تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٢

الذي أصل جوهر الماء ، كذلك جميع الأعضاء ، فإذا كان العبد بهذه الصفة في الطهور أجدر أن يكون مقبلا إلى الله بوجهه.

قال عليه‌السلام : «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره» (١).

والإشارة في الآية إلى تطهير الأسرار من الالتفات إلى الأغيار لاقتباس الأنوار بمياه الحزن التي تجري من عيون قلب المجروح بالمحبة على سواقي العين ، فإذا كان مطهرا من غير الحق فصلواته مواصلة ، وحركاته قربة ، وقراءته زلفة ، وقيامه محبة ، وركوعه خشية ، وسجوده شهود ، وتحياته انبساط ، ودعواته مستجابة ، أي : إذا قمتم عنكم إلى وصلتي ومشاهدتي طهّروا أنفسكم من الحدوثية في بحار الربوبية حتى تصلوا إليّ بي ؛ لأن الحدث لا يقوم بإزاء القدم.

قال أبو عثمان : شرائط الطهارة معروفة ، وحقيقتها لا ينالها إلا الموفقون من طهارة السرّ ، وأكل الحلال ، وإسقاط الوسواس عن القلب ، وترك الظنون ، والإقبال على الأمر بحسب الطاقة.

وقال سهل : أفضل الطهارات أن يظهر العبد من رؤية طهارته.

قوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) (٢) تواتر العزائم بغير الرخص حرج ثقيل على المستأنسين بالله مما سوى الله ، مانعة لأهل المجاهدة بقيودها عن الاقتحام إلى عالم الشهوات ، فرفع الحرج عن المحبين ، وبسط الكرم للمشتاقين ، وسهّل أحكام العبودية على العارفين بوضع الرخص ؛ زيادة لاستشواقهم إلى مشاهدته ، وتقديسا لأسرارهم بنور مشاهدته ، وهذا معنى (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) ، أي : أنه لا يريد نصب المجاهدة على أهل المشاهدة ؛ لأنه تعالى أضاف تطهير أسرارهم إلى نفسه لا إليهم ، قال : (يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) ، وما قال : «لتتطهروا» ، أي : يطهّركم عنكم بنور مشاهدته.

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ٢١٦).

(٢) يعني : يطهركم من أحوالكم وأخلاقكم وأفعالكم ، لترجعوا إليه بحقيقة الفقر من غير تعلق بسبب من الأسباب ، والطهارة على سبعة أوجه : طهارة العلم من الجهل ، وطهارة الذكر من النسيان ، وطهارة الطاعة من المعصية ، وطهارة اليقين من الشك ، وطهارة العقل من الحمق ، وطهارة الظن من النميمة ، وطهارة الإيمان مما دونه ، ولكل عقوبة طهارة ، إلّا عقوبة القلب ؛ فإنها قسوة. [تفسير التستري (١ / ٢٤)].

٣٠١

قال بعضهم : يريد أن يطهّركم من أفعالكم ، وأحوالكم ، وأخلاقكم ، ويقينكم عنها لترجعوا إليه بحقيقة الفقر من غير تعلق ، ولا علاقة بسبب من الأسباب.

قال الأستاذ : يلوح من هذه الآية إشارة إلى أنه إذا نفى المريد عن أحكام الإرادة ، فليحط رحله بساحات العبادة ، وإذا عدم اللطائف في سرائره فيستدم الوظائف على ظاهره ، وإذا لم يتحقق بأحكام العبودية ، فلا يخلون من آداب الشرعية ، وإذا لم يخرج عن الفضلة ، فلا يدنس تصرفه بالحرام والشبهة.

وقال في قوله : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) : أي : يطهّر ظواهركم عن الذلّة بعصمته ، ويطهّر قلوبكم عن الغفلة برحمته.

قوله تعالى : (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) إتمام النعمة هاهنا بيان العبودية للعباد ، وتعليمهم آداب المعاد ؛ لينالوا بها رؤية المنعم بنعت الخجل عن أداء واجب حقوقه بنعت ما يليق بجلاله ، وهذا هو الشكر المطلوب من عباده بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

قال الأستاذ : إتمام النعمة لقوم نجاة نفوسهم ، وعلى آخرين نجاتهم عن أنفسهم ، فشتّان بين قوم.

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) نعمة الله هداية الله السابقة في الأزل لأهل سعادة المعرفة منهم إلى نفسه بنعت المشاهدة والشوق إلى لقائه ، والميثاق الذي واثق به عباده ألا ينشغلوا عنه بغيره إلى الأبد ، وإن كان الجنة وما فيها.

قال أبو عثمان : النعمة كثيرة ، وأجلّ النعم المعرفة ، والمواثيق كثيرة ، وأجلّ المواثيق الإيمان.

قال الواسطي : أنعم الله على خلقه لكي يشهدوا المنعم بالنعم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ

٣٠٢

وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) أي : كونوا مستقيمين في محبتي ومعرفتي ، قائمين على باب ربوبيتي ، ولا تفروا عني بنزول بلائي عليكم ، وكونوا حاضرين في حضرتي لشهودكم على مشاهدتي بنعت الصدق والإخلاص والاستواء في جميع الأحوال ، ولا تخافوا في عبوديتي من ملامة اللائمين عند إظهاركم حقوقي على حقي.

