تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٢

إدراك الحقيقة ، وانصرفوا عن باب الربوبيّة من هجوم إجلال سطوات العزّة عليهم ، فأحالهم الحق جلّ وعزّ إلى آدم باقتباس العلم والأدب في الخدمة ؛ حتى يوصّلهم بعلم الصفات إلى ما لم ينالوا بالعبادات ؛ لأنهم عبدوا الله بالجهل ، ولم يعرفوه حق معرفته ، وهو عرف الله بحقيقة العلم الذي علّمه من العلوم اللدنية ، لا جرم أنه أستاذهم في علم المعرفة ، وإن سبقوا منه بالعبادة.

وأيضا لم يرى في الكون محبّا صافيا كما يريد ، فجعل آدم ؛ لأجل المحبّة ؛ لأنه خلق الملائكة ؛ لأجل العبادة ، فعرفهم عند المشورة مع الملائكة خلّوهم من المحبّة ؛ بشغلهم عنه بالعبادة.

وأيضا أراد الملائكة أن يروا الله تعالى ، فعلم الحق ضعفهم عن النظر إليه ، فجعل آدم لهم حتى يرونه ؛ لأن الله تعالى خلقه بيده ، وصوّره بصورته ، ووضع فيه مرآة روحه ، إذا نظروا فيها تجلّى لهم الحق تعالى.

وأيضا ليس في العالم شاهد جميل يحبّه الحق ، فخلق بيده ، وألبسه صفة من صفاته ، وأحبّه بصفاته ؛ لأجل صفاته.

وأيضا أراد الحق أن يظهر لهم نفسه في حقائق الصنع ، فانصرفوا من الحق إلى الخلق.

وقيل : عصوا الله تعالى باعتراض الحق في مذمّة آدم ، ومدح أنفسهم لمّا قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ؛ لأن الله تعالى سمّى آدم خليفة في بدأ الخطاب ، والخليفة لا يحيف ولا يجور ، فجهلوا من وصفه الله تعالى بخلافته ، وعلّمه بخصائص محبته ، ومدحه بالخلافة ، وهم عيّروه بالفسق والجهالة من سوء الظن ، وقلّة الأدب ، فكشف الله تعالى نقاب القدس عن وجه آدم ، وأنورّ بجماله العالم ، فخجلوا من دعواهم ، واعترفوا بجهلهم ، فقالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا).

وقولهم : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) : تحرّكوا من حيث الأعمال ، وشأن آدم من حيث الأحوال برؤية الفعل عن مشاهدة الاصطفائية التي سبقت بنعت الحسن لآدم.

وأيضا تعرّضوا بنعت المعبودية عند سرادق العظمة منه على الربوبية ، فأسقطهم الله عن مقام حقيقة المعرفة ، وأحوجهم باقتباس علم أحوالهم عن آدم.

قال بعضهم : لما شاهدوا أفعالهم وافتخروا بها ، ردّ الله تعالى وجوههم عنه إلى آدم ، وأمرهم بالسجود له ؛ إعلاما أن العبادة لا تزن عنده شيئا.

وقال بعضهم : من استكبر بعلمه ، واستكبر بطاعته كان الجهل وطنه ؛ ألا تراهم لما قالوا : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ألجأهم إلى أن قالوا : (لا عِلْمَ لَنا).

٤١

قال الواسطي : من قال أنا ، فقد نازع القدرة.

قالت الملائكة : (نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ، وذلك لبعدهم من المعارف ، وهم أرباب الافتخار والاعتراض على الربوبيّة ، بقوله تعالى : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها).

وقال ابن عطاء : أن الملائكة جعلوا دعاويهم وسيلة إلى الله ، فأمر الله النار ، فأحرق منهم في ساعة واحدة ألوفا ، فأقرّوا بالعجز وقالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا).

وقال جعفر : لما باهوا بأعمالهم ، وتسبيحهم وتقديسهم ، ضربهم كلهم بالجهل حتى قالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا).

وقال بعض العراقيين : شروط الخلافة رؤية بداية الأشياء فصلا ووصلا ، إذ لا فصل ، ولا وصل لم ينفصل منه شيء ، وأي وصل للحدث والقدم.

وقال بعضهم : عيّروا آدم واستصغروه ، ولم يعرفوا خصائص الصنع به ، وأظهر عليه صفات القدم ، فصار الخضوع له قربة إلى الحق ، والاستكبار عليه بعدا من الحق.

وقال أبو عثمان المغربي : ما بلاء الخلق إلا بالدعاوى.

ألا ترى الملائكة لما قالوا : (نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) كيف ردوا إلى الجهل حتى قالوا : (لا عِلْمَ لَنا).

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) : علّمه أسماء الصفات الخاصة التي عرف بها حقائق جميع الصفات ، واهتدى بأنوارها طرائق معارف الذات.

وأيضا علّمه أسماء المقامات التي هي مدارج الحالات.

وقال الجريري : علّمه اسما من أسمائه المخزونة ، فعلّم به جميع والأسامي.

وقال ابن عطاء : لو لم يكشف لآدم علم تلك والأسامي ؛ لكان أعجز من الملائكة في الإخبار عنها.

