تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٢

نخفي عليك ما خلقت ظاهره وباطنه ، وأنت قديم محيط بكل ذرة من العرش إلى الثرى ، فالعجز عن ذلك صفة من يتلاشى فيك ، كما أنا حين توفيتني عني إليك.

قيل في قوله : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) : أنّى لي لسان القول إلا بعد الإذن بقولك : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥].

وقيل في قوله : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أي : لمّا أسقطت عني ثقل الإبلاغ كنت مراقبا لهم بما أجريت عليهم من مختوم قضائك.

قال أبو بكر الفارسي في هذه الآية : الموحد ذاهب عن حاله ووصفه وعن ماله وعليه ، وإنما هو ناظر بما يرد ويصدر ليس بينه وبين الحق حجاب ، إن نطق نعته وإن سكت فيه ، حيثما نظر كان الحق منظوره ، وإن أدخله النار لم يلتمس فرجا لأن رؤية الحق وطنه ونجاته وهلاكه من عين واحدة ، لم يبق حجاب إلا طمسه برؤية التفريد ، وكان المخاطب والمخاطب واحدا ، وإنما كان يخاطب الحق نفسه بنفسه لنفسه ، قد تاهت العقول ودرست الرسوم وبطل ما كانوا يعملون.

قوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) اتفق أهل التفسير أن الله لا يغفر للمشركين الذين ماتوا على شركهم ، ذلك مذهب المسلمين جميعا ، وقد أرى هاهنا لطيفة ، وهي أن الله تعالى أجرى على لسان عيسى عليه‌السلام سرّا مكتوما مبهما على قلوب جميع الخلائق ، إلا من كان من أهل خالصة سرّه ، ومحال أن خفي على عيسى عليه‌السلام أن من مات على الشرك وهو غير مغفور في ظاهر العلم ووارد الشرع وإنما نطق بذلك من عالم السر المكتوم في الغيب ، ومفهوم أصل خطاب في ذلك كأنه أشار إلى ما أشار ابن عباس وابن مسعود ـ رضي الله عنهم ـ في قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٨] ، قالا : يأمر النار أن تأكلهم وتفنيهم ، ثم تجدد خلقهم.

قال ابن مسعود : ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد ، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا.

قال الشعبي : جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعها خرابا ، ألا ترى صورة اللفظ (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) يعني بكفرهم (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) فهو حقّ لإطلاق الملك لك ، وإن تغفر لهم ما هم فيه في الدنيا اليوم من يمنعك عن ذلك وأنت العزيز الواحد بالوحدانية في ملكك لست بجاهل في غفرانهم ، فإنك حكيم في أمرك ومرادك وإمضاء مشيئتك ، ونحن لا نقول أكثر من هذا ، فإنه موضع الأسرار.

٣٤١

وأيضا : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) بدعوى المعرفة بأن توقعهم في درك الحيرة والفناء في عظمتك ، و (وَإِنْ تَغْفِرْ) بأن تدخلهم في مقام الالتباس حتى لا يدركوك بنعوت الوحدانية ، وبقوا في حجاب حظوظهم عنك بك.

قال الوراق : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) بتقصيرهم في طاعتك ، فإنهم عبادك مقرّين لك بالتقصير ، (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) ذنوبهم فأنت أهل العزّة والكرم ، فلم يبدلها إلا لمن خلقه لها ومن هو حق بها وأهلها.

قال بعضهم : ترك عيسى عليه‌السلام الانبساط في السؤال للأمة ، وترك المحاكمة مع الحق في أفعاله ونبينا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لا يزال يشفع ويقول : أمتي ... أمتي!! حتى يجاب في الكل من أمته ، وهذا هو المقام المحمود الذي خصّ به ، ويغبطه عليه الأولون والآخرون ، حيث يراجع الحق منبسطا ويجاب بقوله : «قل تسمع واشفع تشفّع» (١).

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

قوله تعالى : (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) وقع صدقهم على رؤية فناء الحدث في القدم ، حيث ما أدركوا الحق إلا بالعجز عن إدراكه ، فلمّا لم يدركوه قبل العجز وبعد العجز إلا به أقروا بالجهل عن معرفته ، وهذا من كمال معرفتهم بربهم ، وهذا هو الصدق الذي ذكره الله لهم فلا جرم ينفعهم ، هذا العجز عند بروز طوارق مشاهدة عظمته وكشوف سطوات عزته بأن يدركهم في محل فنائهم ، ويلبسهم صفة بقائه حتى بقوا مع الحق أبدا بلا حجاب ولا عتاب.

قال الحسين في هذه الآية : إذا قابل ربه بصدقه ، وجهل أمر ربه ، وطالب ربه بحظه ووعده ، يطالبه ربه يصدق صدقه ، فأفلسه عن رتبته ، وأبعده عمّا قصده ، وينفع صدقه من لقيه بالإفلاس ، وأيقن أنه كان مستعملا تحت حكمه وقضيته.

قوله تعالى : (لَهُمْ جَنَّاتٌ) أي : جنات المشاهدات الذاتية التي تجري تحتها عيون الصفات بنعت تجليها لهم لحظة فلحظة ، (خالِدِينَ فِيها) باقين بالاتصاف بها ، (أَبَداً) بلا

__________________

(١) رواه النسائي في الكبرى (٦ / ٤٤٠).

٣٤٢

انقطاع ، (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) (١) حيث وجدهم متحيرين عن إدراك كنه القدم بعد فنائهم فيه ، (وَرَضُوا عَنْهُ) بما وجدوا منه من لذّة مشاهدته ، وحلاوة خطابه ، وهذا الرضا انسداد أبواب كشوف القدم عليهم ، وإبقاؤهم فيما هم فيه ، ولو عرفوا قلّة حفظهم عن القدم لماتوا جميعا في الحيرة ، وكيف رضي عنه من عرفه ، وكيف سكن عنه ، وإن كان في مشاهدته عن إدراكه بنعت التوحيد ، ولولا فضله ورحمته لفنوا في قهر سلطان كبريائه ، ولم يبقوا بعد ، فبقاؤهم وتخليصهم من فنائهم فيه ، فبفوز عظيم وظفر كريم ليتمتعوا لوصاله أبدا ، (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خصّ ملك الإيجاد والإبداع ، وزال عمن سواه ملكه.

