تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٢

لا تحرقوا في نور الألوهية ، الأول خطاب القلب ، والثاني خطاب الروح ، والثالث خطاب العقل الأول وقوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ) قوله : (اللهُ) وقوله : (الَّذِي) ثم أنزلهم من الشهود إلى الشواهد ، وخاطبهم على قدر عقولهم حيث أحالهم من القدم إلى الحدث لعلمه لضعفهم عن حمل بوادي طارقات سطوات الوحدانية ، قال : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) جعل الآيات مرآة الصفات لأهل المشاهدات خلقها في ستة أيام ، أيام الله قضاء الله وقدره ، احضرها بأيام مخصوصة وهي الستة ، وكل يوم من أيامه ظهور صفة من صفاته ، من مطلع القدم طلعت للعدم لكون الحدث ، وهذه الأيام الستة ظهور ست صفات من صفاته ، أولها العلم ، والثاني القدرة ، والثالث السمع ، والرابع البصر ، والخامس الكلام ، والسادس الإرادة ، كملت الأشياء بظهور أنوار الصفات الستة ، ولما أتمّها صارت الحدثان كجسد آدم بلا روح من صفاته السابعة ، وهي حياته القديمة الأزلية الباقية المنزّهة عن همهمة الأنفاس ، والمشابهة والقياس ، فقامت الأشياء بصفاته القائمة بذاته ، ويكون الأبد لحياتها بروح حياته المقدسة عن الاتصال والانفصال ، وفي أدق الإشارة السماوات الرواح ، والأرض الأشباح ، والعرش القلوب.

بدأ بكشف الصفات للأرواح ، وبدأ بكشف الأفعال الأشباح ، ثم بدأ بكشف الذات للقلوب ؛ لأن مناظر القلوب محل الغيوب ، والغيوب من القلوب محل تجلّي استواء القدم استويّ قهر القدم بنعت الظهور للعدم ، ثم استويّ تجلّي الصفات على الأفعال ، واستويّ تجلّي الذات على الصفات ، فاستويّ بنفسه لنفسه على نفسه المنزّهة عن المباشرة بالحدثان والاتصال والانفصال عن الأكوان وبالأكوان ، الاستواء صفة ذاتية خارجة عن مطالعة الخليفة خصّ السماوات والأرض بتجلّي الصفات ، وخصّ العرش بتجلّي الذات السموات والأرض ، جسّد العالم والعرش قلب العالم والكرسي دماغ العالم ، خصّ الجميع بالأفعال والصفات ، وخصّ العرش بظهور الذات لأنه قلب الكل ، وهو غيب الرحمن وعلمه وحكمته ، رأيته في المكاشفة أنوار شعشعانية بلا جسم ولا مكان ولا صورة يتلألأ ، فسألت عن ذلك ، فقيل لى : هذا عالم يسمى عرشا.

قيل في التفسير : عرشه علمه ، كقول ابن عباس في تفسير قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) [البقرة : ٢٥٥] ، أي : وسع علمه ، ثم رجع إلى ذكر الأفعال لبقاء الأرواح والأشباح بقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) بدأ بذكر الليل لأنه ستر الأولياء ، وحجال الأصفياء ، وملجأ النقباء ، وخيام عرائس أهل المناجاة بلبس القبض البسط ؛ لأنها ضدان ويقبض ويبسط الليل قبض العارفين ، والنهار بسط المشاهدين

٤٤١

يكون أحدهما طالب الأخر لأن وصفه الحضور والغيبة من خفاء التجلّي ، وبدأ به الليل النفس ، والنهار القلب ، والشمس الروح ، والقمر العقل ، والنجوم المعلوم مسخرات في أسماء الملكوت ، وهو الجبروت بأمره بقدرته الكاملة وعزّته الشاملة ومحبته القديمة التي تؤلف أرواح القدسية إلى مشاهد الأزلية ، ثم أن الله سبحانه أضاف الكل إلى أمر مشيئته ونفاذ قدرته وأخرج الجميع من تكلف الحدثان وعلمه الأكوان بقوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) الخلق فعله ، والأمر صفته الخلق في الأشباح ، والأمر في الأرواح بنور الخلق سبب العقول وحيرها من أدرك كنه الآيات ، ويتجلّى الأمر جذب القلوب إلى عالم الصفات وعشقها بجمال الذات ، ثم أثنى على نفسه حيث تقتصر الإفهام عن وصف صفاته ، وتقصر الألسن عن البلوغ إلى مدح ذاته بقوله : (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي : تقدس عن كل ما يجري على خواطر خلقه رب العالمين رب الجميع بظهور صفته في خلقه ، ورب العارفين بظهور ذاته في صفته.

قال الأستاذ : في هذه الآية تعرف إلى الخلق بآياته الظاهرة الدالة على قدرته وهي أفعاله وتعرف إلى الخواص منهم بآياته الدالة على نصرته التي هي أفضاله وإقباله ، وظهر لأسرار خواص الخاص بنعوته الذاتية التي هي جماله وجلاله ، فشتان بين قوم وبين قوم.

قال الواسطي في قوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ) : والأمر إذا كان له فمنه وبه وإليه ؛ لأن الأمر صفة الأمر ، ولما عرفهم إعلام الربوبية أمرهم بخالص العبودية ، وأدبهم فيها بأحسن التأديب بقولها : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) فإذا عرفتم نعوت الكبرياء وجلال العظمة وعزّ القدم والبقاء ، كونوا في رؤية هذه الصفات عند احتياجكم إلينا بنعت الفناء بحيث لا طلع على أسراركم نفوسكم ، فإن دعوة المضطر تقع على سامع الغيوب حين هاجت بوصف اللطف من لسان القلوب ، وأن أصفى الوقت في التضرع ودعوة الخفية وذكر الخفي الذي وصفه عليه‌السلام بالخيرية ، حيث قال : «خير الذكر الخفي» (١).