قال بعضهم : أي : كونوا أعوانا لأوليائه على أعدائه.

وقيل : كونوا خصماء الله على أنفسكم ، ولا تكونوا خصماء لأنفسكم على الله.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) إن الله سبحانه لمّا أراد أمرا عظيما من أمور الربوبية بين عباده وبلاده وضعه على أولياءه ؛ ليقوموا به على وفق مراده ؛ معذرة لضعف الخلق ، ونيابة من تقصيرهم ، فإذا خرجوا من ذلك بنعت الرضا في العبودية سهّل الله ذلك بعده على العامة ؛ لأن العامة خلقوا بنعوت الضعف ، وخلق أولياءه بنعوت القوة ، وفي كل أمة خلق الله أقواما من أئمة المعارف والكواشف لواقع نظره وتحمل بلائه وهم النقباء ، والبدلاء ، والنجباء ، والأولياء ، والأصفياء ، والأتقياء ، والمقربون ، والعارفون ، والموحدون ، والصديقون ، والشهداء ، والصالحون ، والأخيار ، والأبرار ، رئيسهم الغوث ، وأئمتهم المختارون ، وعرفاؤهم السياحون السبعة ، ونقباؤهم العشرة ، ونجباؤهم الأربعون ، وخلفاؤهم السبعون ، وأمناؤهم الثلاثمائة ، كل واحد منهم خلق على صورة نبيّ ، وسيرة رسول ، وقلب ملك ، لا يعرفهم إلا مثلهم ، وهم لا يعرفون إلا الله حقيقة ، قال تعالى : «أوليائي تحت قبائي لا يعرفهم سواي» (١).

روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تعالى في الأرض ثلاثمائة ، قلوبهم على قلب آدم عليه‌السلام ، وله أربعون قلوبهم على قلب موسى عليه‌السلام ، وله سبعة قلوبهم على قلب إبراهيم عليه‌السلام ، وله خمسة قلوبهم على قلب جبريل عليه‌السلام ، وله ثلاثة قلوبهم على قلب ميكائيل عليه‌السلام ، وله واحد قلبه على قلب إسرائيل ، فإذا مات الواحد أبدل الله مكانه من الثلاثة ، وإذا مات من الثلاثة أبدل الله مكانه من الخمسة ، وإذا مات من الخمسة أبدل الله مكانه

__________________

(١) ذكره المناوي في التعاريف (١ / ٦٧٦).

٣٠٣

من السبعة ، وإذا مات من السبعة أبدل الله مكانه من الأربعين ، وإذا مات من الأربعين أبدل الله مكانه من الثلاثمائة ، وإذا مات من الثلاثمائة أبدل الله مكانه من العامة بهم يحيي ويميت ، قال : لأنهم يسألون إكثار الأمة ، فيكثرون ، ويدعون على الجبابرة ، فيقصمون ، ويستسقون فيسقون ، ويسألون فينبت لهم الأرض ، ويسألون فيدفع عنه أنواع البلاء» (١).

قال أبو بكر الوراق : لم يزل في الأمم أخيار وبدلاء وأوتاد على المراتب ، كما قال تعالى : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) ، وهم الذين كانوا مرجوعين إليهم عند الضرورات والفاقات والمصائب.

كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يكون في هذه الأمة أربعون على خلق إبراهيم عليه‌السلام ، وسبعة على خلق موسى عليه‌السلام ، وثلاثة على خلق عيسى عليه‌السلام ، وواحد على خلق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم على مراتبهم سادات الخلق» (٢).

قال أبو عثمان المغربي : البدلاء أربعون ، والأمناء سبعة ، والخلفاء من الأئمة ثلاثة ، والواحد هو القطب ، والقطب عارف بهم جميعا ومشرف عليهم ، ولا يعرفه أحد ولا يشرف عليه ، وهو إمام الأولياء ، والثلاثة هم الخلفاء من الأئمة ، يعرفون السبعة ، ويعرفون الأربعين ، ولا يعرفهم أولئك السبعة ، والسبعة الذين هم الأمناء يعرفون الأربعين الذين هم البدلاء ، ولا يعرفهم البدلاء ، والأربعون يعرفون سائر الأولياء من الأئمة ، ولا يعرفهم من الأولياء أحد ، فإذا نقص من الأربعين واحد أبدل الله مكانه واحدا من أولياء الأمة ، وإذا نقص من السبعة واحد جعل مكانه واحدا من الأربعين ، وإذا نقص من الثلاثة واحد جعل مكانه واحدا من السبعة ، فإذا مضى القطب الذي هو واحد في العدد وبه قوام أعداد الخلق جعل بدله واحدا من الثلاثة ، هكذا إلى أن يأذن الله لقيام الساعة.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (١ / ٩).

(٢) لم أقف عليه.

٣٠٤

عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥))

قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) إذا أراد الله طرد الغافلين عنه هيّج نفوسهم إلى مباشرة أحكام القهر الذي يوجب لهم البعد ، فبعد ذلك تقع مخالفة الأمر ونقض العهد الذي هو أصل الإيمان.