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ

٤٢

(٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

وقيل : غلب علمه على علم الملائكة ؛ لقوة مشاهدة الخطاب من غير واسطة في قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (١).

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) : ألبس الملائكة لباس العبودية ، فأعجبوا بعبادتهم ، وألبس آدم لباس الرؤية ، ورقم عليه طراز صفاته ، وعرضه على الملائكة ، فرأوه ملتبسا بلباس الحق ، فخجلوا عن تعجّبهم بعبادتهم ، فأمرهم الله بسجود آدم تغييرا لهم ، وتعليما أن عبادتهم لا تزيد بالربوبية ، ولا تنقص عن الألوهية.

وأيضا لما خلّقه بخلقه ، وصوّره بصورته ، وألبسه أنواره ، ونفخ فيه من روحه ، وأسكنه جنته ، وأجلسه على سرير مملكته ، فأسجد له ملائكته ؛ حتى أكمل له في العبودية صفات الربوبية ، فلما سجد الملائكة لآدم ، فأبى إبليس عن السجود ؛ لأن الملائكة رأوا فيه سرّ الله تعالى ، وعليه لباس الله مصبوغا بصبغ الله ، ولم ير إبليس ما كشف لهم ، فأبى واستكبر من غضب الله عليه ، وكان من الكافرين ، أي : في سابق علمه من المطرودين.

وقال ابن عطاء : لما استعظموا تسبيحهم وتقديسهم ، أمرهم بالسجود لغيرهم ، يريهم به استغناؤه عنهم وعن عبادتهم.

قال الحسن بن منصور : لمّا قيل لإبليس اسجد لآدم خاطب الحق فقال : ارفع شرف السجود عن سرّي إلا لك في السجود ، حتى أسجد له إن كنت أمرتني فقد نهيتني ، فقال له :

__________________

(١) قوله تعالى : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعني : الصور التي تجلّى فيها الحق إن كنتم صادقين في قولكم : (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) ، كأنه قال لهم : وهل سبّحتموني بهذه الأسماء التي تقتضيها هذه التجلّيات التي أتجلّاها لعبادي؟ وإن كنتم صادقين في قولكم : ونقدّس ذواتنا عن الجهل بك ، فهل قدّستم ذواتكم لنا من جهلكم بهذه التجلّيات وما لها من الأسماء التي ينبغي أن تسبّحوني بها؟ فقامت عليهم الحجة في ادّعائهم الإلهيّة ، فقالت بعد العلم : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) ، واعترفت بالكمال الذي غاب عنها هذا ، وقد قال تعالى لها : إنه خليفة ، فكيف بها لو لم يقل لها ذلك ، فلم يكن ذلك إلا لبطونه على الملائكة.

٤٣

فإني أعذبك عذاب الأبد ، فقال : أولست تراني في عذابك لي ، قال : بلى ، فقال : فرؤيتك لي تحملني على رؤية العذاب ، افعل بي ما شئت ، فقال : أجعلك رجيما ، قال إبليس : أوليس لم يحامد سوى غيرك ، افعل بي ما شئت.

(يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) أي : اسكن في جواري من قطيعتي ، وإن تصيبك خطيئة ، فإن في عصيانك في دار العصمة عذر عصاة أولادك من أهل التوحيد في دار المحنة ، واشتياقك إلى نعيمي بعد هجرانك من جواري ، وبلوغك بعد فنائك في القدم إلى لقائي.

وأيضا أوصاه بالتمكين عند خداع إبليس ومكره ؛ حتى لا يزول قدمه عن مقام التمكين بمقالة العين.

وأيضا أراد الله أن يعصيا فوكّلهما إلى أنفسهما ، وعزلهما عن القربة بإدخالهما في الجنة ؛ لأن آدم وحوّاء طفلا الزمان ، لا يستقران في جبروت الرحمن ، فألجأهما إلى أكل ثمار أشجار الجنان لإفراد القديم عن الحدثان ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما).

وقال القاسم : السكون في الجنة وحشة من الحق ، وأنه ردّ المخلوق إلى المخلوق ، وهو ردّ النقص إلى النقص ؛ لامتناع الأزل عن الحوادث.

وقال بعضهم : ردّهما في السكون إلى أنفسهما ووكّلهما إليها ، فقال : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ، وفي دعاء المخلوق إلى المخلوق ، إظهار العلل بمعونات الطبع.

(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) : أخفى الله تعالى في الشجر أسرار الربوبية لآدم وحواء ، ومنعهما عن قربها ؛ حتى لا يشوّش عليهما عيش الإنسانية ، ولكن هيّجهما بمنعهما عن قرب الشجرة إلى طلب تناولها ، فلمّا قربا الشجرة ، كسا الشجرة أنوار القدس ، وتجلّى الحق سبحانه لهما من الشجرة ، كما تجلّى من شجرة موسى لموسى ، فعشقا الشجرة ووقعا فيها ، ونسيا ذكر النهي عن قربها.

قال ابن عطاء : نهى عن جنس الشجرة ، فظنّ آدم أن النهي عن المشار إليه ، فتناول على حد النسيان ، وترك المحافظة لا على التعمّد والمخالفة (١).

