تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٢

وعبارة ، وأنت أعظم من أن يدركك أحد بوسيلة الكون ، حيث لم يدركك بكل ذكر خالص ، ولا يدركك إلا بك كل عارف ، سبحانك عمّا وصفناك بلسان الحدث ، أنت كما أثنيت على نفسك بقولك : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [المؤمنون : ٩١] ، و (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي : عن طلبنا بنا لا بك ، وعذاب النار عذاب البعد ، وذلك نيران الفراق وهو حرق من نار الظاهر.

قال النصر آبادي : (سُبْحانَكَ) أي : نزهت نفسك في نفسك بمعناك في معناك بما لا ، ومنك بك لك.

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨))

قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) أخبر الله سبحانه بهذه الآية عن أحكام توحيد القائمين في معهد الأزل بنعت المشاهدة والفناء في القدم ، بعد رجوعهم من الأرواح إلى الأشباح ؛ حيث سمعوا مناداة الحق وخطابه من لسان منادي الحق ، بشرط الوسائط بعد سماعهم خطابه صرفا ، أي : إننا سمعنا مناداتك بلسان الوسيلة ، فآمنا بشرط المشاهدة قبل مناداة الرسل ؛ حيث قلت : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] ، في المشاهدة والحضور بلا حجاب ، وأيضا (إِنَّنا سَمِعْنا) بأرواحنا وأسرارنا منك ، فآمنّا بك بغير علة ، فاتبعنا ظاهرا وباطنا مناديك ، وصدقناه بما وجدنا حلاوة اليقين في قلوبنا ، ومعنى الإيمان تصديق الكل برؤية الكل ، وسابقة نظر الأسرار إلى الأنوار ، وقبول الظاهر بيقين الباطن ، والشروع في العبودية بعد كشف الربوبية ، ومعاينة الغيب بالغيب.

٢٢١

قال القاسم : الإيمان أنوار الحق إذا اشتملت على السريرة ، وهو أن يغيب العبد تحت أنواره ، ويبدو له نجم الاحتراق فيغيبه عن وساوس الافتراق ، فيكون مصحوب الحق في أوقاته ، لا يشعر بتسخيره ، ولا يعلم بحجابه ، وإنما حجب الكل بالكل ، وحجب كلا بكليته ، وقمع كلا بحده ، لئلا يستوي علم أحد مع علمه ، فهذا هو صريح الإيمان.

وقوله تعالى : (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أي : اغفر قصور معرفتنا بك فإنه أعظم الذنوب ؛ حيث نطلب معرفة القدم بالحدث ، وكيف يكون مقارنة القديم بالمحدث ، (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) أي : تجاوز بكرمك عن كل خاطر يشير إلى غيرك بعد ما وجدنا حلاوة وصلتك ، (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أي : توفنا مع الذين أنعمت عليهم بكشف مشاهدتك لهم ، وإيقاع محبتك في قلوبهم ، واستشواقك من صميم أسرارهم إلى جمالك ، واكتسابهم بكسوة رضا القديم ، حتى وقفوا معك بشرك الرضا في كل بلائك وامتحانك.

قال الشيخ أبو عبد الرحمن : مع من رضيت ظاهرهم للخلق ، وباطنهم لك.

وقيل : (الْأَبْرارِ) : هم القائمون على حد التفريد والتوحيد.

وقال سهل : الأبرار هم المتمسكون بالسنّة.

وقال بعضهم : هم الناظرون إلى الخلق بعين الحق.

قوله تعالى : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) أي : نحن احترقنا بنيران محبتك ، فأرونا بحسن مشاهدتك التي وعدت رسولك بقولك : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] ، وأيضا (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا) بلسان رسلك ، إنّ من اتبعهم تعطيه محبتك وسنيات آياتك وكراماتك ؛ حيث قلت : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ).

وقوله تعالى : (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : لا تحجبنا بنعمتك عنك ؛ حيث يشتغل أهل الفريقين بأنفسهم ، وهذا الدعاء من المعرفة تنزيه الأزلية عن الحدوثية ، واستغناء الربوبية عن العبودية ، حتى لو يحرق جميع الأنبياء والمرسلين ، لا يبالي بهم ، ولا تنقص من ملك جلاله ذرة لك ، عرفوا ما سبق لهم من حسن العناية ، فستزادوا تواتر الأنعام ؛ حيث تسلى الحق سبحانه قلوب الخائفين القانتين في رؤية العظمة ، بقوله : «سبقت رحمتي غضبي» (١).

__________________

(١) سبق تخريجه.

٢٢٢

قال الشيخ أبو عبد الرحمن : أي : لا تجازنا بأعمالنا ، وعد علينا بفضلك ورحمتك ، إنك لا تخلف الميعاد ، بقولك : «سبقت رحمتي غضبي».

وتفسير قوله : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) عندي نفي علة الحدث عن ساحة الكبرياء ؛ لأن نقض العهد من شواغل أهل العلة ، أي : أنت منزّه عن خلف الوعد ، ونحن في محل الأمن من ذلك ، فإنّ أوصاف الحدثان لا تجري على عزة كبريائك.

قال الأستاذ في هذه الآية : أي حقق لنا ما وعدتنا على ألسنة الوسائط من كمال النعمة ، وتكفير السيئات ، وغفران كل ما سبق من متابعات الهوى.

قوله تعالى : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) في هذه الآية إشارة إلى تنزيه الأرواح من الخطرات ، وتقديس الأشباح من الشهوات ، هاجروا من غير الله إلى الله ، ثم إنّ الله تعالى حثّ الأعداء بإخراجهم عن ديارهم لحبّ عزته العاشقين الصادقين ، كيلا يركنوا بالطبع والحب إلى الإخوان والأوطان (١).

قيل في تفسيرها : تركوا الشرور ، وفارقوا أقرباء السوء.