قال يوسف بن الحسين : ترك حفظ العهود الصحيحة ونقض المواثيق يوجب اللعن ، قال الله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ).

قيل : نقض العهد مع الحق السكون إلى سواه.

وقال الأستاذ : جعل جزاء العصيان الخذلان للزيادة في العصيان.

قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) (١) أراد نور المعرفة بلا واسطة ولا تصنّع.

وأيضا : نوره الذي يتجلّى به من وجود الأنبياء والأولياء لأبصار الناظرين ، وشاهد ذلك النور ما جاء في كتابه من بيان مقامات الصديقين ، قد جاء النور منه جمعا ، وجاء الكتاب تفرقة ظاهرة في شهادته على من له من الله نور ، والنور والكتاب صفتان من صفات الأزل ظهر لجذب السالكين إلى الله.

قيل : كشف عن أسراركم غطاء الوحشة ، وألبسكم لباس الأنس.

قال بعضهم : بعناية الأزل وصلتم إلى نور الكتاب المبين ونور التوحيد.

(يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧))

قوله تعالى : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) ذكر واحدا منهما من النور والكتاب ؛ لأنهما في عين الجمع واحدا ، أعني معدن الصفات.

والإشارة بقوله : (يَهْدِي بِهِ اللهُ) أي : يهدي بصفته إلى طرق معرفة ذاته ، ويهدي

__________________

(١) أنوار التوحيد ظاهرة لكنها لا تغني عند فقد البصيرة ، فمن استخلصه بقديم العناية أخرجه من ظلمات التفرقة إلى ساحات الجمع فامتحى عن سرّه شواهد الأغيار ، وذلك نعت كل من وقف على الحجة المثلى [تفسير القشيري (٢ / ٩٨)].

٣٠٥

بذاته إلى سبل معرفة صفاته ورضوانه ما رضي للأنبياء والأولياء في الأزل من إصابة أبصارهم إلى محل الرضوان الأكبر ، وهو غاية رعاية حسن تجليه بنعت العيش في مراده ، ولا تحصل المتابعة إلا لمن سبق في الأزل رضاه له.

وأيضا : يهدي بالقرآن من اتبع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سبل السلامة التي توصّل المؤمن بالتوحيد إلى كشف جماله وحسن وصاله بالعوافي.

قيل فيه : يهدي الله لأسلم المسالك في سبيل إرادته من خصّه برضوانه.

قيل : إيجاده ليوصله الرضوان إلى محل الرضا والتسليم.

قوله تعالى : (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : من أوصله إلى سبيل الهدى يطهّر أسراره عن خطوات الشك والريب والاعتراضات النفسانية والخطوات الشيطانية ، فإذا كان مقدسا من هذه الشوائب يكشف له أنوار الأزليات والأبديات ، وليس كل من وصل إلى هذه المراتب وصل إلى محل الاستقامة في المعرفة والتوحيد ، فيختصّ به من يشاء من سبق له عناية الأزل بوصوله إلى محل التمكين الذي لا تجري فيه بعد ذلك أحكام التردد والامتحانات الظاهرة.

قال ابن عطاء : يهدي لنوره من رضي عنه في الأزل ، وخصّه بكرامات الولاية ، وخرجه من ظلمات الاعتراض إلى نور الرضا والتسليم.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩))

قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وسمع كفرة اليهود والنصارى ذكر سباق الحقيقة أنهم وصلوا إلى ساحات الكبرياء بكشف مشاهدة البقاء ، وسكروا بوجه القدم ، وصاروا بنعت الانبساط في مجالس الأنس ، فمن سكر المحبة ادّعوا القربة ، ومن سكر الأنس وحلاوة الانبساط ادّعوا نبوة الأسرار من الأنوار ؛ حيث ظهرت أنوار صفات الأزل ، وسقطت من زنودها أنوار أسرار الأرواح ، كما قال الواسطي : أنا أمن الأزل والأبد ، وغلطوا في الطريق ، ولم يعرفوا حقائق قول المتقدمين من جهالتهم بمقامات الأولياء والصديقين ، فردّ الله دعواهم إلى أعناقهم المنكسرة حين ألزم الحجة عليهم

٣٠٦

بلسان نبيه عليه‌السلام بقوله تعالى : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) ، أنبأنا الله سبحانه أن من بلغ نبوة سبل الأزل بنعت المعرفة والمحبة خرج من محل الامتحان حيث الأشباح.

قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ) أي : أنتم أيها المدّعون الكاذبون ليس كما تزعمون ما بلغتم تلك المنازل ، بل بقيتم في مقام البشرية والنفوسية ، وهذا مقام من تقدّس ، وتقدّس الله ممّا سوى الله.

قوله تعالى : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي : يوصل إلى تلك المواقف المقدسة من أهل الولاية من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يشاء ، ولا يبالي بتقصيره ، ولا يشم رائحتها من يشاء من الأعداء ، لا يبالي بطاعته ، فإن طاعته على غير موافقة السنة.

