تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٢

قوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) أخبر تعالى عن الصفتين القديمتين الصادرتين من الأزل للعموم والخصوص من الحدثان ، بفنائه استغنى عن طاعة المطيعين ، وبرحمته رحم كل العاصين ، حين لا ينفعه طاعة المطيعين ، ولا يضره عصيان العاصين ، ملابسة أقطار الحدثان من لطائف الإنعام من بحار رحمته مطر لطفه على الأنعام ، غناه أغنى العارفين عن الكونين ، ورحمته شملت كل العالمين ، فقال : سماع غناه يوجب محوهم ، وسماع رحمته يوجب صحوهم.

وقال الأستاذ : (الْغَنِيُ) يشير إلى غيره ، والرحمة تشير إلى لطفه ، أخبرهم بقوله : (الْغَنِيُ) عن جلاله ، وبقوله : (ذُو الرَّحْمَةِ) عن أفضاله ، فبجلاله يكاشفهم فيفنيهم ، وبأفضاله يلاطفهم فيحييهم.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) إن لله سبحانه في قلوب العارفين جنان ورد المشاهدات وعبر المكاشفات ، وزهر الجمال ، ونور الوصال وياسمين المودة ، ورياحين الزلفى ، فبعضها معروشات بكرم حقائق معاملاتها وحالاتها ، بحيث تلاصق ثمراتها إلى حضرة القديم ، وأنوار معارفها تسطع إلى سماء اليقين ؛ لقوله سبحانه : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] ، وذلك من جذب الله صميمها وأغصان أنوارها إلى قربه بقوة أزلية في إرفاعها إليه ، ويضع ثمراتها غير معروشة لبقائها على أشجار الهموم والفهوم ؛ ليتناولها كل طالب وكل مريد صادق ، تحلها هو الإيمان الثابت في أرض القلب ، وفرعها في عالم الملكوت ، قال تعالى : (أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) [إبراهيم : ٢٤] ، وزروعها تنبت فيها من بذر المحبة ، وهي مختلفة ثمراتها ، فمنها الأنس ، ومنها القدس ، ومنها الشوق ، ومنها العشق ، ومنها الخوف ، ومنها الرجاء ، ومنها العصمة ، ومنها المعرفة ، ومنها التوحيد ، ومنها التجريد ، وزيتونها إخلاصها ، تنبت من أنس الوصال بدهن نور الجمال ، وصبغ صبح الجلال متشابها في لباس الالتباس ، منبتها في منظر نور التجلي.

قال تعالى في وصفها : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ) [النور : ٥٣] ، ووصفها أيضا بقوله : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) [المؤمنون : ٢٠] ، ومن هاهنا خاطب كليمه يقوله : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) [القصص : ٣٠] ، ورمانها شجرة الإلهام الذي ثمره

٤٠١

حكمة الحقائق ولطائف الدقائق.

(مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) مقاماتها بعضها متدانية من بعضها ، وبعضها متباعدة من بعضها ؛ لأن بعضها معاملات وبعضها حالات واردات ، وبعضها مكاشفات ، وبعضها أسرار ، وبعضها أنوار ، فخاطبهم رب هذه البساتين بأن يستمتعوا بثمراتها ومنافعها لزيادة قوة الإيقان ونور الإيمان بقوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ).

ثم أمرهم بأن يعطوا زكاة هذه النعم المتواترة إلى المريدين الطالبين بإخراج لطائفها بنعت البيان على لسان العلم ، ونشر فضائل المقامات والحالات بقوله : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) أي : يوم أكملت الأحوال ، واستقيمت الأعمال بنعت التمكين والاستقامة.

ثم أمرهم بألا يبخلوا ، ولا يكتموا عن أهلها هذه النعم الغيبية المستفادة من لطف الله العزيز بقوله : (وَلا تُسْرِفُوا) فإن كتمانهم عن أهلها ظلم وإسراف (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (١) يعني : من كتمانها يكون محتجبا بعدها ، ما هذه البساتين ، ما أطيب ثمراتها! وما ألطف زهراتها! وما أعذب أنهارها! وما أشرق شموسها! وما أنور أقمارها! وما أزهر خضرتها! وما أكرم نضرتها! وما أحلى أصوات ألحان بلابل أشجارها حين ترنّمت بسبحاتي : وأنا الحق.

قال الأستاذ في تفسير هذه الآية : بساتين القلوب أتمّ من جنان الظاهر ، فأزهار القلوب مونقة ، وشموس الأسرار مشرقة ، وأنهار المعرفة زاخرة.

وقال : أما إخراج البعض فبيانه على لسان العلم وشهود المنعم في عين النعمة أتمّ من الشكر على وجود النعمة.

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

__________________

(١) الإسراف : ما تناولته لك ، ولو بقدر سمسمة ، ويقال : الإسراف هو التعدي عن حدّ الاضطرار فيما يتضمن نصيبا لك أو حظّا بأي وجه كان [تفسير القشيري (٢ / ٣٦٣)].

٤٠٢

الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦))

قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) أي : من قوى الإنسانية ما لا يحمل أثقال المجاهدات ، ومنها ما يحمل أثقال وقار الامتحانات ، فما يحمل الإنسانية يضعف تحت امتحان الله ، وما يحمل بقوى الربانية يكون مطية حمل أمانة المعرفة ، قال تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) [الأحزاب : ٧٢] ، ألا ترى قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ : «والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية ، وإنما قلعتها بقوة ربانية».

وقوله تعالى : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) للأشباح رزق ، وللأرواح رزق ، وللقلوب رزق ، وللعقول رزق ، وللأسرار رزق ، وأما رزق الأشباح فما استطابته من عالم الفعل بما وافقه العلم ، وأما رزق الأرواح فمشاهدة تجلي الصفات ، وأما رزق القلوب فما ينكشف لها من أنوار الغيوب ، وأما رزق العقول فما يلوح لها من سنا الآيات ، وأما رزق الأسرار فما تجلّى فيها من مكنون علوم الخاص في رؤية الذات.

قال الأستاذ : الرزق ما يحصل به الانتفاع ، وينقسم إلى رزق الظواهر والسرائر ، فهذا وجود النعم ، وذاك شهود الكرم ، بل الجمود في وجود العدم ، وللقلب رزق ، وهو التحقيق من حيث العرفان ، وللروح رزق ، وهو المحبة بصدق التجرد عن الأكوان ، وللسر رزق ، وهو الشهود ، والذي قرينه العيان.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠))

٤٠٣

قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ) فيه تسلية لقلب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأطماعه من الله سبحانه في إرجاع من سبق له في الأزل حسن عنايته إلى باب كرمه وعفوه وإن كان في صورة الامتحان ، أي : هو واسع الرحمة على الأكوان وأهلها ، يتحمل جفاء المدبرين ويواسيهم بما يصلح لأبدانهم من المعاش ، ويقبل على المقبلين ، فيربّي قلوبهم بلطائف خطابه وأنوار جماله.