وقال أبو عثمان : التضرع في الدعاء أن لا تقدم إليه أفعالك وصلواتك وصيامك وقراءاتك ، ثم تدعو على أثره إنما التضرع أن تقدم افتقارك وعجزك وضرورتك وفاقتك وقلّة حيلتك ثم تدعو بلا علّة ولا سبب فترفع دعاءك.

وقال الواسطي : تضرعا بذل العبودية وخلع الاستطالة خفية ، أي : أخف ذكرى صيانة عن غيري ، ألا تراه بقول : «خير الذكر الخفي» (٢).

__________________

(١) رواه ابن حبان (٣ / ٩١).

(٢) تقدم في سابقه.

٤٤٢

وأفهم أن الدعاء مقامات ، فبعضهم يدعوه بلسان الظاهر ، وبعضهم يدعوه بلسان الباطن ، وبعضهم يدعوه بإشارة العقل ، وبعضهم يدعوه بإشارة القلب ، وبعضهم يدعوه بإشارة الروح ، وبعضهم يدعوه بإشارة السر ، نعت أهل الظاهر التضرع ، ونعت أهل الباطن الافتقار والتخشع ، ونعت أهل العقل الفكر ، ونعت أهل القلب الذكر ، ونعت أهل الروح الشوق ، ونعت أهل السرّ الفناء ، يدعونه بالإذن ولا يكون الإذن في الدعاء إلا في مقامين مقام القبض ومقام البسط ، الدعاء في مقام القبض بنعت العبودية ، والدعاء في مقام البسط الحكم والانبساط من إدراك مباشرة صولة الربوبية ، ولا بدّ للعارفين من هذين المقامين ، والدعاء على أحوال شيء ، دعاء أهل البلاء لكشف الهموم ، ودعاء أهل النعمة لكشف الوجود ، ودعاء المحبين لتسلّي القلوب ، ودعاء المشتاقين للبلوغ إلى الوصول ، ودعاء العاشقين لنيل المأمول ، ودعاء العارفين لوجدان البقاء ، ودعاء الموحدين لمحوهم في الفناء ، وفيه أنس المستأنسين وتضرع العارفين وبهاء المحبين وزيادة قرة عيون الموحدين ، ما أطيب ألحانهم في السجود لكشف مشاهدة الموجود ، وما أحلى روح طيب مناجاتهم بالعبرات وحركات ضمائرهم بالزفرات.

قال الأستاذ : ما أخلص عبد في دعائه إلا روح الله سبحانه في الوقت قلبه ، ثم حذرهم عن الرجوع من الأعلى إلى الأدنى ، ومن متابعة الحق إلى متابعة النفس من تخريب أرض القلب بمسحاة الهوى بعد إصلاحها بصفاء المراقبة والحضور والمشاهدة بقوله : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها).

قال الأستاذ : إمهال النفس عن المجاهدات والرجوع إلى الحظوظ بعد القيام بالحقوق ، فساد الأرض بعد إصلاحها فيه ، ثم زاد سبحانه في آداب الدعاء وقرن بالتواضع والإخلاص فيه مقام الخوف والرجاء بقوله : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي : أدعوه بوصف الإجلال في رؤية جلاله ، وبنعت البسط في رؤية جماله فإن حقيقة الدعاء في الشهود الرجل في العبودية لمعرفة الربوبية ، والسرور من رجاء الوصول إلى المقصود.

وأيضا : (وَادْعُوهُ خَوْفاً) من إطلاعه على جريان كل مأمول سواه في القلب ، أي خافوا من طيران ذكر الحدث في رؤية القدم ، (وَطَمَعاً) معناه الطمع في مقام من قربه أشرف من مقام الدعاء ؛ لأن الدعاء وسيلة ؛ فإذا حصل الوصول انقطع الوسيلة ، وأيضا خوفا من رد الدعاء ، وطمعا في استجابة الدعاء ، وبيّن تعالى أن من كان هذا وصفه يكون من المحسنين

٤٤٣

الذين يقربون منه بقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (١).

قيل في قوله : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي : خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه.

وقيل : خوفا من بعده وطمعا في قربه.

وقيل : خوفا من أعراضه وطمعا في إقباله.

وقيل : خوفا منه وطمعا فيه.

قيل : المحسن من كان حاضر بقلبه غير لاه عن ربه ولا ناس لحقه.

ثم وصف الله نفسه بإنشاء مبشرات قربه من بطنان غيبة لوصول النسائم ورد مشاهدته إلى مشام أرواح عاشقيه ، وأفئدة مشتاقيه ، وأسرار وصليه ، وقلوب محبيه ، والباب مريديه.

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨) لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣))

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) يرسل نسيم وصاله في أسحار أصباح طلوع جلاله إلى مشام المستأنسين بشهوده في سجودهم لزيادة عطش شوقهم إلى وابل بحر مشاهدته من سحائب قربته وزلفته قدام ظهور سحاب صفاته التي تتجلّى من بحر ذاته للأرواح العاشقة ، وتسقيها من بروق الوداد ما لا يستقر بشربها الأرواح في الأكوان والحدثان ، بل تطير في فضاء البقاء وهواء القدم بأجنحة الآزال والآباد أظهر بلطفه ومحبته رياح تجلّي الصفات قبل ظهور تجلّي الذات ؛ لإعلام قوانيط القبض ببروز

__________________

(١) مصدران في موقع الحال أي خائفين من الرد لقصور أعمالكم وعدم استحقاقكم وطامعين في إجابته تفضلا وإحسانا لفرط رحمته. تفسير حقي (٤ / ١٦٩).

٤٤٤

سحاب تجلي الذات لأحياء بلادة قلوبهم الميتة بجذب كشف القدم بقوله : (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) لا يستقل حمل أثقال تجلّي الذات إلا رياح تجلّي الصفات ، ولا يقدر سوق أنوار القدم إلا القدم ، ولا يقدر سقي زلال بحر الآزال إلى عطاش شراب الحيرة إلا الأزل ، ولا يقدر أن يخرج من بلاد القلوب ثمار أشجار الغيوب إلا علام الغيوب بقوله : (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ثمرات المقامات والحالات والمكاشفات والمشاهدات.

