تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٢

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥))

قوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) : لمّا أفرد ساحة الكبرياء من تكلّف الاكتساب ، وألحق المشيئة والقدرة بالأفعال إلى الأزل.

أي : لا أملك لنفسي قرب الله ولا بعده ، إنّما القرب والبعد منه ، ولو علمت سرّ المقادير الغيبية ، لكنت قادرا بوصف

الربوبيّة على نفع نفسي ودفع الضر ، وذلك قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ).

قال أبو عثمان : عجز الخلق عن إيصال النفع إلى نفسه ، أو دفعه عنها عاجلا ، فكيف يثق بإيمانه ، وكيف يعتمد بطاعته؟

وقال تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ).

وقال بعضهم : لو كنت أملك الغيب ، أو أقدر عليه ، لما مسّنى السوء ، ولكن طويت الغيوب عنا ، وألزمت الملامة علينا.

قوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) لم يجد آدم في الجنّة إلا سنا تجلّي الحق ، فكاد يضمحل بنور التجلي لتراكمه عليه ، فعلم الله سبحانه أنه لا يحتمل أثقال التجلي ، وعرف أنه يذوب في حسنه ، وكلّ ما في الجنة مستغرق في ذلك النور ، فيزيد عليه ضوء الجبروت والملكوت ، فخلق منه حواء ليسكن إليها ، ويستوحش بها سويعات عن سطوات

٥٠١

التجلي ، لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة ـ رضي الله عنها ـ : «كلميني يا حميراء» (١).

وفي أدنى العبارة هي كانت امتحانه ، لشغل بها عن الحق ، ليقع في فجّ البلاء بها.

قال بعضهم : خلقها ليسكن آدم إليها ، فلمّا سكن إليها ، غفل عن مخاطبات الحقيقة بسكونه إليها ، فوقع فيما وقع من تناول الشجرة.

قال الواسطى : أكبر محنة آدم عليه‌السلام خلق حواء من بدنه ، قطعه بها عن نفسه ، بقوله : (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) ، والسكون إلى غير الله محنة.

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨))

قوله تعالى : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) : أثبت محبّة الأزلية ، ورعاية الأبدية لحبيبه عليه‌السلام في هذه الآية تولاه بعين الأزل ، ورعاه بكفاية الأبدية ، ونزل عليه من بحار خطابه قطرات وابل جواهر كلامه الأبدىّ الأزلىّ ، وبيّن أنه تعالى كما ألحق إلى نفسه تولية حبيبه ، فأيضا ألحق إلى نفسه تولية الصدّيقين ، ومحافظته للعارفين ، يتولى الأنبياء بنقاب أنوار الذات ، ويتولى الأولياء بسجوف أنوار الصفات ، ويتولى العالمين بقوام أنوار الأفعال.

فالعموم في نور الآيات معصومون عن الزلّات ، والخصوص في نور الصفات معصومون عن الخطرات ، وخصوص الخصوص في أنوار الذات معصومون عن المكر والقهريات.

قال بعضهم : لاحظ الأولياء بعين اللطف ، ولاحظ العباد بعين البر ، ولاحظ الأنبياء بعين التولي.

قيل في قوله : (يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) : عن دعوته البشرية تولّيا ، وأصلح الخواص بصحة المقصود ، والإفراد بالإخلاص للمعبود ، وأصلح العوام بصحة الأوقات.

وسئل جعفر عن الحكمة في قوله : (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) ، ونحن نعلم أنه يتولى العالمين.

فقال : التولية على وجهين : تولية إقامة أبدا ، وتولية عناية ورعاية الإقامة الحق.

وقال الواسطي : يتولى الصالحين بالكفاية ، ويتولى الفاسقين بالغواية.

__________________

(١) ذكره حقي في تفسيره (٦ / ٣٨).

٥٠٢

وقال أيضا : أصلح الأئمة بإصلاح سرائرهم عن دعوة البشرية تولّيا ، وأصلح الخاصة بصحة المقصود ، وأصلح العامة بالإثبات.

وقال الأستاذ : من قام بحق الله تولى الله أموره على وجه الكفاية ، فلا يحوجه إلى أمثاله ، ولا يدع شيئا من أحواله إلا أجراه على ما يريد بحسن أفضاله ، فإن لم يفضّل ما يريده ، جعل العبد راضيا بما يفعله ، وروح الرضاء على الأسرار ، أتمّ من راحة العطاء على القلوب.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) : نفى الله سبحانه سمع الخاص ، ونظر الخاص عن أهل الغفلة ، إذ أسماعهم وعيونهم محجوبة بعوارض الضلالة وغواشي الغفلة ، لا يسمعون بآذان قلوبهم نداء الغيب ، ولا يبصرون بأبصار قلوبهم مشاهدة الحق في الشواهد ، وذلك من ردّ الله إيّاهم عن شهودهم بنعت إلقاء سماعهم في محاضر المراقبات ، وترائيهم بعيون قلوبهم أهلّة الجلال في سماوات اليقين ، ولو شاء لأسمعهم وأراهم جلاله ، ولكن منعهم قهر الأزلية وخذلان الأبدية.

كان عليه‌السلام مصبوغا بصبغ الألوهية في مجامع شريعة بحار القدس ، مزيّنا بزينة نور المشاهدة ، مخبّرا بسنا لباس القدرة ، موشّحا بوشاح الرسالة ، متوّجا بتيجان الملكوت ، راكبا على مركب النبوة في ميادين الجبروت ، وكان مرآة مشاهدة الله بين عباد الله ، يتجلى الحق منه للعالمين ، ولكن ما أبصره إلا من له منه بصر بصيرة ، لذلك قال عليه‌السلام في بعض إشارته في الحقيقة والاتصال قال : «من رآني فقد رأى الحق» (١).

فلمّا رأى الناظر إليه بنظر الحقيقة إلى أين بلغ من رتبة القربة ، قال : «طوبى لمن رآني وطوبى لمن رأى من رآني» (٢).

لأنّ من تزوّد من جماله نورا وبهاء ، يفيض ذلك النور في جميع وجوده ، ويتلألأ منه لعيون الناظرين :

أدر كأس السرور على أناس

لقاؤك عندهم كلّ الأماني

إذا اكتحلوا بوجهك لم يزالوا

من الخيرات في نعم حسان

قيل في قوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) : كيف يسمع الدعاء من أصمّه الداعي عن الدعوة إليه؟ ولا يسمع نداء الحق إلا من أسمعه الحق ، وبإسماعه يسمع لا بسمعه ، ولا باستماعه.

