تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٢

عليه بالخلّة ، وذلك فعل الكرام.

وقال الواسطي : تخللته أنوار بره ، فسماه خليلا.

وعن جعفر بن محمد قال : أظهر اسم الخلّة إبراهيم عليه‌السلام ؛ لأن الخليل ظاهر في المعنى ، وأخفى اسم المحبة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتمام حاله ؛ إذ لا يحب الحبيب إظهار حال حبيبه ، بل يحب إخفاءه ، ويستره ؛ لئلا يطّلع عليه سواه ، ولا يدخل أحد فيما بينهما.

وقال ابن عطاء في تفسير قوله : (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي : قصده وتدبيره لربه وهو محسن ، أي : يرى الحق بسره ، فأسلم له ذلك كله مفوضا إليه ومسلما تدبيره إليه.

قوله تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) كان الله تعالى ألزم النفوس سمات النكرة ، وفتح أبصارها عليها حتى لا ترى إلا وجودها ، فعشقت على وجودها ، وعميت عن رؤية خالقها ، فتكون كل وقت في طلب حظها من العالم ، فإذا حركها الله بواجب العبودية تأبى عن ترك حظوظها ؛ لقلّة عرفانها حظ الأكبر ، وهو مشاهدة خالقها ، التي هي رأس كل دولة في الكونين ، وهذا معنى قوله : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ).

قال النوري : ألزمت الأشباح مخالفة الحق في جميع الأحوال ، وشحها ما يضرها من طلب الدنيا.

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ

٢٨١

وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨))

قوله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) العدل صفة الحق ، فمن اتصف بصفته يكون عادلا في جميع الأحيان ، لكن ما كان العدل مستعارا في التخلق يرجع إلى معدنه عند الامتحان ، ولذلك قال تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا) ، وهاهنا أجدر أن ينصرف العدل إلى معدنه ؛ لأن ميلان الأرواح والأشباح بعضها بعضا علّة الفطرة ، وحبّ النساء من أحكام العشق الروحاني طبعا وطلبا لمعدن حسن الأزل ، فكيف تكون الاستطاعة من النفس بالعدل بينهن والروح في طلب زيادة الحسن أبدا! ولذلك قال تعالى : (وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أي : أرموا النفوس بأزمة المجاهدة والرياضة والمراقبة عند امتناعها من الخضوع عند أمر خالقها.

قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) : فكيف تستطيعون العدل بينكم وبين الحق وليس من العدل أن تحب ما يشغلك عن حبيبك ، وليس من العدل أن تفتر عن طاعة من لا يفتر عن ترك.

وقال الواسطي في قوله : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) الجوارح تبع للقلب ؛ لأنه أمير أمرك أنّ تخالفه إذا خالف الحق.

(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ) التقوى حقيقة العبودية ، ولا يستقيم أمرها إلا بأداء حقوق التقوى ، وهى الاجتناب مما منعه الله من النفس والهوى ، ومعنى (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) أي : أنظروا بأبصار القلوب إلى عالم الغيوب ترون سبحات عظمتي وجلال عزتي الذي ينبغي للعباد أن يدونوا تحت تجليه.

قال بعضهم : أمر الكل بالتقوى ، وأوصل النفس إلى التقوى ، من جرى له في السبق عناية.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ) أمر سبحانه العباد بالإنصاف والقسط والعدل في الشهادة ؛ لئلا يتنوع الحكم حين تميل النفس إلى غير الله ، أي : راقبوني في أمري ، ولا تراقبوا غيري ؛ فإن الشاهد العادل إذا كان مراقبا لي يرى شهودي على كل ذرة ، فيفرغ بي شهادته من شهودي.

٢٨٢

قال الجنيد : لن يصل إلى قلبك روح التوحيد ، وله عندك حقّ لم تقضه أو لم تؤده.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) هذا بلسان الحقيقة خاطب المريدين الذين آمنوا بالمقامات والكرامات والمكاشفات والمشاهدات في بدو الإرادة مطلقا بغير المباشرة ، فإذا وقعوا في مسلك الحقائق رأوا أحكام الغيب ، وسمعوا أصوات الإلهام من هواتف الملكوت ، واضطربوا عند معارضة النفوس ، أي : أيها المدّعون في بدايتكم بالإيمان على حقائق الطريقة اثبتوا بنعت الإيقان في محل الامتحان عند كشوف أسرار الغيب ، وأيقنوا أن ما سمعتم من خطاب الأسرار فهو كلامي على لسان تلك الهواتف.

وأيضا : لهذا خطاب الأكابر ، أي : أيها العارفون اعرفوني ؛ فإن ما وصلكم من معرفتي فهو يؤولكم إلى النكرة ، ومن ظن منكم أنه بلغ إلى حقيقة المعرفة أخطأ الطريق ، فإني ممتنع بعزتي وجلالي عن مطالعة الخليقة وجود قدمي ، وارجعوا من تفردكم عند إفرادكم القدم عن الحدوث إلى الوسائط ، يعني الإيمان بالرسول ؛ فإنه حادث يكون محل الحوادث ، وساحة الكبرياء منزّهة عن الإيمان والكفر.

سئل فارس : ما معنى هذه الآية وليس في ظاهرها التجريد؟ قال : التجريد إنما يقع بلسان السرّ من جهة هواتف الحق ، ومعنى الآية : (آمَنُوا) ، وقوله : (وَرَسُولِهِ) يريد تكرار الإيمان.

وقيل : أي : أيها المدعون تجريد الإيمان بي من غير واسطة ، لا سبيل لكم إلى الوصول إلى عين التجريد إلا بقبول الوسائط.

قال الأستاذ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) من حيث البرهان آمنوا من حيث البيان إلى أن يؤمنوا من حيث الكشف والعيان.

ويقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) باستعمال أدلة العقول آمنوا إذا تحتم بعفوه الوصول ، واستمكنت منكم حيرة البديهة ، وغلبات الذهول ، ثم أفقتم من تلك الغيبة ، فآمنوا أن الذي كان غالبا عليكم كان شاهد الحق لا حقيقة الذات ، فإن الصمدية ممتنعة مقدسة عن كل قرب وبعد ووصل وفصل.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) يصف أهل التردد في سلوك سبيل أولياء الله والإيمان بهم وبأحوالهم حين هاجت رغبتهم إلى رئاسة القوم أشرفهم عند الخاص والعام ، وآمنوا رسما لا استعدادا ، فلمّا جنّت عليهم ظلمات المجاهدات لم يحتملوا ، وأنكروا عليهم ، ورجعوا إلى حظوظ أنفسهم ، فإذا سمعوا أفكار الخلق على ترددهم ورأوا مهابة الأكابر

٢٨٣

عندهم آمنوا بعد ذلك رسما لا حقيقة ، فلمّا لم يصلوا إلى شيء من مقامات القوم وكراماتهم ارتدوا ، وصاروا منكرين على القوم وعلى مقاماتهم ، وزاد إنكارهم على الإنكار حين رجعوا إلى اللذات والشهوات ، واختاروا الدنيا على الآخرة ، ويقولون عند الخلق إن هؤلاء ليسوا على الحق ، ويطعنونهم ، يقعون في تمزيقهم وغيبتهم حتى تضيق صدور القوم عليهم ، وأن الله سبحانه ينتقم منهم بأن يشغلهم بجمع المال والرئاسة ، ولا يرشدهم بعد ذلك إلى سبيل الرشاد ، وتبقى على وجوههم سمات الخسران ، ويحترقون غدا عندهم في وسط النيران ، وهذا وصف أهل زماننا من المنكرين الذين كان عندهم بالإرادة الإيمان بنا وبأحوالنا.

قال الأستاذ : إنّ الذين تبدلت بهم الأحوال فقاموا وسقطوا ثم تغشوا وعثروا ثم ختم بالسوء أحوالهم أولئك الذين قصمتهم سطوات العزّة حكما ، وأدركتهم شقاوة القسمة خاتمة وحالا ، الحق تعالى لا يهديهم لقصد ولا يدلهم على رشد.

(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧))

قوله تعالى : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) أعلم الحق سبحانه أن

٢٨٤

جهلة النفوس طلبوا العزّ من موضع الذل وأخطأوا الطريق ، فان العزّة بصفة الأزلية ، ومن لم يكن متصفا بعزّة الأزلية لم يكن عزيزا بين الأعزّاء ، ويكون ذليلا بين الأذلّاء ، قال على وجه الاستفهام والتعجب ونفي العزّ عن غيره ، وأضاف العزّة إلى جلاله وعظمته ، أي : افهم أنهم لو يريدون العزّة فينبغي أن يطلبوا العزّة إلى جلاله وعظمته ، أي : افهم أنهم لو يريدون العزّة فينبغي أن يطلبوا العزّة من عند من كان عزيزا ، يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وأولياءه ؛ لأن عليهم رداء عزّة العزيز ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨].

قال محمد بن الفضل : كيف تبتغي العزّة ممن عزّه بغيره ، فاطلب العزّة من مظانه ومكانه ، قال الله : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) فمن اعتزّ بالعزيز أعزّه ، ومن اعتزّ بغيره أذله.

قال رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اعتزّ بالعبد أذلّه الله» (١) ، فابتغ من عند ربّ العزّة يعزّك في الدنيا والآخرة.

قال أبو سعيد الخرّاز : العارف بالله لا يرى عزّة إلا منه.

قال الواسطي : ما مالت سريرة إلى حبّ العزّ إلا ظهر خسوفها ، وما مالت النحيرة إلى حبّ الدنيا إلا ظهرت ظلمتها عليه ، فصارت محجوبة ، وعن [المآب (٢)] مصروفة.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) بيّن أن من خالف الطريق ، وظهرت منه الخيانة لم يصل إلى مقام الأول إلا بالعبور على هذه الشرائط المخصوصة ، منها التوبة وهى الخروج من النفس والهوى ، والرجوع إلى الله بمراد الله ، والإصلاح وهو إصلاح السريرة بنعت تقديسها عن النظر إلى غير الله ، والاعتصام بالله الالتجاء إليه في جريان القضاء ، والقدر عليه الإخلاص في الدين تجريد الأسرار عن النظر إلى الأغيار ، فإذا غير على هذه القناطر فتكون في السلوك مع العارفين ، ولكن لم يكن معهم في مشاهدة رب العالمين لا صحبة المخالف لم تكن مستعدة لما نال أهل المعارف والكواشف ، وبيان ذلك قوله تعالى : (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ، وما قال «من المؤمنين» أي : ليس هؤلاء منهم وإن اجتهدوا في الطريق ؛ لأن الجاهد وإن اشتد جهده لم يكن عارفا ، لأن المعرفة موهبة الأزلية ، وهبها الواهب لمحبيه بغير علّة ، وهذا إخبار عن قوم محرومين من الوصول إلى هذه المقامات ، وظهر في نحوي الخطاب أن هذا الخبر منهم أنهم لم يفعلوا ذلك.

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (٢ / ١٧٤).

(٢) غير واضحة بالأصل.

٢٨٥

قال ابن عطاء : (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ، ولم يقل «من المؤمنين» ؛ ليعلم أن الاجتهادات لا تؤثر في سبق الأزل.

قال أبو عثمان : التوبة الرجوع من أبواب الخلاف إلى أبواب الائتلاف.

وقال محمد بن الفضل : الاعتصام هو التشبث بالسنة وطرق السلف.