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد

لقد زادني مسراك وجدا على وجد

قال بعضهم : كل ريح تنسم نوعا من الرحمة ؛ فريح التوبة تنشر على القلب رحمة المحبة ، وريح الخوف تنشر رحمة الهيبة ، وريح الرجاء تنشر رحمته الأنس ، وريح القرب تنشر برحمته الشوق ، وريح الشوق تنشر نيران القلق والوله ، قال الله : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ).

قال الأستاذ : تباشر التقرب بتقديم فينادي نسيمه إلى مشام الأسرار.

قال قائلهم :

ولقد تنسمت الرياح لحاجتي

فإذا لها من راحتيك نسيم

وقال الأستاذ في قوله حتى إذا قلت : (سَحاباً ثِقالاً) الإشارة تحصل لمهجور تمادى به الصد وبرح به الوجد وأنحل جسمه ، بل أبطل كله البعد فيأتيه بشير القرب فيعود عودا ووصله بعد الذبول طريا وبصيرا وأرس حاله عقب السقوط قويا كما قال قائلهم :

كنّا كمن ألبس أكفانه

وقرب النّعش من الملحد

فحال ماء الروح في جسمه

فردّه الأصل إلى المولد

تبارك الله سبحانه ماكرهم هو بالسرمد ، وذكر سبحانه القلب الذي هو بلد الله الذي مطر عليه من بحر امتنانه ، ويخرج منه نبات ألوان الحالات والمقامات ، ويذكر ما هو بخلافه الذي فيه سجة الشهوات وشوك حظوظ البشريات بقوله : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) إلا يا أخي أرض القلوب تنبت أزهار المواجيد ورياحين المواريد بقدر كشوف أنوار الصفات والذات ، فكل قلب بذرة المحبة فنباته المشاهدة ، وكل قلب بذرة الشوق فنباته الأنس والوصال ، وكل قلب بذرة العشق ونباته كشوف الجلال والجمال ، وكل قلب بذرة الهوى فنباته الشهوات ؛ فالقلب المنور يظهر على الجوارح آثار المحبة وهي الموافقة ، وكل قلب مظلم يظهر بالظاهر آثاره وهي المخالفة.

٤٤٥

ثم أشار تعالى إلى تبديل الأخلاق ونشر الأفضال وثبوت المقامات وطيران الأحوال بالإرادة السابقة والمشيئة الأزلية المنزّهة عن التغاير في التدبير ، بل هو موصوف بأصل التقدير بقوله : (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) لقوم يعرفون المشكور قبل وجود الآلاء والنعماء ، يجدونه شاكر أنعامه بنفسه فيخجلون عن شكره بعرفانهم بعجزهم عن محل شكره.

قال أبو عثمان : أسعد الطيب مثل قلب المؤمن التقي يخرج نباته بإذن ربه يظهر على الجوارح أنوار الطاعات والزينة بالإخلاص والذي خبث قلب الكافر لا يظهر منه إلا النكد والشؤم والظلمات على الجوارح من إظهار المخالفات.

وقال الواسطي : البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه أي بتوليه ، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا حجب عن التجلّي والخطاب كذلك نصرف الآيات ، كذلك تحرق الشمس طوائف من النبات وتنبتها وتغذي طوائف من النبات وتطيبها ، وذلك على قدر جوهرها ، كما أن بإرادة واحدة ظهرت المخالفات والموافقات.

قال بعضهم : البلد الطيب الذي طيبها بدوام الأمن وعدل السلطان.

ويقال : النسيم الساطع يدل إلى الجوهر اللازم ، إن خبث الجوهر لم يطلب ما لم يحل منه وإن طاب العنصر ، فالحر يحاكي أصله ، والأسرة تدل على السريرة ، فمن صفا ساكن قلبه زكي ظاهر فعله ، ومن كان بالعكس فحاله بالصد.

وقال الأستاذ : وإذا زكى الأصل بماء الفرع.

قال بعضهم : هو قلب المؤمن الذي طهره الله وطيبه طهر الله الروح بماء القربة ، وطيبه بطيب الكرامة ، وطهر القلب بماء العلم ، وطيب السرّ بنور المعرفة ، وطهر اللسان بالصدق والذكر ، وطهر الجوارح بماء العظمة وطيبتها بنور التوفيق.

قوله تعالى : (وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أعرّفكم طريق عرفان ربكم وأرشدكم إلى مشاهدة ربكم وتعطفه ولعلمه على عباده.

واعلم من الله من لطائف بره وجميل عطفه وكشوف صفاته وجمال ذاته وحلاوة مشاهدته ، ولذيذ خطابه ما لا تعرفونها ، ما وصل إليه يكون في ملك لا يبلى وسعادة لا تفنى ، ومن حرم من الوصول إليه يكون في بلاء وحجاب وضلال ، لا ينقضي محبها أبدا.

قال بعضهم : أنصح لكم أدلكم على طريق رشدكم ، واعلم من الله ما لا تعلمون من سعة رحمته قبول التوبة لمن رجع إليه بالإخلاص.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ

٤٤٦

غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨))

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) (١) أي : محجوبين عن مشاهدة الله ومبعدين عن ذوق محبة الله غير مبصرين ببصائر الأسرار أنوار صفات الله وذاته التي يظهر من كل ذرة سطوعها.

قال ابن عطاء : ضالين عن طريق الحق.

وقال بعضهم : متثاقلين في القيام إلى الطاعات.

وقال بعضهم : عميت أبصارهم عن النظر إلى الكون برؤية الاعتبار ونظرهم نظر مراد وشهوة.