سورة الأنعام

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) جعل حمده في الأزل طريقا للعباد إلى حمد جلاله ، وثناء جماله ، علم في القدم نفسه ، وأوجب الحمد قطعا قبل كون الكون مقابل عين الذات والصفات ، فلم ير بحمل حمده ، فحمل بنفسه حمد نفسه ، ورفع الحمد عن الحدث علما بأن الحدث يكون مثلا شيئا في أوائل حمده ؛ لأن حمده لا يكون إلا بمعرفة المحمود حقيقة بجميع ذاته وصفاته ، وذلك مستحيل ؛ لأن حقيقة ذاته وصفاته غير متناهية ، وكيف يدرك المتناهي صفات الذي هو غير متناه.

وأيضا : قطع الحمد عن غير نفسه ، وبيّن ألا يستحق للحمد الحقيقي إلا وجوده بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) (٢) أي : لله لا لغير الله.

__________________

(١) رضاء الحق سبحانه : إثبات محلّ لهم ، وثناؤه عليهم ومدحه لهم ، وتخصيصهم بأفضاله وفنون نواله ، ورضاؤهم عن الحق سبحانه في الآخرة وصولهم إلى مناهم ؛ فهو الفوز العظيم ، والنجاة الكبرى [تفسير القشيري (٢ / ١٩٣)].

(٢) حقيقة الحمد الثناء على المحمود ، بذكر نعوته الجليلة وأفعاله الجميلة ، واللام هاهنا للجنس ، ومقتضاها الاستغراق ؛ فجميع المحامد لله سبحانه إمّا وصفا وإمّا خلقا ، فله الحمد لظهور سلطانه ، وله الشكر

٣٤٣

وأيضا : أي : حمد الله لله ؛ لأنه مادح نفسه بالحقيقة لا غير.

وأيضا : أي : الحمد القديم يرجع إلى القديم ، وليس للحدث فيه نصيب ، لأن حمده أزليّ ، والحمد الأزلي لا يليق إلا بالأزلي.

قيل : حمد نفسه بنفسه حين علم عجز الخلق عن بلوغ حمده.

قال الجنيد : الحمد صفة الله ؛ لأنه حمد نفسه بتمام الصفة ، ولو حمد الخلائق كلهم لم يقدروا الإقامة ذرة من صفته ، وبيان قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : هذا الحمد بالحقيقة لمن هذا صنعه وقدرته ، وما دام لم تقدروا معرفة نعمته في صنعه وفعله لم تقدروا على حمده وثنائه ، له سموات ، وأخصّ سماواته الروح المقدسة ، وله أرضون ، وأخصّها القلب السليم الصافي بوضوح الفطرة الصافية فيه الروح سماء القلب ؛ لأن منها تتنزل عليه قطرات الإلهام ، ويقع عليه منها أنوار الرحمن والقلب أرضها ، لأنه ينبت أزهار الحكمة وأنوار المعرفة.

قيل : السموات المعرفة ، والأرض الخدمة.

قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أي : الذي خلق الروح والقلب جعل في الروح نور العقل لعرفان الآيات والشواهد ، وجعل في القلب ظلمة النفس الأمّارة لظهور العبودية في محل الامتحان.

وأيضا : أسرج في القلب نور الإيمان من سراج الغيب ، وأنشأ في النفس ظلمة الشهوات من عالم الريب.

وأيضا : نوّر الروح بنور المشاهدة ، وأدخل القلب في ظلمة المجاهدة.

قال بعضهم : أبدى الظلمات في الهياكل ، والنور في الأرواح.

وقال بعضهم : جعل الظلمات أعمال البدن ، ونوّر أحوال القلوب.

__________________

لوفور إحسانه ، والحمد لله لاستحقاقه لجلاله وجماله ، والشكر لله لجزيل نواله وعزيز أفضاله ، فحمده سبحانه له هو من صفات كماله وحوله ، وحمد الخلق له على إنعامه وطوله ، وجلاله وجماله استحقاقه لصفات العلو ، واستيجابه لنعوت العز والسمو ، فله الوجود «قدرة» القديم ، وله الجود الكريم ، وله الثبوت الأحدي ، والكون الصمدي ، والبقاء الأزلي ، والبهاء الأبدي ، والثناء الديمومي ، وله السمع والبصر ، والقضاء والقدر ، والكلام والقول ، والعزة والطول ، والرحمة والجود ، والعين والوجه والجمال ، والقدرة والجلال ، وهو الواحد المتعال ، كبرياؤه رداؤه ، وعلاؤه سناؤه ، ومجده عزه ، وكونه ذاته ، وأزله أبده ، وقدمه سرمده ، وحقه يقينه ، وثبوته عينه ، ودوامه بقاؤه ، وقدره قضاؤه ، وجلاله جماله ، ونهيه أمره ، وغضبه رحمته ، وإرادته مشيئته ، وهو الملك بجبروته ، والأحد في ملكوته ، تبارك الله سبحانه!! فسبحانه ما أعظم شأنه!! [تفسير القشيري (١ / ٢)].

٣٤٤

وسئل الواسطي : الحكمة في إظهار الكون وقوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)؟ قال : لا حاجة له إلى الكون ؛ لأن فقد الكون ظهوره ، وظهوره فقده عنده ، فإن قيل إظهارا للربوبية. قيل : ربوبيته كانت ظاهرة ، ولم تظهر ربوبيته لغيره.

قيل : لأنه لا طاقة لأحد في ظهور ربوبيته ، بل أظهر الكون ، وحجب الكون بالكون لئلا تظهر لأحد الربوبية فتطمس ؛ لأن الحق في الحكمة لا يحتمله إلا الحق.

وسئل بعضهم ما الحكمة في إظهار الكون؟ قال : ارتفاع العلّة ، فإذا ارتفعت العلّة ظهرت الحكمة بإظهار الكون ، إن الله سبحانه كان موصوفا بالعلم الأزلي ، وكان في علمه كون الكون كما هي ، فأظهر الكون بسابق علمه في ذاته ، وإرادته السابقة في الأزل بوجود الكون ، وكيف لا يظهر الكون والعلم والإرادة سابقان في الأزل بإيجاده ، فإذا بقاء الكون في العدم مستحيل.