وأيضا : رغّب الجمهور مع ما هم فيه إلى سواحل بحار لطفه ، وساحة جلال كرمه ؛ شوقا منه إلى وصول مصنوعاته من الأرواح والأشباح إليه ، وفيه مواساة قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : فإن جفوك فقل : (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ) بتخليصي وتخليص أوليائه عن جواركم إلى جواره الكريم.

قال سهل : قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أعرض عنك فرغّبه فيّ ، فإنه من رغب فينا ففيك رغب لا غير ، قال الله : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ) أطمعهم في الرحمة ، ولا تقطع قلبك عنهم.

قال الأستاذ : الإشارة فيه بيان تخصيصه الأولياء بالرحمة ، وتخصيص الأعداء بالطرد واللعنة ، فالصورة الإنسانية جامعة لهم ، والقسمة الأزلية فاصلة بينهم.

قوله تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) بيّن سبحانه أن ألسنة الإسرار وإن كانت فصيحة ناطقة بحجج الحكمة المستفادة المتلقفة من فلق إلهام الغيب عند مسامرتها مع الحق في الشهود ، فخرس عند بوادي حجج العدم ، ومناقشته عند لطائف العتاب ، أي : له حجة كاملة قاطعة ألسنة الخواطر عند وضوح بيان إشاراته في الإسرار ، وهذا المعنى لا يعرفه إلا أصحاب مسامرة ومحاضرة ، الذي خرج من نعوت الإنسانية عند شهود الغيب.

قال النصر ابادي : الخلق كلهم منعتهم شدة الحاجة عن معاني رؤية الحجة ، ولو أسقط عنهم الحاجات لكشف لهم براهين الحجة.

قال الحسين : لكل حجة حكم وأمر ونهي ، وبيان وسرّ ، وعلم ومعرفة ومشيئة ، فاعرفوا الله في كل مقام يتعرف إليكم في كل ساعة.

وقال الجنيد : آثار مشيئة الهداية تنبيه عند أهل الهدى.

وقوله تعالى : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أضاف علم البيان وهداية العرفان إلى مشيئته الأزلية ، يختص بعلم الإلهام والحجة والبرهان من يشاء من أهل الإيقان ، ومن لم يكن له استعداد رؤيته ومحبته وصلته لم يكن له حجج في أجوبته أهل الحقائق عند مجازاة الدقائق ونشر علوم الغيبة ، تظهر لأجنانه حجته ويبهم حجته ، ويبهم على قلوب المتكلفين إلهامه

٤٠٤

وبيانه.

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١))

قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) ، (الْفَواحِشَ) عرائس الدنيا ، ما ظاهر منها زينتها وخضرتها ، وما بطن حب الرياسة والجاه.

قال المحاسبي : الفواحش ما أريد بها غير الله.

قال بعضهم : ما ظهر من الفواحش في الأفعال هو الوفاء ، وما بطن منها الدعاوي الكاذبة.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩))

٤٠٥

قوله تعالى : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) إذا ادّعيتم مقام الولاية فاصدقوا بإلقاء نفوسكم إلى قناطر البلايا ؛ فإن الولاية مقرونة بالبلية.

وأيضا : إذا أخبرتم مني باللسان فكونوا حاضرين عندي بالجنان ، وإذا ذكرتموني بالظاهر فكونوا شاهدين مشاهدتي في الباطن ، وإذا شهدتم على معائب عبادي حين تعرفهم شأنها إياهم ، لا تفرغوا في الأمر بالمعروف ، ولا تخافوا عن لومة اللائمين بالنهي عن المنكر ، وكونوا عادلين فيه ، ولا تجاوزوا عن الحدود التي رسمتها في شرائعي.

قال أبو سليمان في هذه الآية : إذا تكلّمتم فتكلّموا بذكره.

وقال محمد بن حامد : العدل من الكلام ما لا يكون على صاحبه في ذلك بلغة ، عاجلا وآجلا.

وقوله تعالى : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) الوفاء بالعهد إقبال القلب إلى الله بلا إدبار بنعت المحبة والشوق حتى يصل إليه ، ولا يحتجب بشيء دونه ، ولا يختار عليه غيره.

قال الجوزجاني : العهود كثيرة ، وأحق العهود بالوفاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، تأمر نفسك بالمعروف ، فإن قبلت منك وإلا رضّها بالجوع والسهر وكثرة الذكر ومجالسة الصالحين ؛ لترغّب في المعروف غيرك ، وتنهي نفسك عن المنكر ، فإن قبلت وإلا فأدبها بالسياحة والتقطع والعزلة وقلّة الكلام وملازمته لتنتهي ، فإذا انتهيت فانه الناس عن المنكر.

لما شرع الله سبحانه شوارع الحقيقة ونصّب في سبيل معرفته الربوبية وصى عباده باللزوم فيها بنعت الصبر والرضا عند تحمل العناء والسياحة في بحر البلاء للوجدان والتزّين بلباس البقاء ، وكذا عقد الحقيقة عليهم ، وحجّ عليهم ؛ تمهيدا للعبودية ؛ وعرفانا للربوبية بقوله : (هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) صراطه المستقيم متابعة إلهامه وكلامه والشروع في عبوديته لغفرانه وطلب مشاهداته عند تقديس الخاطر عن غيره.

قال جعفر بن محمد : السلام طريق من القلب إلى الله بالإعراض عما سواه ، وأراد بالسبل هاهنا سبل الخطرات المذمومة والهوام النفسانية والوساوس الشيطانية ؛ فإنها مظلمة مفاوزها قاطعة لطريق الميريدين ، وسبيله سبيل الهدى وضوح شموس الصفات في جلال الآيات للعقول الصافية عن أكدار الخليفة.