__________________

(١) رواه البخاري (٦ / ٢٥٦٨) ، ومسلم (٤ / ١٧٧٦).

(٢) رواه ابن حبان (١٦ / ٢١٥).

٥٠٣

وقيل في قوله : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [الأعراف : ١٩٨] : بأنفسهم ينظرون إليك ، ولا يبصرون خصائص ما أودعناه فيك ، وبركات ما أجريناه في الخليقة بك.

وكذا من نظر بنفسه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حجب عن إدراك معانيه حتى ينظر ببركة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الرسول ، بل هو أيضا قاصر البصر حتى ينظر بالحق إليه ، ومن الحق إذ ذلك يتبيّن له شرف ما خصّ به.

وقال سهل : هي القلوب التي لم تزيّنها أنوار القرب ، فهي عمياء عن درك الحقائق ، ورؤية الأكابر.

وقال أيضا : ينظرون إليك بأعين لم تكحل بنور التوفيق ، فلا يعرفون حقك ، وينظرون إليك بالقلوب التي لم يثبتها بنور هدايته شيئا.

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣))

ويقال : رؤية الأكابر ليست بشهود أشخاصهم ، لكن بما يحصل للقلوب من مكاشفات الغيب ، وذلك على مقادير الاحترام ، وحصول الإيمان ، ولما عظم شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعزّ عن إدراك ناظريه ، وعن أن يطّلع على ما في جلاله وجماله من أنوار الصفات ، وبرجاء سنا الذات ، وعلم الحقّ سبحانه عجز الخلق عن أداء حقه واحترامه بحد حقيقة أمره عليه‌السلام بالعفو والكرم عند قصورهم عن رؤية ما كان من سطوع أنوار الرسالة والنبوّة من وجهه ، بقوله (خُذِ الْعَفْوَ) أي : فاعف عنهم من قلّة عرفانهم حقك.

(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي : بلطف عليهم في أمرك ونهيك بهم ؛ فإنهم ضعفاء عن حمل وارد أحكام شرائعك وحقائقك.

(وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) الذين ليس لهم استعداد النظر إليك ، ولا يعرفون حقوقك ، فإن منكر كرامات أوليائي ، ومعجزات أنبيائي لا يبلغ إلى درجة القوم.

قال بعض المشايخ حين ذكر أهل الظاهر قال : دع ذكر هؤلاء الثقلاء ، ثمّ إنه سبحانه ألبس حبيبه عليه‌السلام أخلاق القدم بالتجلّي ، والكشف والمباشرة بالفعل ، ثمّ أراد أن يلبسه خلقه بالأمر القديم ، والكلام الكريم ؛ ليكون متّصفا بجميع معانيه بجميع صفاته ، متخلّقا بجميع

٥٠٤

أخلاقه حتى عظم الأمر عنده في ذلك ، وأفاض لطفه على الجمهور ، فأمر أمته بما أمر الله بقوله : «تخلقوا بأخلاق الله» (١).

قال بعضهم : أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكارم الأخلاق ظاهرا وباطنا ، وهو الصفح عن زلّات الخلائق ، والأمر بمكارم الأخلاق.

(وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) أي : أعرض عن المعرضين عنّا ، فهم الجهّال.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل جبريل صلوات الله عليه عن تفسير هذه الآية ، فقال :

«تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، وتحسن إلى من أساء إليك» (٢).

قال ابن عطاء : خذ ما صفا ، ودع ما كدر.

وقوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ).

الشيطان كلب قهر القدم ، فإذا نبح وراء ساحة القلب في جانب النفس ، ففر من قهرنا إلى لطفنا ، ومننا إليك ؛ لذلك قال : «أعوذ بك منك» (٣).

فإذا كانت ساحة القلب مستضاءة بنور التجلّي يفر الشيطان من نواحيه ؛ لأنه لو يدنوا منه بقدر رأس إبرة تحترق.

قال الجريري : من أعقل السلاح ، أسره الشيطان في أول لحظة.

وقال الأستاذ : إن سنح في باطنك من الوسواس أثر ، فاستعذ بالله يدركك بحسن التوفيق ، وإن هجس في صدرك من الحظوظ ، فاستعذ بالله يدركك بإدامة التأييد ، وإن اعتراك في الترقّي أن محل الوصول وقفه ، فاستعذ بالله يدركك بإدامة التحقيق ، وإن تقاصر عنك في خصائص القرب صيانة لك عن شهود المحلّ ، فاستعذ بالله تثبتك له به لا لك بك.

ثم وصف سبحانه أهل التقوى من أهل الولاية أنهم ممتحنون بهواجس النفوس ، ووساوس الشياطين ، واستغاثتهم بالله ، وذكره عن شرّهم ، بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا).

حسدة الشياطين يراقبون من البعد أولياء الله ؛ ليرموهم بنيران الوسواس من قوارير الحسد حين تقاصروا عن مشاهدة الذكر والمذكور ، وغفلوا لحظة عن مراقبتهم ، ولو استقاموا على شريطة حضور مشاهدة الملكوت ، لم يقدروا أن يمسّهم من ألف فرسخ.

__________________

(١) ذكره الشيخ حقي في تفسيره (٤ / ٣٣٠).

(٢) رواه الحاكم في المستدرك (٤ / ١٧٨).

(٣) رواه النسائي في الكبرى (١ / ٤٥٢).

٥٠٥

(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)) [الصافات : ١٠].

قال تعالى : (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) : فإذا وصل إليهم نار الوسواس ، وأوجسوا في أنفسهم غبار سنابك ، خيول الشيطان التجأوا بتراكب الذكر إلى جناب الأزل ، فإذاهم يرون ما أفسد الشيطان من محافل الأنس ، ومجالس القدس في قلوبهم ، ويرون طيف الشيطان أيضا بنور العرفان ، فيرمونهم بسهام الذكر ، ونيران المحبّة من قارورة الشوق فتحرقهم.

قال تعالى : (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ).

رأى الجنيد في المنام إبليس ، فقال : هل تقدر أن تمرّ على مجالس أهل الذكر؟ فقال : كما أن أحدا منّا يمر على أحد منكم ، ويمسّه ، ويصير مجنونا ومصروعا ، فمنا من يمر على مجلس الذكر يصير مصروعا ، ونسمّيه بيننا مأنوسا ، كما تقولون مصروعا منكم مجنون.

قال بعضهم : من حال سرّه في ميادين الأنس والقربة ، وحجر نفسه عن طوارق الفتنة وطوائف الشيطان ، هم الذين قال الله : (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا).