وأيضا : ذاته تعالى معدن صفاته ، وصفاته معدن فعله ، فظهرت فوائد الذات في الصفات ، وظهرت فوائد الصفات في الفعل ، كانت قدرته المنزّهة حاملة الأفعال ، فوضعتها بالإرادة القديمة في أخصّ زمان ؛ لقوله : (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [التوبة : ٣٦].

وأيضا : كان في الأزل عاشقا مشتاقا إلى المشتاقين إليه ؛ ليظهر كنوز جلال الذات ، وجمال الصفات بنعت التعريف لأحبائه ؛ لقوله سبحانه : «كنت كنزا مخفيّا ، فأحببت أن أعرف» (١) ، فسبب إظهار الكون شرفه إلى جمال المشتاقين ومحبته السابقة للمحبين.

قال الأستاذ في قوله : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : (الَّذِي) إشارة و (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) عبارة ، فاشتغلت الأسرار بسماع الذي تحققها بوجوده ، ودوامها بشهوده ، واحتاجت القلوب عند سماع (الَّذِي) إلى سماع الصلة ؛ لأن (الَّذِي) من الأسماء الموصولة لكون القلوب تحت ستر الغيب ، فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، وبانت لي إشارة : أن قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ظاهر الألوهية لأهل العبودية ، وقوله : (الَّذِي) باطن المشاهدة لأهل المحبة ، لأن المحبة والمشاهدة من لطائف الأسرار ، فأشار إليها بلفظ الغيبة.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) السموات جسد ، وقلب ذلك الجسد الأرض ، وأن الله سبحانه خصّ قلب السموات بإشراق جلاله فيه بقوله : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) [الزمر : ٦٩] ، ومن تلك الخاصية خلق صورة آدم عليه‌السلام من قلب العالم فكان قلبيّا

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٣٤٥

لا جسديّا ؛ لأنه تعالى أودع الأرض ودائع حكمته ولطائف فطرته من الأرواح القدسية والأشباح الملكوتية ، وجعل لفظ الطين نكرة غير معينة ، أي : من طين الجنة خلق أجسام المؤمنين ، ومن طين الحضرة أي القربة أجساد الموقنين ، ومن طين المحبة أشباح المحبين والمشتاقين ، كما أخبر سبحانه لداود عليه‌السلام : «خلقت قلوب المشتاقين من نوري ، ورقمتها ونعمتها بجمالي ، وخلقت طينة أحبائي من طينة إبراهيم عليه‌السلام خليلي ، وموسى عليه‌السلام كليمي ، وعيسى عليه‌السلام روحي ، ويحيى عليه‌السلام صفيي ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبيبي».

وقال الحسين : ردهم إلى قيمتهم في أصل الخلقة ، ثم أوقع عليهم نور إليه وخاصية الخلقة ، فتميزوا بذلك عن جملة الحيوانات بالمعرفة والعلم واليقين.

قوله تعالى : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) أي : يعلم لهيب نيران الاشتياق إلى جماله في صميم أسراركم ، وما يتعرض إلى سبل عساكر تجلّي القدم بنعت طلب الوصول إليها في ضمائركم ، ويعلم حركات أشباحكم بطيران أرواحكم في الولد والهيمان والوجد والهيجان ، ويرى قطرات عبرات الشوق على خدودكم في سجودكم بين يديه بوصف التضرع في جبروته وتقلب القلوب في ملكوته.

وأيضا : يعلم جولان أرواحكم في السماء لطلب معادن الأفراح ، ويعلم تقلب أشباحكم في الأرض لطلب الوسيلة إلى مشاهدته.

ألا ترى كيف أشار إلى ذلك بقوله : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) يريكم في السموات مشاهدة الجبروت ، وفي الأرض مشاهدة الملكوت.

قال بعضهم : يعلم ما تضمرون في سرائركم ، وما تجهرون به من دعواتكم.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩))

قوله تعالى : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) من عمي

٣٤٦

قلبه عن مشاهدة الله كيف يراها في آثار الله؟! وآياته في السماوات والأرض ، وفي وجوه أنبيائه وأوليائه ، حيث أشرقت بحسن وقوع تجليها وظهور سناها بما فيها ، ويزيد على عمائه عمى ؛ لأنه موسوم بسمة البعد في الأزل ، غير مقبول إلى الأبد.

قال النصر آبادي : آياته في خلقه أولياؤه ، وأهل صفوته.

قوله تعالى : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) طلبوا رؤية الملائكة عيانا ، وليسوا هم أهل ذلك ، ولو كانوا أهل الحقيقة لرأوا في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم يكن في وجوه أهل الملكوت من سنا إشراق صفات نور الأزل ؛ لأنّه كان مشكاة نور الذات والصفات ؛ لقوله سبحانه : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) [النور : ٣٥] ، ولكن كيف يرون ذلك ، وهم عيان في ظلمات ظلال القهريات؟ قال تعالى : (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [الأعراف : ١٩٨].

والإشارة في قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أن المريدين لم يروا أهل الملكوت إلا بالمثال الحسي ؛ لأنهم في ضعف عن رؤية ماهيتها ، ولو يرون الملك لم يروه إلا في صورة الآدمي الذي هو موقع الالتباس.

(وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (١) معناه : أريناهم رؤية أهل الغيب في اللباس الإنساني بغير وقوفهم على صفات الروحاني ؛ لأنّهم أهل التلبيس في المعاملات ؛ حيث وقعوا في ورطة الفترة ، ويدعون مقام أهل الاستقامة.

وأصل البيان في ذلك أي : خلطنا عليهم ما يخلطون ، حتى لا يعلموا سبيل خداعهم كما يريدون ، ويرجع كيدهم على أعناقهم ، ويسيروا في ظلمات التردد ، ولا يعلموا نكاية كيدهم عند الأولياء والصديقين.

__________________

(١) قال ابن عجيبة : أي : لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضعفائهم ، أو لفعلنا لهم في ذلك فعلا ملبسا يطرق لهم إلى أن يلبسوا به على أنفسهم وضعفائهم ؛ فإن عادة الله في إظهار قدرته أن تكون مرتدية برداء حكمته ؛ ليبقى سر الربوبية مصونا ، فمن سبقت له العناية خلق الله في قلبه التصديق بها ، حتى علمها ضرورة ، وغيره يلبس الأمر عليه فيها.