قوله تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي : أعطى موسى ما خصّ به في المناجاة ؛ حيث يزيد كلامه القديم الذي بيّن له طريق معارف القدم

٤٠٦

وكواشف الذات والصفات حين تجلّى له ، ثم أعطى النور للعموم شريعة وبيانا بالمناهج العبودية ؛ لأنهم عند مشاهدة الجلال وسمع الخاص عند كلام الخاص بمعزل.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) وصف المفترين والمائلين عن الطريقة حقها على المريدين بذل النفوس وأمانتها بالمجاهدات والرياضات بأنهم لمّا فارقوا سبيل الحق وقعوا في أودية الباطل ، فصاروا فرق الدعاوى الهالكة ، فبعضهم زراقون ، وبعضهم طرارون ، وبعضهم متشابهة بزي الرجال ، وبعضهم متلبسون بقول الإبطال. قال فارس : لم يستقيموا لله على وتيرة واحدة.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣))

قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) من بقي على رؤية الأعمال فأجره بحساب ؛ لأن أجره من عالم الحدثان من نعيم الجنان ، ومن رفع بصره عن أعماله بنعت الخجل عند رؤية الرحمن أجره بغير حساب ؛ لأنه لطائف العرفان وموائد الإيقان ، وأصل الحسنة إخلاص العبودية عند ظهور الربوبية ، لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه» (١) ، هذا إحسان العارفين الذين أجرهم مشاهدة الله بلا نهاية.

قال بعضهم : من لاحظها من نفسه فعشر أمثالها ، ومن لاحظها من مواصلة الحق فهو الذي يصلي عليكم وملائكته والله يضاعف لمن يشاء.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) الصراط المستقيم هاهنا أغرب طريق في المعارف والكواشف ، هداه به نبيه إلى نفسه ؛ لأنه خاصّ بذلك من جميع الخلائق.

ألا ترى إلى قوله : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي) كيف خصّ هداية نفسه بالرب ، وذلك وقوع الأسرار في منازل الأنوار وطيران روحه في الملكوت والجبروت حين شاهده نور دنو الدنو بوصف الرؤية الكبرى وسامرات الأعلى بقوله : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٤٠٧

أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١)) [النجم : ٨ ، ٩ ، ١٠ ، ١١] ما رأى ما جاز عن سبيل القدم بعلّة الحدث ؛ لأنه كان محفوظا برعاية الأزلية وعناية الأبدية ، بلغ إلى أقوام الطرق في مشاعر الصفات ومشاعر الذات.

ألا ترى إلى قوله : (دِيناً قِيَماً) مستقيما له منزّها عن اعوجاج البشرية وطوارق التلوين ؛ لأنه بحجة المحبة وصراط النحلة التي سبلها جذبات الأزل ومكاشفات الأبد ؛ لقوله تعالى : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) يعني طريق محبة ملّة إبراهيم عليه‌السلام في خلته ، وإن كان هو مخصوصا بأغرب طريق المعارف من جميع الخلائق ، وصفه بالحنيفية المائلة في طريق المحبة عن غير الحبيب من تلك سبيله وصل إلى حبيبه ؛ لأنه مقدّس من شوك الشرك وغبار القطيعة بقوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) طريق المحبة والخلة واحد في نفس الاقتداء ؛ لأن معدنها عين القدم المنزّه عن كل علّة.

قال أبو عثمان : الصراط المستقيم الاقتداء والاتباع ، وترك الهوى والابتداع ، ألا تراه يقول : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣)) [النجم : ٣].

وقيل في قوله : (دِيناً قِيَماً) أي : سليما من الاعوجاج وهواجس النفس ، ووجود لذّة المراد فيه ، ولمّا وصفه عليه‌السلام باهتداء إلى جلاله وجمال وصفه بتنزيهه عن رؤية جميع الخلائق في عبادة خالقه ، أمره بتعريف حاله ، وقدس سنائه عن الإذاعة في الحدثان بقوله : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) صلواته وصلة ، وسجوده قربة ، وشهوده مشاهدة ، وركوعه وجد ، وقيامه حيرة ؛ لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قرّة عيني في الصلاة» (١) ؛ لأن قرة عينه ظهور مشاهدة الله في صلواته ، ولذلك أزه واردات تجلّي الجلال والجمال ، حتى قيل : كان يصلي ولحوقه أزيز كأزيز المرجل ، أي : هذه الصلاة لله لأنها مقدسة من رؤية غير الله فيها ، ومن مثابتها كانت لله خاصة لخصوصية صاحبها وشرفها على جميع الخلائق ، ولأن الصلاة عبادة ، والجهود كانت بالعرض إلا هذه الصلاة ؛ لأنها كانت فناء الحدث في القدم ، وقربان منهم روح الأول على باب الأزل بسيف المحبة والعشق شوقا إلى معدنه ، وهذا معنى قوله : (نُسُكِي) فإذا جعل وجوده قربان الأزل حيى بحياة القديم ، ثم فني في ظهور سطوات العزّة به ، كانت حياته ومماته ومثل هذه الحياة والممات والنسك والصلاة أن يكون لله رب العالمين لقدسها عن علة حظ الحدثان ، وخطرات علة النسيان.

__________________

(١) رواه النسائي في الكبرى (٥ / ٢٨٠).

٤٠٨

قال الواسطي : بيان هذه الآية في قوله سبحانه : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [النساء : ١٣١] ، فمن لاحظها من نفسه قصمته ، ومن تبرّأ منها عصمته ، كيف يجوز الوجدان بلا حظّ فضلا.

قيل : من علم أنه بالله علم أن لله ، فإن علم نفس لم يبق فيه نصيب لغير الله ، فهو مستسلم لحكم الله غير معترض على تقدير الله ، ولمّا كان عليه‌السلام بوصف ما ذكر حيث انفرد بفردانية الله أفرد نفسه لله بحيث لا يرى غير الله بقوله تعالى : (لا شَرِيكَ لَهُ) أي : لا رؤية للغير في البين في ظهور شمس جلاله من مطلع القلب.

قوله تعالى : (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) أي : هو يستحق لإفراد قدمه عن الحدوث ، ولا يستحق ذلك لغيره ، ومادام شأنه ذلك خصّ الله جوهره بأول الفطرة التي انقادت لعزته عند ظهور تجلي هيبته الأزلية لها.

قال سبحانه عقيب قوله : (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) إشارة إلى تقدم روحه وجوهره على جميع الكون وأهله في الحضرة حين خاطبه بالرسالة والولاية والمحبة والخلة ، فانقاد في أول الأول الأزلي الأبدي ، تعالى الله عما يقولون الظالمون علوّا كبيرا.

وأشار إلى ما ذكرنا قوله عليه‌السلام : «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين» (١) ، وقوله عليه‌السلام : «أول ما خلق الله نوري» (٢).

وقيل في قوله : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي : أسلمت لتصاريف قدرته متبرئا من حولي وقوتي ، مع أن التسليم في الحقيقة علّة ، ولمّا كان سابقا على جميع الخلائق في حضرة العزّة بنعت الانقياد بعز ربوبيته ، ومعرفته بجلال ديموميته ، أمره تعالى بأن يعرّف نفسه الشريفة المبرّأة عن علّة الحدثان لجميع الخلائق ؛ ليعرفه كل صادق ، ويطيعه كل محبّ موافق بقوله : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) أي : أنا في مشاهدة قدم الله أبغي ستائر على مشاهدته سواه ، حاشا من عظم شأنه أن يكون عوضا لجماله من العرش إلى الثرى.

