تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٢

وقال الواسطي : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) من إرادة الكونين والمكنون ، (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) أي : بإرادتكم فيغفر لمن يشاء لمن أراد الجنة ونعيمها ، ويعذب من يشاء من أثر الدنيا على الآخرة.

وقال علي بن سهل : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الأعمال ، (أَوْ تُخْفُوهُ) من الأحوال ، (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) العارف على أحواله والزاهد على أفعاله.

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) بأن الله تعالى قدس باطن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شوائب النفسانية وخطرات الشيطانية ، وكحّل عين سره بنور الملكوت ، حتى قيل : بالصدق والإخلاص ما كشف له من عجائب الجبروت ، ورأى بمصابيح القرآن أسرار الأزل والأبد ما جرى في بطنان الغيب وغيب الغيب رؤية عيان ، وآمن بها إيمان المشاهدة والعرفان ، كما قال الله : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [النجم : ١١] (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) المؤمنون على قسمين منهم العارفون والصادقون والمشاهدون والمقربون ، والمكاشفون والمخلصون والمحسنون والراضون والمتوكلون والمحبون والمريدون والمرادون ، كل شاهدوا بعضا مما شاهد الرسول عليه‌السلام ولو لا ذلك لم يشرعوا في بذل الأرواح ومجاهدة الأشباح ؛ لكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشاهدة الصرف خاصة له بلا زحمة الخطرات ، ولهم مشاهدة اليقين بوسائط الالتباس ممتحنين بالوسواس.

والقسم الثاني من المؤمنين هم الذين آمنوا إيمان الفطرة بإرشاد العلم والعقل والبيان والبرهان ، وأصل لهذا الإشكال إلهام وفروعها أسباب.

وأيضا استقام النبي الأمي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند صدمة سلطان الألوهية ، وتمكن فيها عاين من جلال ذات القديم ـ جل جلاله ـ بنعت صرف المشاهدة واليقين ، والمؤمنون يريهم الله بعض أنوار غيبه فآمنوا بما أدركوا به.

قال الأستاذ : آمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث البرهان.

١٢١

ويقال : آمن الخلق بالوسائط ، وآمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير واسطة.

ويقال : هذا خطاب الحق سبحانه وتعالى معه ليلة المعراج على جهة تعظيم القدر ، فقال : (آمَنَ الرَّسُولُ) ولم يقل آمنت كما يقول العظيم الشأن من الناس.

قال الشيخ : وأنت تريد قلته.

وقال ابن عطاء : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معدن سر الحق أظهره للعام أوقفه على شريطة قوله : (آمَنَ الرَّسُولُ) ، وإذ أخفاه أخبر عنه بقوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] ، وهو مستغرق أوقاته في انتظار ما يظهر عليه الحق من الزيادات على روحه وسره وفؤاده وقلبه وشخصه ؛ ألا تراه كيف نعته عن صفاته ، وقوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ) عن صفاتك لحياتك بنا وبإظهار صفاتنا عليك ، (وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] عاجزون عن بلوغ درك صفاتك ، وإيمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيمان مكاشفة ومشاهدة ، وإيمان المؤمنين إيمان بالوسائط والعلائق.

وقيل في قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) : حكما وتسمية ، ولا المؤمن موجود ولا الإيمان ظاهر.

وقال فارس : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) قال : إيمان حقيقة ومشاهدة (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) إيمان حكم ومتابعة (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي : لو أظهر من جمال عز الأزل صفة من صفاتي لا يطيق الخلق أن يستقيموا عند كشف ذرة منها ، لكن أواسيهم بلوائح التجلي بنعت الالتباس ؛ لكي لا يفنوا مثل تجلي موسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأيضا : تسربلت الأرواح بأنوار الكبرياء ، فاستقلوا بأنفسهم عند نهوضهم بأثقال المعرفة ، وما أدركت من عجائب الربوبية ، وهذا معنى قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) [الأحزاب : ٧٢] ، وأيضا : لا يكلف الله حق عبوديته نفوس أوليائه إلا قدر ما يطيقون من جهة التقصير والضعف عند تحمل حقيقة العبودية ؛ لأن من حق الربوبية أن تذوب الأرواح والأشباح في أول تكبيره كبروا تعظيما وإجلالا ، وأن الله تعالى ما أظهر للخلق من معرفته إلا مقدار ما يعيشون به من جهلهم بربوبية ربهم ، ولو أيقنوا أنهم في معزل من حقيقة العبودية وإدراك صرف الربوبية ماتوا حسرة على ما فاتوا ، (لَها ما كَسَبَتْ) أي : ما كسبت أرواحهم من مقاساة الهجران في دار الامتحان ، (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) ما اكتسبت النفوس من جرائم الخطرات عند مكاشفة الغيب للأسرار فيجازي الله النفوس في الدنيا بالذوب في المجاهدات ، ويجازي الأرواح في الآخرة بصرف المشاهدات ، (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا) أي : لا

١٢٢

تحجبنا بنا عليك إن نسيناك ، (أَوْ أَخْطَأْنا) بالتفاتنا إلى غيرك ، (وَاعْفُ عَنَّا) أي : اعف عنا قلة المعرفة بك ، (وَاغْفِرْ لَنا) التقصير في عبادتك ، (وَارْحَمْنا) بمواصلتك ومشاهدتك.

وقال ابن عطاء : (لا تُؤاخِذْنا) عند المصيبة واستر علينا في القيامة ولا تفضحنا بها على رءوس الأشهاد (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) هذا نجوى أهل الامتحان من المكاشفين والمشاهدين أي : نحن أسراء معرفتك وضعفاء محبتك ، فارحمنا بتجلي العظمة حتى نقوى منك بك في محل العبودية وكشف الربوبية (فَانْصُرْنا) بمعونة المعرفة وجند حقائق الإلهام عن مشاعر الألوهية ، (عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي : على أوباش الطبيعة حتى يهزموا عن ميادين معارفك بتأييد معرفتك وتشريح من تشويشهم في صرف عبوديتك وطلب مشاهدة حضرتك.

سورة آل عمران

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧))

(الم) الألف إشارة إلى قدس فردانيته وامتناعه عن التصاق الحدث بقدمه ، واللام إشارة إلى لطائف غيبه ، والميم إشارة إلى غرائب ملكوته مما أخفى عن أعين الخلائق من قوة عيون أوليائه وأنبيائه ، وأيضا الألف إشارة إلى أوليته ، واللام إشارة إلى جلاله وجماله ، والميم إشارة إلى محبته لأوليائه في القدم ، وقد جرت العادة بين الأحباب التخاطب بالحروف المفردات سترا على الأحوال ، وكتما للأسرار لئلا يطلع عليها أجنبي من هذه المعاني لغير هذه المباني.