وكرامات الأولياء كمعجزات الأنبياء ، لا تظهر إلّا لأهل الصدق والتصديق ، ولا يتحقق بولايتهم إلّا من سبق له الوصول إلى عين التحقيق : «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه» ، فأهل الإنكار عليهم لا يرون إلا ما يقتضي البعد عنهم ، وأهل الإقرار لا يرون إلا ما يقتضي القرب منهم والمحبة فيهم ، والله تعالى أعلم [البحر المديد (٢ / ١٢٦)].

٣٤٧

وفي إشارة أهل الحقيقة أنّ مقام الخداع والمكر في العشق والمحبة يكون من شركهم في العشق ، حيث يطلبون المراد بنعت الاستراحة ، وهو سبحانه يجازيهم بظهور صفاته في نعوت أفعاله لهم ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) [الأنعام : ٩].

قال الواسطي : يلتبس على أهل ولايته بحضرته ، كما أنزل في بعض الكتب ، يعني ما يتحمل المتحملون من أجلي وطلب مرضاتي ، أتراني أنسى لهم ذلك؟! كيف وأنا الجواد الكريم ، أقبل على من تولى عني ، فكيف بمن أقبل عليّ؟

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣))

قوله تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخبر عن الجهلة لمّا لم يعرفوا أهل مشاهدته ، وخواص حضرته ، ولم يروا آثار جلاله فيهم ، استهزأوا بهم بإعراضهم عنهم ، وإنكارهم عليهم.

قال القاسم : لمّا لم يعرفوا حقوق الرسل ، ولم يكرّموهم ، ولم ينظروا إليهم بعين الحق ؛ فعموا عن الأنوار والمشاهدات والرفع من المعاملات.

قوله تعالى : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) أي : لمن ما في السماوات والأرض إيجاد ، (قُلْ لِلَّهِ) أي : إفناء الأول : إشارة إلى الإرادة القديمة ، والثاني : إشارة إلى المحبة الباقية.

وأيضا : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بالعبودية ، (قُلْ لِلَّهِ) أي : في الربوبية.

قال يوسف بن الحسين : الأول عبارة ، والثاني عبادة.

وقيل : الأول هيبة ، والثاني توحيد.

قوله تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الإشارة في هذه الآية إلى قلوب المنقبضين بصولة العظمة ، وقلوب المنبسطين ببسط نور جمال المشاهدة ، سكنت قلوب أهل القبض في الليالي بنعت الإذابة في سرادق كبريائه ، والسكون في مقام التواضع عند بروز سطوات عزة ذاته ، حيث تخلصت عن ازدحام أهل الغفلة ، وسكنت قلوب أهل البسط برؤية أنوار جماله

٣٤٨

في مناظر آياته في النهار ، ولطائف صنع صفاته ، حيث تخلصت من رؤية أعلام عظمته وكبريائه ، أي : له هذه القلوب العاشقة ، والأفئدة المتحيرة لا لغيره من الحدثان ، خصّها لنفسه ، والنظر إلى مشاهدته.

ومعنى قوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يسمع أنينها في شوقه ، ويعلم ضمائرها المحزونة نداء جماله.

قال محمد بن علي الكناني : اختصّ الحق بقلوب العارفين لسكونها إليه ؛ فقال : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) كيف لا يسكن إلى الحق ، ولدغات الحقيقة بقصده ، وهو موضع النظر؟.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨))

قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : كيف أتخذ أحدا بالمحبة دونه ، وليس له صفة القدم التي أغارت قلوب أوليائه بحسن تجليها؟! وكيف أتخذ بالولاية محدثا لا يقدر على أن يمنع عني علّة الحجاب بيني وبينه ، حيث الكل حاجز في أمر مشيئته وملك جلاله؟!

ألا ترى إشارته تعالى إلى ذلك بقوله : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : الكل ملكه ، فكيف ألجأ من ملكه إلى ملكه ، وعلّة الملك في المالك متلاش بقوله : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ).

قال الجوزجاني : أأبغي سواه ملجأ ، وقد سهّل إليّ السبيل إليه؟!

وقال غيره : أسواه أستكفي ، وهو الذي يكفيني الهم في الدارين؟!

وقوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي : أمرني حين كنت جوهر فطرة الكون ، حيث لم يكن غيري في الحضرة أن أكون أول الخلق له في المحبة والعشق والمعشوق ، وأول الخلق له منقادا بنعت محبتي له ، راضيّا بربوبيته ، غير منازع لأمر معيشته.

قال بعضهم : أكون أول من انقاد للحق إذا ظهر.

وقال ابن عطاء : إن أكون من الخاضعين لما يبدو من مبادئ القدرة.

وقال جعفر عليه‌السلام : من الراضين بموارد القضاء.

٣٤٩

قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) أي : إن يمسسك بضرّ الحجاب ، فلا كاشف لضرّه إلا ظهور مشاهدة جماله لك.

قال الجنيد : معبودك أول خاطر يخطر لك عند نزول خير ، أو ظهور بلاء ، إن رجعت فيه إلى الله فهو معبودك ، وهو الذي يكفيك ، فإن رجعت إلى غيره تركك وما رجعت إليه.

قال الأستاذ : إنّما ينجيك من البلاء من يلقيك في الفناء ؛ إذ المتفرد بالإبداع واحد ، فالأغيار كلهم أفعال ، والإيجاد لا يصلح من الأفعال.

قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) أي : قدمه جار في غير قهره ولطفه ، بلطف مشاهدة جماله ، وكشف جلاله للمحبين حتى ذابوا في حلاوة شهود مشاهدته ، وقهر بسلطان كبريائه أهل التوحيد والمعرفة حتى فنوا في سبحات عظمته وعزّة أزليته.

وأيضا : أي كان قاهرا في الأزل قدمه ، علا عن العدم حين تجلّى قدمه للعدم ، وأجار به العباد عن العدم ، وكان المقدور في العدم تحت القدم ، وبقي القدم بوصفه إلى الأبد ، وبقي المقدور بوصفه كما خرج من العدم إلى الأبد.

وقال الحسين رضي الله عنه : القاهرية تمحو كل موجود.

وقال بعضهم : قهرهم على الإيجاد والإظهار ، كما قهرهم على الموت والفناء.

قال ابن طاهر : القاهر الذي إذا شهد سوى العبد أفناه عما سواه.