وقوله تعالى : (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) إنّ القوم إذا لم يذوقوا مرارة إيذاء المنكرين لم يبلغوا حقائق الالتجاء إلى الله ، والفرار إليه ، فإيذاء الأضداد يهيج للأولياء إلى مقام القبض ، وضيق الصدور ، ذلك محل الامتحان من الله سبحانه ؛ لكظمهم غصص غيظ المنكرين ، لتفتح بعد ذلك أبواب الخطاب ، وصفاء البسط ، وسرور المنّة.

قال الجنيد : جزى الله إخواننا عنّا خيرا ، ردونا بحقائقهم إلى الله ، وهذا سنة الله التي قد جرت على أهل سلوك المعارف والكواشف ، قال تعالى : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٦٢].

قيل : غير القوم بصحبة الفقراء ومجالستهم ، والتزيي بزيهم ؛ لأن الفقر هو طريق الحق ، ألا ترى المصطفى ـ صلوات الله عليه ـ لمّا جلس معهم ، كيف قال : «المحيا محياكم ، والممات مماتكم» (٢).

__________________

(١) المظلوم منصور ، ولو بعد حين ، ودولة الحق تغلب دولة الباطل ، والمظلوم حميد العقبى ، والظالم وشيك الانتقام منه بشديد البلوى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) [النمل : ٥٢] ، وقد يجري من النّفس وهواجسها على القلوب لبعض الأولياء ، وأهل القصة ـ ظلم ، ويحصل لسكّان القلوب من الأحوال الصافية عنها جلاء ، وتستولي غاغة النّفس ، فتعمل في القلوب بالفساد بسبب استيطان الغفلة حتى تتداعى القلوب للخراب من طوارق الحقائق ، وشوارق الأحوال [تفسير القشيري (٥ / ٢٠٠)].

(٢) رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٦ / ٤٠١) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٩ / ١١٧).

٢٢٣

قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي : لا يعجبنك طوف المنكرين في البلدان لطلب الفصاحة البلاغة ، والتكلف في الآداب والزينة ، طلبا لصرف وجوه الناس والربانية والحيل بأولياء الله ، فإنّ أحوالهم مزخرفات فانية ، يريدون بها إسقاط جاه الصدّيقين عند الخلق ، وأنا بجلالي في كل نفس أرفع درجاتهم ، وأزيد في ملك ولايتهم رغما للمنكرين ، وإرغاما لأنوف المبطلين.

وأيضا : لا يغرنك ، ولا يفتتنك صحة أبدانهم ، وأين عيشهم في العالم ، وتيسير إقبال الدنيا إليهم في البلاد بجاههم عند العامة ؛ فإنهم يحاربونني بإهانتهم أوليائي ، ومبارزتهم معي بعداوة إحمائي ، فإن أيامهم قليلة ، وحسراتهم كثيرة عند طلوع أنواري من شرق العناية على وجوه أوليائي ؛ حيث قلت : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) [الزمر : ٦٩] ، أفتضحهم عند وضوح الكتاب ، وحضور الأنبياء والشهداء ، وهذا وعيد شديد لأهل أزماننا من السالوسيين الناموسيين.

قال يوسف في تفسير هذه الآية : لا تفتتنك الدنيا بوقوع الجهال عليها ، والاغترار بما فيها ، والتكثر بنعيمها ؛ فإنها زادهم إلى النار.

قوله تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) بيّن الله تعالى رفعة منازل المتقين في الجنان ، ثم أبهم لطائف العندية لهم ، بقوله : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) أي : ما عنده من نعم المشاهدة ولطائف القربة وحلاوة الوصلة ، خير مما هم فيه من النعيم في الجنة ، وأيضا صرح في بيان مراتب الولاية أنه ذكر المتّقين ، والتقوى تقديس الباطن عن لوث الطبيعة ، وتنزيه الأخلاق عن دنس المخالفات ، وذلك درجة الأول من الولاية ، والأبرار أهل الاستقامة في المعرفة ، وبيّن أن أهل التقوى في الجنة ، والأبرار في الحضرة.

وأيضا : أعجبوا الأبرار بما وجدوا من أنوار نيران المكاشفات ، ولطائف المناجاة ، وحقائق المشاهدات بنعت الوجد والحالات ، فأخبرهم أن ما هم فيه بالإضافة إلى ما عنده لهم في الآخرة كلا شيء في ذلك ، وذلك قوله تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) ، وأيضا لا يتعجبوا صورة أحكام أهل الدنيا في طراوتهم ، وحسن هيئاتهم ، أيها المريدون ؛ فإن شدائد مجاهداتك تورث سليم العيش في رؤيتي وقربتي ومشاهدتي.

قيل : ما عنده لهم خير ما يطلبونه بأفعالهم.

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ

٢٢٤

الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١) أعلم الحق سبحانه حقيقة لهيب نيران فؤاد المشتاقين ، وتسلاهم بخطابه ، وبما أمرهم بالصبر في لوعة الفراق ، أي : اصبروا أيها المشتاقون في ركوب عظائم آلام المحبة والشوق على قلوبكم ، بتذكيركم بلوغ وصالي ، فإذا اشتد الأمر عليكم بالصبر في بلائي ، صابروا على الصبر لكيلا يجزع صبركم في عناء الفرقة ، والاحتراق في المحبة ، اصبروا بمشاهدتي ، وصابروا في طلبكم حقائق معرفتي ، اصبروا بأسراركم ، وصابروا بأسراري ، ولا تكشفوها عند الأغيار ، ورابطوا قلوبكم بكتمانها ، واتقوا الله في إفشاء السر ، كيلا تحتجبوا عنه ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وتظفرون بنعمة جمالي ، وحسن وصالي ، وتفوزون من أليم عذاب فراقي.