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦))

قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

ندب الحق سبحانه الجميع أن يسمعوا القرآن بقلوب حاضرة ، ونيّات صادقة ، وأسرار ظاهرة عند سكونهم عن الفضولات لوقار القرآن ، فإذا رآهم الحق في منازل مقال الخطاب وحرمات الأمر ، يتفضّل عليهم بكشف أسراره لقلوبهم ، ويذوق طعم خطابه أسرارهم ، ويعرفهم نكات إشاراته اللطيفة ، وأنبائه العجيبة ، والحكمة الغريبة ، فمن يرى مواقع أسراره بأنواره ، ويسمع بالله كلام الله صار القرآن بصائره ، يرى به جميع الصفات ومشاهدة الذات قال تعالى : (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) (١). فلعلّ ههنا توجيها للمستمعين ، كلامه بالأدب والسكون أي : إذا كنتم كذلك ؛ لعلّكم تكاشفون بأسراره وأنواره ومواجيده.

قيل فيه : استمعوا له بآذانكم ؛ لعلّكم تسمعون بقلوبكم ، وتفهمون مراد مخاطبة الحقّ

__________________

(١) أي : براهين توحيده ، ودلائل معرفته ، حاصلة من ربكم ، تنفتح بها البصائر ، وتبصر بها أنوار قدسه. البحر المديد (٢ / ١٨٦).

٥٠٦

إيّاكم ، وتتأدبون بلطائف مواعظه ، فيوصلكم حسن أدب الاستماع ، وبركة الخطاب إلى رحمته ، وهو أن يرزقكم آداب خدمته ، كما رزقكم سنن شريعته ، وأجلّ رحمة ، رحم الله بها عباده آداب العبودية التي خصّ بها الأكابر من الأصفياء ، والسادات من الأولياء.

قال الأستاذ : الإنصات في الظاهر من آداب أهل الباب ، والإنصات بالسرائر من آداب أهل البساط ، ثمّ أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يذكره بجلاله وعظمته في نفسه ، بقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) حتى تفنى نفسك في نفسي ، ولا يبقي فيك إلا نفسي ، لإذعانك بنعت العبودية في ساحة كبريائي ، وبنعت رؤية جلالي ، حيث لا ترى غيري ، هذا معنى قوله : (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً).

وأيضا واذكر ربك بأوصافه في نفسك ، كأنّها تحمل أثقال أسرار قدمي ، لا غيرها من النفوس.

وأيضا أوصل الذكر بالنفس ؛ لأن القلب موضع المذكور.

وقال الحسين في هذه الآية : لا تظهر ذكرك لنفسك ، فتطلب به عوضا ، وأشرف الذكر ما لا يشرف عليه إلا الحقّ ، وما خفي من الأذكار أشرف مما ظهر.

قوله تعالى : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) أي : لا تكن مشغولا بنا عنا ، ولا عمّن بقي في رؤية العطاء عن المعطي.

أمر تعالى نبيّه عليه‌السلام بحفظ الأنفاس عن خطرات الوسواس ، وجمع الهمّة عن طارق الغفلة ، أي : اذكرني بي ، لا بك ، فإنّ من ذكرني بنفسه غفل عني ، ومن ذكرني بي آخذه من الذكر والفكر ، وأكشف جمالي له حتى يصل بي إليّ.

قال سهل : ما من أحد ذهب منه نفس واحد بغير ذكر ، إلّا وهو غافل.

وقيل : «الغافل» : من غفل عن مراد الله فيه.

وقيل : «الغافل» : الذي غفل عن درك حقائق الأمور.

قال الأستاذ في معنى التضرّع والخيفة : «التضرع» : إذا كوشف بوصف الكمال في أواني البسط.

و «الخيفة» : إذا كوشف بنعت الجلال في أحوال الهيبة ، وهذا للأكابر ، فأمّا من دونهم فتتنوع أحوالهم من حيث الخوف والرجاء بالرغبة والرهبة ، ومن فوق الجمع فأصحاب البقاء والفناء والصحو والمحو ، ووراءهم أرباب الحقائق مثبتون في أوطان التمكين ، فلا تلوّن لهم ، ولا تخنس لقيامهم بالحق ، وامتحانهم عن شواهدهم.

ثم وصف الله كرام العارفين من الكروبيين ، والمقرّبين أنهم في محلّ العندية مقدّسون

٥٠٧

عن شوائب نعوت الزائغين ، وصفات المتكبّرين ، بل هم موسومون بسيماء العبودية في محاضر الربوبيّة ، بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) : هم في نعوت العبودية عند بروز سطوات العظمة والفناء ، بشرط التنزيه في ظهور قدس القدم يتملّقون بنعت البهتة في كشوف جماله الأزليّ ، سبحان الذي حجبهم به عنهم ، ولولا ذلك ؛ لاحترقوا به فيه.

سورة الأنفال

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨))

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) : لكلّ طائفة في طريق المجاهدة والقتال مع النفس فتح وغنيمة ، فغنيمة المريدين صفاء المعاملات ، وغنيمة المحبّين ذوق الحالات ، وغنيمة العارفين كشف المشاهدات ، والسؤال عن ذلك اقتباس نور الشريعة من مشكاة النبوّة ، واستعلام الأدب في طريق المعرفة لله ، هذه الكرامة لا بالاكتساب يؤتيه من يشاء.

(وَالرَّسُولِ) : الحكم فيه لجهة تربية الأمّة ، وأن الله تعالى مستغن عن الخليقة ، ورسوله يظهر في أداء رسالته عن حظوظ نفسه.

ثم حذّرهم بنفسه عن نفسه في طريقه ، ومواساة عباده ، بقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي : اتقوا الله في طلبه ، ولا تلتفتوا إلى غيره ، وأسوأ قلوب إخوانكم يبدّل مهجتكم إليهم في مؤاخاتكم ، ومصادقتكم لله وفي الله.

٥٠٨

(وَأَطِيعُوا اللهَ) في الحقيقة ، (وَرَسُولَهُ) في الشريعة.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : إن كنتم صادقين في دعوى المحبّة.

قال سهل : «التقوى» : ترك كلّ شيء يقع عليه الذمّ.