١٢٣

كما قال : قلت لها قفي ، قالت لي : قاف لكي لا يقف العاذلون على الأسرار ، ونطقوا بهذه الإشارة حذرا من استشراف المترقين ، هكذا سنة الإلهية خاطب خواص محبيه بالرموز والإشارات مثل الحروف المقطعة هي رموز من الحق لسادة أنبيائه وأوليائه تشريفا لهم وتعظيما على سائر الخلق ، ومن قرب من الله تعالى فالإشارة معه أدق والرمز معه أرق.

ألا ترى أنه تعالى أسمع كليمه كلامه أحسن العبارات ، وأسمع حبيبه خطابه بأجمل الإشارات ، قال عليه‌السلام : «أوتيت جوامع الكلم ، واختصر الكلام اختصارا» (١).

وقيل : العبارات للعموم والإشارات للخصوص.

وقيل : الإشارة في قوله : «ألف» أراد قيامه بكفايتك على عموم أحوالك ، والإشارة من اللام إلى لطفه بك في خفي السر ، والإشارة من الميم موافقة جريان التقدير لمتعلقات الطلب من الأولياء ، ولا يتحرك في العالم شيء ، ولا يظهر ذرة إلا وهو محل الرضا منهم.

وإذا قرعت هذه الألفاظ أسماع المحبين تفهم حقائقها أسرارهم ، وتقرأ معانيها من ألواح الإلهام أرواحهم القدسية ، وكل حرف منها إشارة إلى اسم ، والاسم إشارة إلى فعل والفعل إشارة إلى الصفة والصفة إشارة إلى الذات ، فإذا لقيت هذه الرموز في قلوب العارفين رقوا مدارج الأسماء والأفعال والصفات حتى يبلغوا سرادق الكبرياء ، فيكشف لهم معلومات السرمدية من الحق للحق فيفطنون علوم المجهولة التي ليست في ديوان الملكوت.

وقيل : الألف من الأحدية ، واللام من اللطف ، والميم من الملك.

وقال ابن عطاء : إن الله جعل الأحرف سببا متصلا بالحلق ، وجعل المشكل لها سببا متصلا منه لها وهو سر الله ، يعني المشكل لا يعلمه إلا هو.

وقوله تعالى : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) الحي الذي لا تقاس حياته ببعد الأوهام ، ولا تدرك سرمدية ذاته بغوص فطن الأنام ، وأيضا (الْحَيُ) الذي حياته قام به العالم واستنارت بنورها روح آدم عليه‌السلام ، و (الْقَيُّومُ) الذي يبقى ببقائه أهل الفناء ويفنى بقهر قيوميته أهل البقاء ، وأيضا (الْقَيُّومُ) هو المقدس عن العلائق وقيامه لخلقه بنعت حفظهم ورحمته عليهم روح الخلائق.

وقال الأستاذ : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) الذي لا يلهو فيشغل عنك ، ولا يسهو فيبقى عنه فهو على عموم أحوالك رقيب سرك إن خلوت فهو رقيبك ، وإن توسطت الخلق فهو قريبك.

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٢٥٠) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (٩ / ٣١٨) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٢ / ١٦٠).

١٢٤

وقيل : (الْحَيُ) الذي لا أول لحياته ، و (الْقَيُّومُ) الذي لا أمد لبقائه.

وقال الكتاني في حقيقة (الْحَيُ) : الذي به حياة كل حي ، ومن لم يحي به فهو ميت.

وقيل : (الْقَيُّومُ) من هو مزيل العلل عن ذاته بالزوال ، أو بالعبارة عنه وبالإشارة فلا يبلغ أحد شيئا من كنه معرفته ؛ لأنه لا يعلم أحد ما هو إلا هو.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي : إن الذين حجبوا عن مشاهدة الحق بنعت اليقين في رؤية شواهد الربوبية ، (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) لهم حرمان وجدان وصول مقامات أهل الهدايات.

وقال أبو سعيد الخرّاز : كفروا بإظهار كرامات الله على أوليائه ، (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) نفي الحق عن ذلك ، (وَاللهُ عَزِيزٌ) يعز أولياءه بولايته وإظهار الكرامات على من يشاء من عباده ، (ذُو انْتِقامٍ) من يجحد ذلك ، (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) يعز أولياءه بعز التوحيد ، وينتقم من أعدائه إنكارهم على أمنائه بألا يهديهم إلى ما آتاهم من أنواع فضله وكرمه.

قال الواسطي : (عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) عن أن يخالف إرادته أحد ، بل ينتقم بما يجري عليه أن يكون عقوبته مقابلة (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) لا يخفي عليه شيء ما في صدور أوليائه في الأرض من لهب الاشتياق ، ولا مما في قلوب أصفياء ملائكته تحت العرش من أزيز نيران الخوف ، وهذا التسلية من الله تعالى لأوليائه أنه يعلم أحوالهم في شوقه ، وإنه يجازيهم بمقاساتهم وممارستهم ابتلاءه ، وأيضا : كيف يخفى عليه شيء مما فطره من محدثات الكونين ، لكن هذا تخويف من الله لأعدائه أنذرهم بأنه علم ما في ضمائرهم من دنس الكفر ، وإنه يجازيهم بسوء أعمالهم.

وقال جعفر : لا يطلعن عليك ، فيرى في قلبك سواه فيمقتك.

وقيل فيه : لا يخفي عليه شيء ، فطالعوا همومكم أن تكون خالية عن الأهواء والشبهات ، فإنه لا يخفى عليه شيء.

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) (١) أي : الذي يلبسكم في الأرحام نور جمال القدرة ، ويزينكم بحسن مكث المشاهدة ليسر الناظر إذا نظر إلى وجوهكم بإدراك حسن إبداعه وإظهار جلال ربوبيته في وجوهكم ، كما قال تعالى لكليمه : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ

__________________

(١) هذا فيما لا يزال من حيث الخلقة ، وهو الذي قدّر أحوالكم في الأزل كيف شاء ، وهذا فيما لم يزل من حيث القضاء والقسمة ، تفسير القشيري (١ / ٢٧٨).

١٢٥

مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩] ، وأيضا (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) على استعداد الولاية والهداية ، وأيضا يصوركم ربانيين في علوم المعارف ، أو مطمئنين في كشف نور الحقائق أو المخبتين تحت أثقال المعاملات أو المحسنين في شرف المقامات ، كما كان في علم أزليته.