__________________

(١) قال الشيخ نجم الدين ـ قدس‌سره ـ : إن آدم خاطبه مولاه خطاب الابتلاء والامتحان والنهى نهى تعزز ودلال كأنه قال يا آدم أبحت لك الجنة وما فيها إلا هذه الشجرة فإن الإنسان حريص على ما منع فسكنت نفس آدم على حواء وإلى الجنة وما فيها إلا إلى الشجرة المنهي عنها لأنها كانت مشتهى القلب ، وكان للنفس فيها حظ ولا يزال يزداد توقانه إليها فيقصدها حتى تناول منها فطر سر الخلافة والمحبة والمحنة والتحقق بمظاهر الجمال والجلال كالتواب والغفور والعفو والقهار والستار. والحاصل أنه لما

٤٤

قال الله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥)).

(فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) أي : من المجاورين عن حد العقل إلى حد العشق.

وقال بعضهم : معناه أنه نهاهما عن قرب الشجرة ، وقضى عليهما ما قضى ؛ لنريهما عجزهما ، وإنّ العصمة هي التي تقومهما ، لا جهدهما وطاقتهما.

(وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) : الإشارة فيه أن المريد لا يجوز أن يعتدي بكل أحد ، وربما يقع بكلام أهل الخداع في هاوية الهلاك ، والمريد قد غلب عليه الإرادة ، وحلاوة المعاملة ، وكلّ من يدعوه إلى شيء من المعاملة يسمع كلامه ، وإن كان مدّعيا ؛ لأنه لا يعرف كيفية الأحوال ، فيسقط عن درجة الإرادة بشؤم صحبة الأضداد.

وأيضا من سلك طريق الشهوة ، احتجب عن مشاهدة القربة ؛ لأن سوء الأدب يوجب سقوط المريد عن درجة الحرمة.

(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي : مشهد إسباحكم في ملكوت الأرض ، ومستقرّ أرواحكم في ملكوت الحضرة.

(وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) : «متاعهم» : أنوار تجلّي الحق يترادف على قلوبهم ؛ ليعيشوا به تسليا عن فقدان المشاهدة.

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) : «الكلمات» : ما اعتذر الله آدم من إنفاذ قضائه وقدره عليه ، فتلقّى آدم من ربه تلك الكلمات ، فاعتذر بها من الله لخطيئته.

وقيل : هي ربنا ظلمنا أنفسنا.

وقال جعفر بن محمد : قال آدم يا ربّ ما خدعت إلا بك.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي : اذكروا معونتي في طاعتكم وهدايتي قبل مجاهدتكم ، وما كشف لكم من أسرار معرفتي ؛ حتى لا تغترّوا بمعاملتكم.

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢)).

وقال بعضهم : ربط بني إسرائيل بذكر النعمة ، وأسقط عن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، فدعاهم

__________________

علم الله تعالى أنه يأكل من الشجرة نهاه ليكون أكله عصاينا يوجب توبة ومحبة وطهارة من تلوث الذنب كما قال تعالى : (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) فأورثه ذلك النهي عن أكل الشجرة عصيانا بسبب النسيان ثم توبة بسبب العصيان ثم محبة بسبب التوبة ثم طهارة بسبب المحبة. تفسير حقي (١ / ١٢٨).

٤٥

إلى ذكره ، فقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ؛ ليكون نظر الأمة من النعمة إلى المنعم ، ونظرت أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المنعم إلى النعمة.

وقال سهل بن عبد الله : أراد الله أن يخصّ أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزيادة على الأمم ، كما خصّ نبيّهم عليه‌السلام بزيادة على الأنبياء.

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٧٥) فقال للخليل : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وقطع سرّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورؤيته عما سواه.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣))

ألم تر إلى ربك قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي : أوفوا بما نقشت في قلوبكم من حقائق إلهامي وخطابي في جميع الأحوال بامتثال أمري ، أوف بكشف جمالي لكم حين احتجبتم عن وصالي وقربي.

وأيضا أوفوا بما أعطيكم من استعداد معرفتي وعمارة موقع نظري ، أوف بأن أطلعكم على خزائن ستري ، وحقائق علمي في سواتر غيبي.

وقال بعض البغداديين : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) ، الذي عهدتم يعني : في الميثاق الأوّل

٤٦

بلفظ بلى ، فلا ترجعوا في طلب الشيء إلى غيري.

وقيل : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) : أحفظوا ودائعي عندكم لا تظهروها إلا عند أهلها ، أوف بعهدكم ، وأبيح لكم مفاتيح خزائن برّي ، وأنزلكم منازل الأصفياء.

وقال أبو عثمان : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) : في التوكّل ، أوف بعهدكم بكفاية مهمّاتكم.

وقال أبو سعيد القرشي : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) في حفظ آداب الظاهر ، أوف بعهدكم بتزيين سرائركم.

وقال بعض العراقيين : أوفوا بعهدي في العبادات ، أوف بعهدكم ، وأوصلكم إلى منازل الرعايات.

وسئل أبو عمرو البيكنديّ عن قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) ، فقال وفاء العهد الأمانة ، وهو : ألّا يخالف سريرتك علانيتك ؛ لأنّ القلب أمانة ، والوفاء بالأمانة الإخلاص في العمل ، فمن لم يخلص لا نقيم له يوم القيامة وزنا.