وأنشد أبو حمزة الصوفي :

نهاني حيائي منك أن أكتم الهوى

وأغنيتني بالفهم عنك من الكشف

تلطفت في أمري فإن أك شاهدا

إلى غايتي فاللطف يدرك باللّطف

وأنشد أبو بكر أحمد بن إبراهيم المؤدّب لإبراهيم الخواص :

صبرت على بعض الأذى خوف كلّه

ودافعت عن نفسي لنفسي فعزت

وجرّعتها المكروه حتّى تدرّبت

ولو جملة جرّعتها لاشمأزت

ألا ربّ ذلّ ساق للنّفس عزة

ويا ربّ نفس بالتّعزز ذلّت

إذا ما مدتّ الكف التمس الغنى

إلى غير من قال اسألوني فشلّت

سأصبّر نفسي إنّ في الصّبر عزة

وأرضى بدنياي وإن هي قلّت

وأنشد الشبلي في حقائق الصبر :

عبرات خططن في الخدّ سطرا

فقرأه من لم يحسن يقرا

صابر الصّبر فاستغاث به الصّبر

فصاح المحبّ بالصّبر صبرا

__________________

(١) المصابرة نوع خاص من الصبر ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه ، تخصيصا لشدته ، وصعوبته وكونه أكمل ، وأفضل من الصبر على ما سواه ، والصبر هو حبس النفس عما لا يرضاه الله ، وأوله التصبر ، وهو التكلف لذلك ثم المصابرة ، وهى معارضة ما يمنعه عن ذلك ثم الاصطبار ، والاعتبار ، والالتزام ، ثم الصبر ، وهو كماله ، وحصوله من غير كلفة [تفسير حقي (٢ / ٣٩٣)].

٢٢٥

قال الجنيد : إنّ الله تعالى ذكر الصبر وشرفه وعظم شأن الصابرين لديه ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا) أمرهم بالصبر على الصبر ، ثم قال : (وَرابِطُوا) وهو ارتباط السر مع الله سرّا ، والوقوف مع البلاء جهرا ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصبر عند الصدمة الأولى» (١).

قال الحارث : الصبر التهدف لسهام البلاء.

وقال الجريري : الصبر إسبال التولي قبل وقوع البلوى ، فإذا صارف البلوى تلقاه بالتولي ولم يجزع.

وقال بعضهم : (اصْبِرُوا) تحت حكمي ، (وَصابِرُوا) في الحلاوة مع أعدائي ، (وَرابِطُوا) قلوبهم بموافقتي ورضائي.

وقال جعفر : (اصْبِرُوا) عن المعاصي ، و (وَصابِرُوا) على الطاعات ، (وَرابِطُوا) الأرواح بالمشاهدة ، (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : اجتنبوا الانبساط مع الحق ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تبلغون مواقف أهل الصدق ، فإنّه محل الفلاح.

وقال بعضهم : (اصْبِرُوا) بجوارحكم على الطاعات ، (وَصابِرُوا) بقلوبكم مع الله ، (وَرابِطُوا) بأسراركم بالحقائق سبل الشوق والمحبة.

وقال بعضهم : (اصْبِرُوا) بالله ، (وَصابِرُوا) مع الله ، (وَرابِطُوا) أسراركم بالحقائق لعلكم تجردون عن همومكم وخطراتكم.

قال ابن عطاء : الصبر للمطيعين ، والمصابرة للمحبين ، والمرابطة للعارفين ، وقال : الصبر لله ، والمصابرة بالله ، والمرابطة مع الله.

وقال الأستاذ : الصبر فيها يتفرد به العهد ، والمصابرة مع العدو ، والرباط نوع صبر ، ولكن على وجه مخصوص.

ويقال : أول الصبر التصبّر ، ثم الصبر ثم المصابرة ، ثم الاصطبار وهو نهايته.

ويقال : (اصْبِرُوا) على الطاعات وعن المخالفات ، (وَصابِرُوا) في ترك الهوى والشهوات ، وقطع المنى والعلاقات ، (وَرابِطُوا) بالاستقامة في الصحبة في عموم الحالات.

ويقال : (اصْبِرُوا) على ملاحظة الثواب ، (وَصابِرُوا) على ابتغاء القربى ، (وَرابِطُوا) في محل الدنو أو الزلفة على شهود الجمال والعزة.

__________________

(١) رواه البخاري (١٢٠٣) ، ومسلم (١٥٣٤).

٢٢٦

وقد وقع لي قول بعد أقوال أشياخ المعرفة زيادة على قولي في الآية قبل أقوالهم ، أنّ الله سبحانه أعلمنا في هذه الآية بيان أربع مراتب من عظائم مقامات أهل الكمال في التوحيد :

الأول : مقام المعرفة ، والثاني : مقام النكرة ، والثالث : مقام الفناء ، والرابع : مقام البقاء.

وأضاف الصبر إلى المعرفة ، والمصابرة إلى النكرة ، المرابطة (١) إلى الفناء ، والفلاح إلى البقاء ، أي : اصبروا في معرفتي حيث أعرفكم نفسي بنفسي ، فإن في عرفاني مباشرة السر بالسر ، وتخلق الصفة بالصفة ، واتحاد الذات بالذات.

أي : إذا كنتم في مقام الاتحاد بإدراك ربوبيتي ، اصبروا بكتمان دعوى الربوبية فإنكم في مقام المكر ، وأنتم لا تعلمون ، وإذا وقعتهم في بحار ألوهيتي ، واختلط بكم بحار السرمدية والأزلية ، ولا تعرفون طرق معرفتي بعد وقوعكم في نكرتي ، ونكرتي جهلكم بي بعد معرفتكم بي ؛ حيث امتزج ظلام القهريات بأنوار اللطفيات.

صابروا هناك لكي تدركونني فتربحون بكم ذوق وصالي ، وسكر مشاهدتي ، وصحو صحبتي من غمرات النكرات ، فإنكم في النكرة على محل غيرتي عليّ لكم ، وإذا انكشف لكم سطوات عظمة قدمي ، وبرزت أنوار أزليتي ، وأنتم في محل الاضمحلال والفناء عنكم ، ورابطوا أسراركم في أنواري ؛ كيلا تتلاشوا بي عني فيفوتكم إدراك لطائف الغيبية ، ووضوح أسرار الأزلية ، فإذا استفهم في الفناء عنكم ، ولقيتم بي عليّ تفلحون بإسبال بقائي عليكم حتى تخرجون من بحار الفناء بشرط البقاء ، فإذا صرتم باقين ببقائي ، فزتم عن ورطة الفناء بعد ذلك ، ولا تجري عليكم أحكام التلوين بعد الاستقامة والتمكين.