وقيل : يصوركم عالما به وعالما بصفاته وعالما بأوامره وجاهدا له ، فمن لم يصحبه حزن ما قدر عليه في وقت تصويره من السعادة والشقاوة فهو الجاهل به والآمن من مكره.

وقال محمد بن علي : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) من الأنوار والظلمات.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق الخلق في ظلمة ، وألقى عليهم من نوره ؛ فمن أصابه ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضلّ» (١).

وقال الحسين : خصوصية تصويره إياك أنه قوّمك فسواك وعدلك ، وأنزلك منزلة المخاطبين (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) المحكمات : التي لا تتبدل مما كانت في الأزل ، وهي آيات لا بدّ للمؤمنين من استعمال أوامرها ؛ لأنها في إصلاح الخلق وتثبيت إيمانهم بمنزلة الدواء للمرضى.

قال أبو عثمان : هي فاتحة الكتاب التي لا تجزي الصلاة إلا بها.

وقال محمد بن الفضل : هو سورة الإخلاص ؛ لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط ، (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي : مدار أوامر الكتاب ، وموئل أصول المعاملات ، ومنبت أشجار الإيمان في قلوب أهل المداناة بنعت المزيد ، ويهيج الأرواح في اقتباس المخاطبات ، (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) هي أوصاف التباس الصفات وظهور الذات في مزار الشواهد والآيات (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أهل التقليد يخوضون في المتشابهات طلبا للتوحيد ، وهم بمعزل عن شهوده ؛ لأنهم أصحاب الوهم ، وصاحب الوهم لا يعرف حقيقة الأشياء المحدثة ، فكيف يعرف وجود الحق برسم الوهم ، وإذا كان يطلب العلوم المتشابهة لم يبلغ حقيقتها ويقع في الفتنة ، ولهذا قال عليه‌السلام : «تفكروا في آلاء الله ، ولا تتفكروا في ذات الله» (٢).

ومن لا يعبر بحار حقائق اليقين ولم ينظر في مرآة التحقيق ، ورسم في المتشابهات يسقط عن رسوم إيمانه ، ولا يبلغ معاني المتشابهات ؛ لأنه مقام أهل العشق الذي يرون الحق في كل

__________________

(١) رواه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (٤ / ١٩٨).

(٢) رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (١ / ١٣٦).

١٢٦

شيء.

كما قال بعض أهل المعاني : ما نظرت إلى شيء إلا ورأيت الله فيه.

هذا وصف ظهور التجلي في قراءة الكون لا أن الحق تعالى حل في الأشياء ؛ لأنه منزه عن أشكال الحلول ، (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) خصّ نفسه بحقيقة علم تشابه أسرار التباس هيئات الجبروت في الملكوت بنعت ظهور تجليه لأهل حقيقة التوحيد والتفرد ، وأضاف إلى أوليائه من أهل العشق خاصة طرفا من علم المشاهدة بنعت الالتباس في حقيقة المكاشفة ، (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) إيمان مشاهدة وحقيقة علم وعرفان مكاشفة ، والراسخون هم الذين كشف لهم أسرار العلوم اللدنية ، وعجائب معلومات الآخرة الخارجة من أنصار الطاهرة ، وأيضا الراسخ الرباني الذي تخلق بخلق الحق جلت عظمته أن يكون له كفوا.

وقال الواسطي : هم الذين رسخوا بأرواحهم في غيب الغيب في سر السر فعرفهم وخاضوا في بحر العلم بالفهم لطلب الزيادات ما كشف لهم من مدخور الخزائن تحت كل حرف منه من الفهم وعجائب الخطاب فنطقوا بالحكم.

وقال سهل : الرسوخ في العلم زيادة بيان ونور من الله ، كما قال : (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤].

وقال : الراسخ في العلم من علوم المكاشفة رباني نوراني وذاتي ، وأحكام العلوم أربعة : الوحي والتجلي والعندي واللدني.

وقال بعضهم : الراسخ في العلم من طولع على محل المراد من الخطاب.

وصف الأستاذ ـ رحمه‌الله ـ أهل اليقين وأهل الزيغ ، قال : أما الذين أيدوا بأنوار البصائر ، فمستضيئون شعاع شموس الفهم ، وأما الذين أسبلوا غطاء الريب ، وحرموا لطائف التحقيق فتنقسم بهم الأحوال ، وترتجم لهم الظنون ، ويطيحون في أودية التلبيس فلا يزدادون إلا جحدا على جحد ، ونفورا على شك.

قال : ومن وجد علم التأويل من الله عزوجل فيكون إيمانهم بلا احتمال لجولان خواطر التجريد ، بل عن صريحات الظهور وصافيات اليقين.

قال : وأصحاب العقول هم في صحة التذكير لوجود البراهين وستر أحكام التحصيل ، وأيضا الراسخون في العلم المشاهدون بنعت الأرواح قبل الأشباح في ديوان الأزل ، قد عاينوا مكنونات أسرار خصائص العلوم القدمية ، وفهموا منها عواقب شأنهم في مدارج البقاء فرسخوا في بحر عين اليقين ، ولم يتزلزلوا في ظهور الحكومات بنعت التصاريف والتحويل ،

١٢٧

والمكر والخديعة فلم ينهزموا عن صولات القهر وتخويفه ، وثبتوا صدمات الله ، وفي الله فيما ظهر من الله من رسم المحو والطمس ، وعلموا أن جميعها ابتلاء ، وامتحان فسكنوا في العبودية رسما ، ورسخوا في مشاهدة الربوبية حقيقة وصرفا.

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦))

قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) أي : لا تزغ قلوبنا بفقدان الطمأنينة بذكرك ، وأيضا : لا تزغ قلوبنا عن قربك ومحبتك بعد إذ هديتنا إلى معرفتك ومحبتك ، (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) علما خاصا ومعرفة تامة ، (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) وهب ما لا يحصى شكره.

وقال سهل : رجع قوم للتضرع إليه والمسكنة بين يديه ، (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) أي : لا تمل بقلوبنا وأسرارنا عن الإيمان بك إذ مننت علينا به.

وقال جعفر : لا تزغ قلوبنا عنك بعد إذ هديتنا إليك من لدنك رحمة لزوما لخدمتك ، على شرط السنة (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) المعطي بفضله عباده ما لا يستحقونه من نعمة.

وقال الأستاذ : ما ازدادوا قربا إلا ازدادوا أدبا ، واللياذ إلى التباعد أقوى أسباب رعاية الأدب.