وقال سهل : تابوا من التوبة.

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢))

قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) بيّن سبحانه شفقته على العباد ، حيث لا يرضى بشناعة الغير عليهم ظاهرا ، فكيف يرضى من نفسه أن يهتك سترهم ، اعلم أنه غيور ؛ حيث لا يحب الجهر بالسوء من القول.

وقوله : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) لأن حديث المظلوم هفوة وانبساط بين يديه ، وليس قول السوء فحشا ، إنما هو الدعاء على ظالمه ، وهو سميع لدعاء المظلوم على الظالم ، وهذا كقوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى : ٤١] ، وهذا تسلية وشفاء لعلّة المظلوم.

قال الواسطي : لا يرضى الله من عباده باستماع الجفاء إلا مثاله إلا من جحد نعم الله عنده في البينات والبراهين.

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ

٢٨٦

مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦))

قوله تعالى : (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) أراد بالسلطان المبين سطوع نور التجلّي من وجهه حتى لا يرى أحد وجهه إلا حارت عيناه من غلبة بهاء الله وعظمته على وجهه ، وأخبر سبحانه عن ذلك النور ؛ لقوله : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) (١) [طه : ٣٩].

قيل في تفسير الظاهر : ملاحة في عينيه لا يراه أحد إلا أحبه ، وذلك النور أيضا من نور تجلّي الحق الذي ظهر من الشجرة حين سمع خطاب الحق منها ، وذلك قوله تعالى : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) [طه : ١٠] ، وكان موسى عليه‌السلام من فوقه إلى قدمه برهان الله للعالمين ، وهكذا كل نبيّ ووليّ.

ألا ترى إلى اليد البيضاء والعصا وأعظم البرهان في وجهه عكس التجلّي من جبل الطور على وجهه حتى احتاج بعد ذلك أن يستر وجهه بالبرقع ، والسلطان المبين أيضا إخباره عن الله بكلام الله.

قال بعضهم : قوة عظيمة على سماع المخاطبة من كلام الحق.

وقيل : أعطى سلطانا على نفسه في مخالفتها وهو المبين الظاهر للخلق.

(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما

__________________

(١) أظهر الله عليه ميراث علمه قبل العمل ، فأورثه محبة في قلوب عباده ؛ لأن من القلوب قلوبا تثاب قبل الفعل ، وتعاقب قبل الرأي ، كما يجد الإنسان في نفسه فرحا لا يعرف سببه ، وغما لا يعرف سببه [تفسير التستري (١ / ٣٢١)].

٢٨٧

أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢))

قوله تعالى : (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) كان روحا روحانيّا إلهيّا يحيي الأموات به ، حيث يبرز نور الألوهية منه لها ؛ لأنه من الله سبحانه بالقدرة ، فلمّا أراد الله أن يرفعه إلى جواره رفع الحجاب عن روحه ، فظهر روحه لبعض خاصته ، فصار منقوشا بنقشه ؛ لأن صورة عيسى عليه‌السلام منقوشة بنقش روحه ، وهذا منه قوة إلهية ، وهو كان بها مؤيدا بقلب الأعيان ، ولا تكون هذا إلا من فعل الله المنزّه عن مزج لاهوتية ناسوتية الإنسان.

وأدقّ الإشارة فيه : أن الله سبحانه عرف طباع اليهود والنصارى بميلها إلى التشبيه ، وتنفرها من القدس والتنزيه ؛ لأنهم أصحاب المخائيل.

ألا ترى إلى عبدة العجل كيف كان حبهم لها ، وقول النصارى أن الله هو المسيح ، فشبه لهم صورة عيسى عليه‌السلام بنعت الالتباس من تجلّى نور اللاهوت من الناسوت لقلّة عرفانهم قدس الأزل عن نعوت الحدث ، فغلظ بعضهم وقالوا بإلهية عيسى وعزير عليهما‌السلام ، فغرقهم عيسى مكان المكر في الالتباس ، وفات خطهم من رؤيته ، قصدوه بالقتل ، فألقى الله سبحانه عكس ذلك الشبه على أحد استدراجا ومكرا ، فقتلوه ؛ لأنهم ما وجدوا فيه ما وجدوا في عيسى عليه‌السلام من حلاوة الحب ولذّة العشق ، وهذا الفقدان من رفعه إلى السماء بقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ).

قيل في تفسير : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) كساه الريش ، وألبسه النور ، وقطع لذّة المطعم والمشرب ، وطار مع الملائكة حول العرش ، فكان إنسيّا ملكيّا سماويّا أرضيّا.

قوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) المستقيمون في سماع خطاب الخاص من الله سبحانه بغير معارضة النفوس واضطراب الأسرار ؛ لأنهم عالمون إلهام الحق من وسوسة الشيطان ، وهم مفرّقون بين لّمة الشيطان ولّمة الملك ، ويعرفون خطاب العقل والقلب والنفس والروح والملك والسرّ والشيطان بنور خطاب الله ، ويعرف به مكان كل خطاب ، علمهم لدنيّ ، ولسانهم إلهيّ ، وقلبهم عرشيّ ، وروحهم ملكوتية ، وأسرارهم مشحونة بالعلوم المجهولة ، والأنباء العجيبة الغيبية ، ويزنونها في جميع الأنفاس بميزان القرآن والسنة وكلام الأولياء.

قيل : هم العلماء بالله ، والعلماء بأمر الله ، والمتبعون سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قيل : هم الواقفون مع حدود العلم وشرائطه ، لا يجاوزونه بالرخص والتأويلات.

٢٨٨

ويقال : الراسخ في العلم من يرتقي عن حدّ تأمل البرهان ، ويصل إلى حقائق البيان.