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ

__________________

(١) أصله عميين جمع عم ، وأصله عمى على وزن خضر فأعل كإعلال قاض. قال أهل اللغة : يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر والمعنى عمين قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد غير مستبصرين وهذا العمى مانع عن رؤية الآيات ومشاهدة البينات. تفسير حقي (٤ / ١٧٩).

٤٤٧

قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ

٤٤٨

لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥))

قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : فاذكر نعم الله في اصطناعه في حسن تصويركم وإلباسكم جمال فعله حتى تكونوا في أحسن خلق وأظرف نعت وظهره لكم بأوضح الآيات وأنوار علاماته الدالة إلى وجوده لعلكم تفوزون من بعده ، وتظفرون بقربه وأفهم أن رؤية النعمة يوجب الشكر ، ورؤية الآلاء توجب الذكر ، ورؤية المذكور والمنعم توجب المحبة.

قال الواسطي : العامة تحبه على النعماء ذلك في قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [المائدة : ١١] ، والخاصة تحبه على الآلاء ، وذلك في قوله : (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) والأكابر تحبه على الإيثار والربوبية ، ولكل علامة فعلامة الأولى دوام الذكر له والفرج به ، والثانية الاستئناس به لرؤية ما أبعده منه ، والثالثة الاشتغال به أن كل قاطع يقطع عنه.

وقال ابن عطاء : إذا ذكرت آلائه ونعمائه أحببته ، وإذا أحببته قصدته ، وإذا قصدته وجدته ، وإذا وجدته انقطعت إليه ، ونقول عند المشايخ لو أن القوم من أهل خالصة محبته ما أحالهم إلى رؤية الآلاء بل خاطبهم برؤية الذات والصفات.

ألا ترى كيف خصّ خواص المحبين بخطاب رؤيته وإصرافه إلى مشاهدته بقول الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) [الفرقان : ٤٥] لأن محبة الآلائية والنعمائية محبة معلولة كونية ، إذ كونها بسبب حدثي وخالص المحبة ما تصدر من مشاهدة جلاله وجماله ، وكيف يصل إليه من كان سبب حاله ومعرفته ومحبته رؤية الآلاء والنعماء أوقعهم في بداية الذكر.

قال : فأذكر وأجعل لقاءهم منتهى وهو درجة النجاة من العذاب ، ولو كانوا محققين ما خاطبهم بذكر غيره وصفه أفعاله.

وقوله : (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) (١) أي : أنا بعد أن خرجت من حظوظ نفسي وخصني الله برسالة ، وطهرني من شوائب الطبيعة ، وعرفني طريق محبته وخدمته ، وأعرفكم تلك الطريق المباركة شفقة ونصيحة وأنا أمين فيها ؛ حيث لا سبيل للشيطان في نصيحتي بالتهمة

__________________

(١) قال سهل : ومن لم ينصح الله في نفسه ولم ينصحه في خلقه هلك ، ونصيحة الخلق أشد من النفس ، وأدنى نصيحة النفس الشكر ، وهو ألا يعصى الله تعالى بنعمه. وقال أيضا : النصيحة ألا تدخل في شيء لا تملك صلاحه. تفسير التستري (١ / ١٦٢).

٤٤٩

التي هي من صفات من يميل قلبه إلى غير الله.

قال أبو حفص : الناصح الأمين الذي لا يكون له في نصيحته حظ لنفسه ولا طلب جاهه وإنما يكون مراده منه قبول النصيحة والنجاة بها.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤))

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ولو أنهم شاهدوا ملكوتي واتقوا سوى جبروتي لتفتح على أرض قلوبهم أنوار مشاهدة صفاتي وذاتي حتى يروني في ملكوت الأرض والسماء بصفة اللطف والجمال ، وتنبت في صحاري قلوبهم رياحين الزلفة والقربة والشوق والعشق والمحبة واليقين والتجريد والمعرفة.

قيل : معناه لو أنهم صدقوا وعدي واتقوا مخالفتي ؛ لنورت قلوبهم بمشاهدتي وهي بركة السماء ، وزينت جوارحهم بخدمتي وهي بركة الأرض وقوله تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) لله بكل قوم مكر ، فمكره بالعموم ممزوج بالقهر ، وهو أن يعطيهم أسباب العبودية ، ولم يوفقهم بها ويعطيهم لسان الشكر ، ولا يعرفهم حقائق استدراجه بسلب النعمة عنهم وأخلاهم بلا نعمة ولا شكر ، ومكره بالخصوص أن يلذّذ ما وجدوا منه في قلوبهم ، ويحجبهم بتلك الحلاوة عن إدراك ما فوق مقاماتهم من مكاشفة الغيوب في القلوب ، ومكره بالمحبين والعاشقين ظهور الصفات في الآيات وهو مقام الالتباس ، ومكره بالعارفين والموحدين أن يريهم نفسه على قدر قوة المعرفة والتوحيد ، ولا

٤٥٠

يعرفهم مكان المكر هناك بأن يعملوا أن ما وجدوا منه عندما لم يجدوا منه كقطرة في بحار ، وذلك من حلاوة مباشرة أنوار القدم والبقاء في أسرار أرواحهم وقلوبهم وعقولهم ، ولو أطلعوا على حقائق مكره ، حيث حجبهم به عنه لذابوا من الحياء تحت أنوار سلطان كبريائه وعظمته ، ومكره بأهل الاتحاد أن يريهم جلاله وجماله في مرآة قلوبهم ، فيرونه بحسن الأزل وجمال الأبد بنعت فنائهم فيه ، فيبقيهم به من حد الفناء ، فيرون أنفسهم كأنهم هو من حدة مباشرة الصفة بالفعل ، فيتحجب عليهم ويبقيهم في حلاوة تأثير أنوار الصفات فيرون أنفسهم في محل الربوبية فيدعون هناك بالأنائية (كالحسين بن منصور) و (أبي يزيد) ـ قدس الله روحهما ـ فهناك أخفى المكر وألطف الاستدراج ، ولولا فضله وكرامته عليهم لأبقاهم فيما هم فيه ولكن بلطفه الخفي وإنعامه الجلّي أخرجهم من ذلك ، وأغرقهم في بحار عظمته حتى أقروا بأنهم ليسوا على شيء منه ، وأنهم في أول درجة من عبوديته.