سورة النساء

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ

__________________

(١) قال ابن عجيبة : المرابطة أن يربط هؤلاء خيولهم ، وهؤلاء خيولهم ، إرصادا لمن حاربهم ، ثم أطلق على كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه ، وإن لم يكن له مركب ، إذا كان بنية الدفع عن المسلمين كان بأهله أو وحده ، المدار على خلوص النية [البحر المديد (١ / ٣٨٦)].

٢٢٧

مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي : أيها الناسي عهد الأزل وميثاق القدم بشرط وفاء العبودية بعد خطابي ومعرفتي وتعريفي نفسي لكم ، حيث قلت : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] ، فأجبتم بقولكم : (قالُوا بَلى).

وأيضا : أيها الناسي جمال مشاهدتي ؛ حيث أخرجت أرواحكم من العدم بتجلي أنوار القدم ، فبصرتها بمشاهدتي ، وأسمعتها خطاب أزليتي باشتغالكم على حظوظ البشرية ومأمول الطبيعة.

وأيضا : أيها المستأنس بالمستحسنات من الأكوان والحدثان طلبا لمشاهدتي اعلم أنها أعظم الحجاب ؛ لأنها وسيلة حدثية وإيصال إلى أحد إلا بي ، ورؤية الأشياء في رؤيتي مكر.

وأيضا : أيها المستأنس في المستوحش من غيري فلا تغرنّ بي ؛ فإنك لي لا لك.

وأيضا : أي : أيها الناسي أنفسكم التي هي مخلوقة من الجهل بي ، فلا تخافون حيث ادّعيتم معرفتي ، ومعرفتي للقدم لا للحدث.

وأيضا : هذا خطاب لبني آدم ، أي : أيها الذين انتسبتم إلى ابن الماء والطين الذي اشتغل عني بأكل حبة حنطة حتى بكى عليها مائتي سنة إيش تفعلون بعده في مواقف القربة ، وتنزل المشاهدة بعد المعرفة ، فإن عذاب الفراق أليم ، لو تعرفون أنفسكم لا تشتغلون بالحدثان ، فإني اصطفيتكم بمشاهدتي وخطابي من بين البريات ، أما سمعتم قولي : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [الإسراء : ٧٠] ، وهذا الخطاب خطاب العتاب للمفارقين أوطان المآب ؛ ألا ترى إذا غضب عظيم على خادمه لم يسم باسمه ، ويقول : يا إنسان. ولا يقول : يا حسن ، يا أحمد ، أي أنت على محل الجهل بمرادي منك.

والإشارة فيه : إن الله سبحانه عرف أمر المعرفة عباده حيث اشتغلوا بسواه ، كأنه نبههم عن رمدة الغفلات بزواجر هذا الخطاب ، ويقول : أيها الناقضون عهد المعرفة والعشق ، أما تستحيون مني باشتغالكم بغيري ، اتقوا من فراقي وعتابي.

قال بعضهم : يا بني النسيان والجهل.

وقال ابن عطاء : أي كونوا من الناس الذين هم الناس ، وهم الذين أنسوا به ، واستوحشوا مما سواه.

٢٢٨

وقال جعفر : أي : كونوا من الناس الذين هم الناس ، ولا تغفلوا عن الله ممن عرفه ، إنه من الإنسان الذي خصّ خلقته بما خصّ به ، كبرت همته عن طلب المنازل ، وسمت به الرفعة حتى يكون الحق نهايته ، ثم (إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢] ، وسمو همته مما خصّ به من الاختصاص من التعريف والإلهام.

وقال بعضهم : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب العام ، و (يا عِبادِيَ) خطاب الخاص ، وخطاب خاص الخاص ، (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) ، (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ).

قوله تعالى : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) (١) أي : كونوا على تقديس الأسرار عند كشف الأنوار ، وعلى شرط الانفراد في محبتي عن الأغيار ، ولا تبغوا آثار الأشرار لتكونوا في منازل الصدق من الأبرار ، حذّرهم من نفسه.

والإشارة فيه : إن من مال سرّه في سيره إليه امتنع بعزته عن مطالعة جلاله ، كقوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨] ، وحقيقة التقوى قدس السر عما سواه بنعت الخوف من فراقه في متابعة هواه.

قال بعضهم : التقوى ترك المخالفات أجمع.

وقال بعضهم : تقوى الله هو الاجتناب من كل شيء سواه.

وقال الواسطي : التقوى على أربع وجوه : للعامة تقوى الشرك ، وللخاص تقوى المعاصي ، وللخاص من الأولياء تقوى التوسل بالأفعال ، وللأنبياء تقويهم منه إليه.

وقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) (٢) ، إن الله سبحانه ذكر جميع أوصاف قدمه وأمره ومشيئته ونعته وأفعاله في هذه الآية رمزا وإيماء ؛ لأنه تعالى لمّا أراد إبداع الخليقة لعرفانها حقوق الألوهية ، وانتشار أنوار المحبة الأزلية في فضاء القلوب وأماكن الأرواح تجلى ذاته لصفاته ، وتجلت صفاته لأفعاله ، وجمع علمه وحكمته وقدرته في نعت واحد وهو الأمر ، فقرنت الإرادة بالأمر ، فنظر في الأمر بنعت الكاف والنون إلى العدم من القدم ، فأظهر جوهر البسيط المجموع فيه الأجسام والأرواح والجوهر والأعراض.

__________________

(١) التقوى ترك كل شيء تقع عليه ؛ فهو في الآداب مكارم الأخلاق ، وفي الترغيب ألا يظهر ما في سره ، وفي الترهيب ألا يقف مع الجهل ، ولا تصح التقوى إلّا بالمقتدي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالصحابة ـ رضي الله عنهم. [تفسير التستري (١ / ١٨٦)].