١٢٨

وقيل : حين صدقوا في حسن الاستعانة أيدوا بأنوار الكفاية ، (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) إنك جامع أهل الحقيقة على بساط القربة على بساط الكرامة ، والموقنون على بساط المشاهدة والمحبون على بساط الوصل ، والعارفون على محل الأنس ، وكل طائفة تبلغ عندك بطي منتهى مقاصدهم التي كانوا في الدنيا من رسم المقامات والحالات والمكاشفات والمشاهدات.

وقال الأستاذ : اليوم جمع الأحباب على بساط الاقتراب وغدا جمع الكافة لمحل الثواب والعقاب اليوم جمع الأسرار لكشف الجلال والجمال ، وغدا جمع الأستار لشهود الأهوال ومقاساة ما أخبر عنه من تلك الأحوال ، (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) لا يخلف ما وعد لأنبيائه وأوليائه من وصولهم إلى مشاهدته بعد ما خاطبهم حين أبدع أرواحهم قبل وجود الكونين تعريف نفسه لهم بلا كلفة العذاب ومشقة الحساب ، وأيضا لا سبيل لتغير الحدثان إلى قدم علم الرحماني ؛ لأنه تعالى منزه عن أن يفعل شيئا بعلم يحدث في نفسه.

وقال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي : الميعاد الذي وعد من السعادة والشقاوة في أزلي علمه لا يخلف ميعادا لزهد زاهد ، ولا لفسق فاسق.

قال الواسطي في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) قال : في إنزال كل واحد ما كان من الأعواض إيصال الخواص إلى محل الخاص من اللقاء والقرب ، (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) يؤيد حتى يجاهد نفسه على شرائط السنة (مَنْ يَشاءُ) من خواص عباده ، وأيضا ألبس أولياءه أنوار هيبته ليفرق الشيطان بها عن أسرار مراقباتهم.

وقيل : يوفق من يشاء من عباده للزوم السنة ، وترك البدعة.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) ابتلاهم حتى يظهروا الصادق بترك هذه الشهوات من الكاذب بالشروع في طلبها.

قيل : من اشتغل بهذه الأشياء قطعه عن طريق الحق ، ومن استصغرها ، وأعرض عنها عوض عنها السلامة منها ، وفتح له الطريق إلى الحقائق.

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) أي : لمن اتقى الله عما سوى الله جنات المقامات في المداناة فإن تبقى المتقي من الدنيا وشهواتها فله جنه اليقين ، وإن تبقي المتقي من الآخرة فله جنة المكاشفة ، وإن تبقى من النفس فله جنة المشاهدة بنعت الرضا كما قال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨)) [الفجر : ٢٧ ، ٢٨].

١٢٩

وقيل : من عمل رجاء الجنة فإن غاية بلوغه إلى غاية رجائه من دخول الجنة ، ومن كانت معاملته على رؤية الرضا فإن له الرضوان ، قال الله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢].

وقوله تعالى : (اللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (١) بصير بالعباد في تقلب أرواحهم في عالم الملكوت محترقات من سطوات أنوار الجبروت حبّا لجواره وشوقا إلى لقائه ، يجازيهم بقدر همومها في صرف طلب وجه الأزلي وجمال الأبدي.

وقيل : عالم بهمم العاملين وإرادتهم.

(الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

قوله تعالى : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) الصابرين عن جميع حظوظهم لله ، والصادقين في معاملة الله ، والقانتين بنعت الرضا عن الله ، والمنفقين نفوسهم لله وبالله ، والمستغفرين عن التفاتهم إلى غير الله بالأسحار حين أشرقت أنوار المشاهدة لأهل المكاشفة.

وأيضا : الصابرين عن الله بالله ، وبالله لله ، ولله في الله ، ولله مع الله ، والصادقين في دعوى محبة الله بنعت كشف مشاهدة الله ، والقانتين بشرط الإخلاص في عبودية الله ، والمنفقين حياتهم في رضا الله ، والمستغفرين عن الخطرات في أوقات المناجاة.

وقيل : الصابرين على صدق المقصود ، والصادقين في العهود ، والقانتين لحفظ الحدود ، والمستغفرين عن أعمالهم وأحوالهم عند استيلاء سلطان التوحيد.

وقيل : الصابرين الذين صبروا على الطلب ، ولم يتعللوا بالهرب ، ولم يحتشموا من التعب ، وهجروا كل راحة وطرب يصبرون على البلوى ، ورفضوا الشكوى حتى وصلوا إلى الموتى ، ولم يقطعهم شيء من الدنيا والعقبى.

والصادقين : الذين صدقوا في الطلب فقصدوا ، ثم وردوا ثم صدقوا حين شهدوا ، ثم صدقوا حتى وجدوا ، ثم صدقوا حتى فقدوا تزينهم قصودا ، ثم ورودا ، ثم شهودتهم وجودا ، ثم خمودا.

__________________

(١) أي : بنياتهم ومقادير ما يستحقونه بها على حسب إخلاصها ، وبغير ذلك من أعمالهم وأقوالهم وسائر أحوالهم. نظم الدرر (٢ / ٥).

١٣٠

والقانتين : الذين لازموا الباب ، وداوموا على تجرع الاكتساب ، وترك المحاب ، وبغض الأصحاب إلى أن تحققوا بالاقتراب.

والمنفقين : الذين جادوا بنفوسهم من حيث الأعمال ، ثم جادوا بميسورهم من الأموال ، ثم جادوا بقلوبهم بصدق الأحوال ، ثم جادوا بترك كل حظ لهم في العاجل والآجل استهلاكا عن القرب في الوصال بما لقوا به من الاصطلاح والاستيصال.

والمستغفرين : عن جميع ذلك إذا رجعوا إلى الصحو عند الأسحار يعني : ظهور الأسفار ، وهو فجر القلوب لا فجر يظهر في الأقطار.

وقال أبو عمرو المكي : ليس الصبر ترك الاختيار على الله ، ولكن الصبر هو الثبات فيه ، وتلقي بلاءه بالرحب والرغبة.

وقال عمرو : من صبر على رؤية المنة يكون تلذذه بالبلاء كتلذذه بالمنن إذ هما من عين واحدة.

وقال جعفر : الصبر ما كتب فيه محفوظا ، والتصبر فيه ما رددت فيه إلى حالك وعجزك.

وقال ابن عطاء : الصابرون هم الذين صبروا بالله في طاعة الله مع الله ، والصادقون هم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه عن صدق قويم ، واعتماد صحيح وسر لا يشوبه شيء ، والقانتون هم الذين أطاعوا في سرهم وعلانيتهم ، والمستغفرون بالأسحار الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع.