ألا ترى إلى قول أبي يزيد في آخر عمره حيث قال : ما ذكرتك إلا عن غفلة ، ولا عبدتك إلا عن فترة.

وإلى قول حسين بن منصور في وقت قتله قال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ، وهذا لطف الله نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث حرسه من هذا المكر الخفي في مقام رؤية الأعلى وشهود قاب قوسين وأدنى بقوله : «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (١) ، ذوّقه طعم الربوبية وأوقفه في مقام العبودية ، حتى افتخر بعبوديته بعد وجدان ربوبيته بقوله : «أنا العبد لا إله إلا الله» (٢) ، وكل صنيع منه لطيف بأوليائه أن مكر بهم وأن لم يمكر بهم ، ومن نجا من مكره والكل في قبضة العزّة متحيرون ، وكيف يأمن به منه من يعرفه بالربوبية ويعرف نفسه بالعبودية.

حكي أن رجلا سأل الشبلي عن معنى مكر الله ، فأنشد الشبلي بقوله :

أحبّك لا ببعضي بل بكلّي

وإن لم يبق حبّك بي حراكا

ويسمج من سواك الشيء عندي

فتفعله فيحسن منك ذاكا

فقال سائل : أسأل عن آيات من كتاب الله ، وتجيبني ببيت شعر فعلم الشبلي إنه لم يفطن ما قال.

فقال : يا هذا مكره بهم تركه إياهم على ما هم فيه.

قال الحسين : لا يأمن من المكر إلا من هو غريق في المكر ، فلا يرى المكر به مكرا ، وأما

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ٣٥٨).

(٢) تقدم تخريجه.

٤٥١

أهل اليقظة فإنهم يخافون المكر في جميع الأحوال إذ السوابق جارية والعواقب خفية.

وقال أيضا : من لا يرى الكل تلبيسا كان المكر منه قريبا.

قال أبو الخير الديلمي : كنت يوما عند الجنيد فارتعدت فرائصه ، وتغير لونه وبكى ، وقال : ما أخوفني أن يأخذني الله ، قال له بعض أصحابنا : نتكلم في درجات الراضين وأحوال المشتاقين ، قال : يا بني إياك أن تأمن مكر الله ، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

قال سهل : المكر تدبير الله بسابق العلم فلا ينبغي لأحد أن يأمن مكره ، وذلك أن من يأمن مكر الله بدفع القدرة ، ولا يجوز أن يخرج نفسه من قدرة الله عليه.

وقوله تعالى : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) كأن هذه الآية أنزلت في شأننا مع هؤلاء البطالين الذين سلكوا الطريقة وأخطأوا بما وجدوا فيها من الجاه والمال ، ونقضوا عهد الإرادة واشتغلوا بالرياسة وخانوا في الطريقة وأنكروا على المشايخ ، أعمى الله قلوبهم ما أشد إنكارهم على أهل الحق وما أشد خروجهم عن طريق الحق ، جمعهم الله في الاستدراج وطردتهم عن أنوار المنهاج كأنه تعالى عاتب الجهور حيث لم يفوا عهد الأزل ، حيث وقف الكل على ما وجدوا ، وهكذا شأن ما ألتفت في مشاهدة المحبوب إلى غير المحبوب ، ولكن هم معذورون لأن الحدثان لا يستثقل أثقال محامل الكبرياء ومطايا القدم ، والبقاء في أودية الفناء.

قال الجنيد : أحسن العباد حالا من وقف مع الله على حفظ الحدود ، والوفاء بالعهود. وقال الله تعالى : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) (١).

قال الأستاذ : نجم في العذر طارقهم ، وأقل من سماء الوفاء شارقهم فعدم أكثرهم رعاية العهد وحق لهم من الحق قسمة الرد والصد.

ويقال : شكا عن أكثرهم إلى أقلهم ، فالأكثرون من رده القسمة ، والأقلون من قبلتهم الوصلة.

(حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦)

__________________

(١) وذكر في أول التي تليها تنازعهم في الأنفال تحذيرا لهم من أن يكونوا من الأكثر المذمومين في هذه ، هذا بخلاف المقصود من سياق قصص بني إسرائيل في البقرة ، فإنه هناك للاستجلاب للإيمان بالتذكير بالنعم ، لأن ذلك في سياق خطابة سبحانه لجميع الناس بقوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [البقرة : ٢١] (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] وما شاكله من الاستعطاف بتعداد النعم ودفع النقم والله أعلم. نظم الدرر (٣ / ٢٦٥).

٤٥٢

فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣))

قوله تعالى : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) لما تعاين معجزته وثبت سلطانه تكلم بالانبساط وتلفظ بالهيبة وادعى بالحقيقة ؛ لأنه كان في مشهد القرب والمشاهدة ، وأخبر أنه ينطق بالحق للحق في الحق مع الحق ؛ لأن الحق كان ينطق بلسانه وما نطق إلا بما يليق بالحق ، ومن بلغ مقام الحقيقة فيظهر الحق منه ، للحق فجميع حركاته وسكونه ونطقه وسكوته قام بالحق بوصف المشاهدة لا بوصف الغيبة.

قال ابن عطاء : من تحقق بالحق ؛ فإنه لا يقول على الحق إلا بما يليق بالحق.

وقال الخراز : سبيل الواصلين إلى الله لا يتكلم إلا عن الحق ، ولا يسمع إلا من الحق ولا ينطق إلا بحق ، فإن حقائق الحق إذا استولت على أسرار المتحققين أسقطت عنهم سوى الحق ولا يبلغ أحد من هذه الدرجات شيئا حتى يستوفي الحق أوقاته عليه ومنه فيبقى ولا وقت له ولا حال حينئذ ، والله أعلم.