(٢) أخرج النّسمة من نفس واحدة وأخلاقهم مختلفة ، وهممهم متباينة ، كما أن الشخص من نطفة واحدة وأعضاؤه وأجزاءه مختلفة ؛ فمن قدر على تنويع النطفة المتشاكلة أجزاؤها ، فهو القادر على تنويع أخلاق الخلق الذين أخرجه من نفس واحدة [تفسير القشيري (٢ / ٤٧٩)].

٢٢٩

ثم نظر إليه بنظر الهيبة والعظمة والجود ، فأنشر منه ما سبق علمه في الأزل به من العرش إلى الثرى على صور وهيئة كانت منقوشة بنقوش خواتيم أفعاله ، وذلك المبدع هو أحمد ـ صلوات الله عليه ـ حيث قال : «أوّل ما خلق الله نوري ، فكنت كذا وكذا» (١) ، حتى ذكر أن من العرش إلى الثرى خلق من نوره وهو آدم عليه‌السلام الأول الذي قال تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ، ثم جمع الأرواح والأشباح والأنوار والأسرار في قبضة عزته ، وخمرها بطينة آدم عليه‌السلام في أربعين ألف صباح من صبح الآزال والآباد ، حتى خلقه بخلقه ، وأنشأه بروحه ، فقال : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] ، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص : ٧٢] ، فباشرت فيه يد الأزل والأبد ، وظهر فيه قدس القدم بجميع الأسماء والصفات والنعوت والأفعال ، فصوره بصورة الملك ، فتتشعب منه أماكن أسرار القديم من خلق الأولين والآخرين ، وهو صورة عين الجمع التي أظهر الحق منها أوصاف قدمه ، ألا ترى إلى قول سيد البشر ـ صلوات الله عليه ـ كيف قال في المتشابهات : «إن الله خلق آدم على صورته» (٢) ، وهو آدم الثاني.

قوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) ، أخبر عن مقام الجمع بقوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ، ثم أخبر عن التفرقة بقوله : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً).

وبيّن بعض ما أشرنا أستاذ الأستاذين شيخ التمكين عمرو بن عثمان المكي ـ رحمة الله عليه وقدس روحه ـ وقال : إنّ الله خلق العالم ، وهيأه باتساق نظم واحد من أطرافه وأكنافه ، وأوله وآخره ، وبدؤه ومنتهاه ، من أسفله إلى أعلاه ، وجعله بحيث لا خلل فيه ولا تفاوت ولا فطور ، أحكم بناءه باتصال تدبيره ، وحبسه على حدود تقديره وإن اختلفت أجزاؤه في التفرقة والأجسام والهيئات والتخطيط والتصوير ، وفرّقه بتفرقة الأماكن ، وحققه بائتلاف المصالح ، فهو مربوط بحدود تقديره ، ومتتابع باتصال تدبيره ، وبث فيه الأجناس بينهما من شواهد الزينة ، فأظهر القدرة بإيجاد آدم عليه‌السلام ، ثم بث أولاده في البسيط إلى تصاريف التدبير لهم والمشيئة ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [الأعراف : ١٨٩].

وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) ، أكّد التحذير ، وبيّن القدرة والتقدير أي : احذروا عمّن هو قادر لإيجاد الخلق من لا شيء ومن شيء ترك مخالفته ؛

__________________

(١) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ٣١١).

(٢) رواه البخاري (٥ / ٢٢٩٩) ، ومسلم (٤ / ٢٠١٧).

٢٣٠

فإنه قادر أن يعدمكم ، حتى لم تكونوا أبدا كما لم تزالوا معدوما ، والمعدوم محجوب عن ديوان النبوة والولاية.

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) أي : اتقوا من فراق الذي تسألون منه به مشاهدته ووصاله ، وخوّفهم بالأرحام ، أي : اجتنبوا من مخالفة أوليائي رحم الصحبة ، قال : صحبتي موصولة بصحبتهم ، ومن فارق منهم فارق مني.

قال الأستاذ : أي فاتقوا الأرحام أن تقطعوها ، فمن قطع الرحم قطع ، ومن وصلها وصل.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) ، ذكر التقوى وأكّد التقديس الأسرار ، وليقع نظرات تجليه على مواقع القلوب ، وصميم الأرواح بلا علة وجود الغير فيها ؛ لأنه منزّه لا يصل إليه إلا منزّه عن غيره ، وهو ناظر إلى مواطن القلوب من الغيوب ، وترفرف أنوار قربه عليها ، فإذا يرى فيها ذكر الغير يرتحل مطايا أنواره منها إلى معادن الألوهية والربوبية ، وذلك قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).

وأيضا : مقام الهيبة ووقوع نور العظمة على القلب الصافي بنعت حفظه عن خطرات الحوادث ، والقلب العارف المنقلب في معارج الصفات ، وهو تعالى استأثر حفظه بنفسه لا يكل حفظه إلى غيره ، وبيان ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن ، يقلّبها كيف يشاء» (١) ، وإذا راقب العبد ربه في البداية راقبه الله في النهاية ، كقوله عليه‌السلام لابن عباس : «يا غلام احفظ الله يحفظك» (٢) ، والمراقبة منه الحفظ والكلاءة ، وفيه بيان تسلية الله سبحانه قلوب المحزونين المشتاقين إلى جلاله ، أي : أنا ناظر إلى أسراركم ، وأعلم حرقتكم وهيجانكم ؛ إني أجازيكم بوصلي ، وأواسيكم بجمالي.

وأيضا : أخبر الله تعالى عن شوق قدمه قبل الحوادث إلى وجوه أصفيائه ، أي : كنت مراقبا بنفسي بغير علة التغاير بخروجكم من العدم إلى شواهد القدم ، ومن شواهد القدم إلى نور العدم ، كما قال : «وإنّي إليهم أشدّ شوقا» (٣) ، وكان إخبار عن الأزلية في الأزلية.

قال ابن عطاء في قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) قال : عالما بما تضمر من سرّك ، وما تخفيه من خواطرك ، فراقب من هو الرقيب عليك.

__________________

(١) رواه الترمذي (٤ / ٤٤٨) ، وأحمد (٣ / ١١٢).

(٢) رواه الترمذي (٤ / ٦٦٧) ، وأحمد (١ / ٢٩٣).