وقال الأستاذ : «التقوى» : إيثار رضا الحق على مراد النفس ، ثم وصف المؤمنين بالعلامات الصحيحة الدّالة على صدقهم التي إذا رأيتها لا تشك في إيمانهم ، وذلك تأثير وارد أنوار الغيب التي ترد على قلوبهم ، فتظهر علاماتها في وجوههم ، بقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

وصف السامعين من أهل الإيمان والإيقان عند جريان ذكره ، وسماع خطابه ، وتلاوة كتابه بالوجل ، الذي يكون عند سماع الذكر من رؤية جلال الله وعظمته ، تجلّاها يزيد لإيمانهم نور الغيب ، ولإيقانهم سنا القرب ، ولحسن رضاهم في طاعته روح الأنس ، حتى يصيروا خائفين من عظمته ، عارفين بربوبيّته ، متوكّلين بكفايته (١).

قال شيخنا وسيدنا أبو عبد الله بن خفيف ـ قدّس الله روحه ـ في ذكر الوجل في هذه الآية قال : واعلم أن أحكام الوجل إنّما تصح للوجلين عند تكشّف أستار ألوان ، وذهاب حجب الغفلات من القلوب ، فيشهد بقوة علمه ، وصفاء يقينه سطوات الخوف ، فداخله لطيف الوجل برقّة الإشفاق ، وذلك مما جلى عن القلوب بعزّ جنابه وتعظيمه وترهيبه كلّ ساتر.

قال أبو سعيد الخرّاز : هل رأيت ذلك الوجل عند سماع الذكر ، أو عند سماع كتابه وخطابه ، هل أخرسك سماع ذلك الذكر حتى لم تنطق إلا به؟ وهل أصمّك حتى لم تسمع إلّا به منه ، هيهات.

وقال سهل في قوله تعالى : (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) : هاجت من خشية الفراق ، فخشعت الجوارح لله بالخدمة.

__________________

(١) الأنفال هاهنا ما آل إلى المسلمين من أموال المشركين ، وكان سؤالهم عن حكمها ، فقال الله تعالى : قل لهم إنها لله ملكا ، ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحكم فيها بما يقضى به أمرا وشرعا. قوله جلّ ذكره : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي : أجيبوا لأمر الله ، ولا تطيعوا دواعي مناكم والحكم بمقتضى أحوالهم ، وابتغوا إيثار رضاء الحقّ على مراد النّفس ، وأصلحوا ذات بينكم ، وذلك بالانسلاخ عن شحّ النّفس ، وإيثار حقّ الغير على مالكم من النصيب والحظّ ، وتنقية القلوب عن خفايا الحسد والحقد.

٥٠٩

وقال الواسطي : الوجل على مقدار المطالعة ، ربما يريه مواضع السطوة ، وربما يريه مواضع المودّة والمحبّة ، وربما يريه التقريب والتبعيد.

وقال الجنيد : وجلت قلوبهم من فوات الحقّ.

وقال بعضهم : الوجل على مقدار المطالعات ، فإن طالع السطوة هاب به ، وإن طالع ودّه وجل عليه مخافة فوته ، ومن جملة ذلك من طالع التقريب بالتأديب وجل ، ومن طالع التهديد بالتبعيد وجل ، ومن طالعه مغيّبا عن شاهده ، قائما بسرمده ، خاليا من أزله وأبده ، فلا وجل حينئذ ولا اضطراب ، ولا تباعد ، ولا اقتراب ، فإنّه محقق بالذات ، ونسي الصفات ، وفني عن الذات بالذات ، كما هرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصفات إلى الذات ، فقال : «أعوذ بك منك» (١).

قال الجنيد في قوله تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) : إنّ لا وصول إلى الله إلا بالله.

قال الأستاذ : يخرجهم الوجل من أوطان الغفلة ، ويزعجهم عن مساكن الغيبة ، وإذا انفصلوا عن أودية التفرقة ، وجاءوا إلى مشاهدة الذكر ، نالوا السكون إلى الله ، فيزيدهم ما يتلى عليهم من آياته تصديقا على تصديق ، وتحقيقا على تحقيق إذا طالعوا جلال قدره ، وأيقنوا قصورهم عن إدراكه ، توكّلوا عليه في إمدادهم برعايته في نهايتهم ، كما استخلصهم بعنايته في بدايتهم.

ويقال : سنّة الحق سبحانه مع أهل العرفان ، أن يودّهم بين كشف جلاله ولطف جماله ، فإذا كاشفهم بجلاله ، وجلت قلوبهم ، وإذا لاطفهم بجماله ، سكنت قلوبهم ، قال الله تعالى : (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) [الرعد : ٢٨].

ويقال : وجلت قلوبهم لخوف فراقه ، ثم تطمئن وتسكن أرواحهم بروح وصاله ، فذكر الفراق يفنيهم ، وذكر الوصال يصحبهم ويحييهم.

ثمّ إن الله سبحانه زاد في وصفهم بالعبودية ، وبذل المهجة في الطريق ، بقوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، ثم وصفهم باستكمال إيمانهم ، بقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) : فشرط حقيقة الإيمان بهذه الخصال التي ذكرها في الآيتين اللتين في صدر السورة ، كان من لم يتحلّ بهذه الخصال المذكورة لم يتحقّق في إيمانه ، وهي التقوى والإصلاح بين المؤمنين ، وذلك محل صحبتهم ، وهو نوع من التمكين والانقياد

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٥١٠

عند أمر الله ورسوله ، بالإخلاص ووجل القلب عند سماع الذكر والقرآن ومزيد اليقين ، وترك التدبير في استقبال التقدير ، ومقام المناجاة من الصلاة ، والانقطاع عن الاشتغال بالدنيا ، وإيثار حقوق الإخوان على نفسه ، فإذا استكمل هذه الجلال ، وتمّ اسم تحقيق الإيمان عليه ، لقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا).

ويستحقّ بعد هذا الثناء ما وعده الله المتحقّقين في إيمانه من المغفرة التامة ، حيث لم يلتفت بفضله إلى خطراتهم ، ويشرفهم إلى علي الدرجات ، ويسقيهم شراب الوصال عند كشوف المشاهدات ، بقوله تعالى : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) : بيّن أن حقيقة الإيمان مكاشفة الغيب ، وظهور ما وعد الله لهم ، وتصديق ذلك سؤال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحارثة فقال : «يا حارثة ، لكل حق حقيقة ، فما حقيقة إيمانك؟ قال : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتزاورون ، وإلى أهل النار يتعاوذون ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عرفت فالزم» (١).

فصحّ في الآية والحديث أن حقيقة الإيمان رؤية الغيب بالغيب ، وثمرتها ما ذكره الله في الآية من المعاملات السنيّة ، والحالات الشريفة.