وقال الأستاذ : من إذا لم يصح له أن يقول على الحق إلا الحق والخلق محو فيما هو الموجود الأزلي ، فأي سلطان لآثار التفرقة في حقائق الجميع.

قوله تعالى : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) ظهر سبحانه بصفات الفعلي عن العصا وألبسها بعد قلبها لباس فعل العظمة لتخويف الكفرة ، وهرب السحرة ، وأكل المخابيل ، وظهر بنور الصفة من يد موسى عليه‌السلام لفتح أبصار الإيقان والإيمان بأنوار صفاته في إظهار البرهان ؛ لأن الجماد محل تصرف فعل العام من طريق الأمر القائم به ، والحيوان محل تصرف فعل الخاص القائم بالصفة لأنه معدان أرواح الطباعية ، والإنسان محل تصرف الصفة القائمة بذاته الأزلي ؛ لأنه أشرف المواضع من العرش إلى الثرى لمحله من العقل القدسي ، والقلب الملكوتي ، والروح القدسية ، ظهر بالفعل عن العصا للعموم وظهر بالصفة عن موسى عليه‌السلام للخصوص ، وعرف موسى عليه‌السلام عجزه في قدرته ، حيث انقلب عصاه بغير اختياره ، وخرجت يده نورانية بغير اختياره ، وكان ذلك أعظم في صدق معجزته حيث لا اختيار له فيه. [سورة الأعراف (٧) : آية ١١٤]

(قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ

٤٥٣

الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤))

قوله تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) إن الله سبحانه ألبس أولياءه لباس أعدائه امتحانا لهم ولغيرهم ، فأرشدهم بقهره إلى لطفه ؛ إذ الأصل فيهم سبق اصطفائيتهم في الأزل ، كانوا ممتحنين محجوبين من رؤية اللطف بحجاب القهر ، فلمّا أتوا بالسحرية آلوا التقرب من فرعون من رأس الطبيعة وجرى في الأزل قربهم من رؤية الحق سبحانه ، فنطق الله على لسان عدوه إخبارا عن سابق العناية للسحرة بقوله : (نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) المنطق بالخبر هو الله سبحانه وإن لم يعرفوا مكان الخطاب ، ولكن جرى على وفق العناية خبر الغيب علمهم ، وفرعون في البين واسطة ، وحقيقة الخطاب من الله سبحانه.

قال بعضهم : دعا فرعون السحرة إلى القرب منه ، وجرى لهم في الأزل مقام القرب من الحق.

قال فرعون : إنكم لمن المقربين إلى منازل الأبرار وبعد وأمن قرب الأشقياء.

قوله تعالى : (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) السحر الحقيقي من عالم الفعل بواسطة الكسب البشري ، والمعجزة من عالم القدرة القديمة ، ولمّا ظهرت الصفة تلاشت معالم الاكتساب وغابت تواثير الفعلية.

قال السوسي : أظهر الحق لطيفة من صنعه في خشية عجز السحرة عنها ، وجعلها سببا لنجاتهم ، فقال : (فَوَقَعَ الْحَقُ) بإظهار القدر في جماد وبطل ما كانوا يعملون من الأباطيل ، ولمّا ظهر قهر القدم بلباس العظمة من عصا موسى عليه‌السلام ، وانهزموا من سطوات العظمة ويا ليتهم لو ثبتوا ورأوا مشاهدة جلاله من لباس عظمته الذي تجلّى من العصا يكون حالهم كحال السحرة ، لكن غابوا في بحر ضلال الأزل ولم يوقفوا بما وفق السحرة عندما كوشف لهم وجه جلال القدم ، فرأوه بلا حجاب فألقوا أنفسهم بنعت الإذعان له عشقا ومحبة وشوقا إلى تلك المشاهدة بما أخبر الله عن شأنهم بقوله : (فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ وَأُلْقِيَ

٤٥٤

السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) (١) أي : صدقنا ما أخبر لنا بلسان موسى عليه‌السلام وهارون عليه‌السلام ، وشاهدنا مشاهدته عيانا ، بحيث لم يبق فينا معارضة الإنسانية ، وخطرات الشيطانية.

قال الواسطي : أدركهم سابق ما جرى لهم في الأزل من السعادة ، فأظهر منهم السجود.

وقال جعفر : وجدوا نسيم رياح العناية القديمة بهم فالتجاء وإلى السجود شكر وقالوا آمنا برب العالمين.

وقال أبو سعيد القرشي : نازع موسى عليه‌السلام مع فرعون طول عمره وقد قال الله إنه ليس من أهل الإسلام ، ولكن منازعة موسى عليه‌السلام مع فرعون كانت سبب نجاة السحرة حتى قالوا آمنا برب العالمين رب موسى عليه‌السلام وهارون عليه‌السلام.

قوله تعالى : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) هددهم فرعون بالبلاء ولم يعلم أنهم غرقوا في بحار رؤية المبلي متحملين بلاياه برؤية جماله ولو لا ذلك ما قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض.

قال سمنون : يحمل الهياكل من البلايا على المشاهدة ما لا يحمله في حال الغيبة ، ألا ترى كيف لم يبال سحرة فرعون بما هددكم به من قوله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ).

(قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ

__________________

(١) أي : فسجدوا بسرعة عظيمة حتى كأن ملقيا ألقاهم بغير اختيارهم من قوة إسراعهم ، علما منهم بأن هذا من عند الله ، فأمسوا أتقياء بررة ، بعد ما جاؤوا في صبح ذلك اليوم سحرة. نظم الدرر للبقاعي (٦ / ٦٣).

٤٥٥

سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣))

قوله تعالى : (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أجابوا فرعون بعد تهديده لهم بالبلاء بهذه الآية ، أي نحن ذاهبون بنعت الشوق والمحبة إلى مشاهدة ربنا ، ولا نخاف من جميع البلاء لأن من عانيته لا يوثر فيه آلام البلاء ولا يحجبه عن رؤية المبلي.