(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) : هذا خطاب الخاص من الخاص إلى الخاص ، أمرهم بإجلال نفسه بخصائص التعظيم مع لبّ اليقين ، خوفا منه به لا عنه ، فإنه جلّ وعزّ خوّفهم بنفسه لا عن نفسه. وقال سهل بن عبد الله : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) : موضع اليقين ومعرفته ، (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) موضع العلم السابق ، وموضع المكر والاستدراج.

قوله : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) أي : بي اتّقوا منّي ، وبداية التّقوى التبرّي من الناسوت للّاهوت ، ومن الكون للمكوّن ؛ حتى بلغ حقيقة التقوى ، فاتّقى منه به له فرجا الله ، وخاف منه.

وقال بعضهم : التقوى على أربعة أوجه : «العامة» : تقوى الشرك ، و «للخاص» : ترك المعاصي ، و «للعارفين» : تقوى التوسّل ، و «لأهل الصفوة» : تقواهم منه وإليه.

وقال أبو عبد الرحمن السلميّ : التقوى النظر إلى الكون بعين النقص.

(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) أي : تخلطوا الكشف بالخيال ، والفهم بالوهم ، والفراسة بالحسّ ، والإلهام بالوسواس ، واليقين بالشك ، والعبودية بالربوبية ، والحقيقة بالرسم ، والإخلاص بالرياء ، والكرامات بالمكر.

وقال سهل : لا تخلطوا أمر الدنيا ، بأمر الآخرة.

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) أي : استعينوا بالصبر في طلب المقامات ، والصلاة في طلب المشاهدات ، أيضا استعينوا بالصبر في تزكية الأشباح ، وبالصلاة في تربية الأرواح.

٤٧

وقال ابن عطاء : استعينوا على البلوغ إلى درك الحقائق.

وقال أبو عثمان : استعينوا بهم على رعاية أوقاتكم.

وقال بعض العراقيين : استعينوا بالصبر عن دون الله ، والصلاة بالوقوف بحسن الأدب مع الله.

(وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) : لأنّ في صوم الرجال إمساك عمّا سوى الله ، وفي صلاة أهل الكمال عذوبة القلب من طلب مناجاة الربّ ، ولا يستعملها إلا من خشع نفسه في العبودية ، وعشق قلبه بالربوبية.

وأيضا أمرهم بالعبودية ، وأرشدهم إلى جميع العبادة ، وهي الصوم والصلاة ، وأضاف تساهلها إلى أهل الخشوع ؛ لأنها الكبيرة على العاشقين.

وقال أبو عثمان : لمن خشع قلبه وروحه ، وستره بوارد الهيبة ، وطوالع الإجلال.

وقال بعضهم : لمن أيّد في الأزلي تخصيص الاجتباء.

وقال ابن عطاء : إنها لكبيرة إلا على من تحقّق إيمانه ، وخشع سرّه لعظمتي ، واحترقت أحشاؤه خوفا من قطيعتي.

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) : وصفهم بالظنّ ؛ لأنهم ليسوا من أهل المكاشفة الذين رأوا ربّهم بقلوبهم في غيبه ، فتوافقت بدايتهم نهايتهم.

وقيل : من وحّد الله بأفعاله وطاعته ، كان توحيده على الظنّ ؛ ألا تراه يقول : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).

وقال أبو عبد الرحمن السلميّ : لو حقّقوا التوحيد ، كانت صلواتهم وخشوعهم عليهم زينا ، فلما ركنوا إلى أفعالهم ، كان توحيدهم ظنّا ، وطاعتهم عليهم شيئا.

قال بعضهم : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) : يتيقنون ، وإنّما أقام الظنّ مقام اليقين ؛ لأن في الظن طرفا من اليقين ، وإنما ذكر الظن إبقاء على المذنبين ، وسترا على العاصين الذين ليس لهم صفاء اليقين ، ولو ذكر اليقين صرفا ، لخرجوا من الجملة.

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) : أراد الله تعالى أن يقدّس موسى من العادة والطبيعة ورسم البشرية ، بصفاء الخلوة ، ونيران الجوع ؛ ليتهيّأ له استعداد تحمل أنوار المشاهدة والخطاب ، فصار سنّة لأوليائه من طلّاب المعرفة والمشاهدة ، تلك الأربعين.

وأيضا أراد أن يربّيه في كنف قربه ؛ حتى يقدر أن يسمع كلامه القديم ؛ لأن تحمّل الحقائق لا يكون لأحد ، حتى يستقيم في الواردات والصادرات من التجلّي والتدلّي.

٤٨

(إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) (١) أي : آثرتم تمثال الشيطان على مشاهدة الرحمن.

وأيضا جهلتم صنع الخالق من صنع المخلوق.

وقيل : فيه عجل كل إنسان نفسه ، فمن أسقطه وخالف مراده هواه ، فقد بري من ظلمه.

(فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي : فارجعوا عن رؤية مواهبه إلى معرفة نفسه ، واقتلوا أنفسكم بسيوف همومكم ؛ حتى لا يزاحمكم في قربه بربكم.