قيل : اجتمعت فيه أشياء حقّق بها إيمانهم ؛ لتعظيم الذكر والوجل عند سماعه ، وإظهار الزيادة عليهم عند تلاوة الذكر وسماعه ، وحقيقة التوكّل على الله ، والقيام بشروط العبودية على حدّ الوفاء ، وأكملت أوصافهم في حقيقة الحقائق ، فصاروا محقّقين بالإيمان.

قال الجنيد : حقّا إنه سبقت لهم من الله السعادة.

قال أبو بكر بن طاهر : حقيقة الإيمان بخمسة أشياء : باليقين ، والإخلاص ، والخوف ، والرجاء ، والمحبّة ، فباليقين يخرج من الشك ، وبالإخلاص يخرج من الرياء ، وبالخوف يخرج من المكر ، وبالرجاء يخرج من القنوط ، وبالمحبّة يخرج من الوحشة والحيرة.

وقال الأستاذ في قوله تعالى : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) : أنّ الحقّ سبحانه يسرّ مثالب العاصين ، ولا يفضحهم ؛ لئلا يحجبوا عن مأمول أفضالهم ، ويستر مناقب العارفين عليهم لئلا يعجبوا بأعمالهم وأحوالهم ، والرزق للأسرار مما يكون استقلالها من المكاشفات ، ثم بيّن تعالى أنّ لأهل حقائق الإيمان بعض طباع البشرية ، وحركات الأنفس الأمّارة عند وقوع أمر الله ، ولا ينقلب ذلك بمنقصتهم ، بل بفضله ورحمته اصطفاهم بهذه الكرامات قبل وجودهم في الأزل بخاصية اجتبائه بغير علّة اكتسابهم ، وبيّن أن الوليّ الصادق وإن بلغ درجة الولاية لم

__________________

(١) رواه ابن المبارك في الزهد (ص ١٠٦).

٥١١

يخل من بعض خطرات النفس ، ولم يكن ذلك لنقصانه ، بل بيان اختصاصه باختصاصه القديم في سابق حكمه لهم ، حتى لا يظن الظّان أن الوليّ لم يبلغ درجة الولاية إلا بأداء جميع حقوق العبودية ، فإنّ محل النبوّة لا يخلو من الخطرات ، فكيف بمحل الولاية ، وجملة ذلك قوله سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ).

ثم زاد في وصف طباعهم النفسانية ، بقوله تعالى : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ).

سبحانه من خصّ هؤلاء بهذه الصفات بحقائق الإيمان ودرجاتها وأنوارها ومكاشفاتها ، ولم ينل بتلك الصفات ؛ ليعلم الخلق أن فضله سابق عليهم ، وعنايته لهم قديمة.

ومعنى الآية أن وضع قسمة الغنائم بقسمة الأزل ، كما أرادت نفوسهم (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) من بيتك لقتال العدو ، وهم في ذلك كارهون ، أي : كراهتهم في القتال لكراهتهم في قسمة الغنائم ، وتلك الكراهة من قبل النفس ، وطبع البشرية لا من قبل الإنكار في قلوبهم لأمر الله ورسوله ؛ فإنهم موقنون بقول الله ورسوله.

وكذا حال جميع السالكين لم تفر نفوسهم من أوطان قلوبهم في جميع الأنفاس ، إلا عند كشوف مشاهدة الحق سبحانه ، فهناك لا يبقى على وجه أرض القلوب إلا إشراق أنوار الغيوب.

قيل : أن النفس لا تألف الحق أبدا ، جدالهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة ، لانبساطهم أطفال حجر الوصلة ، وجدالهم كجدال الخليل عليه‌السلام من رأس الخلّة والانبساط.

قال تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤] ، والفرار ليلا قبل وقوع المشاهدة ، فإذا وقع الحق ، ورفع الحجاب لم يبق من آثار النفوس ذرّة ، فالقوم كانوا في ذلك الوقت في مقام الغيبة ، فلمّا انكشف لهم مأمولهم ، بذلوا مهجتهم بطيب نفوسهم ، حيث اختاروا الشهادة في الأحد ، وإن من سنّة الله لأهل السلوك إخراجه إياهم من أوطانهم ؛ ليذوقوا مرارة الفرقة في الغربة ، ولا يبقي عليهم مألوفات البشرية ؛ لذلك قال تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ). فالحقيقة في ذلك خروج الرجال من أوطان النفوس إلى فضاء المشاهدة ، حتى لا يبقى معك غيره.

قال أبو يزيد ـ قدّس الله روحه ـ : سألت الوصلة ، فقال لي : دع نفسك وتعال.

قال ابن عطاء : أخرجك من بلدتك ؛ ليحيي بك قلوبا عمياء عن الحقّ.

٥١٢

(وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) : مفارقة أوطانهم ، ولا تتم لعبد حقيقة الصحبة والنصيحة ، إلّا بعد هجران أقاربه ومفارقة أوطانه ، أخرجهم من تلك البلدة حتى ألفوا غيرها من البلاد ، ولم يبق عليهم مطالبة لها ، فردّهم إليها ؛ لئلا يملكنهم سوى الحق شيء.

وقال بعضهم في هذه الآية : أفناك عن أوصافك ، ومواضع سكونك واعتمادك ، وما كان يميل إليه قلبك ؛ لئلّا تلاحظ محلّا ، ولا تسكن إلى مألوف ، فأخرجك من المألوفات ؛ ليكون بالحق قيامك ، وعليه اعتمادك.

(وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) : ظاهر روحك ومفارقتك أوطانك ، ولا يعلمون أن خروجك منها الخروج عن جميع الرسوم المألوفة ، والطبائع المعهودة ، وأنك بمفارقة هذا الوطن المعتاد ، يصير الحق وطنك.

ثم زاد سبحانه في وصف القوم في طلب ماهيتهم ، بقوله تعالى : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) (١) : سنّة الله التي قد جرت في الأزل أن عند كلّ مشاهدة مجاهدة ، وأن عند كل نعمة بلا ظهور فضل الربوبيّة ، وإذعان الخليقة لأمر القدم بنعت العبودية.

قال بعضهم : من ظنّ أنه يصل إلى الحقّ بالجهد فمتعن ، ومن ظن أنه يصل إليه بغير الجهد فهن.

قوله تعالى : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) : تعيّن بلطفه ، وإبراز كرمه ، وظهور جلاله لأهله ، وبيّن الصادق في محبّته ، والمدّعي بكراماته.

وأيضا (لِيُحِقَّ الْحَقَ) : الإيمان والصدق ببذل مهجتهم لله مما يجري على أوصافهم من خطور النفسانية.