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩))

قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) أي : أي شيء أعظم من شهود الله بوصف ظهور تجلّي جلاله وجماله من كل ذرة على كل شيء من العرش إلى الثرى ، وذلك شهادته الأزلية التي سبقت منه على وحدانيته ، حيث لم يكن وجود الحدث في القدم.

وتصديق ذلك جواب الأمر بالأمر بقوله تعالى : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ، لمّا عمي القوم عن رؤية شهود الله ، وصموا عن شهادة على نفسه ، أنكروا على أشرف موقع شهادة ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغباوتهم وجهلهم بما ظهر من وجهه من أنوار جلال الله ، أمر الله نبيه عليه‌السلام أن يقول لهم بعد قوله : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) بقوله : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) بأن يظهر أنوار صفاته متى شاء للعالمين.

وتصديق ذلك سهولة المعجزات ، أي : من لم ير الشهادة العظمى في وجهي ؛ فإنه يحتاج

٣٥٠

إلى رؤية الشهادة الصغرى وتلك معجزتي ، ومن يكون أعمى عن رؤية الشهادة الكبرى ، فأيضا يكون أعمى عن رؤية الشهادة الصغرى.

قال الحسين عليه‌السلام : لا شهادة أصدق من شهادة الحق لنفسه بما شهد به في الأزل بقوله : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ).

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩))

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) بيّن الله سبحانه أن اليهود كانوا يعرفون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعلامات الصحيحة ، التي وجدوها في التوراة ، من نعته وصفته ، وصدق معجزته ، لكن لم يعرفوه بنور معرفة الله ، ورؤية مشاهدة الله في وجهه ، كانوا مقلدين في معرفته ؛ لذلك خالفوه ، ولو عرفوه بمعرفة الله لكانوا كالصحابة المباركة ، حيث كانوا تراب قدمه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المتحابين.

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) كانت قلوبهم محجوبة بعوارض البشرية ، وظلمات النفس الأمّارة عن رؤية أنوار الغيب ، وفهم خطاب الحق ، كانت قلوبهم في أغطية الغيرة ؛ لأنهم ليسوا مطبوعين باستعداد قبول خطاب الله ، ورؤية عرائس الملكوت ، وفي آذان أسرارهم وقر الضلالة ، ولم يسمعوا بها ما لم يسمع بسمع الخاص ، وعلى عيون ظاهرهم

٣٥١

وباطنهم غشاوة العجب والجهل ، حتى لم يروا براهين الحق في وجوه الصديقين.

قال ابن عطاء : لأنه لم يجعل لهم سمع الفهم ، وإنما جعل لهم سمع الخطاب.

وقال الواسطي : منهم من يستمع إليك بنفسه ؛ فهو في ظلمات نفسه يتردد ، ومنهم من يستمع منك بنا ؛ فهو في أنوار العارف يتقلب.

قوله تعالى : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) القوم لم يعرفوا حقائق الكفر في الدنيا ، ولو عرفوه لكانوا موحدين ، فيظهر لهم يوم القيامة حقيقة الكفر ، ولا ينفع لهم ذلك لفوتهم السير في النكرات ، التي معرفتها توجب المعارف ، وذلك المقام في أماكن صدورهم ، وهم كانوا يخفونه بمتابعة صورة الكفر ، وشهوة العصيان بغير اختيارهم ؛ لقلة عرفانهم به ، ولا يكون قلب من العرش إلى الثرى إلا ويطرقه هواتف الغيب بإلهام الله الذي يعرف به طرق رضا الحق ، وصاحبه يعلم ذلك ، ويسمع ويخفيه في قلبه ؛ لأنه أدق من الشعرة ، وحركته أخفى من دبيب النمل ، ومع ذلك يعرفه من نفسه ، ولكن من غلبت شهوات نفسه عليه لا يتبع خطاب الله بالسرّ ، فأبدى الله لهم ما كانوا يخفونه ، تعبيرا لهم ، وحجة عليهم.

قيل : ظهر لهم من غيوب أسرارهم ما كان يخفيه عنهم قلة علمهم.

وقال أبو العباس الدينوري ـ رحمه‌الله : أبدى لهم الحق فساد دعاويهم التي كانوا يخفونها ، ويظهرون للناس خلافها من التقشف والتقوى في الدنيا ، فبدا لهم قبح بواطنهم عند صدور العارفين ، وأكابر الموحدين ، ويقولون : لسنا على شيء ، والصدق معكم ، وذلك عند غلبة هيبة وجوههم عليهم ، فإذا رجعوا إلى أوطانهم عادوا إلى الرزق والناموس من قلّة معرفتهم بربهم ، وقلّة معرفتهم بافتضاحهم عند مشايخ القوم ، قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ

٣٥٢

بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥))

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) أظهر لطفه وكرمه العميم على خلقه في هذه الآية حين وقف القوم على حضرة جلاله لسماع خطابه ؛ ليسهل عليهم دخول النار ، ولولا ذلك لكان عذابهم أضعافا.

والآية تعجب أي : ولو ترى إذ وقفوا في حضرة الجبروت ، وخوطبوا بخطاب الهيبة كيف يتنعمون بخطابه ، وإشراق أنوار سلطان كبريائه ، وإن كانوا في منازل الهيبة! والله هيبته مستلذة ، كما أن لطفه مسألة ، وجميع العذاب عند خطابه يكون نعمة.

وأنشدوا :

يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى

إليكم تلقّى طيبكم فيطيب

وما ذاك إلّا حين أيقنت أنّه

يمرّ بواد أنت منه قريب

قال ابن عطاء : وقفوا وقوف قهر ، ولو وقفوا وقوف اشتياق لرأوا من أنوار كراماته ما تعجبوا منها.

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨))

قوله تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) السماع سماعان : سماع فهم ، وسماع عشق ومحبة ، من سمع سماع فهم لم يكن من أهل النطق في جريان حكم المعارف ؛ لأنه في مقام البداية ، ولم يكن له تصرف إلا تصرف ظاهر العلم ، ومن سمع سماع العشق بسمع المعرفة على حدّ الكمال يكون له لسان بيان المعرفة والتصرف في الإشارات والعبارات.

ألا ترى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموسى عليه‌السلام لما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاملا مستقيما قال : «بعثت بجوامع الكلم» (١) ، و «أنا أفصح العرب والعجم» (٢).