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠))

قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) ذكر الأنبياء عند ذكره تسلية في الامتحان ، وتثبيتا للكشف والخطاب والبيان بالغيرة لزيادة المحبة والقربة ، وذكر نوح عليه‌السلام ثاني ذكره ؛ لأنه هو نواح الحضرة من الشوق إلى المشاهدة ، ولأن بينهما مشاركة في احتمال الجفاء من الأغيار ، ألا ترى كيف قرّبه الله في أخذ الميثاق بقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٧].

قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) بيّن تخصيص موسى عليه‌السلام بمقام الخطاب الخاص بلا واسطة ، بادر موسى عليه‌السلام من بين الأنبياء بسؤال الرؤية ، فأوقفه الحق في مقام سماع كلامه ، ومنعه من مشاهدة رؤيته صرفا ، وتحمل نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثقال الشوق بمطايا أسراره ، ولم يسأل مشاهدة الحق جهرا بالانبساط ، فأوصله الله إلى مقام مشاهدته ورؤيته بالظاهر والباطن بعين الرأس وبعين القلب ، ثم أسمع كلامه بلا واسطة ولا حجاب ، قال تعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [النجم : ١٠ ، ١١] ، وأن الله سبحانه إذا أراد أن يسمع كلامه أحد من الأنبياء والأولياء يعطيه سمعا من أسماعه ، فيسمع بها كلامه ، كما

٢٨٩

حكى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه تعالى : «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به» (١) ، أسمعه كلامه ، وليس هناك الحروف والأصوات ، بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية الذي منزّه عن همهمة الأنفاس ، وخطرات الوسواس ، وليس في ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شيء ، هناك السامع والمسمع واحد من حيث المحبة لا من حيث الجمع والتفرقة.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣))

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) كان رسول الله إلى عباد الله بأمانة الله ، وهي نور جلاله الذي برز من وجهه لهم ؛ ألا ترى كيف توجّهوا إليه وصاروا عاشقين به كما عشقت ملائكة الله لوجه آدم عليه‌السلام ، ولذلك سجدوا لآدم عليه‌السلام ، وذلك من تجلّي كلمته الأزلية التي كظهر نورها في مريم ، وكان في ظاهره وباطنه روحا صدر من زند نعوت الأزل حين انقدحت لظهوره من العدم ، وأدنى عيسى عليه‌السلام خاصية فرده أفضل من خاصية آدم عليه‌السلام ؛ لأن هناك قال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] ، خصّه بالروح منه فيه ، ولههنا قال : (وَرُوحٌ مِنْهُ) يعني ظاهر صورته وروحه بمجموعها ، (وَرُوحٌ مِنْهُ) العالم بأسرها صورة وروح تلك الصورة هي الأنبياء والأولياء ، قال عليه‌السلام : «بهم يمطر ، وبهم ينبت ، وبهم يدفع البلايا» (٢).

قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) لماذا اتصف بأوصاف الحق حين برزت أنوارها له ، وباشرت أسرار لطائفها قلبه وروحه

__________________

(١) رواه البخاري (٥ / ٢٣٨٤).

(٢) رواه أبو نعيم في الحلية (١ / ٩).

٢٩٠

وعقله ، وامتلأ من سنا الألوهية أسراره حين انعقد عقد وجوده ، كاد الحال أن يسلبه من رؤية العبودية ، فأدركه تأييد الحق حتى رأى الحدث محوا في القدم ، فلم يدّع الربوبية ، ونطق في المهد بالعبودية بقوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠] ، لم يكن كابن الحلاج ـ رحمة الله عليه ـ حين ادّعى بالأنائية من سكر العشق والمحبة ، وفنائه في الأزلية ، واتصافه بالأبدية ؛ لأنه كان في منزل التلوين ، بل حاله كان كحال سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين عاين الحق بالحق ، فخرج من بحار الذات بنعت الاتصاف بالصفات ، ورأى اضمحلال الحدثان في جمال الرحمن ، فنطق بالعبودية وقال : «أنا العبد لا إله إلا الله» (١) ، وهكذا أهل القدس في الملكوت تلاشوا في سبحات عزّته ، وقالوا : «ما عبدناك حقّ عبادتك ، وما عرفناك حقّ معرفتك» (٢) ، وكيف لا يكون ذلك وقهر الجبروت استولى على كل ذرة من العرش إلى الثرى ، وجرها بأزمة العظمة والكبرياء في تراب ساحات عزّته ، راغمة في جناب جبروته والألفة من عبادة صانعها مستجبلة! لأن كونها وتكوينها محض عبادته ، لأنها تكون بداعية القدم من العدم ، خصّ ذكر عيسى عليه‌السلام والملائكة لأنهما موضع إشارة الكفرة نسبتهم إلى الألوهية ذكر عيسى عليه‌السلام بالأول وأتم ذكر الملائكة.

وبين ظاهر الآية تخصيص الملائكة على عيسى عليه‌السلام ، والمراد من ذلك أنهم سماويون نجباء الحضرة وأشياخ القدرة ؛ لأنهم أفضل من عيسى عليه‌السلام ، وأشار بوفق رسوم خواطر الكفرة ، وإلا كيف يكون هم أفضل من الأنبياء ، والأنبياء جلاليون قدسيون ، والملائكة روحانيون ملكوتيون قبل ، لا يأنف أحد من القيام بالعبودية ، فكيف يأنف منه وبه يتقرب إلى مولاه.

وقيل : كيف يأنف أحد من عبودية من يظهر على العبيد آثار صنائع الربوبية كما أظهر على عيسى عليه‌السلام من إحياء الموتى وغيره.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا

__________________

(١) ذكره ابن عجيبة في «البحر المديد» (٢ / ٤٥٣).

(٢) رواه الطبراني في «المعجم الكبير» (٢ / ١٨٤).