وقال بعضهم : الصابرون مع الله على موارد قضائه ، والصادقون في توحيدهم ومحبتهم والقانتون الراجعون إليه في السراء والضراء ، والمنفقون ما سواه ، والمستغفرون بالأسحار من أفعالهم وأقوالهم.

وقال ابن عطاء : الصابرون الذين صبروا على ما أمروا به ، والصادقون الذين صدقوا ما أقروا به من الميثاق الأول والقانتون القائمون لفنون العبادات ، والمنفقون الذين ينفقون أنفسهم وأرواحهم في رضا مولاهم ، والمستغفرون بالأسحار الذين لا يفترون عن خدمته بحال.

وقال أيضا : الصابرون الذين حبسوا أنفسهم على مطالعة المكاشفات ، والصادقون الذين صدقوا في محبته ، والقانتون الذين ربطوا أنفسهم بخدمته ، والمستغفرون بالأسحار لزموا الباب إلى أن يؤذن لهم.

وقال أيضا : الصبر مقام المحبين ، والصدق مقام العارفين ، والقنوت مقام العابدين ، والإنفاق مقام المريدين ، والاستغفار مقام المذنبين.

١٣١

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) إن الله تبارك وتعالى وتقدس كان بداية وصفاته عالما وعارفا كما ينبغي منه لنفسه فشهد بنفسه لنفسه قبل القبل ، وكون البعد وكون الكون ؛ فليس مقابل علمه بنفسه جهل ، وليس مقابل معرفته بنفسه نكرة ، وليس مقابل شهادته بنفسه عجز ووحشة ، بل وصف نفسه بنفسه ، وشكر نفسه بنفسه ، إذ ليس للخلق إلى معرفته ، والعلم بنفسه سبيل فأثنى بنفسه على نفسه لعلمه بعجز خلقه عن معرفة وجوده ، فمراده من شهادته بنفسه قبل وجود العالم تعليما لعباده تلطفا منه عليهم ، وإلا هو منزه عن وجود الخلق ، (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [العنكبوت : ٦] ، فشهادته لنفسه حقيقة ، وشهادة الخلق له رسم ، والحقيقة بدت من الحقيقة ، وتعود إلى الحقيقة ، والرسم بدء من الرسم ، ويعود إلى الرسم ؛ لأن القدم مفرد عن الحدث من جميع الوجوه علما ورسما وحقيقة.

ثم خلق الملائكة وكشف لهم ذرة من نور قدرته فاقتبسوا من نوره نورا فأبصروا به آثار أفعاله القديمة فشهدوا به وبوحدانيته وأزليته وسرمديته ، رامتهم في العبودية لا حقيقة منهم في الربوبية ، فرضي الله تعالى به عنهم أمرا ورسما لا حقيقة ووصفا ، ثم خلق الأنبياء والأولياء ، وأبرز لهم أنوار جماله ذاته في مصابيح أرواحهم قبل الأجساد بألفي ألف عام ، فنظروا بنوره إلى جمال جلاله وتحيروا في كنه عظمته وكبرياء جبروته ، وعجزوا عن ثنائه ووصفه وشكره لنفسه.

خاطبهم الحق جل سلطانه بنعت تعريف نفسه لهم فقال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) [الأعراف : ١٧٢] ؛ فشهدوا بعد إقرارهم في محل الخطاب ، فشهادتهم رسم التعليم لا من حقيقة رسم القديم ، والفرق بين شهادة الملائكة ، وبني آدم من أهل العلم أن الملائكة شهدوا من حيث اليقين ، وأولوا العلم من حيث المشاهدة وأيضا شهادة الملائكة من رؤية الأفعال ، وشهادة العلماء من رؤية الصفات.

وأيضا شهادة الملائكة من رؤية العظمة وشهادة العلماء من رؤية الجمال ، لأجل ذلك يتولد من رؤيتهم الخوف ، ومن رؤية العلماء الرجاء.

وشهادة العلماء بالتفاوت فشهادة بعضهم من المقامات ، وشهادة بعضهم من الحالات ، وشهادة بعضهم من المكاشفات ، وشهادة بعضهم من المشاهدات ، وخواص أهل العلم يشهدون به له بنعت إدراك القدم ، وبروز نور التوحيد من جمال الوحدانية ، فشهادتهم مستغرقة في شهادة الحق ؛ لأنهم في محل المحو من رؤية القدم ، وسئل سهل بن عبد الله عن هذه الآية فقال : شهد بنفسه ومشاهدة ذاته ، واستشهد من استشهد من خلقه قبل خلقه لهم

١٣٢

فكان في ذلك تنبيها أنه عالم بما يكون قبل كونه لا يتجاوز أحد من حكمه.

وقال ابن عطاء في قوله : (شَهِدَ اللهُ) (١) : دلنا من نفسه على نفسه بأسماء ، وفيه بيان ربوبيته وصفاته فجعل لنا في كلامه وأسمائه شاهدا ودليلا ، وإنما فعل ذلك لأن الله وحد نفسه ولم يكن معه غيره ، وكان الشاهد عليه توحيده ولا يستحق أن يشهد عليه من حيث الحقيقة سواه ، إذ هو الشاهد فلا شاهد معه ، ثم دعا الخلق إلى شهادته فمن وافق شهادته شهادته فقد أصاب حظه من حقيقة التوحيد ، ومن حرم ضلّ.

وقال ابن عطاء : إن الله شهد لنفسه بالفردانية والصمدية والأبدية ، ثم خلق الخلق فشغلهم بعبادة هذه الكلمة فلا يطيقون حقيقة عبادتها ؛ لأن شهادته لنفسه حق وشهادتهم بذلك رسم وأنى يستوي الحق مع الرسم.

وقال أبو عبد الله القرشي في قوله : (شَهِدَ اللهُ) فقال : هو تعليم منه ولطف وإرشاد لعباده إلى أن شهدوا له بذلك ، ولو لم يعلمهم ذلك لم يرشدهم لهلكوا كما هلك إبليس عند المعارضة.

وقال بعضهم : شهادة الله لنفسه بما شهد به شهادة صدق ، ولا يقبل الشهادة إلا من الصادقين فظهر بهذا أنه لا يصلح التوحيد إلا للصادقين دون غيرهم من الخلق.

وقال أبو يزيد ـ رحمة الله عليه ـ يوما لأصحابه : بقيت البارحة إلى الصباح أجهد أن أقول : لا إله إلا الله ، فما قدرت عليه.