قوله تعالى : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) انظر إلى أدب موسى عليه‌السلام كيف علّم قومه معاملة طريق الله أمرهم بالالتجاء إليه والاستعاذة به والاستغاثة به في تحمل مشقة الصبر ووجدان حسن الرضا في البلاء ، وأخبرهم أن من كان بالله صبر يكون مظفرا على جميع المراد ويكون خليفة الله في أرضه.

قال أبو عثمان : من استعان بالله في أموره ، وصبر على ما يلحقه في مسالك الاستعانة ، أتاه الفرج من الله ، قال الله استعينوا بالله واصبروا.

قال سهل : أمروا أن يستغيثوا بالله على أمر الله ، وأن يصبروا على أدب الله ، ولمّا أمرهم بالاستعانة والصبر شكوا عن عقوبة الأعداء لهم بقوله : (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) ، فأجابهم بقوله : (قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ).

أي : لو يصبرون على مخالفة نفوسكم ودفع شهواتكم وترك حظوظكم الدنيا وبه يذهب الله عن ساح قلوبكم التي هي مواضع المشاهدة غبار الهواجس النفسانية ، ويجعلكم خلفاء الله في أرضه وبلاده.

قال بعضهم : أعدى عدوك نفسك عسى الله أن يمكنك من قيامها ، ويفني عنها أهواءها ومراداتها الباطلة ، ويجعلك خليفة على جوارحك وقلبك أميرا عليك ، فتقهر النفس بما فيها وتستولي عليها وعلى مخالفتها ، فينظر كيف يعملون كيف معرفتك بشكر ما أنعم عليك.

(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ

٤٥٦

كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١))

قوله تعالى : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا) أخبر الله سبحانه عن نقض عهد المفسدين بعد رؤيتهم وضوح الآيات ، وظهور المعجزات ، ونيرات الكرامات ، وذوقهم طعم العذاب في البليات جحودا وإنكارا بعد علمهم بصدق الرسالة والنبوة والولاية ، لمّا وقعوا في ورطة الهلاك التجئوا إلى نبي الله عليه‌السلام بعد جفائهم به ، فلم ينفع التجاؤهم وتوبتهم لمّا سبق لهم في قديم العلم من الشقاوة ، ولأنفذ فيهم سهام الهمة النبوية ، وهكذا شأن من جفا المشايخ برعوناتهم وسوء آدابهم لا ينفعهم استعانتهم بالقوم.

قال القاسم : من لا يراع أسرار الأولياء في الأوقات لا ينفعه اللجوء إليهم في أوقات البلاء ، ألا ترى كيف لم يوثر على أصحاب فرعون اللجوء إلى موسى عليه‌السلام في اعتقاد المخالفة.

قال الله : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) ، وقوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) معنى الآية في وارد الحكم أن الكلمة صفته الأزلية ، وهي ذكر الله إياهم في سابق العلم بالتوفيق في عبوديته الخالصة ، وقبولهم امتحانه وبلاه بنعت الصبر والرضا ، وذلك عطاء محض ، حيث تمت تلك النعمة منه تعالى في الأزل لهم.

قيل : وقوع الفعل والجزاء والصبر والرضا فإن من تمام النعمة أن سبقت كلمة الله بنعت إتمام الدرجات لهم قبل وجودهم ؛ فالكلمة تمت بإعطائهم المعرفة والتوفيق في الطاعة ، ليس عناية الله الأزلية متعلقة بصبرهم واحتمالهم الجفاء ، فإنهما ميراث كلمة الحسنى التي سبقت بالعناية لهم ولو لا ذلك لما صبروا ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) [النحل : ١٢٧] ، أي : بالله تصبر وقوله : (وَتَمَّتْ) ، أي : تمت العناية بلا علّة الاكتساب

٤٥٧

وصفاته الأزلية لا تحتاج إلى علّة الحدث ، فإن اصطفائية الله منزّهة عن خلل الحدثان وأفعالها.

قال الجنيد : طالبوا تمام الكلمات بوجود النعمة والمواظبة على الصبر فاستشعروا التثبت بحبائل الوفاء عند من أبلاهم ، ليتم عليهم كلمة الحسنى بجميل الثناء على الصبر الذي ضمن لهم إتمامها بالوفاء.

قال أبو سعيد الخراز : طالبوا تمام النعمة بالمواظبة على الصبر واستشعروا وعده الذي ضمن لهم إنما يكون عند القيام بما ألزمهم من شرائط الصبر ؛ لأنه تعالى قال : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى) بصبرهم في بلائه وإعطائهم مواريث الأرض من الملكين ، ملك الدنيا وملك العقبى.

قوله تعالى : (قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ردّ الله بلسان نبيه عليه‌السلام قول الجهل عند قولهم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) ، وعرّفهم مكان العقل في الإنسانية وتفضيل الآدمية على الحيوانية ، واختيار الله إياهم التوحيد والشريعة ، أي تطلبون غيره وهو بكرمه ورحمته أعطاكم العقل الذي لا يقبل في العبودية غير الله ؛ لأنه يفرد القدم من الحدوث يعلم من الله معه ، وصوركم بأحسن الصورة التي لو اعتبرتم بها يعرفون أن صانعها الله لا شريك له في ملكه ولا ضد له في سلطانه ، فضلكم على العالمين بإرسالي إليكم ، فإني أتم نعمت الله عليكم.

قال أبو عثمان : أتطلب غيره وهو فضلك على ما سواك من جميع ذوات الأرواح والجماد فتذل وتخضع لغيره ، وهو فضلك عليه ذلّ لمن يذلّ له لتستوي معه فتنال معه به العزّ الأوفر.