٢٩١

وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) برهانه ظهوره في كل ذرة ، ولمعان سنا قدرته في جميع الفطرة ، وبرهانه طوف أسراره أسماع قلوب الخلائق يكون وجوده وأنباء عجائب صفاته والنور المبين خطابه الظاهر في الظاهر ونوره في الباطن.

قال ذو النون : استقرت منار الدجى ، وأقامت حجة الله على خلقه ، فأخذ بحظه ومضيع لنفسه.

وقيل في قوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) خطابا من القرآن فيه محل الشفاء لأسرار العارفين.

وقال الأستاذ : البرهان ما لاح في سرائرهم من شواهد الحق.

سورة المائدة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لله الأسماء الحسنى ، والنعوت الأعلى ، من جملتها المؤمن ، فألبس نور هذا الاسم خواصه ، وزيّن أسرارهم به ، فخاطبهم بخاصية اتصافهم باسمه وصفته ، وهم بنوره ، ويرونه ، فساروا بمراكب اسمه ونعته في ميادين الصفات حتى بلغوا أنوار الذات ، فشاهدوه بوصف اليقين والسكون ، أي : أيها الشاهدون مشاهدتي.

قال ابن عطاء : أي : أيها الذين أعطيتهم قلوبا لا تغفل عني ، ولا تحجب دوني طرفة عين.

وقال شيخنا وسيدنا أبو عبد الله محمد بن حنيف : الإيمان تصديق القلوب بما أعلمه الحق من الغيب.

٢٩٢

قال بعضهم : يا غيب ، وأي سرّ ، وها تنبيه وإخراج ، وآمنوا وصف المحبين.

قال أبو الحسين الفارسي في قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أمر الله عباده بحفظ السياسية في المعاملات ، والرياضات في المحاسبات ، والحراسة في الخطرات ، والرعاية في المشاهدات ، فليس للعبد من هذه الأسباب مهرب ، ولا له عنه محيص.

وقال بعضهم : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) عقد القلب بالمعرفة ، وعقد اللسان بالثناء ، وعقد الجوارح بالخضوع.

وقال جعفر بن محمد في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : أربع خصال : نداء ، وكناية ، وإشارة وشهادة ، (يا أَيُّهَا) نداء وأي : خصوص النداء ، وها كناية ، و (الَّذِينَ) إشارة ، و (آمَنُوا) (١) شهادة ، أشار رضي الله عنه وما فسّر ، وأراد ـ والله أعلم ـ أن الياء نداء الأذل ، تقاضى بها وصول المشتاقين إلى الأزل بالأزل ، فخرجت الأرواح العاشق بنداء القدم من العدم ، وأي خطاب بسط لأهل الخصوص من أهل الانبساط ، والهاء للغائبين في جلاله ، والغائبين في سطوات عظمته وكبريائه ، المتحيرين في دائرة هويته ، كنّاهم بوصف الهوية ، و (الَّذِينَ) إشارة إلى الواقفين بطلب هلال جماله في سموات عظمته ، (آمَنُوا) وصف قبولهم أمانته الأزلية ، وهي المعرفة القائمة بالأزلية التي عرضها على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها.

وقوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هذا كناية عتاب ؛ حيث طلب منهم الوفاء بعهد الأزل حين قبلوا أمانة المعرفة ، وأقرّوا بالربوبية في معاينة المشاهدة ، عقد مع الأرواح العارفة في الأزل بظهور صفاته تعالى لهم ، ففي كل كشف صفة لها عقد وعهد لاتصافه بها ، فطارت بوصف الصفات ونورها في الأشباح بطلب الحق سبحانه الأرواح والأشباح بفوائد التخلق والاتصاف بالصفات في الأزل ؛ ولذلك قال : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ؛ لأن العقود جمع عقد وعهد أخذها الأرواح.

قيل : الأشباح في فضاء الأزل.

قيل : أول عقد عليك عقد إجابتك له بالربوبية ، فلا تخالفه بالرجوع إلى سواه ، والعقد الثاني عقد تحمّل الأمانة فلا تحقرنّها.

__________________

(١) الإيمان صنفان : أحدهما يشير إلى عين الجود ، والثاني إلى بذل المجهود ؛ فبذل المجهود خدمتك ، وعين الجود قسمته ؛ فبخدمتك عناء الأشباح ، وبقسمته ضياء الأرواح ، وحقيقة الإيمان تحقق القلب بما أخبر من الغيب [تفسير القشيري (٢ / ٨٣)].

٢٩٣

قال الواسطي : العقود إذا لم تشهد القصود تلوّن عليها المقصود.

قال الجريري : الوفاء متصل بالصفاء.

قال الأستاذ : ناداهم.

قيل : أن أبدلهم وسماهم قبل أن رآهم أهلهم في آزاله لمّا أوصلهم إليه في آباده شرفهم بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، وكلفهم بقوله : (أَوْفُوا) (١) لمّا علم أن التكليف يوجب المشقة ، قدّم التشريف بالثناء على التكليف الموجب للفناء.

وقوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) المحرم الذي ذكره الله هو من اكتسى في إحرام أنوار عزّته في حرم مشاهد قربه ، قد منعه ألا يصيد في بيداء العبودية صيود الحظوظ ؛ لأن صيده هو بنفسه تعالى لا غير ، ومن كان هو صيدة حرم عليه سواه.

قال الأستاذ : المحرم متجرد عن نصيب نفسه بقصده إليه ، فالأليق بصفاته كفّ الأذى عن كل حيوان ، وقد هتفت هواتف خاطري بأن العاشق إذا ألبس إحرام العشق حرّم عليه ما فيه آثار صنع معشوقه وأنوار خصائصه.