قيل : ولم؟ قال : ذكرت كلمة قلتها في صباي جاءتني وحشة تلك الكلمة فمنعتني عن ذلك ، وأعجب ممن يذكر الله وهو متصف بشيء من صفاته.

وقال الشبلي : ما قلت قط الله إلا واستغفرت من ذلك ؛ لأن الله يقول : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) فمن يشهد بذلك له من الأكوان إلا عن أمر أو غفلة.

وقال ابن عطاء : أول ما خلقوا في حقائق البقاء مع الله فنوا عن كل شيء دون الله حتى

__________________

(١) قال الحرالي : فأعاد بالإضمار ليكون الشاهد والمشهود له (لا إله إلا هو) فأعاد بالهوية لمعنى الوحدانية في الشهادة ولم يقل : إلا الله ، لما يشعر به تكرار الاسم في محل الإضمار من التنزل العلي انتهى. والمعنى أنه سبحانه وتعالى فعل فعل الشاهد في إخباره عما يعلم حقيقته بلفظ الشهادة جريا على عادة الكبراء إذا رأوا تقاعس أتباعهم عما يأمرون به من المهمات في تعاغطيهم له بأنفسهم تنبيها على أن الخطب قد فدح والأمر قد تفاقم ، فيتساقط حينئذ إليه الأتباع ، ولو أن فيه الهلاك تساقط الذباب في أحلى الشراب. نظم الدرر للبقاعي (٢ / ٩).

١٣٣

ثبتوا مع الله.

وقال الشبلي : شهادة أن لا إله إلا الله عشرة أحرف ستة في الظاهر ، وأربعة في الباطن ، فأما التي في الظاهر فذكر الله بلا رياء ، والثاني : أداء الأمر بلا عيب ولا تقصير ، والثالث : كف النفس عن المحارم ، والرابع : النصيحة للمؤمنين ، والخامس : الفرار من الآثام ، والسادس : معاداة النفس ، وأما اللواتي في البواطن فإيمان ومعرفة بالقلب ونية وخشوع وفكرة واستقامة مع رؤية التوفيق فمن فعل هذا كله فقد شهد الله بالحقيقة.

وقيل للشبلي : لم تقول : الله ، ولا تقول : لا إله إلا الله؟

قال : القول شمس تغالب فقدها بثبوتها ، فإذا استحال الفقد ماذا يغلب ، ثم قال : وهل ينفى إلا ما يستحيل كونه؟ وهل يثبت إلا ما يجوز فقده؟

وقال المزني ـ رحمه‌الله : دخل ابن منصور مكة ، فسئل عن شهادة الزور للحق بالوحدانية ، وعن التوحيد فتكلم فيه حتى نسينا التوحيد ، فقلنا : هذا يليق بالحق به من حيث رضي به نعتا وأمرا ، ولا يليق به وصفا ولا حقيقة ، كما رضي بشكرنا لنعمه ، وأنى يليق شكرنا بنعمه.

وقال : ما دمت تشير فلست بموحد حتى يستولي الحق على إشارتك بإفنائها عنك فلا يبقى مشير ولا إشارة.

وقال أبو سليمان الداراني : تطلب رضا ربك ، وتبخل بمالك وتعجز عن طاعتك كلا فالشاهد لله بالحقيقة من لا يخل بروحه ونفسه وقلبه في رضا مولاه.

وقال بعضهم : (شَهِدَ اللهُ) علم الله لأنه معلوم نفسه بكمال العلم والشهادة إخبار عن العلم والإسلام أصول وفروع وكلها تتشعب من أصل واحد وهو الوحدانية.

وقيل في قوله : (وَأُولُوا الْعِلْمِ) : أن العلماء ثلاثة : عالم بأمر الله وأحكامه فهم علماء الشريعة ، وعالم بصفاته ونعوته فهم علماء السنة ، وعالم به وبأسمائه فهم العلماء الربانيين.

وقوله تعالى : (هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) العزيز أن يمتنع كنه قدمه من مطالعة المخلوقين ، وأيضا العزيز الذي لا يصفه أحد إلا برسم وصفه نفسه الحكيم ، هو الذي حكم حقيقة الشهادة لنفسه ورسمها بعباده.

والحكيم أيضا الذي حجب الخلق عن نفسه أن يروه بما حصل لهم من رسم توحيده في قلوبهم ، أن ما حصل من رسوم التوحيد للعباد مشوب بطيف الخيال ، وما يبرز من حقيقة التوحيد من جلال عظمته يخالف ما خطر في قلوبهم.

وقيل : العزيز الممتنع عن أن يلحقه توحيد موحد أو وصفة واصف إلا على الأمر

١٣٤

به ، الحكيم فيما يشهد به لنفسه.

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))

قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (١) وقّف الإسلام الرضا بمراد الحق وإمضاء قضائه وقدره بنعت استقامة السر في الباطن ، وقلة الاضطراب في الظاهر ، ووجدان لذة المحبة وقت نزول البلاء في المحنة.

قال أبو عثمان : (إِنَّ الدِّينَ) ما سلم لك من البدع والضلالة والأهواء ، وسلمت فيه من الرياء ، والشهوة الخفية ، ورؤية الخلق ، وتعظيم الطاعة.

وقيل : إنّ المتدين بالإسلام من سلم من رؤية الخلق ، وسلم قلبه من شهوات نفسه ، وسلم روحه من خطرات قلبه ، وسلم سره من طيران روحه ، فهو في حال الاستقامة مع الله.

وقال بعضهم : أركان الإسلام أربعة : التواضع ، والألفة ، وكظم الغيظ ، والصبر ، إذا تمّ لهذه الأربعة وجد منه أربعة أخرى : من التواضع التوكل ، ومن الألفة التسليم ، ومن كظم الغيظ التفويض ، ومن الصبر الرضا.

__________________

(١) الدّين الذي يرتضيه ، والذي حكم لصاحبه بأنه يجازيه ويعليه ، وبالفضل يلقّيه ـ هو الإسلام ، والإسلام هو الإخلاص والاستسلام ، وما سواه فمردود ، وطريق النجاة على صاحبه مسدود. تفسير القشيري (١ / ٢٩١).

١٣٥

قال جعفر الصادق : إذا لم يكن إسلام العبد على معرفة النعم من الله ، والتوكل عليه ، والتسليم لأمره ؛ فهو على اسم الإسلام ، لا على حقيقته.