قيل : يغفر لمن يشاء فضلا ، ويعذّب من يشاء عدلا.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤))

قوله تعالى : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) (١) أي : ملوكا بالولاية والكرامات ، ومعرفة الصفات ، والتنور بأنوار كشوف الذات.

وأيضا : جعلكم ملوكا بسلطنة الوجد ، قوة الحال ، وعزّة علم المعرفة.

وأيضا : أي : جعلكم ربّانيين مالكين أنفسكم بمنعها عن غير طاعتي.

وأيضا : أي : ملتبسين بأنوار أنائيتي.

وأيضا : معافين من ضرر الامتحان ، محررين من رقّ الحدثان.

__________________

(١) قال ابن عجيبة : جعل منكم ملوكا ، وقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء ، فكان كل نبي معه ملك ينفذ أحكامه ، فكانت دار النبوة ودار المملكة معلومة ، يخلف بعضهم بعضا في النبوة والملك ، استمر ذلك لهم ، حتى قتلوا يحيى ، وهموا بقتل عيسى ، فنزع الله منهم الملك ، وأنزل عليهم الذل والهوان ، وقيل : لمّا كانوا مملوكين في أيدي القبط ، فأنقذهم الله ، وجعلهم مالكين لأنفسهم ، سماهم ملوكا [البحر المديد (٢ / ٤٩)].

٣٠٧

قال القرشي : ملككم سياسة أنفسكم.

قال سهل : مالكين لأنفسكن ، ولا يملككم نفوسكم.

قال الحسين : أي أحرارا من رقّ الكون وما فيه.

قوله تعالى : (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) يعني : كشف مشاهدتي وحلاوة مخاطبتي سنا آياتي ومعجزاتي ، وما يظهر لكم من وجه موسى عليه‌السلام من نور تجلياتي.

قال ابن عطاء : قلوبا سليمة من الغلّ والغشّ.

وقيل : سياسة النبوة ، وآداب الملك.

قوله تعالى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي : ادخلوا بنعت المعرفة والنظر الفائق مساكن القلوب ؛ لتجدوا منها أنوار الغيب.

وأيضا : اطلبوا في مواقف المقدسة رجال المعرفة ؛ لتصلوا ببركة أنفاسهم قدس جلالي.

قوله تعالى : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) يخافون من الله فراقه ، وتذوبون بي جلاله وعظمته وميثاقه (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بألا يخافا غير الله ، ويتوكلا على الله ، وزيادة النعمة عليهما أن الله تعالى عصمهما من جريان الخواطر المذمومة على قلوبهما ، وأنه تعالى أدخلهما في باب عظمته وأنوار هيبته.

قال سهل : أنعم الله عليهما بالعصمة والمراقبة.

قال الأستاذ : أنعم الله عليهما بأنوار العرفان ، فلم يحتشما من المخلوقين.

قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١) أي : كونوا على رجائي في وقت إياسكم ، وثقوا بمحبتي لكم ، ولا تفزعوا من امتحاني إياكم ؛ لأني لا أقطع حبل الوصال عنكم ، ولا أنزع ثياب عصمتي عنكم ، أي : إن كنتم عارفين بي تصدقون قولي توكّلوا عليّ عند مباشرة قهري إياكم ، فأنا اللطيف بأوليائي الرحيم بأصفيائي.

__________________

(١) أي : ينبغي للمؤمن أن يتوكل على الله ، فإن قدّر أن واحدا منهم لا يتوكل ، فلا يخرج به ذلك عن الإيمان ، كذلك من لم ينته عن الفحشاء والمنكر ؛ فليست تخرج صلاته عن كونها صلاة ، ويقال : بل الصلاة الحقيقية ما تكون ناهية لصاحبها عن الفحشاء والمنكر ؛ فإن لم يكن من العبد انتهاء فالصلاة ناهية على معنى ورود الزواجر على قلبه بألا يفعل ، ولكنه يصر ولا يطيع تلك الخواطر ، ويقال : بل الصلاة الحقيقية ما تنهي صاحبها عن الفحشاء والمنكر ؛ فإن كان ـ وإلا فصورة الصلاة لا حقيقتها ، ويقال : الفحشاء هي الدنيا ، والمنكر هو النّفس ، ويقال : الفحشاء هي المعاصي ، والمنكر هو الحظوظ ، ويقال : الفحشاء الأعمال ، والمنكر حسبان النجاة بها ، وقيل : ملاحظته الأعواض عليها ، والسرور والفرح بمدح الناس لها ، ويقال : الفحشاء رؤيتها ، والمنكر طلب العوض عليها [تفسير القشيري (٦ / ١٠٣)].

٣٠٨

قال شقيق : التوكل طمأنينة القلب بموعود الله.

قال سهل : التوكل طرح البدن في العبودية ، وتعلق القلب بالربوبية.

قال الواسطي : من توكّل على الله لعلّة غير الله فليس بمتوكّل على الله ، جعله سببا إلى مقصوده ، وفي ذلك قلّة المعرفة بربّه.