ألا ترى إلى مجنون بن عامر لما اصطاد ظبيا خلاه عن القيد ، وأطلقه ، وأنشد :

وعيناك عيناها وجيدك جيدها

سوى أن عظم الساق منك رقيق

وأنشد أيضا :

أيا شبه ليلى لا تذاع فإنني

لك اليوم من وحشية تصديق

أقول وقد أطلقتها من وثاقها

ألست لليلى أن شكرت طليق

وقوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) قطع أطماع النفوس دخولها في شهوات اختراع مرادها ، وحسم حبال أمنية الخلق عن دفع سابق المشيئة بالمجاهدات ، وأفرد نفسه بالحكم الأزلي بنعت نقض عزائم الخليقة ، يحكم أولياءه بنزول بلائه عليهم بعد إسقائهم شراب وداده

__________________

(١) الإشارة : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود التي عقدتموها على نفوسكم في حال سيركم إلى حضرة ربكم ، من مجاهدة ومكابدة ، فمن عقد عقدة مع ربّه فلا يحلّها ، فإن النفس إذا استأنست بحلّ العقود لم ترتبط بحال ، ولعبت بصاحبها كيف شاءت ، وأوفوا بالعقود التي عقدتموها مع أشياخكم بالاستماع والاتّباع إلى مماتكم ، وأوفوا بالعقود التي عقدها عليكم الحق تعالى ، من القيام بوظائف العبودية ، ودوام مشاهدة عظمة الربوبية ، فإن أوفيتم بذلك ، فقد أحلّت لكم الأشياء كلها تتصرّفون فيها بهمّتكم ؛ لأنكم إذا كنتم مع المكوّن كانت الأكوان معكم ، إلا ما يتلى عليكم مما ليس من مقدوركم مما أحاطت به أسوار الأقدار ، «فإن سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار» ، غير متعرّضين لشهود السّوى ، وأنتم في حرم حضرة المولى ، والله تعالى أعلم. [البحر المديد (٢ / ٢٨)].

٢٩٤

من بحار جماله.

قال جعفر عليه‌السلام : حكم بما أراد ، وأمضى إرادته ومشيئته ، ومن رضي بحكمه استراح وهدي لسبيل رشده ، ومن سخطه فإن حكمه ما مضى ، وله فيه السخط والهوان.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) خاطب العارفين عند أخذ ميثاق التوحيد في مقام قرب المشاهدة بألا يباشروا محارم منازل أسفار الأرواح من القدم إلى البقاء ، وهى شعائره للنفوس ؛ حيث سارت في حرمات الشهوات حتى لا يوافقوها في طلب حظوظها ، وهذا معنى قوله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) ، ثم وقّت لهم في سير الأسرار إلى مشاهدته في زمان ظهور تجلّي الخاص أن يتجردوا غيره ، ويمنعوا أنفسهم في زمان انجذابهم من عالم الحدثان إلى جناب الرحمن عن الدخول في حمى الرفض الذي هو ينزل أهل الانبساط ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) ، وإذا رأوا طلاب المريدين الذين ذهبوا أنفسهم إلى الله هديا في سلوك المقامات ، ورأوا المجذوبين والمقلدين بسلسلة المحبة في مزار الحالات ، ورأوا السالكين القاصدين إلى كعبة المشاهدة الذين يبتغون وصلته وبقاءه بألا يغيروهم عليهم بغيرة المعرفة ؛ إرادة لقطع طريقهم ليلا ، يروا غير نفوسهم في باب الأزل ، كما فعل موسى عليه‌السلام ببلعام ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ).

ثم رخّص المحرمين ممّا دونه إذا بلغتم إلى مقام المشاهدة ووجدتم عيد الأكبر ، وخرجتم من إحرام المجاهدة اصطاد ، وفي منزل البسط والانبساط زيادة روح القربة والتنفس في الأنس من ترنم ألحان بلابل بساتين الربيع ، وسماع أصوات الطيبات ، ومشاهدة المستحسنات.

ألا ترى إلى قوله عليه‌السلام لنساك الغيب ، حين تضايقت الأكوان عليهم في مقام القبض كيف قال : «روّحوا قلوبكم بساعة فساعة» (١) ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) ، وإذا كنتم في زمان الامتحان ويتعرضكم أهل ظاهر السبيل والعلم ويمنعكم عن الجلوس بالسماع والرقص والهيجان والوجد والهيمان وعن دخولكم مراد الله من المواقف القدسية لا تخاصموهم ، ولا تقتلوهم بأنفاسكم القاتلة ؛ حتى لا يكون عليكم رقم الاضطراب في الطريقة ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٢٩٥

عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) ، وإذا تحيّر المريدون في بيداء الشوق وهاموا في وادي العشق وفنوا في قفار التوحيد زيدوا عليهم وصف مشاهدتي ولذّة وصالي قدس عظمتي ، يزيد حرقتهم ورغبتهم ومحبتهم لقائي ، ويزيد سرعتهم في سيرة العشق والشوق إليّ ، وإذا وقع في طريقهم حظّ من حظوظ أنفسهم من أبواب الرخص والتأويلات فامنعوهم منه ، واتقوا من احتجابي عنكم حين احتجبوا مني ، فإن عذاب الفراق مني أشدّ العذاب ، وما ذكرنا فهو معنى قوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

قيل : البرّ ما وافق عليه العلم من غير خلاف ، والتقوى مخالفة الهوى ، والإثم طلب الرخص ، والعدوان التخطي إلى الشبهات.

قيل : البرّ ما اطمأن إليه قلبك من غير أن ينكره بجهة ولا سبب.

قال بعضهم : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) ، وهو طاعة الأكابر من السادات والمشايخ ، ولا تضيعوا حظوظكم منهم ومن معاونتهم وخدمتهم ، (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) ، وهو الاشتغال بالدنيا ، والعدوان موافقة النفس على مرادها وهواها.