ولما كان موسى عليه‌السلام في محل الإرادة أخبر الله سبحانه عنه بقوله بعد سؤاله بشرح الصدر الموجب فصاحة اللسان في المعرفة ، قال : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) ، بيّن أن على قدر السماع يكون الجواب ، ونفى السماع عن غير الأحياء بالمعرفة والمشاهدة.

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١٠٨٧) ، ومسلم (١ / ٣٧١) ، وأحمد في «مسنده» (٢ / ٢٦٤).

(٢) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٥٦٢).

٣٥٣

قال النوري : من فتح سمعه بالسماع أجرى لسانه بالجواب ، قال الله تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) (١).

وقال ابن عطاء : أخبر الله أن أهل السماع هم الأحياء ، وهم أهل الخطاب والجواب ، وأخبر أن الآخرين هم الأموات بقوله : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ).

قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) إن الله سبحانه خلق غير الآدمي والملائكة والجن من الحيوانات والطيور والسباع والحشرات على فطرة التوحيد ، وجبلة المعرفة ، وإن الله سبحانه خاطبها لوضوح طرق معارفه ، والإيقان والإيمان جعل لها طرقا من خواطرها ، منورة بأنوار العقل إلى حضرته القديمة الأزلية وأسرارها ، ينظرون بنور الأفعال ولطائف الصنعة ، وسناء الخطاب إليها على السرمدية ، وإنها تعيش وتتحرك وتطير بقوة من قوى الحضرة ، وهذا الصفير والألحان والزفرات والشهقات منها من حلاوة تصل إلى قلوبها من روح عالم الملكوت ، ووضوح أنوار الجبروت ، ولها على قدر حالها في المعرفة والتوحيد شوق إلى الله ، وذوق من بحار رحمة الله.

سمعت أن سمنون المحب كان إذا تكلم في المحبة تنشقّ القناديل ، ويسقط الطير من الهواء ، حتى سمعت أن يوما ما كان يتكلم في المحيط فسقط طير بين يديه ، وغرز منقاره في الأرض ، وقطر الدم من منقاره ، ومات بين يديه.

وأمثال هذه الحكاية كثيرة في الآثار والأخبار ، من جميع الحيوان والسباع والطيور والحشرات ، ألا ترى كيف تكلم الضب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكيف مدحه بقوله : «ألا يا رسول الله : إنّك صادق ، فبوركت مهديّا وبوركت هاديا» إلى قوله : «فبوركت في الأحوال حيّا وميتا ، وبوركت مولودا ، وبوركت ناشئا» (٢).

وقوله تعالى : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) في طلب الحق ، وإفراد قدمه عن الحد والاعتبار في صنائعه اللطيفة ، التي تبرز منها أنوار الصفات في العالم ومثيلتها ، إنها خلقت من عالم الملك والشهادة والأفعال والآدمي والملائكة خلقت أجسامهما من عالم الأفعال ، وأرواحها من نور

__________________

(١) إنما يستجيب لدعوة الخصوصية ، ويجيبون الدعاة إلى السير لشهود عظمة الربوبية ، الذين سبقت لهم العناية ، وأحيا الله قلوبهم بالهداية ، فيسمعون بسمع القلوب والأرواح ، ويترقّون من حضرة عالم الأشباح إلى حضرة عالم الأسرار والأرواح ؛ والموتى بالغفلة والجهل يبعثهم الله ببركة صحبة أهل الله فتهب عليهم نفحات الهداية ؛ لما سبق لهم من سر العناية ، ثم إليه يرجعون فيتنعمون في حضرة الشهود ، في مقعد صدق عند الملك الودود [البحر المديد (٢ / ١٤١)].

(٢) ذكره ابن حجر في الإصابة (١ / ٥٢٣) بنحوه.

٣٥٤

الملكوت ؛ لذلك فضلت الملائكة والآدمي على غيرهما ، قال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ...) الآية.

وقوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) أي جناحيه : جناح التوكل والرضا ، وجناح الخوف والرجاء ، وجناح الفناء والبقاء ، وجناح الإيمان والتقى ، وجناح النعمة والبلاء ، وجناح الهمة والصفات ، وجناح العبودية والربوبية ، وجناح المعرفة والمحبة ، يطيرون بها هربا وطربا وشوقا وطلبا ، وإشارة الظاهر في المثلية أن جبلة الأمم من العناصر الأربع خلقت ، ومن طبيعة الحيوانية والروحانية أنشئت ، وتساوت في الأكل والشرب والحركة والاجتماع ، وصفات النفسانية ونعوت الذاتية من الحرص والغضب والشره والبطر ، وحقائقها في التساوي رجوعها إلى معدن الفطرة ، الذي أنشأها الله منه ؛ لقوله تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) [طه : ٥٥].

ومن أئمة التفسير الظاهر قول ابن عطاء قال : أمثالكم في التوحيد والمعرفة.

وقيل : (إِلَّا أُمَمٌ) في التصوير (أَمْثالُكُمْ) في التسخير ، وأقوام جميع الحيوان والملائكة والجن والإنس والجمادات من العرش إلى الثرى بالقدرة القادرية الأزلية ، ولهم مشارب وسواق من بحر خطاب الله ، وكلماته الأزلية المبيّنة طرق توحيد الملائكة ، ومعرفة الناس وفطرة الحيوانات والطيور والحشرات والسباع الممزوجة طباعها بالعلم بصانعها وخالقها ، إلى ظهور صفاته وذاته لهم بيانا غير مشكل عليهم ، ولا ناقص عن تمام مرادهم.

قال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أي : كل ما يحتاج الخلق في العبودية وعرفان الربوبية بيّناه في كتابنا ، ليس مقام ولا حال ولا وجد ولا إدراك ولا معرفة ولا رؤية إلا وبيّن طريقه في كلامه تعالى صفته الخاصة المبينة ، عرفان جميع الصفات ، وطرق الصفات إلى الذات ، أخبر تعالى به عن أسرار الأولين والآخرين من العرش إلى الثرى.

قال بعضهم في قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أي : ما أخرنا في الكتاب ذكر أحد من الخلق ، ولكن لا يبصر ذكره في الكتاب إلا المؤيدون بأنوار المعرفة.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ

٣٥٥

ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) وصف سبحانه أهل الامتحان الذين تهتف هواتف الإلهام بالخطاب لقلوبهم من الغيب فيستقبلونها بمعارضة نفوسهم ، ويكذبون خواطر الحق بخاطر الباطل حين لم يعرفوا الإلهام من الوسواس ، وذلك من وقر الضلالة في آذانهم ؛ حيث لم يلقوا أسماعهم في مقام الشهود إلى الله ، ولم تذكر اسم الله ألسنة أسرارهم بوصف الهيبة والمحبة ، وذلك من بقايا نفوسهم في ظلمات هواها.