قال الجوزجاني : أسواه أطلب حافظا وراعيا ووكيلا ، وهو الذي كفاني الهم وألهمني الرشد!

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي

__________________

(١) ذكره المناوي في فيض القدير (٥ / ٥٤).

(٢) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (١ / ٣١١).

٤٠٩

جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

قوله تعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) أي : ما عملت النفوس إلا ما ألزمت عليها في الأزل ، فإذا عملت ترجع إليها ؛ لأن خالقها منزّه عنها.

قال بعضهم : لا تكسب من خير وشرّ كل نفس إلا عليها ، أما الشرّ فهو مأخوذ به ، وأما الخير فهو مطلوب منه صحة قصده ، وخلوه من الرياء والعجب ، ورؤيته من نفسه والتزين به ، والافتخار به ، والاعتماد عليه ، والإحسان فيه ، فإذا حصلته وجدته عليه ، لا إله إلا أن يعفو الله عزوجل.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) أي : جعلتكم خزائن جودي من المعرفة والمحبة والولاية ، خلفاء العالم بعد مضي دهر الدهار ، وتقلب الفلك الدوار ، والقرون الماضية ممّن قسم له الرسالة والنبوة والملك والشرف ، وما كان لهم في السبق السابق ، وأول الأول ، ويكون لكم يا خلفاء الأنبياء والصديقين ، هو الذي جعلكم خلفاء في أرضه كآدم عليه‌السلام ، ونوح عليه‌السلام ، وإبراهيم عليه‌السلام ، وموسى عليه‌السلام ، وعيسى عليه‌السلام ، وزاد شرفكم بشرف نبيكم على الجمهور ، وقال عليه‌السلام : «نحن الآخرون السابقون» (١).

وبيّن تعالى هذه الآية أن النجباء والأولياء والأصفياء والأتقياء والأخيار والأوتاد والخلفاء يختلف بعضهم بعضا ، كما وصف عليه‌السلام الأبدال والأولياء في حديث مرويّ بقوله : «إذا مات واحد منهم أبدل الله مكانه واحدا» (٢) ، وصرّح بخطابه أن درجاتهم متفاوتة بقوله : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) لاقتداء البعض بالبعض ، وبقية أمانته وأمانه وحجته وبرهانه في العالمين للعاملين درجة بعضهم المعاملات ، ودرجة بعضهم الحالات ، ودرجة بعضهم المقامات ، ودرجة بعضهم المكاشفات ، ودرجة بعضهم المشاهدات ، ودرجة بعضهم الفراسات ، ودرجة بعضهم الكرامات ، ودرجة بعضهم المواجيد والواردات ، ودرجة بعضهم الحكميات ، ودرجة بعضهم الدنيات ، ودرجة بعضهم المعرفة ، ودرجة بعضهم التوحيد ، ودرجة بعضهم التلوين ، ودرجة بعضهم التمكين ، ودرجة بعضهم اليقين ، ودرجة بعضهم الفناء ، ودرجة بعضهم البقاء ، ودرجة بعضهم الحيرة ، ودرجة بعضهم الوله والغيبة ، ودرجة بعضهم السكر ، ودرجة بعضهم الصحو ، ودرجة بعضهم الاتصاف ، ودرجة بعضهم الاتحاد ،

__________________

(١) رواه البخاري (١ / ٩٤) ، ومسلم (٢ / ٥٨٦).

(٢) رواه أحمد في مسنده (١ / ١١٢).

٤١٠

ودرجة بعضهم الربوبية ، ودرجة بعضهم المعبودية ، وعلم العام وعلم الخاص ، وعلم العلم ، ومعرفة العلم والسر ، ومعرفة السرّ والخير ، ومعرفة الخير والعلم المجهول ، وما فوق ذلك إلا رسوم مندرسة وطرق منطمسة ؛ لأن هناك ظهور كنه القدم ، ولا يبقى مع القدم إلا القدم ، ابتلاهم بهذه المقامات لفناء علّة الحدث في القدم ، ومن خرج بنعوت الربوبية منها ويدعي بها يضرب ويصلب ويقتل ويحرق ، كما فعل بحسين بن منصور ـ قدّس الله روحه ـ ومن خرج منها بنعت العبودية وبقي بنعت الاستقامة كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث قال : «أنا العبد ، لا إله إلا الله» (١) عصم من فورة السكر ، وغفر له خطراتها في أثناء الطريق ، وهو قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

قال بعضهم : مخلف الولي وليّ ، والصديق صديق ، ويرفع درجات البعض على البعض ، ودرجات البعض بالبعض ؛ لئلا تخلو الأرض من حجة الله وأمانه.

قال بعضهم : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) (٢) : ليقتدي الأدنى بالأعلى ، ويتبع المريد درجة المراد ؛ ليصل إليه ، والله أعلم.

سورة الأعراف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥))

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) قال ابن عجيبة : من شرف هذا الآدمي أن جعله خليفة عنه في ملكه ، يتصرف فيه بنيابته عنه ، ثم إن هذا التصرف يتفاوت على قدر الهمم ، فبقدر ما ترتفع الهمة عن هذا العالم يقع للروح التصرف في هذا الوجود ، فالعوام إنما يتصرفون فيما ملّكهم الله من الأملاك الحسية ، والخواص يتصرفون بالهمة في الوجود بأسره ، وخواص الخواص يتصرفون بالله ، أمرهم بأمر الله ، إن قالوا لشيء : كن يكون بإذن الله ، مع إرادة الله وسابق علمه وقدره ، وإلا فالهمم لا تخرق أسوار الأقدار.

والحاصل : إن من بقي مع الأكوان شهودا وافتقارا ، كان محبوسا معها ، ومن كان مع المكون كانت الأكوان معه ، يتصرف فيها بإذن الله ، خليفة عنه فيها ، وهم متفاوتون في ذلك [البحر المديد (٢ / ٢٢٩)].

٤١١

(المص) كان الله سبحانه إذا أراد أن يتكلم مع نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصص الأنبياء ، وما جرى عليهم في الدهور والإعصار ، وشأنه معهم في الأسرار والحقائق والشرائع ، وأراد أن يخصه عليه‌السلام بشريعته ، وما يكون من طريقته الخاصة إلى حضرته ، وتحيّره ممّا كان وما يكون إشارة إلى هذه الأشياء له بحروف التهجي ، وأعلم سر ذلك محض الإشارة ولطيف الخطاب ، وعلم تعالى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرف بتلك الإشارة مراده من علم سابق ونبأ طارق ، وعلم تعالى أن عموم أمته لا تعرف تلك الإشارة فعبّر عنها بسورة طويلة من القرآن ؛ ليعرفوا مراده سبحانه من خطابه وخواص أمته ، ربما يطلع على سر بعضها كالصحابة والتابعين والمتقدمين من الأولياء والعلماء.