(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧))

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) من بلغ عين التمكين ملك نفسه ، وملك نفوس المريدين ؛ لأنّه عرفها بمعرفة الله ومعها من الله سلطان سائس قاهر ، من نظر إليه يفزع من الله ، لا يطيق عصيانه ظاهرا وباطنا ، فأخبر عليه‌السلام عن محل تمكينه وقدرته على نفسه ونفس أخيه ، وأعلمنا أن بينهما اتحادا ، بحيث أنه إذا حكم على نفسه صارت نفس أخيه مطمئنة طائعة لله بالانفعال ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمنون كنفس واحدة» (١) ، ويمكن أنه عليه‌السلام كان مخبرا عن مقام القدرة التي اتصف بها من الله سبحانه ، وفيه بيان لطف استعداد لهارون عليه‌السلام بقبول تلك القدرة الإلهية.

قال سهل في قوله : (لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) : أي : في مخالفة هواها.

قيل : في بذلها لله واستعمالها في طاعته.

قال الأستاذ : لمّا ادّعى أنه يملك نفسه عرف عجزه عن ملكه لنفسه ؛ حيث أخذ برأس أخيه يجره إليه ، تقدّس شأن موسى عليه‌السلام من كل خاطر ، إشارته إلى أنه لا يعرفه مكان عجزه من النفع والضرّ في ذرة ؛ لأنه عرف أن سلطان قهر الله غالب على كل شيء ، وأن الحدث له قدر في الربوبية عند ساحة الكبرياء.

قوله تعالى : (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) من لم يسبق له في الأزل عناية الله صار إحسانه إساءة ، وطاعته تؤول إلى المعصية.

كما قيل : من لم يكن للوصال أهلا فكل إحسانه ذنوب ، قرّب هابيل بقربان نفسه لله ، وقرّب قابيل لحظ نفسه بغيا وحسدا على أمر كان مشرفا بتأيد الله ، فلا جرم حاله كان يئول إلى

__________________

(١) لم أقف عليه بهذا اللفظ.

٣٠٩

الظلم الأكبر بقوله : (لَأَقْتُلَنَّكَ).

قال ممشاد الدنيوري : كانت معصية آدم عليه‌السلام من الحرص ، ومعصية إبليس من الكبر ، ومعصية ابن آدم من الحسد ، والحرص يوجب الحرمان ، والكبر يوجب الإهانة ، والحسد يوجب الخذلان.

قوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) عرفه مكان سبق العناية وسبق الخذلان ، أي : إنّما يتقبل الله القربان ممن اتقى الله في الأزل ممّا سواه ، أي : إنّما يتقبل الله من الذين يخافون عظمته بعد إخلاصهم في طاعته ، هل يقبل أم لا ، والمتقي هو المتجرد في التوحيد بالموحد من غير الموحد.

قال سهل : التقوى والإخلاص محل القبول لأعمال الجوارح.

وقال ابن عطاء : المخلصين فيما يقولون ويعلمون.

قال السلامي : القرابين مختلفة ، وأقرب القرابين ما وعد الله تعالى بقبوله ، ووعد الصدق ، وهو الذكر في السجود ؛ لأنه محل القربة ، قال الله : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق : ١٩].

عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر عليهم‌السلام قال : التقوى في الأحوال ، والأحوال في الأفعال كالروح في الأبدان ، والأفعال إذا فارقتها الأحوال فهي جيفة ميتة ، والتقوى على أربعة أوجه : من الرياء والعجب ورؤية النفس ، وأن يخطر بعده غير الله عزوجل.

(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١))

قوله تعالى : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) إن الله سبحانه أسبل ستر الغيرة على وجه القدم حتى لا ينظر إلى أنوار عظمته من لم يكن أهله ، وكشف ذلك الستر لأبصار العارفين ؛ لينظروا إلى عظيم جلاله ، ويكونوا في رعايته من حيث أن عظمته تعالى محيطة على أسرارهم بنعت مباشرة نورها ، فالطائفة الأولى بقوا في أسر عصيانه ، والأخرى بقوا في نور سلطانه ، فهدّد قابيل أخاه بالقتل ، وأجابه هابيل بسطوة التوحيد وخوّفه من جلال الحق ؛ حيث قال : (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) ، ومن شعار أهل الخوف ألا يقاتل أحدا

٣١٠

لإسقاطهم الوسيلة بينهم وبين رؤية القدر السابق.

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤))

قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) فيه إشارة لطيفة من الحق سبحانه : إن النيّة إذا وقعت من قبل النفس الأمّارة في شرّ وباشرته فكأنها باشرت جميع عصيان الله ؛ لأنها لو قدرت على جميعها لفعلت ؛ لأنها أمّارة بالسوء ، ومن السوء خلقت ، فالجزاء يتعلق بالنيّة ، وكذلك إذا وقعت النيّة من قلب القلب الروحاني في خير وباشره ، فكأنه باشر جميع الخيرات ، لأنه لو قدر الفعل ، قال عليه‌السلام : «نيّة المؤمن أبلغ من عمله» (١).