ومعناه : أي من كذب خواطر الحق الواردة من عندنا حين ألهمنا بخالص الإيمان بكرامات أوليائنا ومعجزات أنبيائنا تغطى آذان أسراره ، وأبصار بصائره بغشاوة الضلالة ؛ حتى لا يسمع كلامنا في الغيب ولا يرانا في الملكوت ، ويبقيه في ظلمات نفسه الأمّارة وشيطانه الكافر ، ولا يقدر أن يتكلم بذكرنا ومعرفتنا.

قيل : لم تصدقوا إظهار كراماتنا على المقربين من عبادنا عموا وصموا عن أنوار الملاحظات ، وبقوا مع ظلمات النفوس ، وهواجس الهياكل.

وقوله تعالى : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) المشيئة تقع على المقبولين والمطرودين على الإبعاد والقبول والرضا والسخط ، بما جرى عليهم في الأزل من السعادة والشقاوة ، فمن لم يكن صادقا في بدء إرادته يغويه الحق في ظلمات قهره غيرة على وصله ؛ حتى لا يصل إليه غير صادق في محبته ، ومن كان صادقا في بدء إرادته ولم ينقص عقد بدايته بمتابعة نفسه والفترة عن طاعة يهديه الحق بنفسه إلى نفسه ، ويجعله مستقيما في طريق معرفته وطاعته ، والطريق المستقيم طرق أفعاله للعقول بنعت الفكرة ، وطرق صفاته للقلوب بنعت المحبة ، وطرق ذاته للأرواح بنعت المعرفة.

قيل : من يرد الله به الشرّ يتركه في سوء تدبيره ليبقى في ضلالته ، ومن يرد الله به الخير يجره إلى حسن اختياره ، فيبقى على أسلم الطرق ، وهو الرضا بمجاري القدرة ، وهو الصراط المستقيم.

وقوله تعالى : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) ، (غَيْرَ اللهِ) : الجاهلين ربوبيته عند امتحانهم ببلائه ، يرجعون إلى غيره من الخلق ؛ لطلب المعاونة بدفع البلاء عنهم ، أي : إن كنتم صادقين في دعوى معرفتي لم تتكلمون إلى غيري عند نزول البلاء؟ فإنكم تدعونني حين تدعون غيري ، فإن الدعاء لم يقع على غيري ؛ إذ فنيت الحوادث في سطوات عظمتي ، لكن لا تعلمون أنكم تدعونني حين تدعون غيري من جهلكم بفناء الحدث في القدم.

٣٥٦

وأيضا : وبّخهم بانصرافهم عن بابه تعالى في دعة العيش من قلّة وجدانهم حلاوة قربه ووصاله إلى طلب زيادة حظوظ أنفسهم ، والسكون إلى غير الله ، ثم يرجعون إلى بابه حين امتحنهم بالبلايا ، ويدعونه لكشف الضر عنهم لا لطلب مشاهدته وقربه ، يدعونه ، وهذه عادة المفلسين المعرضين عنه إلى غيره.

قيل : على غيره تتكلون ، وإلى سواه ترجعون ، وهو الذي وفقكم لمعرفته ، وأقامكم مقام الصادقين من عباده.

قال الجريري : يرجع العارفين إلى الحق في أوائل البدايات ، ويرجع العوام إليه بعد اليأس من الخلق.

قال الله تعالى : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بل الصادق من إليه يرجع ، وإياه يدعو.

قال الجنيد : من دعا الحق فبإياه لإياه يدعو ، من غير حظّ فيه ولا حضور من نفسه ، قال تعالى : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ).

قال بعضهم : بل إليه المرجع لمن غفل عنه خطابه.

قوله تعالى : (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) هذا وصف قوم لم يذوقوا طعم وصل المشاهدة ، حيث أرجعهم الحق إليه بسوط قهره ، ولو كانوا على محل المعرفة والمحبة والشوق إلى المشاهدة لم ينصرفوا عنه طرفة عين.

وأيضا : إذا أراد سبحانه كلاءة قوم من محبته إياهم ألزم عليهم حراس بلياته ، وضرب عليهم سرادق حفظه ؛ لئلا يشتغلوا بغيره لحظة.

وأيضا : أي لما اشتغلوا بحظوظ ما وجدوا من قربنا أوقعناهم في أودية الفترة حتى لم يجدوا آنئذ المواجيد وحقائق الواردات ، ومسسناهم ببأساء الفراق وضراء الأشواق ؛ لكي يصلوا إليّ من نفوسهم وحظوظهم ، ويروني بنعت تجريد التوحيد ، وإفراد القدم عن الحدوث.

قال ابن عطاء : أخذنا عليهم الطرق عليها ليرجعوا إلينا.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥))

قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) وصف قوما تركوا نصائح المشايخ من

٣٥٧

إعجابهم برأيهم ، ولم يتيقظوا بدقائق إلهام الله الذي نزل على قلوبهم حين زجرهم طوارق الغيب عن سكونهم بما وجدوا من أنفسهم نبذة من الحكم ولمعا من الفراسة ، وهذا معنى (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ).

ولما سكنوا إلى أنفسهم لما وجدوا من لطائف الكرامات فتح الله عليهم أبواب الرئاسة والجاه عند الخلق ، حتى إذا فرحوا بتمكينهم عند العوام يرد الله قلوب الخلق عنهم ويفضحهم عندهم ، ويعرف الخلائق خيانتهم ومكرهم وسقوطهم عن درجة القوم ؛ حتى لا ينظر إليهم أحد من خلقه بالشفقة والرحمة ، ويموتوا على حسراتهم ، وهذا معنى قوله تعالى : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً).

وقوله تعالى : (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) أي : آيسون من نيل كرامات الله بعد ذلك ؛ لأنهم خانوا في طريقه ، وهو لا يهدي كيد الخائنين.