كانت حروف المقطعات رموز معاني سور القرآن لا يعرف تلك الرموز إلا الربانيون والأحبار من الصديقين ، فهذا الألف إشارة إلى آدم عليه‌السلام ، ألا ترى أن أول اسم آدم عليه‌السلام ألف إشارة ، الألف إلى حاله وقصته وبدو أمره وخلقته ، وعرضه على الملائكة ودخوله الجنة وخروجه منها ، وكان هو أصل الفطرة ، ومن تشعب منه فهو تابع له في الذكر ، وإشارة الألف إلى علم الأسماء بقوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) التي فيها أنباء جميع الذات والصفات والنعوت والأفعال ، وعلم ما كان وما سيكون عرّف نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما عرف آدم عليه‌السلام بجميع الأسماء بحروف الألف ؛ لأنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألطف الأولين والآخرين وأكرمهم على الله ، وعلى قدر قربه إشارة ألطف وأخفى وأخبر باللام ، هاهنا تعالى حبيبه قصة تجلاه لموسى عليه‌السلام والجبل ، وعرف بها تلك الأحوال الماضية.

ألا ترى إلى حرف اللام في التجلّي ، وعرّف بحروف الميم شأن موسى عليه‌السلام وقصته من أوله إلى آخره ، ألا ترى إلى حرف الميم مراسم موسى عليه‌السلام ، وعرف بحرف صاد هاهنا قصص نوح وهود عليه‌السلام وصالح عليه‌السلام وشعيب عليه‌السلام ولوط عليه‌السلام وجميع ما جرى عليهم من بدئهم إلى آخر أعمارهم ، وأخبر بحرف صاد صبرهم ، وتحملهم في بلائه وصدق محبتهم بالوفاء والصدق بالأعمال والأقوال ، وتصديق ذلك وهو أن تحت الحروف جميع الكتب مندرجة ما روي في الحديث عن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله سبحانه أعطى آدم عليه‌السلام حروف التهجي ، وكان كل حروف كتابا من الله تعالى إليه» (١).

وأيضا أخبر سبحانه بحرف الألف نبيه عليه‌السلام عن عين القدم ووحدانية نفسه المنزّه عن الاجتماع والافتراق ، وإصدار جميع المخلوقات منه ؛ لأنه تعالى مصدر جميع الوجود ، كما أن الألف مصدر جميع الحروف ، وأخبر بالألف سر الأسرار وصرف الأنوار ، وما كان في جميع الحروف من علم الأولين والآخرين ، وهذا أدق إشاراته إلى نبيه عليه‌السلام ثم زاد وضوحه بحرف

__________________

(١) ذكره ابن طاهر في «تذكرة الموضوعات» (ص ١٦٨).

٤١٢

اللام لترقيه خاطره وزيادة إدراكه ، ثم صرح الخطاب بحرف الميم وبيّن له بحرف الصاد ما كان في الأحرف الخاص ؛ لأن بحرف الصاد صفا جميع علومها له ، ثم عمّ العبارة للخلق بالسورة لقلة إدراكهم لعزّ الأسرار ولطائف ضمائر الإضمار ، وأيضا أخبره بلام ألف سر أوليّته ، وما في بحار أزليته.

ألا ترى كيف شقّ الألف من اللام لإخفاء الإشارة حتى لم يبق حديث العدم في القدم ، وكيف يكون لها من لام وألف ومعناها العدم ، فشقّ أحدهما عن الآخر حتى لا يكون حديث النفي ؛ لأن النفي علّة يقع على الحدثين ، وليس ذكر الحدثان في القدم أخبر بالألف عن أحدية الأولية ، وباللام عن الأزلية السرمدية ، وبالميم عن محبته القدمية ، وبالصاد عن صفاته القائمة بذاته الأبدي ، أخبر بالألف عن الذات ؛ لأنها عين الواحد ، ثم أخبر باللام والميم والصاد عن شمول صفاته القديمة ، الألف من الذات ، واللام من صفة الأزل ، والميم من صفة المحبة ، والصاد خير جميع الصفات.

قال محمد بن عيسى الهاشمي : سمعت من ابن عطاء أنه قال : لمّا خلق الله الأحرف جعل لها سرّا ، فلمّا خلق آدم عليه‌السلام بث فيه ذلك السر ولم يبثه في الملائكة ، فجرت الأحرف على لسان آدم عليه‌السلام بفنون الجريان وفنون اللغات جعله الله صوره لها.

وقال الحسين : الألف ألف المألوف ، واللام لام الآلاء ، والميم ميم الملك ، والصياد صاد الصدق.

وقال : في القرآن علم كل شيء ، وعلم القرآن في الأحرف التي في أوائل السور ، وعلم الحروف في لام ألف ، وعلم لام تلك في الألف ، وعلم الألف في النقطة ، وعلم النقطة في المعرفة الأصلية ، وعلم المعرفة الأصلية في الأزل ، وعلم الأزل في المشيئة ، وعلم المشيئة في غيب الهو ، وغيبه الهو ليس كمثله شيء.

وقال أبو محمد الجريري : أن لكل لفظ وحرف من الحروف مشرب فهم غير الأخر.

ومن شرّاح ذلك حين سمعه يقول : (المص) للألف عندهم فهم ، وللفهم في محضرهم استماع إلى حسن مخرج وطعم عذب موجود نظر إلى المتكلم ، وكذلك اللام حسن استماع ومخرج غير الألف وطعم فهم موجود ، وكذلك للميم حسن استماع من مخرج غير اللام وطعم فهم موجود ، والصاد حسن استماع إلى حسن مخرج وطعم فهم موجود غير الميم فممزوج ذلك كله بالملاحظة للمتكلم.

وقال الحسين : الألف ألف الأزل ، واللام لام الأبد ، والميم ما بينهما ، والصاد اتصال من اتصل به ، وانفصال من انفصل عنه ، وفي الحقيقة الاتصال والانفصال ، وهذه ألفاظ تجري

٤١٣

على حسب العبارات ومعادن الحق مصونة عن الألفاظ والعبارات.