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥) سأصرف عن ءايتي الّذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يرو كل ءاية لا يؤمنوا بها وإن يروا

٤٥٨

سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذّيوا بئايتنا وكانوا عنها غفلين (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧))

قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) أي : من سنة الله سبحانه إذا أراد أن يشرف عبدا من عباده بمقام لم يكن له ذلك وقربه منه وناجاه وأظهر عليه عجائب ملكه وملكوته ، يصفيه عن كل كدورة ، ويخلصه عن كل همه ، ويروضه بأنواع مجاهدة ، ويخلي بطنه عن الطعام والشراب إلا ما يقوى به صلبه ليحرق بنيران الجوع غواشي قلبه ، وتقدس من قلبه مكان نظره ، ويغسل بمياه المجاهدة جوارحه ، ويزويه في الخلوات ، ويشوقه بلطائف المناجاة إلى المشاهدات وله أوقات وساعات لفتح أذان قلوب أوليائه وأبصار أرواح أصفيائه ؛ ليسمعها كلامه ويبصرها جماله وجلاله ، وتلك أوقات تضوع عطر مشاهدته لأهل خلواته ومناجاته لا يستنشق تلك الروائح إلا المعترضون لها في المراقبات والرعايات ، وأخبر من تلك الأسرار سيد أهل الأنوار صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لنفحات الله» (١) ، ومن تلك الأربعين صارت الأربعين سنة لأولياء الله في بداية أمرهم في الخلوة والرياضة بخلوص نياتهم مع الله سبحانه ؛ لوجدان حكمته الأزلية وأبنائه العجيبة ، ومكاشفته البديعة ؛ لأنها عرائس الله لا تنكشف إلا المتفرد عن غير الله ، وأخبر بشرائف ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «من أخلص الله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قبله على لسانه» (٢) ، ما طاب زمان الوصال ومواعيد كشف الجمال لمّا طاب وقت كليم الله في مناجاته حبيبه بعد تمام ثلثين ليلة لم يستوف وطره من لذيذ خطابه ولطف جماله ؛ فعلل بالسؤال ليستزيد المقام في شهود العين ، فعلم تعالى حرق شوقه ولهيب حزنه وزيادة عشقه ومحبته ، فزاد على أوقات الوصال بقوله : (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) ، وقال : (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) ، ومراده بالأربعين تواتر الحالات والاستقامة في الواردات ؛ ليحتمل بعد ذلك بها أوقات بديهات الكشوف وبروز أنوار القدم ذكر الليالي لخلو الأسرار عن نظر الأغيار وصفاء المواصلة عن غبار المخالفة ، فيالها من سماع ما أطيبه ومن خطاب ما ألذّه من جمال ما أشهاه ومن قرب ما ألطفه.

فكان بالعراق لنا ليال

سلبناهنّ من ريب الزمان

__________________

(١) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (٧ / ١١١).

(٢) رواه هناد في الزهد (٦٧٠) بتحقيقنا.

٤٥٩

جعلناهنّ تاريخ الليالي

وعنوان المسرّة والأمان

وعده وجعل الأيام الخطاب ميقاتا لمزيد شوقه وزيادة خوفه وهيجاته.

قيل لأبي بكر بن طاهر : ما بال موسى عليه‌السلام لم يجع حين أراد أن يكلم ربه وجاع في نصف يوم حين أراد أن يلقي الخضر ، فقال : (آتِنا غَداءَنا) [الكهف : ٦٢] ، فقال لأنه في الأول أنساه هيبة الموقف الذي ينتظره الطعام والشراب ، والثاني كان سفر التأديب ، فزد البلاد على البلاء حتى جاع في أقل من نصف يوم ، والأول كان أوقات الكرامة ولمّا أراد المسير إلى الله والذهاب إلى مواعد قربه ومناجاته جعل أتيته هارون عليه‌السلام خليفته في قومه غيره على وقته وعلى محبوبه لئلا يكون معه غيره في سماع أسرار الأزل والأبد بقوله : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي).

استخلف لهارون عليه‌السلام بالشريعة وانفرد عنه في مقام الحقيقة ؛ لأن الحقيقة لا تقبل الغير في البين ولا يكون العشق بالشركة ؛ لأن العشق يغير عن العاشق دون معشوقه ، وكان لهارون عليه‌السلام علم غيرة أخيه فاستقبل الخلافة ولم يعارضه ، وإن كان ميل قلبه بصاحبته في الحضرة ، ولكن تحمل من حلمه أثقال الفراق لصحة المؤاخاة ، وصدق الإرادة.

وقال الأستاذ : لما كان المرور إلى فرعون استصحب موسى عليه‌السلام هارون عليه‌السلام ، فقال الله سبحانه : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) [طه : ٣٢] ، ولمّا كان المرور إلى سماع الخطاب أفرده عن نفسه ، فقال : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) ولهذا غاية الحلم من هارون عليه‌السلام ونهاية الرضا ، ولهذه من شديدات بلاء الأحباب وفى قريب منه أنشد قال لي مراحب :

والبين قد جد ودمعي موافق الشهيقي

ما ترى في الطريق تصنع بعدي

قلت أبكي عليك طوال الطريق

وفي الآية دليل أن للأولياء خلفاء ونجباء ونقباء يستنون بسنتهم ويقتدون بأسوتهم ويبلغون الى درجاتهم بصدق إرادتهم.

قال محمد بن حامد : لم يزل الأنبياء والأولياء خلفاء يخلفهم في من بعدهم من أمتهم وأصحابهم ويكون هداهم على هداهم ، يحفظون على أمتهم ما يضيعونه من سنتهم وأن أبا بكر كان هو القائم بهذا المقام بعد النبي عليه‌السلام ، ولو لم يقم لهؤلاء يثبت سنين منها محاربة أهل الردّة وغير ذلك ، ولما خرج من أوطان البشرية وترك علّة الرفقة واستقام في الشوق إلى المشاهدة ، وهرب إلى الخالق من الخليفة ، أخبر الله سبحانه عن ذهاب كليمه إليه وإلى ميقات قربه وصاله بوعده بقوله : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) كيف له ميقات وليس عنده مساء

٤٦٠