهم لوط ما يأتونه من القبائح (إِلَّا أَنْ قالُوا) أي استهزاء (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي إن العذاب نازل بنا فعند ذلك

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ

٣٧٩

السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠))

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) أي بتحقيق قولي إن العذاب نازل بهم. قوله عزوجل (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) أي من الله بإسحاق ويعقوب (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أي قوم لوط والقرية سدوم (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ قالَ) يعني إبراهيم إشفاقا على لوط وليعلم حاله (إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا) أي قالت الملائكة (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي من الباقين في العذاب (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) أي ظنهم من الإنس فخاف عليهم ومعناه أنه جاءه ما ساءه (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي عجز عن تدبير أمرهم فحزن لذلك (وَقالُوا لا تَخَفْ) أي من قومك (وَلا تَحْزَنْ) علينا (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) أي إنا مهلكوهم ومنجوك وأهلك (إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً) أي عذابا (مِنَ السَّماءِ) قيل هو الخسف والحصب بالحجارة (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها) أي من قريات لوط (آيَةً بَيِّنَةً) أي عبرة ظاهرة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يعني أفلا يتدبرون الآيات تدبر ذوي العقول قال ابن عباس الآية البينة آثار منازلهم الخربة وقيل هي الحجارة التي أهلكوا بها أبقاها الله حتى أدركها أوائل هذه الأمة. وقيل هي ظهور الماء الأسود على وجه الأرض. قوله تعالى (وَإِلى مَدْيَنَ) أي وأرسلنا إلى مدين ؛ ومدين اسم رجل وقيل اسم المدينة ؛ فعلى القول الأول يكون المعنى وأرسلنا إلى ذرية مدين وأولاده ؛ وعلى القول الثاني وأرسلنا إلى أهل مدين (أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) أي افعلوا فعل من يرجوا اليوم الآخر وقيل معناه اخشوا اليوم الآخر وخافوه (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي الزلزلة وذلك أن جبريل صاح فرجفت الأرض رجفة (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي باركين على الركب ميتين (وَعاداً وَثَمُودَ) أي وأهلكنا عادا وثمود (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ) يا أهل مكة (مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي منازلهم بالحجر واليمن (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي عبادتهم لغير الله (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي عن سبيل الحق (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي عقلاء ذوي بصائر. وقيل كانوا معجبين في دينهم وضلالتهم يحسبون أنهم على هدى وهم على باطل وضلالة والمعنى أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) أي أهلكنا هؤلاء (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) أي بالدلالات الواضحات (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ) أي فائتين من عذابنا (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) وهم قوم لوط رموا بالحصباء وهي الحصى الصغار (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) يعني ثمود (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) يعني قارون وأصحابه (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) يعني قوم نوح وفرعون وقومه (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي بالهلاك (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي بالإشراك. قوله تعالى :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ

٣٨٠