وأيضا توبوا من رؤية توبتكم عليكم ، واقتلوا أنفسكم بمعرفتكم برؤية توبة ربكم عليها ، حتى توصّلكم معرفتها ومخالفتها إلى معرفة ربكم.

«التوبة» هاهنا : محو أصول الخيال عند مبادئ المكاشفات ، وقتل النفس عند وجدان المشاهدات ، قربانا من البريّات لصفات الأزليّات.

وأيضا فاقتلوا أنفسكم بالمجاهدات بعد معرفة النفوس بعين النكرة على حقيقة المعرفة ، حتى توصّلكم إلى عين الجمع ، وصرف الاتّحاد بلا رسومات البشرية.

وقيل : فاقتلوا أنفسكم في طاعته ، ثم توبوا إليه من أفعالكم وأقوالكم وطاعتكم.

قال ابن منصور : «التوبة» : محو البشرية بإثبات الإلهية ، وقتل النفس عمّا دون الله تعالى ، وعن الله حتى ترجع إلى أصل القديم ، ويبقى الحق كما لم يزل.

وقيل : إذا كان أول قدم في العبودية التوبة ، وهو إتلاف النفس وقتلها ، بترك الشهوات وقطعها عن الملاذ ، فكيف الوصول إلى شيء من منازل الصدّيقين ، وفي أول قدم منها ، تلف المهج.

وقيل : توبوا إلى بارئكم أي : ارجعوا إليه بأسراركم وقلوبكم ، واقتلوا أنفسكم بالتبري منها ؛ فإنها لا تصلح لبساط الأنس.

وقال ابن منصور : ما شرع الحقّ إليه طريقا ؛ إلا وأوائله التلف.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا

__________________

(١) إشارة إلى القوى النفسانية والطبيعية العاصية ، كما دلّ عليه قول الله تعالى : (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) [طه : ٩٠] : أي بعبادة عجل الطبيعة الذي اتخذه سامري الهوى ، مع أنه لا بدّ من ذبحه كما قال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨] ؛ وهي أمانات الأمر والنهي ، وأهلها القلب والقوى الروحانية ، وبوصولها إليها والحركة بالعمل بمقتضياتها ؛ ينكسر سورة النفس والطبيعة ، وتموت القوى الفاسدة الحاملة لموت القلب ، وحياة النفس.

٤٩

إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠))

قال الله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : فما دام يصحبك تميّز وعقل ، فأنت في عين الجهل ؛ حتى يضل عقلك ، ويذهب خاطرك ، وتفقد نسبتك إذ ذاك عسى ولعلّ.

وقال الواسطي : كانت توبة بني إسرائيل إفناء أنفسهم ، ولهذه الأمة أشدّ ، وهو إفناء نفوسهم عن مرادها مع بقاء رسوم الهياكل.

وقال الفارسي : «التوبة» : محو البشرية ؛ لإثبات الإلهية.

قال الله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).

وقيل : ألقوا عن أنفسكم كل شيء ، لا يقرّبكم إلى الله تعالى.

أي : طلبتم رؤيتي ومطالعتي ؛ بتقليد موسى ، وليس لكم مقام المشاهدة ، فلمّا برز لكم ذرة من أنوار ذاتي ، فنيتم فيها واحترقتم ؛ لأنّكم في البداية ، وموسى في النهاية.

وأيضا أفنيتكم في سطوات عظمتي ، وأبقيتكم بأنوار جمالي وجلالي ، بقوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ).

وقال بعض البغداديين : من طالع الذات بغير الحرمة انمحق ، ومن طالعها بالحرمة أولى عليه صفات الجبروت والعظمة ؛ ليستغيث من ذلك بلسان العجز ، سبحانك تبت إليك.

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) : ظلّلهم بغيم القدرة ،

٥٠

وأنزل منها على قلوبهم وابل المعرفة ، وأطعمة الحكمة.

وأيضا لما فرّقهم في تيه الغربة ، حلّلهم بأودية الكرامة ، وأنزل عليهم مائدة الحضرة بلا كلفة الاكتساب ، وكدّ المعاملات.

وقال الأستاذ : لما طوّحهم في شابه الغربة ، لم يرض إلا بأن ظلّلهم ، وبلبسة الكفايات جلّلهم ، وعن تكلّف التكسّب أغناهم ، وبجميل صنعه فيما احتاجوا إليه تولّاهم (١).

قوله : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) : لأرواح الخاص مشارب المعارف في بحار الذات والصفات ، يعرف كل واحد منها موردها من الحقّ سبحانه تعالى ، ومشربها بالتفاوت ، فبعضها في مقام الحيرة ، وبعضها في مقام المنّة ، وبعضها في مقام الوصلة ، وبعضها في مقام الفناء ، وبعضها في مقام البقاء ، وبعضها في مقام الجلال والجمال ، وبعضها في صرف الجبروت ، وبعضها في عالم الملكوت ، وبعضها في مشاهدة القدس ، وبعضها في رياض الأنس على حد مقاماتها ، وتفاوت سيرها.

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) [الإنسان : ٢١].