وقال سهل : البرّ الإيمان ، والتقوى السنة ، والإثم الكفر ، والعدوان البدعة.

وعن جعفر عليه‌السلام قال : البرّ الإيمان ، والتقوى الإخلاص ، والإثم الكفر ، والعدوان المعاصي.

وقال الأستاذ في قوله : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) إذا خرجتم عن أسر حقوقنا فارجعوا إلى استجلاب حظوظكم ، فأما ما دمتم تحت قهر بطشنا فلا نصيب لكم منكم ؛ لأنكم لنا ، وقد وقع لي في البرّ : معنى البرّ المحبة ، والتقوى المعرفة ، والإثم طلب حظ المشاهدة من المشاهدة ، والعدوان دعوى الأنائية في الاتحاد ؛ لأنه احتجب بحظ الربوبية عن الربوبية في العبودية.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ

٢٩٦

فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤))

قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) خشية الله هاهنا حوالة إلى رؤية سبق العارفين في الأزل ، أي : إذا وقع أمر الامتحان عليكم بواسطة الخلق أقبلوا إليّ بنعت معرفتي ومحبتي ، ولا تفزعوا منهم ؛ فإنهم مكان امتحاني ، فإذا عرفتموني عرفتم مكان الامتحان ، فلا تبقى إذا الخوف من غيري ، قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] ، فإذا استحكم عقد الخشية منهم فيظهر للعالم بالله سرّ إفراد القدم عن الحدوث.

قيل : فيه قطعك عن الكل قطعا ، وجذبك إليه جذبا بهذه الآية : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ).

قال ابن عطاء : لا تجعل لهم من قلبك نصيبا ، وأفرد قلبك لأن تجدني بصفة الفردانية مقبلا عليك.

وقال سهل : أعجز الناس من خشي من من لا ينفعه ولا يضره ، والذي بيده النفع والضرّ يخاطب بقوله : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ).

في قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أراد في الأزل وأزل الأزل بلا علّة العمياء ، والأزل منزّه عن دهر الدهار والأزمنة الفرارة أن يظهر كنوز صفاته وخزائن جود ذاته محبة منه ومعرفة لعباده ، كما قال تعالى : «كنت كنزا مخفيّا ، فأحببت أن أعرف» (١) ، فيتجلّى للعدم من القدم ، فظهر العباد ، وألزمهم سمة العبودية ، وكشف أنوار أفعاله لهم ، فعبدوه برؤية نور أفعاله وصنائعه ، ثم كشف لهم أنوار الصفات ، فأحبوه برؤية نور الصفات ، فلمّا حان وقت خروج سيد الأولين والآخرين وأصحابه وأمنه من العدم بسط بساط العطايا لهم حتى وقفوا على بساط لطفه وكرمه ، وربّاهم بحسن عنايته ، ثم تجلّى لهم بنور الأسماء والصفات ، وربّاهم بها إلى أن بلغوا حدّ الاستقامة في المحبة والشوق ، فكشف لهم جلال ذاته ، فعرفوه بنور الأسماء والنعوت والأفعال والصفات ، فلمّا عرفوه بمعرفة الذات كملت أحوالهم للكشف والمشاهدة والمعرفة والتوحيد ، ولم يحتجبوا عنه ببركة مشاهدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتواصلت الكشوف والتجلّي بالتجلّي ، قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، حيث ما أكملت لأحد من خلقي ما أكملت لكم.

وما ذكرنا بمجموعه قد أشار عليه‌السلام إليه بقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ «جاء الله

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٢٩٧

من سيناء ، واستعلن بساعير ، وأشرف من جبال فاران (١)» ، والدين هو الطريق منه إليه بنعت عرفان طرق الصفات إلى الصفات ، وسبل الصفات إلى الذات ، والنعمة منه لهم كشف جماله بلا حجاب ، والعفو بلا عتاب ، والوصول بلا عذاب ، وإتمامها وقايتهم من الاشتغال بغيره ، وظهوره من جمال نبيه لهم ، ووصول نبيهم إلى درجة مقام المحمود لشفاعتهم وارتضاء الإسلام لهم دينا ، أسأل أستار العظمة عليهم حتى انقادت نفوسهم الأمّارة الفرّارة من الحق لسبحات عظمته ، ومباشرة قهر سلطان كبريائه ، ولا يحتجبون عن الحق بها أبدا.

قال أبو حفص : كمال الدين في شيئين : في معرفة الله ، واتباع سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال جعفر بن محمد عليهما‌السلام : (الْيَوْمَ) إشارة إلى يوم بعث محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ويوم رسالته.

وقيل : (الْيَوْمَ) إشارة إلى الأذل ، والإتمام إشارة إلى الوقت ، والرضا إشارة إلى الأبد.

وقيل : (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (٢) أن خصصتكم من بين عبادي بمشاهدة المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يخاطب به الصحابة ، وجعلتكم حجة لمن بعدكم من الأمة إلى يوم القيامة.

قيل : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بالمعرفة.

قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الدنيا ميتة الأولياء ، والاجتناب منها واجب عليهم في تجريد التوحيد ، فإذا وقعوا في السير في بحر الأنس ، وغلب عليهم البسط والانبساط ، وصاروا منعوتين بوصف العشق والمحبة ، وطابت نفوسهم في روح القلوب الملكوتية ، واحتاجوا إلى مباشرة الرخص والسعادة ، فهم في حدّ الاضطرار من جهة نفوسهم الساكنة بروح الأنس ؛ لأنها تطلب من مستحسنات الكون

__________________

(١) ذكره القرطبي في التفسير (١٣ / ١٥٩).