وأيضا : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) : حق المشاهدة المحبّة في قلوبهم ، ويبطل الهواجس في نفوسهم.

قال بعضهم : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) بالإقبال عليه و (يُبْطِلَ الْباطِلَ) بالإعراض عنه.

__________________

(١) أي : ذات الحرب (تكون لكم) وهي العير ، فإنها لم يكن فيها إلا أربعون رجلا ، وتكرهون ملاقاة النفير لكثرة عددهم وعددهم ، (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) أي : يظهر الحق ، وهو الإسلام ، بقتل الكفار وهلاكهم في تلك الغزوة ، (بكلماته) أي : بإظهار كلماته العليا ، أو بكلماته التي أوحى بها في هذه الحال ، أو بأوامره للملائكة بالأمداد ، أو بنفود كلماته الصادقة بهلاكهم ، (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي : يستأصلهم ويقطع شوكتهم. البحر المديد (٢ / ٣٣٦).

٥١٣

وقال الواسطي : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) بتجلّيه ، و (يُبْطِلَ الْباطِلَ) باستتاره.

وقال بعضهم : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) بالكشف ، و (يُبْطِلَ الْباطِلَ) بالستر.

وقال بعضهم : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) بالرضا ، و (يُبْطِلَ الْباطِلَ) بالسخط.

وقيل : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) للأولياء و (يُبْطِلَ الْباطِلَ) للأعداء.

وقيل : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) بالخدمة ، و (يُبْطِلَ الْباطِلَ) بالصرف.

وقيل : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) بالبراهين ، و (يُبْطِلَ الْباطِلَ) بالدعاوى.

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١))

قوله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ) : الاستغاثة مقام الشكوى والتواضع في الانبساط والفناء في رؤية البقاء ، فمن تعرّض له حال الاستغاثة ، فيفر منه إليه ويطلب هو منه يغيثه به لا منه ، فإنّ القوم طلبوا منه بالاستغاثة المعونة على مأمولهم من النصر ، ونيل الغنيمة ، فأغاثهم بإمداد الملائكة ، ثم صرفهم عن رؤية الغير.

بقوله : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) : إجابتهم بالسرعة من صدق لجوئهم إليه ، وكمال الإجابة ، استغراقهم في بحار شهود سنا جماله ، وأنوار جلاله.

قال بعضهم : من صدق اللجوء والاستغاثة ، أجيب في الوقت.

قال الله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ).

قال النصر آبادي : استغاثة منه ، واستغاثة إليه ، الاستغاثة منه لا يجاب صاحبها بجواب ، بل يكون أبدا معلّقا بتلك الاستغاثة ، والاستغاثة إليه ، فذلك الذي يجاب إليه الأنبياء والأولياء والأصفياء.

قال أيضا : النفس تستغيث بطلب حظّها من البقاء ، ودوام العافية فيها ، والقلب يستغيث من خوف التقليب ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء» (١).

والروح تستغيث بطلب الرواح ، والسرّ يستغيث لإطلاعه على الخفيّات ، قال تعالى :

__________________

(١) رواه مسلم (٤ / ٢٠٧٥).

٥١٤

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر : ١٩].

قال الأستاذ : الاستغاثة على حسب شهود الفاقة ، وعدم المنّة والطاقة ، والتحقّق بانفراد الحق بالقدرة على إزالة الشكاية.

قوله تعالى : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) إمداد الملائكة بشارة لصدق مواعيده ، ولطمأنة قلوب عباده بأنوار بقائه ، وصورة البرهان يكون لضعف الإيقان ، ولو كان الإيقان على حد الاستكمال بالعرفان ، لم تتعلّق الطمأنينة بالبرهان.

فلما عزّ في جلاله وكبريائه ، صرف عيون القوم عن الوسائط إلى عزّ جلاله ، بقوله : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) : «النصرة» : كشف أنوار مشاهدته للأرواح السكرى بشراب شوقه ، يظفرها بوصله ؛ لانهزام جنود قهرياته من ساحات لطفه.

قيل : بيّن الله آثار النصرة ، وبدو السلامة ، فمن لم يطلب النصرة والسلامة بالذلّة والافتقار إليه لا ينالها ؛ لأن طلب النصرة بالقوة والقدرة منازعة للربوبيّة ، ومن نازع المولى قهره.

ثم تعزّز بعزته في نصرة أوليائه عند تبرّيهم من حولهم وقوتهم ، بقوله : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) : «عزيز» : بامتناعه عن مطالعة خلقه جلاله وجماله بعلّة من العلل ، «حكيم» : باختصاصه مقام مشاهدته ، وكشف قربه لهم.

قال الواسطي : «العزيز» : الذي لا يدركه طالبوه ، ولو أدركوه لذلّ.

وقال الأستاذ في قوله : (عَزِيزٌ) : فالطالب واجد ، لكن بعطائه ، والراغب واصل ، ولكن إلى مباره ، والسبيل سهل ، ولكن إلى وجدان لطفه.

فأما الحقّ سبحانه ، فهو عزيز وراء كل وصل وفصل ، وقرب وبعد ، ما وصل إلى نصيبه ، وما بقي أحد إلا عن حظّ ، وأنشد :

وقلوبنا نحن الأهلّة إنّما

تضيء لمن يسري بليل ولا نقرى

فلا بذل إلّا ما تزوّد ناظري

ولا وصل إلّا بالخيال الذي سرى

ثم وصف سبحانه زيادة امتنانه عليهم بعد نصرهم ونيلهم مرادهم ، بعد أن أراح أبدانهم من وجع الآلام ، وقلوبهم عن كدّ القبض بإنزاله عليهم النعاس ، بقوله تعالى : (يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ).

«النعاس» : ارتفاع بخار الدم من حرقة القلب إلى الدماغ في أصل الحكمة ؛ لاستراحة أعصاب الدماغ وقت استرخائها من حدّة مشاغل تنفّس أنفاس الدموية المختلطة برطوبات

٥١٥

صفاء البلغمية ، وليس ذلك يقوى.