(٣) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٨ / ٤٥٤).

٢٣١

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧))

قوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) المال هاهنا حقائق المعرفة التي لا يعرفها إلا الربانيون ، أي : لا تظهروها للمبتدئين ؛ لئلا تفسد عقائدهم.

وأيضا : لا تعطوا المال إلى غير من يبلغ درجة التمكين ؛ فإنه يهلك في تصرفه.

قيل : أولادكم الذين يمنعونكم عن الصدقة.

قوله تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) الرشد هاهنا والله أعلم : معرفة الله ومحبته وسلوك سبيله على موافقة السنة.

وقيل : أصحابه الحق ، وقيل : القيام في العبادات على شرط السنة.

قال ابن عطاء : الرشيد من يفرق بين الإلهام والوسوسة.

وقوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) هذه التسلية للمشتاقين أي : كفى بكم عدي أنفاسكم التي تنفستم بها في غلبة شوقكم إلى لقائي ، فأجازيكم بكل نفس بوصل بلا فصل ، وأنا حسبكم ، ومشاهدتي حسبكم ؛ لأنه بلا نهاية ولا حجاب ، وتخوف به أهل المراقبة ، لئلا يخطر على قلوبهم خاطر دونه.

قيل : الحسيب الكريم أن يوفيك ما لك ، ولا يناقشك فيما عليك.

قال ابن عطاء : الحسيب الذي لا يضيع عنده عمل.

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠) يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ

٢٣٢

وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١))

قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ) أمر الله سبحانه أولي النهايات من العارفين إذا انفتحت لهم خزائن جود المشاهدة ، وانكشف لهم حقائق علوم الربوبية أن يقسمها على تلامذتهم من المريدين الصادقين على قدر مراتبهم ، ومذاق حالاتهم.

و (أُولُوا الْقُرْبى) أصحاب الصحبة ، (وَالْيَتامى) الساقطين عن الدرجة.

(وَالْمَساكِينُ) أهل السلوك من المجاهدين أي : حدثوا عن نوالي عند هؤلاء لتزداد محبتهم فيّ ، وشوقهم إليّ ، لأزيد عليكم نعمتي ، فإن كشفكم لطائفي عندهم شكر نعمتي.

و (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم : ٧] ؛ فارزقوهم من موائد القربة وخوان العناية لقيمات الحقائق ، وإن هذا يحدث من نعمتي ، ولذلك أمر صفي المملكة ورئيس القربة أن يذكر لطيف صنعي به على أمته ، لزيادة محبتهم جماله وجلاله بنعت بذل مهجتهم له ، بقوله : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : ١١].

قال محمد بن الفضل : دلت هذه الآية على كرم الله تعالى مع عباده ؛ لأنه أمر إذا حضر من لا نصيب له في الميراث أن يرزقهم منه ، دل بهذا أنه إذا حضر عباده يوم القيامة في المشهد العظيم أنه يتفضل بعطائه على من لم يكن مستحقّا لعطائه بمخالفته بإيصال رحمته إليه بفضله (١) وسعة رحمته ، وبلوغه إلى منازل أولي الأعمال ؛ لأنه قال : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس : ٥٨] ، من أفعالكم وطاعاتكم التي اعتمدتم عليها ، واعتمدوا فضلي وسعتي ورحمتي.

قوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ

__________________

(١) قال ابن عجيبة : فضل الله : أنوار الإسلام والإيمان ، ورحمته : أنوار الإحسان ، أو فضل الله : أحكام الشريعة ، ورحمته : الطريقة والحقيقة ، أو فضل الله : حلاوة المعاملة ، ورحمته : حلاوة المشاهدة ، أو فضل الله : استقامة الظواهر ، ورحمته : استقامة البواطن ، أو فضل الله : محبته ، ورحمته : معرفته ، إلى غير ذلك مما لا ينحصر ، ولم يقل : فبذلك فلتفرح يا محمد ؛ لأن فرحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالله ، لا بشيء دونه. [البحر المديد (٢ / ٤٩٩)].

٢٣٣

فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) ندب الله سبحانه عباده عند مفارقتهم الدنيا إلى أن يوصوا أولادهم بتقوى الله وتوحيده ، وتحبيبهم له ، وحثهم بالشوق إلى لقائه ، والقول المعروف وصف الله ، وذكر أفضاله وإنعامهن وأمرهم بتقوى الله في ذلك ألا يداهنوهم فيما يروا منهم من الميل إلى غير الله ، وأن يعطيهم تقواهم بالميراث ، فإذا كانوا متفقين ، فإن الله خلفهم في أولادهم ، وهكذا شأن المشايخ عند مفارقتهم من المريدين إلى دار الآخرة ، حتى لا يخفوا عنهم أسرار المقامات والحالات ، ويكلوهم إلى الله بعزائم التوكل وتحقيق اليقين ؛ فإنه لا سبيل للشيطان إليهم بعدهم.

قيل : استعينوا على كثرة العيال ، وقلة ذات اليد بالتقوى ، فإنه الذي يجبر الكسير ويغني الفقير.

وقال جعفر بن محمد : الصدق والتقوى يزيدان في الرزق ، ويوسعان المعيشة ، قال الله تعالى : (فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً).

وقال الأستاذ في هذه الآية : إن الذي ينبغي للمسلم أن يدّخر لعياله التقوى والصلاح لا المال ؛ لأنّه لم يقل : فليجمعوا المال ، وليكثروا لهم العقار والأسباب ، ويخلفوا العقل والأثاث ، بل قال : (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) ؛ فإنه يتولى الصالحين ، وقد وقع لي قول آخر ، وهو أنّ المرء يطلب في طول عمره الأموال الكثيرة ، ويدّخرها لأولاده حتى يموت ، وهم يعيشون بها ، فإنّ الله سبحانه علم نيته ، أنّه يكل أولاده إلى المال والميراث ، فحذّره من ذلك ، وأمره بتقوى الله ، فإن نيته في ذلك منازعة قدره ؛ فإنّه تعالى يفعل بهم ما يشاء ، من يتوكل على الله فهو حسبه ، وهو خلفه بعده.