وقيل فيه : شرب كلّ أحد حيث أنزله رائده ، فمن كان رائده نفسه ، فمشربه الدنيا ، ومن كان رائده قلبه ، فمشربه الآخرة ، ومن كان رائده سرّه ، فمشربه في الحضرة على المشاهدة ، حيث يقول عزوجل : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) طهّرهم به عن كلّ ما سواه.

وأيضا أبلاهم الله بالنعمة ، كما أبلاهم بالنقمة.

وأيضا لما عصوا الله تعالى ، أخذ عنهم لذّة ذلك الطعام ، ولم يصبروا على فقد اللذّة.

وأيضا من لم يشكر الله في نعمائه غيرها عليه ؛ حتى لم يصبر على بلائه.

وقيل : الناس فيه رجلان : رجل أزيل عنه تدبيره ، فهو مستريح في ميادين الرضا راض بأحكام القضاء فيه ساء أو سرّ ، فهو في الزيادة أبدا ، وآخر ردّ إلى تدبيره واختياره ، فلا يزال يتخبّط في تدبيره واختياره إلى أن يهلك.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ

__________________

(١) وقال أيضا : وأنزلنا عليهم المنّ والسّلوى مما نفى عنهم تعب الجوع والجهد والسعي والكد ، وفجّرنا لهم العيون عند النزول حتى كانوا يشاهدونهم عيانا ، وألقينا بقلوبهم من البراهين ما أوجب لهم قوة اليقين ؛ ولكن ليست العبرة بأفعال الخلق ولا بأعمالهم إنما المدار على مشيئة الحق ، سبحانه وتعالى فيما يمضي عليهم من فنون أحوالهم.

٥١

الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ

٥٢

بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤))

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) : لم يصبروا على كل طعام الروحانيين ؛ لأنهم أهل الطباع.

قوله : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) أي : أتستبدلون طعام أهل القربة ؛ بطعام أهل الشهوة.

وقيل معناه : أتعارضون حسن اختياري لكم في الأزل ، بمخالفة السؤال والدعاء ، وما يبدّل القول لديّ.

وقال الواسطي : في هذه الآية ما يتولّاه من المن والسلوى من غير كلفة لهم ، فتبع القوم شهوة نفوسهم ، وما يليق بطباعهم ، لمّا رجع إلى الغناء والضرّ عند ذكرهم.

(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) : ضرب الله عليهم ذلّة الطغيان قبل وجود الأكوان ، وقهرهم بلطمة المسكنة في تعبّد الشيطان.

وأيضا ألبس الله قلوبهم حبّ الدنيا فقرا وسخطا ، وألبس سرائرهم بغض الآخرة خوفا ومقتا. وقيل : الذلّة والشحّ والمسكنة والحرص.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) : «البقرة» هي : النفس الطاغية الأمّارة بالسوء المهيّجة السجيّة المذمومة التي تثبّت الطباع في مزارع الهوى ، أمرهم بقتلها عن الحياة الفانية ؛ حتى وصلوا إلى الحياة الباقية ، وأدركوا بمخالفتها درجة إحياء الموتى ، ومطالعة الغيوب ، وتفرّس القلوب.

(لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي : نفس ليست بذات صبوة في الفتور ،

٥٣

ولا بذات عزّة في النفور ، ولكنها ذات شوكة وصولة في شباب الغفلة والشهوة.

(صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أي : تخرج بزيّ المعبودية رياء وسمعة ، وهو لباس واحد ظاهره سلامة ، وباطنه خيانة ، خدعت به الناظرين من الجاهلين ، وبلسان الواجدين ألبست كسوة القهر بنعت الجمع ، فإذا ظهرت من عين الجمع ، تجلّى الحقّ منها ، وجوّده بصفة الخاص التي لا يدخل فيها رسم الربوبية من القهريات واللطفيات ، فأبصرت عيون الناظرين من أهل الجمع تلك الصفة ، فسرّت أسرارهم ، وتهيّجت أنوارهم ، فبين الأسرار والأنوار فنوا من النظر إلى الأغيار.

(لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) أي : ليست بمذلّلة في عبوديتي ، ولا عامرة أرض القلب التي هي مزرعة محبّتي ، ولا ساقية بذر المحبّة في شريعة العقل ، وهي محلّ قرار قربتي (مُسَلَّمَةٌ) أي : فارغة عن العبادات ، وهي عنها بمعزل أبدية عن الحكومات ، لا رغبة لها في مناجدتي ، ولا رهبة لها عن معاقبتي ؛ لأنها خلقت من الضلالة وهي آيسة من الهداية.

(لا شِيَةَ فِيها) أي : لا سمة عليها لأحد ؛ لأنّها لا تألف الحقّ أبدا.

وقال بعضهم : لا يصلح لكرامتي ، وإظهار ولايتي عليه ؛ إلا من يذلل نفسه بالسكون إلى شيء من الأكوان ، ولم يسع في طلب الحوادث بحال مسلمة من فنون عوارض الخلاف لا شية فيها ، لا أثر عليه لأحد بالسكون إليه والاعتماد عليه ، فهو القائم بي والناظر إليّ ، والمعتمد عليّ أظهرت عليه آيات قدرتي ، وجعلته أحد شواهد عزّتي ، فمن شاهد استغرق في مشاهدته ؛ لأنه قد ألبس رداء العزّ وأنشد على إثره :

هذه إذا فانظري الدنيا بعيني واسمعي

بإذني فيها وانطقي بلساني

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) : فهم من الآية أن الله تعالى أعلمهم أنّ في قتل النفس إحياء القلب ، وفي حياة القلب حياة الروح ، وإذا صفت الروح بصفاء حياة القلب عن كدورات النفس ، تحيي جميع الأموات بأنفاسها وآثارها ، كما أحيى عيسى عليه‌السلام الموتى ؛ لأنه صاف بصفاتها من صفات النفس ، فظهرت منه الآيات والمعجزات.