فإذا هاج ذلك الدم من أصل الكبد والقلب ، ومشرعه المعدة ، وارتفع إلى الدماغ يختلط هناك برطوبات الدماغ ، فيصير ثقيلا ، فيسقط ثقله إلى القلب ، ويصير الدماغ والقلب ثقيلين ، ويجري ذلك الثقل في جميع العروق ، فتصير جميع الأعضاء مسترخية من غشيان ذلك الدم ، ويغلب على العقل والحواس ، فيسمى ذلك بعينه النوم وهذه الصفات صفات حيوانية إنسانية ، نفى الله تلك الصفة عن جلال ذاته ، حيث وصف نفسه بالتنزيه والتقديس عن علّة الحدثان ، بقوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] ، ومن فضلة وكرمه على أوليائه إذا أراد أن يروّح أبدان الصدّيقين من ثقل العبادات يغشي دماغهم بغفوة النعاس ؛ ليستريحوا من عناء القبض ، ويسكنوا بروح البسط.

ثم النعاس موضع ظهور أوائل أشكال المكاشفات ، واشتمال هواتف الغيبية من عالم الملكوت ، يرون بقلوبهم بين النعاس والنوم واليقظة ، أشياء بديهية غيبية ، تورث السكينة والطمأنينة والأمن ، بقوله تعالى : (أَمَنَةً مِنْهُ) أي : أمنا منه من زيادة الامتحان ، وغلبة النفس والشيطان.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «النعاس في القتال أمنة من الله ، وفي الصلاة من الشيطان» ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نومه نعاسا ، لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تنام عيناي ولا ينام قلبي» (١) ؛ لأنّ القلب إذا نام لم ير من عالم الملكوت شيئا ، وهكذا حال الأولياء قلوبهم في جميع الأوقات يقظى ، ونومهم ليس بكثير ، وكلّ قلب يرى في نومه شيئا من الغيب لم يكن في ذلك الوقت إلا نعاس.

قال سهل : «النعاس» : ينزل من الدماغ والقلب ، والنوم محلّ بالقلب من الظاهر ، وهو حكم النوم ، وحكم النعاس حكم الروح ، وفائدة النعاس هاهنا إعلام الله إيّاهم أن فيض كرمه ليس باكتسابهم ، أفناهم عن نفسه ، ثم أظهر فضله عليهم بأن يهزم عدوّهم بإلقائه عساكر الرعب في قلوبهم ، قال عليه‌السلام : «نصرت بالرعب» (٢).

وإذا برء العبد من حوله وقوته ، يجيء نصر الله له ، فيظفر بجميع مراده ، ثمّ منّ الله عليهم بإنزاله رحمته من السماء عليه ، بقوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) الماء الطاهر يطهر الأشباح ، وماء المعرفة يطهر الأرواح ، ويعرفها مكان كل حقيقة من عين الفعل والصفة ، فإذا عرفت الأفعال والصفات عرفت الذات ، فمثالها مثال الأصداف في

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١٣٠٨).

(٢) رواه البخاري (١ / ١٢٨) ، ومسلم (١ / ٣٧٢).

٥١٦

البحار.

فالأرواح أصداف ، بحار الأفعال تتلقف قطرات عرفان الصفات من بحار الذّات ، كما تتلقف الأصداف في البحار من قطر الأمطار ، فتصير القطرة في أجوافها درّا ، فكذلك قطرة المعرفة في جوف الأرواح ، تصير درّة الحقيقة ، والحكمة الإلهية الأزلية.

قال بعضهم : ماء اليقين إذا نزل على الأسرار ، أسقط عنها الاختلاج والشكّ.

قال الله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) من كل ما تدنّستم به من أنواع المخالفات ، ثم وصف ذلك الماء الحقيقي بأنه يربط به قلوبهم في معرفة العبودية والربوبية ، وهو ماء اليقين الذي يقوّي القلوب في معرفة الله ، ويثبّتها بوصف التمكين والاستقامة في سيرها في المقامات ، بقوله :

(وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) : نفّس عن قلوبهم وحشة الفرقة ، وأثبتها في رؤية الوصلة ، وتجلّي القربة بربط أبدانهم بالطاعات ، وربط عقولهم بالآيات ، وربط قلوبهم بأنوار الصفات ، وربط أرواحهم في سطوات الذات ، وربط أسرارهم بعلوم الآزال والآباد.

ثم أخذ أيديهم عن استغراقهم فيه بنعت الفناء ، وثبّتهم به في مقام البقاء ، ولولا تثبيته إيّاهم ، لفنوا في أول باد بدا من ربوبيته ، وأول ظهور سطوة من سطوات عظمته كانوا يحتملون به ، ومشاهدته قهر سلطان عزّته.

قال بعضهم : ربط على قلوب أوليائه ، لتلقي البلاء بالمحبّة والصبر ، وربط على قلوب العارفين ، لثبات الأسرار في مشاهدة ما يبدو لهم من الغيوب ، ويثبّت أقدام أهل الاستقامة ، فاستقاموا له على جميع الأحوال ، ولم يزالوا.

قال بعضهم : القلوب ثلاثة : قلب مربوط بالأكوان ، وقلب مربوط بالأسماء والصفات ، وقلب مربوط بالحق.

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ

٥١٧

وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧))

قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) : افهم أن في هذه الآية للعارفين موضع الاتّحاد ، ولهم في الاتحاد مقامات اتّحاد بالأفعال ، واتحاد بالصفات ، واتحاد بالذات ، وهاهنا إشارة اتحاد الأفعال ، واتحاد الصفات ، فإضافة فعل القوم إلى نفسه بالقتل اتحاد الفعل.

وذلك مقام جمع وتفرقة ، ولهم تفرقة في الجمع ، إذ ذكر (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) ، نفي فعلا بعد إثباته لهم ، فإذا باشروا القتل كانوا في محلّ تفرقة ، وإذا أضاف القتل إلى نفسه كانوا في محل جمع ، فالتفرقة عالم الصورة ورسم الخليقة ، إذ كانوا في الخليقة معارفين من مصدر خاصية فعله تعالى ، ومن حيث إنهم قائمون في جميع الذرّات بفعله الخاص المتعلّق بالقدرة ، كانت عينهم عين الفعل ، خاصة أنه تعالى تجلّى من فعله الخاص لهم بنعت القهر للمقتولين ، فهم مع فعله عين أخذ ، فإذا كان كذلك ، والإضافة إلى نفسه إضافة حقيقة ، إذ لا يبقى في البين غير فعله من جميع الوجوه ، وهكذا أحكام الخلق من العرش إلى الثرى في جميع الأوقات من جهة الفعلية والخلقية.

لكن إذا لم يكن وقت المباشرة تجلّى الفعل إلى الفعل ، لم يكن هناك خاصية اتّحاد الأفعال ، كانوا كسيف على يد ضارب ، بل السيف واليد واحد بالمراتب والترقّي ، وإذا كان المصدر مصدرا واحدا ، لم يكن في البين من العرش إلى الثرى غير الله.

وللنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ههنا خاصيّة اتّحاد الصفة ، حيث اتّصف بصفته حين عاينه بنعت كشف تجلّي صفته تعالى في قلبه وروحه وعقله ، وسرّه وظاهره وباطنه وصورته ، فيصير جميع وجوده مستغرقا في نور الصفة ، فعله أضاف إلى صفته لا إلى فعله ؛ لأن القوم كانوا في رؤية أنوار آياته ، وكان عليه‌السلام في رؤية أنوار صفاته ، وخاصية اتّحاد الذات بعد مروره بالآيات ، وسباحته في بحر الصفات ، وقع بعد مباشرة المقامين ، واتّصافه بالصفتين صفة الفعل ، وصفة الخاص إدراكه جلال الذات ، وفناؤه فيه ، وبقاؤه به معه ، واستغراقه في آزاله وآباده ، وخروجه من بحر الأوّلية والآخرية بنعت الصفة ، وسنا الذات ، حتى صار مرآة للذات والصفات والفعل ، فأبرزه الله للعالمين ؛ لتعريف نفسه به إيّاهم ، كإخراجه خليفته آدم عليه‌السلام بعرفان الملائكة ، وكان متّصفا بالصفة ، متّحدا بها ، والنبي عليه‌السلام كان متّحدا بنور الذات بعد اتحاده بنور الذات والصفات ، بعد اتحاده بنور الصفات ، وكان فوق آدم باتحاد أنوار الذات ، فلمّا كمل في اتّحاده عرف الله مكانه في تمام الخلق ، بقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] لم

٥١٨

يبق في تجلّي علمه وصفته وذاته من وصف الحدوثية شيء.

لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رآني فقد رأى الحق ، ومن عرفني فقد عرف الحق» (١).

كأن تفرقته في عين الفعل جمعا ، وجمعه في الصفة جمع الجمع في عين الذات ، وفي عين الذات من حيث الألوهية جمع بغير تفرقة ، ومن حيث الخليقة تفرقة وجمع.

ذكرت نبذة من مقام الاتّحاد والاتّصاف بالجمع ، والتفرقة في هذه الآية لا يعرف معناها إلا صاحب رجاء العشق ، وبسط المحبّة ، وروح الشوق ، وأنس المشاهدة ، وانبساط المعرفة ، وفناء المعرفة والتوحيد ، والبقاء والاتصاف ، وإدراك علم الله في المجهول عند علوم العلماء ، وفهوم الفقهاء.

وما ذكر المشايخ في الآية قول فارس : ما كنت راميا إلا بنا ، ولا مصيبا إلا بمعونتنا ، وإمدادنا إيّاك بالقوة.

قال بعضهم : ما رميت ، ولكن رميت بسهام الجمع ، فغيبك عنك ، فرميت ، وكنّا رامين عنك ؛ لأنّ المباشرة لك ، والحقيقة كنّا إذ لم يفترق.

وقال الأستاذ : (إِذْ رَمَيْتَ) فرقا ، ولكن الله رمى جمعا ، والفرق صفة العبودية ، والجمع نعت الربوبيّة ، ثمّ عرّف موضع نعمته برميه بنفسه ، وصرف قهره عنهم ، بقوله : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) كما باشر بأنوار صفته قلب نبيّه عليه‌السلام في الرمي وأسرارهم في القتل ، باشر بها قلوبهم بحسن تجلّيها ؛ ليعرفوا بها نفسه ، واتجاه إيّاهم من مكره وقهره ، والبلاء الحسن وقوع محبّته في قلوب أوليائه ، وكشف جماله لأصفيائه ، وإسماع خطابه لنجبائه.

سئل الجنيد عن قوله : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً).

قال : «البلاء الحسن» : أن يثبته عند الأمر ، ويحفظه عند الأمر ، ويفرده به عند مشاهدة الفر.

قال رويم : «البلاء الحسن» : أن تكون رؤية الحقّ أسبق إليه من نزول البلاء ، فيمر به البلاء ، وهو لا يشعر ؛ لاستغراقه في رؤية الحق.

وقال أبو عثمان : «البلاء الحسن» : ما يورّثك الصبر عليه ، والرضا به.

وقال علي بن موسى الرضا ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد قال : أن يفنيهم عن نفوسهم ، فإذا أفناهم عن نفوسهم ، كان هو عوضا لهم عن نفوسهم.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٥١٩

قال الأستاذ : «البلاء الحسن» : توفيق الشكر في المحنة ، وتحقيق الصبر في المحنة.

ويقال : «البلاء الحسن» : أن يشهد المبلى في عين البلاء ، ثمّ روح قلوب المحتملين بلاء محبّته ، وأثقال شوقه ، بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) :

(سَمِيعٌ) : أنين أهل الشكوى في شوقه ، (عَلِيمٌ) : ألم فقدانه في قلوب أهل محبّته.

قال الأستاذ : تنفيس لقوم ، وتهديد لقوم ، أصحاب الرفق يقول لهم : إن الله سميع لأنينكم ، فيتروّح عليهم بهذا وقتهم ، ويحمل عنهم بلاءهم ، وأنشد في هذا المعنى :

إذا ما تمنّى الناس روحا وراحة

تمنيت أن أشكو إليه فيسمع

(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤))

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) : حذّر الله الصادقين عن الدعاوى الباطلة ، التي لم يكن معها المعنى ، فإنّ سماع الظاهر بغير فهم ، ومتابعة أمر ، فهو سماع غفلة.

ثم وصف هؤلاء المدّعين بأنهم أغفل من الحيوان ، بقوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) : «الصمّ» : عن استماع هواتف الغيب ، و «البكم» : عن نشر فضائل المعرفة ، ووصف المعروف بنشاط المعرفة ورؤية المشاهدة ، وذلك ميراث جهالتهم بأنفسهم ، ومعرفة صانعهم عن طريق العقل والعلم في كلّ موضع.

العقل هناك أمير البدن ، لا يقبل عن صاحبه إلا النظر إلى الحقّ ، والسماع من الحق ، والقول بالحق.

قال بعضهم : من سمع ، ولم يؤثر عليه فوائد السماع وزوائده في أحواله ، فهو غير مستمع ، ولا سامع ، والمستمع على الحقيقة من يرجع من حال السماع بزيادة فائدة ، أو بزيادة حال ، ومن حضر مجالس السماع ، ولم يرجع بزيادة ، فإنما يرجع بنقصان.

قال الله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ).

٥٢٠