قوله تعالى : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) أشكل الأمرين من هاتين الطائفتين أنهما يبلغان إلى درجة الولاية والمعرفة الموجبة مشاهدة الله وقربه ، التي لو وقعت ذرة منها لأحد من هذه الأمة ينجو بشفاعته من النار سبعون ألفا بغير حساب ، أي اخدموا آباءكم ، وارحموا أولادكم ، فربما يخرج منهم صاحب الولاية يشفع لكم عند الله سبحانه ، وحكمة الإيهام هاهنا تشمل الرحمة والشفقة على الجمهور ؛ لتوقع ذلك الولي الصادق.

قال ابن عباس في قوله : (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) : أطوعكم لله عزوجل من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة ؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض ، فإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله والديه إلى درجته ، لتقرّ بذلك عينه ، وإن كان الوالد أرفع درجة من ولده رفع الله الولد إلى درجتهم لتقرّ بذلك أعينهم.

٢٣٤

قيل : (آباؤُكُمْ) ببرّهم ، (وَأَبْناؤُكُمْ) بالشفقة عليهم ، والتأديب لهم هما بمحل النفع.

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤) وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦))

قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) حسم الله سبحانه أبواب حكمته في أمر فرائضه في كميتها وكيفيتها على الخليقة ، لوضع رقابهم على باب الربوبية عجزا ، وتواضعا في عظمته وكبريائه ، واستأثر نفسه بعلم ذلك ، لئلا تجاوز حدوده أحدا من خلقه ، ولكل صادر وارد معارفه وكواشفه حدّ يمنعه من مطالعة صمديته وأحديته ، وحدود الله برزخ بين بحر الحدث وبحر القدم ، لا يختلطان ؛ لأنّ القدم منزّه عن مباشرة الحدثان.

قال محمد بن الفضل : حدود الله أوامره ونواهيه ، فمن تخطّاها فقد ضلّ في سبيل الرشد.

قيل : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) : أي الإظهار من الأحوال للمريدين على حسب طاقتهم لها ، فإنّ التعدي فيها يهلكهم.

وقال أبو عثمان : ما هلك امرؤ لزم حده ، ولم يتعد طوره.

وقال بعض البغداديين : العبد ينقلب في جميع الأوقات على الحدود ، دخل في هتك الحرمات ، قال الله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها) [البقرة : ١٨٧] ؛ لأنّ المرتع إلى

٢٣٥

جانب الحمى ربما يخالط الحمى.

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨))

قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) ظاهر الآية في (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) على بمعنى من أي : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ) على لسان القوم.

الإشارة فيه : أن من وقع في المعصية وقع في الظلمة والحيرة ، ولا يرى سبيل الرشد ، ولم يكن في وسع البشر أن يهدي نفسه إلى طريق الحق ، فإنه هو الهادي ، والهداية متعلقة بأوصاف قدمه ، ويستحيل أن يكون الحادث على وصف القديم ، فإذا على الله نعته ووصف نفسه بالهدى لأنّه الهادي أن يرجع إلى عبده المتحير الذي زلّ قدمه في شهوات طبعه ، فإنه لا يقدر أن يخلّص نفسه من قهر الله ، إنّما تخليصه شرط كرمه الفياض ، الذي وصف به نفسه تعالى للمذنبين الذين يقصدون حظوظ البشرية بغير الاختيار.

قال : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ٥٤] فبقى (عَلى) بشرط الظاهر بقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى) إنّما الرجوع منه إلى العبد شرط الرحمة الواسعة ، التي بها ، قال : «سبقت رحمتي غضبي» (١).

هذه سنة الله على أبينا آدم صلوات الله عليه بعد أكل الحنطة بقوله : (فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ٣٧].

وقال : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) [طه : ١٢٢] ، وخصّ توبته ورجوعه للذين يعملون السوء بجهالة ، إخبارا عن عطفه ولطفه بأقوام امتحنهم الله في بدو الإرادة في بعض حظوظ أنفسهم لإيقاع نيران الندم والخوف والحياء والإجلال في قلوبهم ؛ لئلا يرفعوا أعناقهم بعد اتصافهم بنعوت الكبرياء وبلوغهم حقائق الانبساط ومقامات الاتحاد ، فيسقطون عن رؤية الأزلية ومشاهدة الأبدية في فنائهم عن الحدوث وتخلقهم بخلق القدم ، وإضافة السوء إليهم ونسبتهم إلى الجهل.

__________________

(١) رواه البخاري (٦ / ٢٧٤٥).

٢٣٦

أي : الذين يعملون سنيات الطاعات على رؤية الأعواض جهلا بمكره ، وقلة عرفانهم بعزته وتنزيه جلاله عن طاعة المطيعين ومعصية العاصين ، يعملون الطاعات ، ويرونها أنها هي شيء ويتقربون بعلل الحدث إلى جناب القدم ، فإذا صاروا مبصرين جمال مشاهدته استحيوا من ظنونهم بطاعاتهم في جلال عظمته ، وذلك قوله تعالى : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) ، عليما بشوقهم إلى لقائه ، حكيما بتربيتهم في معرفته.

وقيل في قوله : (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) : الذين يتقربون بالطاعات إلى من لا يتقرب إليه.

وقال محمد بن الفضل : ضمن الله التوبة لمن يصدر منه الذنب من غير قصد لا صحّ إلى من يضمره ، ويتأسف على فوته ، قال الله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ

٢٣٧

الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨))

قوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي : كونوا في معاشرتهم في مقام الأنس وروح المحبة وفرح العشق حين أنتم مخصوصون بالتمكين والاستقامة في الولاية ، فإنّ معاشرة النساء لا تليق إلا بالمستأنس بالله كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجميع المستأنسين من الأولياء والأبدال ؛ حيث أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كمال مقام أنسه بالله وروحه بجمال مشاهدته ، فقال : «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وجعلت قرّة عيني في الصلاة» (١).

وهكذا حال يوسف عليه‌السلام حين همّ فيها ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) [يوسف : ٢٤].