وفيه إشارة أخرى : إن الله سبحانه خلق النفوس من قبضة واحدة مجتمعة بعضها من بعض ، وفرقها مختلفة ، وتعلّق بعضها ببعض من جهة الاستعداد والخليقة ، فمن قتل واحدا منها أثّر قتلها في جميع النفوس عالمة به أو جاهلة ، ومن أحيا نفس مؤمن بذكر الله وتوحيده ووصف جماله وجلاله حتى تحب خالقها وتحيى بمعرفته وجمال مشاهدته ، فأثّرت حياتها وبركتها في جميع النفوس ، فكأنما أحيا جميع النفوس ، وفي الآية تهديد الله لأئمة الضلالة ووعد وشرف وثناء حسن لأئمة الهدى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ

__________________

(١) رواه البيهقي في الشعب (٥ / ٣٤٣).

٣١١

اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أي : اتقوا الله في النظر إلى غيره ، وابتغوا إليه الوسيلة بنعت التقوى ، ولا يكون عندكم الوسيلة إليه شيئا دونه ؛ لأنه هو الوسيلة إليه.

ألا ترى إلى قول الشاعر :

أيا جود معن ناج معنى بحاجتي

فليس إلى معن سواه شفيع

وسيلته محبته ومعرفته والاستعانة به عنه.

قال جعفر عليه‌السلام : اطلبوا منه القربة.

قال الواسطي : لو كشف لهم ما عاملهم به لفسدت أوقاتهم ، وأوقاته من يفتدي بهم.

وقال : ما يتوسل به إليكم ؛ لقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ٥٤].

وقال الأستاذ : ابتغاء الوسيلة التبرؤ عن الحول والقوة ، والتحقق بشهود الطول والمنّة.

ويقال : ابتغاء الوسيلة التقرب إليه بما سبق إليك من إحسانه.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣))

قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) قطع حبال أطماع الخليقة عن إضافة القدرة القديمة إليهم ؛ حيث أراد الفتنة بالمفتتن ، وفتنته بأن يشغل الطالب بنفسه ، ويوقعه في يد نفسه ، ويغريها إلى الشهوات المحببة القاطعة طريق الحق ، ويغرس أشجار الهوى في قلبه ، ويسقيها من مياه الغفلة حتى حيزت حومان القلب بظلمة الشهوات ،

٣١٢

بحيث لا يدخل فيه نور البرهان والعرفان.

ثم زاد في وصفهم ، وعلّق الجميع بإرادته ، وقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ).

قال الخواص في قوله : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) : من يرد الله افتراق أوقاته لم يملك جمعها له.

وقال ابن عطاء : من يحجبه الله عن فوائد أوقاته لن يقدر أحد إيصاله إليه.

قال أبو عثمان : أي بالمراقبة والمراعاة.

وقال أبو بكر الوراق : طهارة القلب في شيئين : في إخراج الحسد والغشّ منه ، وحسن الظنّ بجماعة المسلمين.

قوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) وصف الله سبحانه أهل السالوس الذين في هذا الزمان يجلسون في الزوايا ، ويظهرون التزهد والتقشف ، ويطرحون على أعناقهم الطيالسة ، يسمعون مديح أهل الدنيا لهم ، مثلما قالوا : ليس في الدنيا مثلك يا شيخ ، وأنت كذا وكذا ، وهو يشتري غرورهم وأقاويلهم الباطلة ، وهم يمدحونه لأهل الشفاعة عند الأتراك ، ويجعلونه وسيلة إلى السلطان ، ويعطونه رشوة ؛ لاستجلاب مرادهم ، فهو يسمع الكذب ، ويأكل السحت ، طهّر الله وجه الأرض منهم ، ووقانا من صحبتهم وسوء أفعالهم ، فإنهم مرقوا من الدين ، وأكلوا الدنيا بالدين.

قال بعضهم : سمّاعون الدعوى الباطلة ، أكّالون للسحت يعنى أكّالون بدينهم.

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧))

٣١٣

قوله تعالى : (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) (١) الربّاني الذي نسب إلى الرب بالمعرفة والمحبة والتوحيد ، فإذا وصل إلى الحق بهذه المراتب والاستقامة في شهوده جلاله وجماله صار متصفا بصفات الله ، حاملا أنوار ذاته ، فإذا فني عن نفسه بقى بربه صار ربانيا ، مثله مثل الحديد في النار ؛ فإذا لم يكن في النار كان مستعدا لقبول النار ولم تكن نارا ، فإذا وصل إلى النار واحمرّ صار نارا ، هكذا شأن العارف ، فإذا كان منورا بتجلّي الرب صار ربانيّا روحانيّا نورانيّا ملكوتيّا جبروتيّا ، كلامه من الرب إلى الرب مع الرب ، فالربانيون عشّاق الله وأحباؤه ، الحاضرون من بين يديه ، المكاشفون وجه الله سبحانه ، والأحبار الذين يسمعون كلام الله من الله بواسطة المفرقون بين الحق والباطل بنور الله.

قيل : الربانيون الراجعون إلى الرب في جميع أحوالهم ، والأحبار العلماء بالله وبآياته.

وقيل : الربانيون العلماء بالله ، والأحبار العلماء بأحكام الله.

وقال ابن طاهر : الربانيون هم الصحابة الذين أخذوا كلام الرب عن السفير الأعلى ، والواسطة الأدنى ، والأحبار علماء الأمة العاملون بعلمهم.

قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) العارف مخاطب من الله في جميع أنفاسه وحركاته ، يتنزل على قلبه من الله وحي الإلهام ، وربما يخاطبه بنفسه ، ويكلمه بكلامه ، ويحدثه بحديثه كقوله عليه‌السلام : «إن في أمتي محدّثين ومكلّمين ، وإن عمر منهم» (٢) ، فإذا لم يحكم بنفسه بما أنزل الله على قلبه بأن يخرجها من الشك إلى اليقين ، ومن الظلمة إلى النور ، ومن المخالفة إلى المتابعة ، ومن الكذب إلى الصدق ، ومن الشرك إلى التوحيد ، ومن الظلم إلى العدل ، ومن العصيان إلى الطاعة ، يكون موصوفا بأواخر هذه الآيات الثلاثة ، كفر أنعام الله الذي هو مقام الخطاب ، وظلم بأنه لم يضيع علمه على علمه ، وفسق عن مراد الله إلى مراد نفسه.

قال بعضهم : من لم يحكم للناس بحكمه على نفسه قد كفر نعم الله عنده ، وجحد سني مواهبه لديه ؛ فظلم نفسه بذلك.

__________________

(١) الربانيّ من كان لله وبالله ؛ لم تبق منه بقية لغير الله ، ويقال : الربّانيّ الذي ارتقى عن الحدود ، والربانيّ من توقّى الآفات ثم ترقّى إلى الساحات ، ثم تلقّى ما كوشف به من زوائد القربات ، فخلا عن نفسه ، وصفا عن وصفه ، وقام لربّه وبربّه ، وقد جعل الله الربانيين تالين للأنبياء الذين هم أولو الدّين ، فهم خلفاء ينهون الخلق بممارسة أحوالهم أكثر مما ينهونهم بأقوالهم ، فإنهم إذا أشاروا إلى الله حقق الله ما يؤمنون إليه ، وتحقق ما علقوا هممهم به [تفسير القشيري (٢ / ١٤٤)].

(٢) ذكره القرطبي في التفسير (١٣ / ١٧٤).

٣١٤

وقيل : من لم يحكم خواطر الحق على قلبه كان محجوبا من المبعدين.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣))

قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) إن الله تعالى جعل في بحار القدم والبقاء السواقي لورود الأرواح القدسية ، ومشارب للقلوب العارفة به ، وسواقي العقول الصادرة من نوره ، ولكل واحد منها شريعة من تلك البحار ، فلبعض شرعة العلم ، ولبعض شرعة القدرة ، ولبعض شرعة الصمدية ، ولبعض شرعة الحكمة ، ولبعض شرعة الكلام والخطاب ، ولبعض شرعة المحبة والمعرفة ، ولبعض شرعة العظمة والكبرياء ، ثم جعل لها منهاجا من الصفات إلى الذات ، ومن الذات إلى الصفات ، ومن الصفات إلى الصفات ، ومن الذات إلى الذات ، ومن الأسماء إلى النعوت ، ومن النعوت إلى الأسماء ، ومن الأسماء إلى الأفعال ، ليعرفه كل واحد بقدر ذوقه وشربه وطريقه ، وجعل بينهم تباعدا وتقاربا ، قال تعالى : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) [البقرة : ٦٠] ؛ فمن وافق شربه شرب صاحبه لم يقع بينهما الخلاف في الشرعة والمنهاج ، ومن لم يكن شربه موافقا لشرب صاحبه لم يعرف أحدهما مكان الآخر ويكون بينهما نزاع ، وذلك من غيرة الله عليهم ، وعلى نفسه ؛ لئلا يركن بعضهم بعضا ، ولا يطّلع عليه سواه.

ألا ترى كيف وصف مزاج الأبرار من مزاج المقربين ، وفرّق بينهم بالمشارب

٣١٥

والسواقي ، وكيف خصّ بعضا بالرحيق المختوم بقوله : (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ) [المطففين : ٢٥ ، ٢٦] ، وذلك رحمة منه على الجمهور ، ولتفاوت فوائد استنباط علوم الغيبية من مراد الله ، قال عليه‌السلام : «اختلاف العلماء رحمة» (١) ، ولاختيارهم في طريقهم بحقائق العبودية وعرفان الربوبية ، وهذا قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) يعني شيوخا وأكابر بغير المريدين والسالكين ، (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) من المقامات الشريفة والأحوال السنية ، كيف تخرجون من دعواكم بحقيقة عبوديته؟ وتخرجون جواهر العلوم من كتابي وحكمتي.

ثم خاطبهم جميعا بقوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) عرّفهم مكان تقصيرهم ، أي : ما أدركتم مني في جنب ما عندي لكم كقطرة في بحر ، سارعوا إلى خيرات مشاهدتي ، وجميل عطاياتي.