وقيل فيه : إن الله أمر بقتل حيّ ليحيي ميّتهم ، أعلّمك بذلك إنه لا يحيي قلبك لأنوار المعرفة ؛ ولا لفهم الخطاب ، إلا بعد أن تقتل نفسك بالاجتهاد والرياضات ، فيبقى جسمك هيكلا لا صفة له من صفاته ، ولا يؤثر عليك بقاء صورتك فيحيي قلبك ، وتكون نفسك رسما لا حقيقة لها ، وقلبك حقيقة ليس عليه شيء من المرسومات.

٥٤

قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) أي : من عبدني لأجل الجزاء والعوض ، وسكن بالعطاء عن المعطي ، وأحاطت به رؤية أفعاله وأعواضه ، أولئك أصحاب البعد ، لم ينالوا قرب وصالي ، وحقيقة جمالي.

وقيل : بلى من كسب سيئة برؤية أفعاله ، وأحاطت به خطيئته بظنّه أن أفعاله وأعماله تنجّيه وتقرّبه ، فهم المبعدون عني بما تقرّبوا به إليّ.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : الذين شاهدوا الله برسم الأرواح في فضاء الأزليات ، وخرجوا من الكائنات تهذيبا للأشباح ؛ حتى دخلوا حجال الأبديات ، أولئك أصحاب القربات ، ومشاهدات الصفات ، وسبحات جمال الذات.

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥))

وقيل : (آمَنُوا) أي : أيقنوا أن النجاة في سعادة الأزل ، وأنه ليس في الطاعات إلا إتباع الأمر ، وأنفوا من صالح أعمالهم لعلمهم بقصورها عن حقيقة تعبّده ، أولئك هم الواصلون إلى الرضوان الأكبر.

(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) أي : أن يأتوكم أسارى الشوق ، وسكارى العشق ترحّمتموهم بأصوات شجيّة ، وأقوال مرفقة ، تفادوهم برؤية الصفات ، وتشغلونهم عن رؤية الآيات.

وأيضا إن يأتوكم أسارى تنكره «تفادوهم» بشواهد المعرفة.

وأيضا إن يأتوكم من غيبوبات القلوب ، تفادوهم برؤية أنوار الغيوب.

وقال أبو عثمان : وإن يأتوكم غرقى في بحر الذنوب ، تدلّوهم على طريق التوبة.

وقال الواسطيّ : إن غرّتهم رؤية أفعالهم ، تنقذوهم من ذلك برؤية المنن.

وقال الجنيد : وإن يأتوكم أساري في أسباب الدنيا ، تنقذوهم إلى قطع العلائق والأسباب ، فإنّ الحقّ أبى أن يتجلّى بقلب متعلق بسبب.

وقال بعض البغداديين : وإن يأتوكم أسارى في صفاتهم ونعوتهم تفادوهم أي : تحلّوا عنهم وثاق صفاتهم بصفات الحق ونعوته ، قوله تعالى حاكيا عنهم ، قالوا : قلوبنا غلف أي :

٥٥

مسدودة بعوارض البشريات ، محجوبة عن فهم الآيات والمعجزات.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦))

وأيضا قلوبنا في فرج أصابع القهريات ، محجوبة عن لطائف الأزليات.

وقيل : حرم قسم السعادة بها في الأزل.

(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) ؛ لأنهم محجوبون عن مشاهدة الآخرة ، ومكاشفة الحضرة لغطاء الغفلة والشهوة.

وقال محمد بن الفضل : لعلمهم بما قدّموا من الآثام والخلاف ، وهذا حال الكفّار ، فوجب على المؤمن أن يكون حاله ضد هذا مشتاقا إلى الموت ؛ بمكاشفة الغيوب ، ورفع حجاب الوحشة ، والوصول إلى محلّ الأنس ؛ ألا ترى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أحبّ لقاء الله

٥٦

أحب الله لقاءه» (١). وإن بلالا لمّا حضر قالت امرأته : واحزناه ، فقال : بل واطرباه بلقاء الأحبّة.

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦))

وقال الواسطيّ : جعل الموت يقظة للعالم ، فمن حجبها به حجب عن المميت ، ومتى يكون في قلبك هيبة المميت ، إذا هبّت طوارق الموت.

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) أي : ما نسخت من صفاتك شيئا عن ديوان معناي ، وهو قليل إلا رقمت فيه من صفاتي ، وما رأيتك شيئا من عجائب علمي ، إلا أراك ما هو أشرف منه.

قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [لقمان : ٢٧].

__________________

(١) رواه البخاري (٥ / ٢٣٨٧) ، ومسلم (٤ / ٢٠٦٥).