وقال ذو النون : المستأنس بالله يستأنس بكل شيء مليح ، ووجه صبيح ، وبكل صوت طيب ، وبكل رائحة طيبة.

وأيضا : (وَعاشِرُوهُنَ) بطلب ولد صالح منهن.

وأيضا : (وَعاشِرُوهُنَ) أي : باشروهن حين رغبتكم في مرادكم منهن ، فإنّ المعروف لا يقع إلا على استواء من كلا الجانبين على نعت واحد.

وأيضا ، أي : عرّفوهن صفات الله وأسماءه ، ورغّبوهن في طاعته بنعت العلم ، وشوّقوهن إلى جماله وجلاله. قيل : علّموهن السنن والفرائض.

قال عبد الله بن مبارك : العشرة الصحيحة ما لا تورثك الندم عاجلا وآجلا.

قال أبو حفص : المعاشرة بالمعروف حسن الخلق مع العيال فيما ساءك وما كرهت صحبتها.

__________________

(١) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (١ / ٤٠٧).

٢٣٨

قوله تعالى : (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) كل أمر من الله سبحانه جاء على مخالفة النفوس امتحانا واختبارا ، والنفس كارهة في العبودية ، فإذا ألزمت عليها حقوق الله بنعت المجاهدة والرياضة ، واستقامت في عبودية الله أوّل ما يطلع على قلبك أنوار جنان القرب والمشاهدة ، قال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) [النازعات : ٤٠] ، وفي أجواف ظلام المجاهدات للعارفين شموس المشاهدات وأقمار المكاشفات.

قيل في تفسير الخير هاهنا : الولد الصالح.

قيل : غيب عنك العواقب ؛ لئلا تسكن إلى المألوف ، ولا تنفر من مكروه.

قوله : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) أي : أن يصرح لكم ما أشكل على قلوبكم من علوم الغيبة وأحكام الإلهامية وحقائق الشرعية ليقتدي بكم المريدون ، ويستفيد منكم الصادقون.

قيل : أي أنه ليس إليكم من أموركم شيء.

وقال الأستاذ : أي يكاشفكم بأسراره ، ليظهر لكم ما أخفي على غيركم.

قوله تعالى : (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (١) يعني : طرق معارف الأنبياء وكواشف الأصفياء وسبل مقاماتهم وحالاتهم ورياضتهم.

قيل : سنن الأنبياء والصدّيقين التفويض والتسليم والرضا بالمقدور ساء أم سرّ.

قوله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) إرادته قديمة ، وزلتنا محدثة ، ومراده تعالى من ذنبنا رجوعه إلينا بنعت استقباله علينا ، وهذا من كماله محبة عبادة في الأزل.

قال النصر آبادي : أراد لك التوبة فتاب عليك ، ولو أردته لنفسك لعلك كنت تحرم.

قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) أي : أن يخفف عنكم من ثقل أوزار المعصية إذا باشرتم أمره بمراده ، وإذا استقبل العبد إلى الله سبحانه في قبول أمره ثقلت عليه النفس ، فإذا صبر في العبودية رفع الله أثقال النفس عنه حتى صار مخففا في عبادته ، قال تعالى : (وَإِنَّها

__________________

(١) إنما ينزل المريد إلى العلوم الرسمية ، أو الأعمال الحسية ، إذا خشي الانمحاق أو الاصطلام في بحر الحقائق ، وإن صبر وتماسك ، حتى يتقوى على حمل أعبائها ، فهو خير له ، لأن الرجوع إلى الحس ، لا يؤمن من الحبس ، والله غفور لمن تنزل لعلة ما تقدم ، رحيم حين جعل له الرخصة ، (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) سلوك الطريق إلى عين التحقيق ، ويهديكم طرق الوصول ، كما هدى من قبلكم ، ويتوب فيما خطر ببالكم ، من الفترة أو الوقفة ، والله يريد أن يتعطف عليكم ، لترجعوا إليه بكليتكم. [البحر المديد (١ / ٤١٦)].

٢٣٩

لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥].

ثم إنّ لطاعته وأمره وقوله ثقل الربوبية بقوله : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥] فيرفع الله عن عارفه في مقام المشاهدة ثقل الربوبية والعبودية ، ويسهل أمرهما عليه ، ويحمل عنه له ، قال تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) [المزمل : ٢٠] ، وقال : (طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) [طه : ١ ، ٢].

وتصديق ذلك قوله : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً).

قيل : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) أثقال العبودية ؛ لعلمه بضعفكم وجهلكم.

وقيل : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) ما جهلتموه بجهلكم من عظيم الأمانة.

يقال : يخفف عنكم أتعاب الطلب بروح الرضوان.

ويقال : يخفف عنكم كلفة الأمانة بحملها عنكم.

ويقال : يخفف عنكم مقاساة المجاهدات بما يفتح بقلوبكم من أنوار المشاهدات.

قوله تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) أي : عن حمل واردات الغيب وسطوات المشاهدة وكشوف الصفة وضعف هيجانه وهيمانه وزعقاته وشهقاته ودورانه وسيرانه.

قيل : ضعيف الرأي وضعيف العقل إلا من أيّد بنور اليقين ، فقوته باليقين لا بنفسه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١))

قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) هذا خطاب أهل الرفاهية والأنس والروح والبسط ، أي : لا تقتلوا أنفسكم المطمئنة بالمجاهدات والرياضات ، ولا تحملوا مشقة الجهل في العبودية قلوبكم الروحانية ، ولا تؤذوا أرواحكم القدسية بشروعكم فيما لا يليق بالبداية ؛ فإنّ هذه الأشياء تمنع الأرواح العاشقة من طيرانها في عالم المشاهدات ، وتغم عليها أنوار المكاشفات.

وتصديق ذلك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) أي : كان في الأزل رحيما بأوليائه في وضع أثقال العبودية الشاقة عنهم في مقام مشاهدتهم روح قلوبهم بالله.

ألا ترى كيف سهّل على سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه أمر العبودية بقوله :

٢٤٠