وقوله تعالى : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ذكرت إن حروف الأسرار كتاب وتصديق ذلك قوله تعالى بعد قوله : (المص) ، (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي : هذه الحروف (المص) كتاب الأسرار أنزل إليك ، (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي : لا يكون في صدرك حرج نكرتها وقلّة إدراكها ، أي : فلا تخف أنك لا تعرف إشارتنا فيها ؛ فإنك مخصوص بعلم لطائفها ، وحقائقها وصدرك محل البسط بفسخه نور تجلّي جمالي ، فلا يكون فيه خرج القبض (١) ، وتصديق ذلك قوله : (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي : لهذه الأسرار لا يحتمل غيرك أنها لك وأن لك استعداد فهمها ، فلا يكون في صدرك همّ لأجلها ، فإنها تسهل فهمها عليك.

قال ابن عطاء في (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) : عهد خصصت به من بين الأنبياء أنك خاتم الرسل وعهدك خاتم العهود ؛ لتشرح به صدرك ، وتقربه عينا.

وقال الجنيد : فلا يكن في صدرك حرج منه لا يضيق قلبك بحمله وثقله ، فإن حمل الصفات ثقيلة إلا على من يؤيد بقول المشاهدة.

وقال النوري : إن أنوار الحقائق إذا وردت على السر ضاق عن حملها كالشمس يمنع شعاعها عن إدراك نهايتها.

قال القرشي : لمّا قصّ الله في هذه السورة قصة الكليم علم أن قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحرك ، لذلك قال : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) لأنه كلّم على الطور وكلّمت وراء الصور ، ومنع المشاهدة ورزقتها.

وقال الأستاذ : كتاب الأحباب تحفة الوقت وشفاء عمّا يقاسيه من ألم البعد.

وقال في قوله : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) : إشارة إلى حفظ قلبه عن كل قبض ، وقال : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) ولم يقل قلبك فإن قلبه عليه‌السلام في تجلّي الشهود ولذلك قال : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) [الحجر : ٩٧] ، ولم يقل قلبك ، ولذلك قال موسى عليه‌السلام : (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) [طه : ٢٥] ، وقال له : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] ، فإن القلب في محل الشهود ، وهو أبدا بدوم الأنس والقرب ،

__________________

(١) أي : ضيق وثقل من أجل تبليغه لمن يكذب به ، مخافة أن تكذّب فيه ، أو مخافة أن تقصر على القيام بتبليغه ، أو بحقوقه ، وتوجيه النهي إلى الحرج للمبالغة. البحر المديد (٢ / ٢٣١).

٤١٤

قال عليه‌السلام : «تنام عيناي ولا ينام قلبي» (١) ، وقال : «أسألك لذّة النظر» (٢).

وصاحب اللذّة لا يكون له حرج.

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩))

قوله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) أي : يسأل عن الأمة فهم الخطاب وقبوله بشرط الحرمة واستعماله بوصف المتابعة ، ونسأل الرسل أداء الرسالة في صورة كلام على قدر عقول الخلق شفقة على الأمة.

قال أبو حفص : لنسألن الذين أرسل عليهم سؤال تعنيف وتعذيب ولنسألنّ المرسلين سؤال الشريف وتقريب قوله سبحانه وتعالى : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) (٣) أي : لتخبرنهم حال المشتاقين إلى لقائنا ، وشأن المدبرين عن ساحة كبريائنا.

وأيضا : لتخبرنهم ما جرى عليهم ، وهم كانوا لا يعرفون حقائقه من آثار القهريات واللطفيات والموجودات والمعدومات.

(وَما كُنَّا غائِبِينَ) عن شهود المشتاقين ، وزفرات العارفين ، وعبرات العاشقين ، وجفاء المتكبرين ، فإنا قد علمنا في القدم ما كان في العدم.

قال ابن عطاء في قوله : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) : أي في حال عدمهم ووجودهم.

قوله تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) للحق سبحانه وتعالى موازين يزن بها الأحوال والأعمال ، يزن بميزان الإخلاص المعاملات ، ويزن بميزان الصدق الحالات ، فكل عمل عمل برؤية الأعواض ورؤية العمل والالتفات فيه إلى غير الله ، فهو ساقط عن محل القبول ، وكل حالة صاحبها موجب بها فهي ساقطة عن درجة الوصول ، فالنيات موازين المعاملات والصدق ميزان الحالات ، فمن هاهنا يزن نفسه بميزان الرياضات والمجاهدات ، ويزن قلبه بميزان المراقبات ، ويزن عقله بميزان الاعتبارات ، ويزن روحه بميزان المقامات ، ويزن سرّه بميزان المحاضرات ومطالعه الغيبيات ، ويزن صوره بميزان المعاملات ، الذي كفتاه الحقيقة

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١٣٠٨).

(٢) رواه النسائي (٣ / ٥٤).

(٣) أي : عنهم في حال من الأحوال فيخفى علينا شيء من أعمالهم وأحوالهم.

٤١٥

والطريقة ولسانه الشريعة وعموده العدل والإنصاف يوزن نفسه يوم القيامة بميزان الشرف ، ويوزن قلبه بميزان اللطف ، ويوزن عقله بميزان النور ، ويوزن روحه بميزان السرور ، ويوزن سره بميزان الوصول ، ويوزن صورته بميزان القبول ، فإذا ثقلت موازينه بما ذكرنا فجزاء نفسه الأمن من الفراق ، وجزاء قلبه مشاهدة مشوق في الأشواق ، وجزاء عقله مطالعات الصفات ، وجزاء روحه كشف أنوار الذات ، وجزاء سره إدراك أسرار القدميات ، وجزاء صورته الجلوس في مجالس وصال الأبديات.

وأيضا هاهنا لأهل الحق موازين ، ميزان الإرادة ، وميزان المحبة ، وميزان الشوق ، وميزان العشق ، وميزان المعرفة ، وميزان اليقين ، وميزان التوحيد ، فهذه سبعة موازين فينبغي أن يزن المريد نفسه في كل نفس بميزان الإرادة ، ويزن المحب قلبه في كل نفس بميزان المحبة ، ويزن المشتاقين عقله في كل نفس بميزان الشوق ، ويزن العاشق روحه في كل نفس بميزان العشق ، ويزان العارف سره في كل نفس بميزان المعرفة ، ويزن الموقن أنفاسه في كل نفس بميزان اليقين ، ويزن الموجد جميع وجوده بميزان التوحيد ، فيستوفي المريد بميزان إرادته عن نفسه انقيادها للحق عند جريان القضاء والقدر عليها ، ويستوفي المحب بميزان محبته عن قلبه شهوده في الحضرة بلا خطرات المذمومة ، والالتفاتات المشوبة بنعت النيات الصافية ، ويستوفي المشتاق بميزان شوقه من عقله جولانه في الشواهدات لطلب عرفان المشاهدات بلا فترة ولا رعونة ، ويستوفي العاشق بميزان عشقه من روحه طيرانها في الملكوت لطلب الجبروت ، ويستوفي العارف بميزان معرفته من سره إصغاء بنعت الشهود ؛ لكشوف أنوار الغيب ، وغوصه في بحر الهموم لطلب جوهر الإلهام ، ويستوفي الموقن بميزان اليقين من أنفاسه صعودها عند تنفسها إلى معارف القرب بلا هواجس اليقين وغبار الوسواس ، ويستوفي الموحد بميزان توحيده من جميع وجوده اضمحلاله في أنوار كبريائه القديم ، وفنائه في سبحات الأبد ، فمن ثقلت هذه الموازين أفلح عن حجبة الامتحانات ، وتنقل موازين الحضرة غدا بفيض أنوار صفات الحق ، ولطائف ذاته وكرامات قربته له ، فيفلح هناك بالله عن غير الله ويصير أهلا لله ؛ لأنه خرج عن موازين صفاته وأنوار ذاته بنعت المعرفة والتوحيد والمحبة ، فطوبى لهذا المحاسب طوبى له وحسن مآب.

قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في تفسير هذه الآية : ومن وزن نفسه بميزان العدل كان من المحبين ، ومن وزن خطراته وأنفاسه بميزان الحق اكتفى بمشاهدته ، والموازين مختلفة ، ميزان للنفس والروح ، وميزان للقلب والعقل ، وميزان للمعرفة والسرّ ، فميزان النفس والروح الأمر والنهي وكفتاه الكتاب والسّنة ، وميزان القلب والعقل والثواب والعقاب وكفتاه الوعد والوعيد ، وميزان المعرفة والسرّ الرضا والسخط وكفتاه الهرب والطلب.

٤١٦

وقال الأستاذ : يوزن أعمالهم بميزان الإخلاص وأحوالهم بميزان الصدق ، فمن كانت أعماله بالرياء مصحوبة لم يقبل أعماله ، ومن كانت أحواله بالإعجاب مشوبة لم يرفع أحواله ، وافهم يا صاحبي أن حكمة وزن الأعمال يوم القيامة للعباد أن الله يبيّن لهم ما كان مكتوبا في اللوح المحفوظ قبل الخلق مما يجري عليهم من القضاء والقدر ، والرضا والسخط ، والشقاوة والسعادة ، مقابلة بما جرى عليهم في الدنيا الذي في أوراق الحساب التي في أيدي الملائكة ليزيدهم برهانا وعيانا وعلما بعلمه المحيط على كل شيء ، وليكون حجة عليهم ، خرّج أعمالهم على وفق ما كان مكتوبا عليهم ، وافهم يا صاحبي أن الأعمال أعراض كيف تكون موزونة ليس هذا في علم الخلق أن ميزانه الحقيقي رده وقبوله ، وهو قادر أن يخرج الأعراض بصور الجواهر فيزن بميزانه الذي يظهره لهم يوم القيامة ، وذلك على لسان الشرع يوجب الإيمان به.

قال ابن عباس : توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفتان ، فأما المؤمن يؤتى بعمله في أحسن صورة فيوضع في كفة الميزان وهو الحق فيثقل حسناته على سيئاته ، فيوضع عمله في الجنة ، فيعرفها بعمله.

فذلك قوله تعالى : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : ٨] ، وهم أعرف بمنازلهم في الجنة إذا انصرفوا إليها من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم ، وأما الكفار فيؤتى بأعمالهم في أقبح صورة فتوضع في كفة الميزان وهي الباطل ؛ فيخف وزنه حتى تضع في النار ، ثم يقال للكافر : الحق بعملك.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) منّ الله على عباده بتمكينهم في الأرض بنعت لتسهيل عبادته ، حيث يسرّ لهم عبوديته بقدرة خلقها فيهم بعد أن كلفهم ذلك ، وجعل فيها لأبدانهم معايش الغذاء ،

٤١٧

ولقلوبهم معايش الذكر ، ولعقولهم معايش التفكر ، ولأرواحهم معايش روح رؤية ظهور جلاله في ملكوت الأرض من كل زهرة وحضرة ؛ لعرفان المنعم القديم بنعت عجزهم في شكره ، ثم زاد امتنانه عليهم بأنه تعالى أجادهم بأظرف الخلق وألطفه وأحسن الصور وأكرمها ، بقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أي : خلقنا أشباحكم جمعا في آدم عليه‌السلام ثم صورناكم في حواء ، وأيضا خلقنكم هياكل وصورناكم أرواحا ، وأيضا خلقناكم بالأفعال وصورناكم بالصفات ، وأيضا خلقناكم خلقكم بالأمر ، ثم صورناكم بظهور تجلي الصفات لكم ، فوقع الخلق بوقوع الأمر وترتيب الصور بوقوع تجلي بروز الصفات ، فتكونت الصور بنعوت الصفات ، وتكونت الهياكل بنعوت الأفعال ، وتكونت الأرواح من تجلّي الذات ، فيكون الجميع صادرة من العدم بنعت القدم.

ألا ترى كيف أشار عليه‌السلام فيه إلى سر المتشابهات حيث قال : «خلق الله آدم على صورته» (١) ، فجعل للأشباح طريق العبودية ، وجعل للأرواح طريق عرفان الربوبية ، وجعل للعقول طريق الملكوت ، وجعل للقلوب طريق الجبروت ، وجعل للأسرار طريق القدم والبقاء.

قال بعضهم : أبدع الله الهياكل وأظهرها على أخلاق شتى ، وصور مختلفة ، وجعل لكل شيء منها عيشا ، فعيش القلوب في الشهود ، وعيش النفوس في الوجود ، وعيش العبد معبوده ، وعيش الحواس الإخلاص ، وعيش الآخرة العلم ، وعيش الدنيا الجهل والإمارة والاغترار بها.

ولمّا صور الجميع في آدم عليه‌السلام بصورة آدم عليه‌السلام وصور آدم عليه‌السلام بصورة الصفات المنزّهة عن المشابهة بالحدثين هاهنا علما لا رسما ، وهاهنا عشقا لأشباهها أحدية وتوحيد وجمعا ، وتفرقة لا تشبيها ولا تعطيلا ، زينة بنور الصفات ونعت الأفعال ، ثم كساه أنوار الذات ، ثم قال للملائكة : اسجدوا له ، بقوله تعالى : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ؛ لأنه قبلة تجلّي الصفات والذات ، وهو مصور بصورة الملك في الملكوت قبل موضع استواء أنوار الذات ، وصورته موضع استواء أنوار الصفات ، وهيكله موضع استواء أنوار الأفعال ، وروحه موضع استواء أنوار المحبة ، وسره موضع استواء أنوار العلم والمعرفة.