(٢) إكماله الدين ـ وقد أضافه إلى نفسه : صونه العقيدة عن النقصان ؛ وهو أنه لما أزعج قلوب المتعرفين لطلب توحيده أمّلها بأنوار تأييده وتسديده ، حتى وضعوا النظر موضعه من غير تقصير ، وحتى وصلوا إلى كمال العرفان من غير قصور ، ويقال : إكمال الدّين تحقيق القبول في المآل ، كما أن ابتداء الدّين توفيق الحصول في الحال : فلولا توفيقه لم يكن للدين حصول ، ولو لا تحقيقه لم يكن للدين قبول ، ويقال : إكمال الدين أنه لم يبق شيء يعلمه الحق سبحانه من أوصافه ، وقد علّمك ، ويقال : إكمال الدين أن ما تقصر عنه عقلك من تعيين صفاته ـ على التفصيل ـ أكرمك بأن عرّفك ذلك من جهة الإخبار. [تفسير القشيري (٢ / ٨٦)].

٢٩٨

ما يليق بزيادة هيجان القلوب ، وزيادة شوق الأرواح ، فإذا باشروا طيبات الدنيا على حدّ ترويح الخواطر ، وتسكينها من الحرق والهيجان ، فهي مباح لهم ما داموا في سير المعارف ، فإذا بلغوا منتهى المقامات ، ولم تجاوز النفوس من تلك المباحات إلى استدامة الحظوظ فهي غير متجانفة إلى الفترة ، فإن الله سبحانه يتجاوز عن مؤاخذتها بالحجاب ، ويعينها في طلب المآب ، فإنه غفور لخطرات أوليائه ، رحيم بنعت الوصلة باصطفائه.

قال الأستاذ : يحتمل أن معناه من نزل عن مطالبات الحقائق إلى رخص العلم لضعف وجده في الحال فرعا ، يجري معه مساهلة إذا لم يفسخ عقد الإرادة.

ونعم ما قال الأستاذ في وصف السالكين في باب الرخص ، فإن الله سبحانه صدق ما ذكرنا في الآية بثانيها من الآي بقوله لنبيه : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ، وفي حقيقة التفسير التي أغرب مما مضى ذكره أن الطيبات في الدنيا والآخرة للمحبين مشاهدة الله سبحانه وما سواها ، فهو محرم عليهم من الدنيا والآخرة ؛ لأنهم يسألون عن الحلال ، والحلال مشاهدة جماله وما سواه ، فهو غير حلال في الحقيقة.

وتصديق ذلك قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «الدنيا محرّمة على أهل الآخرة ، والآخرة محرّمة على أهل الله» (١).

سئل أبو الحسين النوري عن القوت؟ فقال : القوت هو الله.

قال أبو علي الروذباري : أطيب أرزاق العارفين المقوتات.

وقال يوسف بن الحسين : الطيب من الرزق ما يبدو لك من غير تكلف ، ولا إشراف نفس ، ولي مسألة غير مائة كرت وذلك : أن أصل الطيبات الحلالات ما وقع للعارف في مقام التوكل من الغيب بنعت الرضا.

وأيضا : الطيبات السماع ورؤية المسحسنات التي تطيب قلوب المحبين بسنائها حتى تفرّغها إلى طلب معادن الحسن في الأزل.

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى

__________________

(١) لم أقف عليه.

٢٩٩

الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) الإيمان هاهنا المعرفة ، أي : من وقع في بحر النكرة بعد المعرفة ولم يخرج منها إلى ساحل التوحيد الذي هو مفتاح كنوز الذات والصفات وهو محجوب عن الله بالله ، ولم تنعقد له عقود المحبة والمعرفة ، وما وجد من الطريق ذهب عنه بقوله : (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ).

وأدقّ من هذا أن من عرف الله ووصل إليه بمعرفته وسكر بأنوار توحيده ، وادّعى في شكره الأنائية التي هي صفة المعدم ، فهو محجوب بالوجد من الموجود ؛ لأنه كفر الربوبية بأنائيته التي صدرت إليه من رؤية الربوبية ، هذا معنى قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) ، وكل عمل من أعمال المعرفة له باطل لخروجه من العبودية إلى الربوبية ، فإذا رجع إلى العبودية ، وعرف إفراد القدم عن الحدوث يستأنف العمل ؛ لأنه ما مضى منه قد حبط بدعواه.

وأيضا : من ظنّ أن أعماله في الإيمان الذي هو موهبة الله الخاصة بلا علّة أداء حقوقه فقد كفر بالإيمان ، وحبط عمله ؛ لأن الإيمان كشوف ذاته وصفاته ، وأعمال العبد معلولة محدثة ، وكيف يوازي صفة القدم بعلّة الحدث.

قيل : من لم يشكر الله على ما وهب له من المعرفة واليقين ، فقد كفر بمعالي درجة الإيمان ، وفيه إحباط ما سواه من الاجتهادات والرياضات.

وقيل : من لم ير سوابق المتن في خصائص الإيمان ، فقد عمي عن محل الشكر.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) بدأ بغسل الوجه ؛ لأنه منبت أنوار تجلّي الحق التي برزت من الوحدانية للأرواح ، فعكست لطائفها على الوجوه.

وأيضا : خصّ الوجه بالغسل ابتداء ؛ لأنه تعالى خلقه بنفسه ، ونفسه بنقش خاتم ملك الصفات ، وسبب حكمة غسله بالماء أنه مغير بغبار الشهوات ، منعوت بنعت الحدث ، وخاصية جوهر الماء أنه تعالى خلقه من جوهر أول الفطرة ؛ حيث تجلّى له من نور قدسه وسنا عظمته ، فإذا وصل إلى الوجه صار طهورا من دنس توجهه إلى غير القدم ببركة نوره وقدسه ،

٣٠٠