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦))

قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) خصّ الله تعالى نفسه ، ومدحه بملك الربوبية ، وأنّه ذو الملك والملكوت والجبروت وملكه قديم ، وهو موصوف به في الأزل ، ويبقى له إلى أبد الأبد ، وهو مفرد به ؛ ثم خصّ بملكه الذي هو صفاته من يشاء من أنبيائه وأوليائه ، فالملك الذي خصّ الأنبياء هو الاصطفاء ، والاجتباء ، والخلافة ، والخلة ، والمحبة ، والتكليم ، والآيات ، والمعجزات ، والمعراج ، والمنهاج ، والرسالة ، والنبوة.

وخصّ بما ذكرت من بين الأنبياء صلوات الله عليهم آدم ، وشيث ، وإدريس ، ونوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، ويونس ولوط ، وشعيب ، وحزقيل ، وخضر ، وموسى ، وهارون ، ويوشع ، وكالب ، وأيوب ، وداود ، وسليمان ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، ومحمد سيد الرسل خاتم الأنبياء ـ صلوات الله عليهم أجمعين.

فكسا الله تعالى سفرة الأنبياء والرسل عليهم‌السلام كسوة الربوبية والسلطنة ؛ فظهرت منهم الآيات والمعجزات وقهروا بعز ملك النبوة والرسالة جبابرة الأرض ، وهذا موهبة خالصة أزلية سبقت لهم بعناية الله تعالى في أزل علمه ، وحرّمها على أهل الخذلان في سابق علمه وهو معنى قوله : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) ، وما قال تعالى لخليله : (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤].

وأمّا الملك الذي خصّ به أولياءه فعلى أربعة أقسام : قسم منها الكرامات والآيات مثل : تقلب الأعيان ، وطي الأرض ، واستجاب الدعوة ؛ وهو لأهل المعاملات ، وقسم منها وهو أشرف من الأول وهو المقامات مثل : الزهد ، والورع ، والتقوى ، والصبر ، والشكر ، والتوكل ، والرضا ، والتسليم ، والتفويض ، والتقويم ، والصدق ، والإخلاص ، والإحسان ، والاستقامة ، والطمأنينة ؛ وهو لأهل الدرجات ، وقسم منها وهو أشرف من الثاني هو الوجد ، والنجوى ، والمراقبة ، والحياء ، والخوف ، والرجاء ، والمحبة ، والشّوق ، والعشق ، والسكر ، والصحو ؛ وهو لأهل الحالات ، وقسم منها وهو أشرف من الثالث هو الكشف والمشاهدة والمعرفة والتوحيد والتفريد والفناء والبقاء وهو لأهل المعاينات ، فهذه الأحوال التي ذكرناها أصل ملك الولاية ، فمن خصّ بها فقد بلغ ذروة ملك الأزل والأبد ، ومن حرم منها فقد

١٣٦

سقط عن حظ الدنيا والآخرة ، يغرّ بها سادة أوليائه فهلكوا جميع القلوب بفراسة نور الغيب ، ويذل بإنزاعها عن أعدائه حتى لا ينالوا عهد كرامته في الدنيا والآخرة ، وأيضا (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) يعني : صرف المحبة بحلية الكرامة ، ونعت الطّهارة عن الأكوان ، (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) ملك العبودية وعرفان الربوبية (مِمَّنْ تَشاءُ) ، أي : من ليس له استعداد المعرفة ، (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بالأنس ، والشوق ، والعشق ، (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بالخذلان ، والحرمان ، وفقد حقائق القرآن.

قال أبو عثمان : (الْمُلْكِ) الإيمان وهذا دليل على أنّ الإيمان لا يتحقق على شخص إلا بعد الكشف والسلامة له في الانقلاب إلى ربّه ، وربّما يكون عارية ، وربّما يكون عطاء ، قال الله تعالى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) فهو مترسّم برسم الملوك ، وقد نزع منه ملكه.

وقال بعضهم : ملك الدين ، والشريعة ، وفرضها ، وسنتها ، (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) الهداية والتوفيق ، (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بولايتك (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بإهانتك ، (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) إنّك القادر على من تشاء ، كيف تشاء.

وقال محمد بن على : الملك المعرفة ، تعطي معرفتك من تشاء من عبادك ، وتنزعها عمّن تشاء ، (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) باصطفائك واجتبائك ، (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بالإعراض عنه ، (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) أي : منك الاصطفاء والاجتباء ، قبل إظهار عبادة العابدين.

وقال الحسين : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) فتشغله به ، (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) أي : ممن اصطفيته لك فلا يؤثر فيه أسباب الملك لأنّه في أسرار الملك ، (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بإظهار عزّتك عليه ، (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) (١) بإنصافه برسوم الهياكل.

وقال الواسطي : طوبى لمن ملكه قلبه وجوارحه ، كي يسلم من شرورهما.

وقال الشبلي : (الْمُلْكِ) الاستغناء بالمكون عن الكونين.

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ

__________________

(١) بخذلانك ، وتعز من تشاء بأن تهديه ليشهدك ويوحدك ، وتذل من تشاء بأن يجحدك ويفقدك وتعزّ من تشاء بيمن إقبالك ، وتذل من تشاء بوحشة إعراضك ، وتعزّ من تشاء بأن تؤنسه بك ، وتذل من تشاء بأن توحشه عنك ، وتعز من تشاء بأن تشغله بك ، وتذل من تشاء بأن تشغله عنك ، وتعز من تشاء بسقوط أحكام نفسه ، وتذل من تشاء بغلبة غاغة نفسه ، وتعز من تشاء بطوالع أنسه وتذل من تشاء بطوارق نفسه ، وتعز من تشاء ببسطه بك ، وتذل من تشاء بقبضه عنك.

١٣٧

الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠))

قوله تعالى : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) تولج دخان البشرية في سلطان صفاء التوحيد ، وأيضا تلاشي ظلمة النفوس في أنوار الأرواح ، وأيضا أفنى ظلمة الطبائع في صفاء القلوب ، وأيضا تحرق سجوف ليالي الهجران بطلوع شموس العرفان ، وأيضا تخرق حجب الحدوئية عند ظهور سناء قدس الصمدية ، وأيضا ترفع قوام الملكوت حين تبرز أنوار جمال الجبروت.

(وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي : تفني أنوار الأسرار في أطباق ظلمات الطباع ، وأيضا أي : تسبل حجاب الفناء على وجوه أهل البقاء ، وأيضا : (وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) حين كسفت شمس المعرفة في منازل النكرة ، وغلبت ظلمة الفترة على نور المعاملة.

(وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي : تخرج أشجار أنوار المعرفة بكشف جمال المشاهدة من القلوب الميتة بتواتر الفترة.