(اسْجُدُوا لِآدَمَ) فإنه لكم واسطة في العبودية لا معرفة الربوبية واسطة في العبادة ، فإنه يليق بكم ، فإن في عبادتي لا يليق الكون ومن فيه ، وما فيه أظهر استغناؤه عن عبودية

__________________

(١) رواه البخاري (٥ / ٢٢٩٩) ، ومسلم (١ / ١٩٩).

٤١٨

الخلق ، لكن أدخل عشاق الملائكة في مقام المحبة والعشق فتجلّى لهم بنور جماله من مرآة وجه آدم عليه‌السلام ؛ ليفتر قلوبهم بلذّة المحبة والعشق ، ولو أبرز لهم أنوار صفاته وذاته صرفا احترقوا في أول ما بدا من نور الألوهية ، ولم يسجد إبليس لأنه كان محجوبا من ذلك الجلال والجمال بنظرة إلى نفسه وقياسه بجهله ، وكذا من نظر من الحق إلى النفس احتجب بها عن رب النفس.

قوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي : لم يكن من أهل شهود الصفات ورؤية جلال الذات.

قال أبو حفص : عرف الملائكة استغناءه عن عبادتهم ، قال : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، ولو كان سجودهم يزن عنده مثقال ذرة لما أمرهم بذلك ولا صرف وجوههم إلى آدم عليه‌السلام ، قال : سجود الملائكة وجميع خلقه لا يزيد في ملكه ؛ لأنه عزيز قبل أن خلقهم ، وعزيز بعد أن يفنيهم ، وعزيز حين يبعثهم ، ثم غيّر إبليس بامتناعه عن السجود لآدم عليه‌السلام وقلّة عرفانه ، شرفه بقوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) أي : أي شيء يمنعك من متابعة أمري ، ولم يبق في البين غيري ، أي : يمنعك من ذلك قهر سابق مني عليك ، وخذلان وارد في المشيئة عليك ، وإلا فمن الحدثان بامتناعها عن متابعة أمري ، وليس لها قدرة ولا مشيئة ، وكلها عاجزة في قبضة قهري ، ومن سبق له الشفاء لا يسبق بالمراد ، وإن كان جميع عبادة الثقلين مصحوبا معه في استباقه إلى الحضرة.

قال الواسطي : من استصحب كل نسك في الدنيا والآخرة والجهل فطنه ، والاعتراض عرضه ، والبعد من الله سببه ، لا يقرب منه ؛ لأن العبادات تقطع عن الرعايات ورؤية النسك رؤية الأفعال والنفوس ، ولا متوثب على الله أشد ممن طالع نفسه بعين الرضا ، فلمّا كلم الله إبليس بكلام التعبير وقهر السلطنة ألبسه من خطابه قدرة في الجواب ، ولولا إلباس الحق إياه لكان مبهوتا عند وارد قهر الخطاب عليه ، ولم ينطق بجواب الأمر ولكن أجابه إجبارا لا اختيارا ، وذلك قوله تعالى : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ). لمّا رأى المعلون لباس قهر خطاب الحق عليه قال بقوته : (أَنَا) ، ولولا ذلك لما قال : (أَنَا) ، وأين أنائيته وكان هباء في أنائية الحق ، نظر المعلون إلى جوهر النار الصادر من قهر العدم فانتسب إلى قهر القدم ، قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ، ولم ينظر بنظر المعرفة إلى الطين الذي صدر من لطف القدم ورحمة الأزلية ، النار من غضبه ، والطين من رحمته ، والرحمة سابقة على الغضب ؛ لقوله سبحانه : «سبقت رحمتي غضبي» (١).

__________________

(١) أي : يد تنزيه وتشبيه ، وإن شئت قلت يد وجوب وإمكان ، أو يد بخلاف سائر العالم ملكا وفلكا.

٤١٩

نظر إلى صفة واحدة ولم ينظر إلى صفة أخرى ؛ فاحتجب بالصفة عن الصفة فقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ، ولو رأى مصدر جميع الصفات لذاب تحت رؤية الكبرياء وأنوار العظمة ، ولم يكن بعد فنائه أبدا ؛ لأن من عرف وصف القدم صار عدما في القدم ، ولو رأى الملعون من وجه آدم عليه‌السلام ما رأى الملائكة ما قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) كان جاهلا به والملائكة كانوا عاشقين به ، غلط في قياسه ورؤيته إلى نفسه ، وأين النار من الطين الذي يقبض قبض ألطاف العزّة ومخلوق يد الصفة الخاصة بقوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] (١) ، وسقط الأرواح التي صدرت من تجلّي القدس بقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] ، وذلك محل التواضع والعبودية الخالصة ومنبت أجسام الأنبياء والرسل والأولياء والصديقين ، ومنبت أغذية الخلائق ومرجع الكل ، وهو بريقة الأجسام والأرواح في العالم ليخرج منه سبائك القدس لمجالس الأنس ، والنار عذاب قهره مجاز بها من خلقه ناريا كإبليس وجنوده ، قوته من أصله الذي كان منه ، كان من نار اللعنة فعداه باللعنة ، قال : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) [الحجر : ٣٥] ، كل شيء يرجع إلى أصله ، كان جاهلا بظاهر العلم بعد أن كان جاهلا بباطن العلم ولولا ذلك لم يسلك طريق القياس عند وقوع النص ، والنص غالب على القياس من جميع الجهات.

قال بعضهم : لمّا نظر إلى الجوهر والعبادة توهم المسكين أنه خير ، فسبب فساد النفوس من رؤية الطاعة.

وقيل : توهم أن الجواهر من الكون على مثله وشكله في الخلقة فضل من جهة الخلقة والجوهرية ، ولم يعلم ولم يتيقن أن الفضل من المتفضل دون الجوهرية.

وقال الواسطي : من لبس قميص النسك خامره أنا لذلك ، قال إبليس : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) [ص : ٧٦] ، ولو لم يقل خير منه لأهلكه قوله في المقابلة أنا.

قال ابن عطاء : حجب إبليس برؤية الفخر بنفسه عن التعظيم ، ولو رأى تعظيم الحق لم يعظم غيره ؛ لأن الحق إذا استولى على سرّ قهره فلم يترك فيه فضلا لغيره ، ولمّا رأى الملعون فضل آدم عليه‌السلام وذريته بالعلم الأسمائي وعرفان الصفاتي ، والمسابقة على الكل بعنايته الأزلية حسد عليهم وخرج على عدواتهم بعد طرده من باب الرحمة ، وتجاسر بجهله في مقابلة الحضرة بالمخاطبة بقوله : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) هاهنا قسم ، أي :

__________________

(١) رواه أحمد (٢ / ٢٤٢).

٤٢٠