٥٧

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) [النجم : ٨]. (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠].

وقيل : ما نقلّبك من حالة إلّا نوصلك إلى مقام أشرف منها وأعلي ، إلى أن تنتهي بك الأحوال إلى محلّ التداني والخطاب من غير واسطة ، بقوله : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) ، (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى).

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢))

(بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي : من بذل مهجته لله إلا لما من الله ، وهو محسن بلا رؤية المعاملة ، ولا بجريان العارضة ، بل رؤية الحقّ بنعت فناء الحقّ ، فله مجالسة البقاء عند ربّه ، بزوال خوف الفراق ، وحزن الحجاب.

وقيل : (وَهُوَ مُحْسِنٌ) ، أي : خلصت وجوه أعماله من الرياء ، والشرك الخفيّ.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧))

٥٨

وقيل في قوله : (مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) [النساء : ١٢٥] أي : أعتق وجهه عن عبودية غيره ، وهو محسن آداب العبودية ، فله أجره عند ربّه ، دوام المعونة إليه من رضاه ، ولا خوف عليهم من فوت حظّهم من الحق ولا هم يحزنون ؛ بأن يشغلهم عنه بالجنّة.

قال ابن عطاء : من جعل طريقه ووجهه ومراده وقصده وتدبيره لله ، فلا يبقي له وجه إلّا إليه ، ولا يكون إلا عليه ، وهو محسن.

قال : يري الحقّ بسرّه ، ويشاهده بحقائق معرفته ، ويطالعه بمعاني إخلاصه.

قال عبد العزيز المكيّ : في هذه الآية حال مخلص في عمله ، هائب عن ربّه.

وقال أيضا : من أخلص قلبه لله محبّة ، (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي : كامل في محبّته ، وبالغ في مودّته.

(فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أي : فأينما تولّوا بعيون الأسرار ، فثمّ مكاشفة الأنوار.

وأيضا أشار بهذه الآية إلى مشاهدة المشهود في الشواهد ، كما كشف خليله حيث قال : هذا ربّي ، إذا نظر في دائرة الكون ، وفهم هذه الآية ، أنه من نظر بعين العقل فقبلته الآيات ، ومن نظر بعين الروح فقبلته الصفات.

وقال ابن منصور : وجهه حيث توجّهت ، وفقده أين فقدت.

فقال بعضهم : القصد إليه توجّهك ، والطريقة إليه استقامتك منك بفهمك ، وعنك بعلمك ، ارتبط كلّ شيء بضده ، وانفرد بنفسه.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : خلق السماوات والأرض ، وألبسهما من لباس سنا عزّه ؛ حتى تسكن قلوب أحبائه ، بالنظر إلى مشاهدة الصانع في المصنوعات.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨))

وقال بعضهم : علّة لكلّ صنع صنعه ، ولا علّة لكلّ صنع صنعه ، ولا علة لصنعه ، وليس لكأنه كان ؛ لأنه قبل الكون والكان ، وأوجد الأكوان ، بقوله : (كُنْ).

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) : لم يسمعوا كلام الله من داخل قلوبهم ، فثقلت أسماعهم من وقر الضلال.

وأيضا ظنّوا أنهم من أهل المخاطبة ، وجهلوا مقام المشاهدة ، وقد أخطئوا فيما ظنّوا ؛ لأنهم لا يطيقون رؤية الوسائط ، أعنى معجزات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا فهم خطابه ، فإذا كان الأمر كذلك كيف يسمعون صرف الخطاب من حضرة الكمال.

٥٩

قال الواسطي : كلّمتهم حيث أنزلت عليهم خطابي فلم يفهموا ، وأي آية أشرف من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أظهر لهم ذلك قوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) : «الكلمات» : ما خاطبه الله تعالى مع روحه في سرادق الأزل بنعت السرور ، فتهيّج بها سرّه حتى التهب بنار محبّته ، فيطلب حبيبه بعد بلوغه إلى الكون بصرف الصفات ، فابتلاه الله تعالى بمقام الالتباس ، حيث قال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥].

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤))

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٧٩].

(فَأَتَمَّهُنَ) بتجرّده عن اللباس برؤية الصرف ، كما قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) ، وأيضا ابتلاه بشغل النبوّة ، بعد ما أسكره برحيق الخلّة.

وقال بعضهم : أشدّ ما ابتلى الله به إبراهيم ، أن حمّله أثقال الخلّة ، ثم طالبه بتصحيح شرائطها ، وتصحيح شرائط خلّة التجلّي مما سرّاه ظاهرا أو باطنا ، (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً). وأيضا إنّي جاعلك في الخلق إماما في مقام التمكين ؛ لأنه صار بالنبوّة متمكّنا ، بعد أن كان في الخلّة متلوّنا. وأيضا (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) في المقامات ؛ لأني صاحبهم في الحالات بيني.

وقيل : إنّي جاعلك سفيرا بيني وبين الخلق ؛ لتهذيبهم ؛ لاستصلاح الحضرة ، وهذه هي الإمامة.

وقال أبو عثمان : «الإمام» : هو الذي يباشر على الظاهر ، ولا يؤثّر ذلك فيما بينه وبين

٦٠