وأيضا : تخرج أرواح القدسية بأصوات جرس الوصلة عند غلبات الوجود من الأشباح المضمحلة ، تحت أثقال سلطان كشف توحيد الوحدانية إلى فضاء السرمدية لتجول في سرادق الكبرياء ، وخيام الملكوت ، طلبا لمشاهدة جمال الجبروت.

وأيضا : يخرج العارف العاشق من العامي الغافل ، وأيضا أي : مياه دموع العارفين بنيران الوجد من قلوبهم الخالية عن آثار المشاهدة (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) أي : العامي من الولي الحي بالمعرفة ورؤية مشاهدة خالق الخلق جل وعز.

وأيضا : إذا يبست عيون المعرفة في قلوب العارفين من حرارة امتحان القهر يخرج منها حنظل الشرك مكان سكر التوحيد ، وعصاه الشك مكان نرجس اليقين ، وأورقت فيها أشجار الغفلة بأوراق هموم المذمومة ، ويبست رياحينها بانقطاع عنها مياه صفاء المعاملة (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : من هذه المقامات المختلفة بغير رؤية ولا تدبير الإنسانية.

وأيضا : ترزق العارفين مقام المشاهدات وترزق المشتاقين مقام المكاشفات ، وترزق المحبين مقام المداناة وترزق الموحدين مقام البقاء ، والفناء ، والصحو ، والسكر ، والاتحاد ،

١٣٨

وترزق العاشقين مقام الجمع والتفرقة ، وترزق الأحرار مقام التلوين والتمكين بغير حساب أكثر من أن يحصى عدد أسرارها ويعد حقائق أنوارها (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) أي : لا يصحب العارف الجاهل ولا المخلص المرائي ، ولا الصادق الكذاب ، ولا المؤمن المبتدع المنكر ، ولا المريد الصادق الفاتر المدعي ، ولا يحب أهل الحق أهل الباطل حتى ينالوا ببعضهم مقام حقيقة العبودية.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) أي : لا ينال من الله تعالى درجة أهل محبته وقربته ومعرفته ، (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) حذر أصفياءه بالفراق عن وصله بسبب محبة أعدائه ، وبهذا التخويف يربي خواص أحبته في قباب الشفقة وأسبل بهذا عليهم نقاب الغيرة حتى لا يراهم أحد سواه (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) مشفق بأوليائه وأهل طاعته بأن يسترهم عن أبصار الغفلة والجهلة وأكرمهم بصحبة أهل التوحيد والمعرفة ، وبسط لهم بساط الشريعة والحقيقة حتى يردوا موارد الأنبياء والرسل ، وشربوا من مناهل المقربين شراب الصفاء ، ولبسوا من نسج الكروبيين أثواب الوفاء.

وسئل أبو عثمان عن قوله : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) فقال : لا ينبسط شيء إلى مبتدع ؛ لفضل عشيرة ، ولا لقرابة نسب ، ولا نلقاه إلا ووجهه له كاره ، فإن فعل شيئا من ذلك فقد أحب من أبغضه الله ، وليس بولي الله من لا يوالي أولياء الله ، ولا يعادي أعداءه.

وقال ابن عطاء في قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) : إنّما يحذر نفسه من يعرفه ، فأمّا من لا يعرفه ؛ فإن هذا الخطاب زائل عنه.

وقال الواسطي : يحذركم الله نفسه في دعوى إتيان شيء من الطاعات ؛ إذ فيه جذب الربوبية.

وقال أيضا : ذلك ألا يأمن أحد أن يفعل به ما فعل بإبليس زينة بأنوار عصمته ، وهو عنده في حقائق لعنته ، وسبق عليه ما سبق منه إليه حين غاضبه فجأة بإظهار علته.

وقال أيضا : إنه لا يحذر نفسه من لا يعرفه ، وهذا خطاب الأكابر ، وأما الأصاغر فخطابهم : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) ، (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦].

وقال جعفر : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) هذا الخطاب للأكابر (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) خطاب للأصاغر.

وقال ابن عطاء : احذر سطوته ونقمته ؛ فإنّه عزيز قهار ، وابذل روحك له ، واعلم أنك

١٣٩

مقصر مع هذا كله ، وأنشد :

لا تعرض بنا فهذا بنان

قد خضبناه بدم العشاق

وقال الواسطي : يحذركم أن تثبتوا نفسه بنفوسكم وصفة القديمة عليكم بأحوالكم الخديعة ، وأن تنسوا الأزلية بالآخرية ، والربوبية بالعبودية ، فإنّ الأصل أتم من الفرج ، وإنّ العبودية إنما ظهرت بالربوبية.

وقال إبراهيم الخوّاص : علامة الحذر في القلب دوام المراقبة ، وعلامة المراقبة التفقد للأحوال النازلة.

وقال جعفر : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أن تشهد لنفسك بالصلاح ؛ لأنّ من كانت له سابقة ظهرت سابقته في خاتمته.

قال الأستاذ : الإشارة من قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) للعارفين ، ومن قوله : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) للمشتاقين ، فهؤلاء أصحاب العنف والفتوة ، وهؤلاء أصحاب التخفيف والسهولة.

وقيل : إغناؤهم بقوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ثم أحياهم فأبقاهم بقوله : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ).

وقال ابن عطاء ـ رحمه‌الله : العبادة أجمع مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم ، وخصّ رحمة الرسول عليه‌السلام موقوفة على المؤمنين دون من سواهم ، وهذا كقول إبراهيم عليه‌السلام حين قال : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ) [البقرة : ١٢٦] فإنّه لا رازق في السماوات والأرضين غيره ، وسن في ربوبيته تعالى أن يحذر أولياءه وأعداءه ، فحذر أعداءه بما صدر من أفعاله القديمة من نكال الجحيم والحطمة ؛ لأنّها قهر بالواسطة بين الأفعال والصفات ، وحذّر أولياءه والمؤمنين خاصة صفاته وذاته ، فتحذير المؤمنين بالصفات كالحرمات والهجران عن نواله وكرامته ، وتحذير أوليائه بعزة نفسه ، وهم على طبقات شتى ، وجمعهم في وصول التوحيد ، وفرّقهم في منازل المقامات ، فحذّر التائبين بالسلطنة ، وحذّر الخائفين الوجلين بسطوات العظمة.

وحذّر المحبين والمشتاقين والعاشقين بالعزة والجبرية ، وحذّر العارفين والموحدين بصدمة الكبرياء والظلمات بحر الديمومية ، وبهذه الصفات يحذر أهل انبساط والبسط والرجاء لسقوط سوء الأدب عنهم في مدارج التوحيد والكرامة.

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ

١٤٠