فلمّا قدّس الله بساط الولاية عنهم ودفع إيذاءهم عن خواص حضرته أثنى على نفسه ، وحمد جلاله المنزّه عن الاستبشار بوجودهم والاستيحاش عن عدمهم نيابة عن أحبائه ، الذين عجزوا عن حمده وثنائه بقوله تعالى : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧))

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) الإشارة في ذلك إلى أهل مقام ذهاب الذهاب ، أي : إن أخذ الله أسماع أسراركم بصواعق العظمة ، وطمس بطون بصائركم بأنوار العزة ، وختم على قلوبكم بخواتم الملكوت والجبروت بعد امتلائها من أنوار الكبرياء ، وفنائها في سنا البقاء حين غلبت سطوات القدم على الحدث بنعت تلاشي الحدث ، فيبقى القدم ولا يبقى العدم من يكون بعد عدمه في القدم ممن يدعي الأنائية ، ويخرج نفسه بعد فنائها من تحت أذيال الأحدية بوصف سمع الأزلي ، وبصر الأبدي ، وقلب الصمدي ، لا يكون للفاني في الباقي أثر ؛ فإنه ـ تعالى ـ قادر به بذلك ، منزّه عن النظير والعديل.

قال الترمذي : إن أخذ الله سمعكم عن فهم خطابه ، وأبصاركم عن الاعتبار بصنائع قدرته ، وختم على قلوبكم سلبكم معرفته ، هل أحد يقدر على فتح باب من هذه الأبواب

٣٥٨

سواه؟ كلا بل هو المبدي النعمة تفضلا ، ومتممها في الانتهاء تكرما.

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠))

قوله تعالى : (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي : من أيقن مني أني أعطي ولايتي لمن أطاعني ، وشاهد بقلبه حضرتي بعد تصديقه إلهامي في قلبه حين دعوته منه إليّ ، وأصلح مزاري وموضع تجليّ من قلبه وسره ، ما خرب من سابق هواجسات نفسه ، وركضات شيطانه بذكري وثنائي والاستعاذة مني إليّ ، فلا خوف عليه من احتجابي عنه ، ولا له حزن من انقطاعه عني.

قال بعضهم : من أخلص باطنه ، وأصلح ظاهره ، (فَلا خَوْفٌ) خوف القنوط ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) حزن القطيعة.

قوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) أي : هل يستوي الأعمى عن النظر إلى غير الذي لم يبق له عين من نفسه إلا من عيوني ، والبصير بنور ملكي وملكوتي ، أفلا تتفكرون بين الفاني والباقي عليّ ، وفيه شرف المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين تجرّد في العبودية ، وتفريد التوحيد بنفي الأنانية عن نفسه ، وإسقاط الحدث عن ساحة القدم حين أمر : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) ، ونزّه نبوته عن التكلف في اقتباس علم الغيب بالجد والسعد بقوله تعالى : (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) ، وتواضع حين أقام نفسه مقام الإنسانية بعد أن كان أشرف خلق الله من العرش إلى الثرى ، وأظهر من المكروبين والروحانيين على باب الله سبحانه خضوعا لجبروته ، وخشوعا في أبواب ملكوته.

وقوله تعالى : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) ، وليس لي اختيار في نبوتي ، (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) هل يكون من هذا وصفه بعد كونه بصيرا بنور الله ورآه به ، كالذي أعمي عن رؤية إحاطته بكل ذرة من العرش إلى الثرى؟! أفلا تتفكرون أن من ولد من العدم بصيرا بنور القدم ليس كمن ولد من العدم أعمى عن رؤية عظمته وجلاله!

قال بعضهم : الأعمى من عمي عن طريق رشده ، والقائم مع عبادته ، والبصير الناظر إلى منن الحق عليه ، وحسن توليته له ، أفلا يتفكرون في اختلاف السبيلين وتباين المذهبين.

قال الأستاذ : هل يتشاكل الضوء والظلام؟ وهل يتماثل الجحد والتوحيد؟ كلا أن

٣٥٩

يكون كذلك.

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١))

قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) أدق طريق معارفه ؛ حيث أسبل نقاب العظمة على وجه جلال القدم ، وضرب سرادق العزة على ساحات الكبرياء ؛ حتى لا يصل إلى إدراك كنه قدمه وبقاء ديموميته.

وبيّن ذلك في كلامه القديم ، أي : خوف بما وصفت نفسي بامتناعي عن مطالعة الخليقة وإدراكها سر حقيقة وجودي في كتابي وخطابي ، الذين يخافون من قطيعتي ، ويعلمون تنزيه جلالي عن أن يصل أحد إليّ بطاعته حين أحشر إليّ بعلل الإنسانية وسمات النفوسية ، إن الأمر هناك أجلّ من أن تخطر بخواطرهم ، وأدقّ من أن يفهم أحد ، فإن مكري قديم ، وصفتي تنزيه ، لو أحرق جميع المخلصين بنيران البعد بعد أن يكونوا من أهل القرب ، فلا أبالي فإن كيدي متين ، ولو يأتونني بملء السماوات والأرض إخلاصا ، وأريد أن أرفق عليهم بإخلاص الإخلاص لا يخلصهم إخلاصهم من دقائق حسابي.

وما أطلع عليهم من خطرات ضمائرهم المسيرة إلى غيري ، ولو أمنعهم مني من يتولى أمرهم بإرجاعهم إلى غيري ، وهذا معنى قوله تعالى : (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) لعلهم يتقدسون من نفوسهم بقدس تذكرتي وذكري لهم ، ويخافون مني بقلة خوفهم عني.

قال أبو عثمان : أهل المعاملات وأرباب الصدق في ذلك خائفون ممّا يبدو لهم من الإيمان والتوكل واليقين وأنواع العبادات ، وعرض ذلك على ربهم يشغلهم خوف ذلك من رؤية أفعالهم والتلذذ والاعتماد عليها ، قال الله تعالى : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ) ... الآية.

وقال أبو سعيد الخرّاز في الآية : (أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) : أن يجعلوا إليّ وسيلة أو شفيعا إلى نفسي سواي.

قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي : سمعت الأستاذ أبا سهل محمد بن سليمان يقول : لسنا مخاطبين بحقائق القرآن ، إنما المخاطب بحقيقته هم الذين وصفهم الله ، فقال : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ ...) الآية ، وقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧].

وقال الواسطي في قوله : (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) : من استقطعته المملكة عن الملك لا يصلح لخدمة الملك.

٣٦٠