ثم أفردهم ممّا وجدوا إلى عين جلاله بقوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) أي : إليه مرجع افتقاركم من مقاماتكم إليه ، لزيادة القربة والمعرفة ، وهناك يظهر تفاضل درجاتكم ، وما غاب عنكم من حقائق أسراري ، ونوادر لطائفي ، وهذا معنى قوله تعالى : (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

قال بعضهم في قول : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) كلّ قد فتح له طريق إلى الله ، فمن استقام على الطريقة وصل إلى الله ، ومن زاغ وقع في سبيل الشيطان ، وضلّ عن سواء السبيل.

وقال أبو يزيد البسطامي : الطريق إلى الله بعدد الخلق ، ولكن السعيد من هدي إلى طريق من تلك الطرق.

قال الأستاذ في قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أي : ولو شاء الله لسوّى مراتبكم ، ولكن غاير بينكم ابتلاء ، وفضّل بعضكم على بعض امتحانا.

وقال في قوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) : مسارعة كل واحد على ما يليق بوقته ؛ فالعابدون تقدمهم من حيث الأوراد ، والعارفون بهممهم من حيث المواجيد.

ويقال : استباق الزاهدين برفع الدنيا ، واستباق العابدين بقطع الهوى ، واستباق العارفين بنفي المنى ، واستباق الموحدين بترك الورى ، ولسان الدنيا والعقبة.

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (١٠ / ٣٦).

٣١٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤))

قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) إن الله تعالى وبّخ المفلسين من أهل الرّدة بأن ليس لهم في محبة الله نصيب بارتدادهم عن الإسلام ، وأخبر أنه يجيء بقوم إن الله تعالى قد أحبهم في الأزل وهم بمحبته يحبونه ، وهم يوافقون النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه ـ بشرط المحبة ؛ لأن من شرط المحبة الموافقة والطاعة ، وبيّن أن من لم يكن مطيعا لم يكن محبّا ، قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ، وفي الآية ذكر شرف الصحابة والتابعين من بعدهم ، وبيّن تعالى أن المحبة من خواص صفته الأزلية ؛ لأنه كان بذاته يحب أحباءه ، وكان ذاته موصوفا بالمحبة الأزلية ، وكما أنه تعالى يحب الأولياء بذاته وصفاته فهم يحبون الله بذاتهم وصفاتهم من جميع الوجوه ؛ لأن مصدر المحبة القدم ، وليس هناك فعل ، ومحبة العباد مصدرها قلوبهم ، وليس هناك فعل ، وأصل المحبة وقع بغير العلّة من الآلاء والنعماء والأفعال والحركات ؛ كأن سبحانه أحبهم بعلمه في الأزل قبل إيجادهم باصطفائية ، فكأنه قد أحب نفسه ، لأن كونهم لم يكن إلا بكون وجوده ، ووجوده سبب وجودهم ، وهو تعالى أحب فعله ومرجع الفعل صفته ، فكأنه أحب صفته ، ومرجح صفته ذاته ، فكأنه أحب ذاته ، لم يكن الغير في البين ، فكان هو المحب وهو المحبوب وصفته المحبة ، وهم يحبونه بتجلي الصفة في قلوبهم ، وهو مباشرة نور محبته في فؤادهم ، فلمّا تكحلت أرواحهم بنور محبته فطاب مصدر أصل الصفة ، فوجدت مشاهدة الأزل عيانا بلا حجاب ، فأحبتها بالمحبة الأصلية التي لا تتحول من مصرف الأصل أبدا ، فإذا كان كذلك فالمحب والمحبوب والمحبة في عين الجمع واحد ، وهذه إشارة قوله سبحانه بلسان نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حيث أخبر عن المحب المتحد المتصف بصفاته ، قال في أثناء الحديث : «فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا» (١).

وفي هذا المعنى أنشد الحسين بن منصور فقال :

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته

وإذا أبصرته أبصرتنا

قال الواسطي في هذه الآية : كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته ؛ لأن الهاء راجعة إلى

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (٨ / ٣١٩).

٣١٧

الذات دون النعوت والصفات.

قال السلامي : بفضل حبه لهم أحبوه ، كذلك ذكرهم بفضل ذكره لهم ذكروه.

وقال : الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة ، فإذا لم يكن ذلك لم يكن فيه حقيقة.

وقال يوسف بن الحسين : المحبة الإيثار.

وأنشد في معناه الحسين بن أحمد الرازي ، قال : أنشد أبو علي الروذباري لنفسه :

سامرت صفو صبابتي أشجانها

حرق الهوى وغليلة نيرانها

وسألت عن فرط الصبابة قيل لي

إيثار حبّك قلت خذ بعنانها

كلّ له وبه ومنه ، فأين لي

وصف؟ فأؤثره فطاح لسانها

قيل : المحبة ارتياح الذات بمشاهدة الذات.

وقيل : المحبة هي أن تصير ذات المحب صفة المحبوب.

قال الواسطي : بطل حبهم بذكر حبه لهم بقوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) ، وأن تقع صفات المعلولة من الصفات الأزلي الأبدي ، وقد وقعت إلى إشارة : أن محبة الله وقعت في الأزل ، ولم يكن هناك وجود الأحباء ؛ لأنه تعالى لم يكن محتاجا إلى رؤيتهم محبته إياهم ، ولكن لم تكن محبة الأحباء له إلا بعد أن رأوا مشاهدتهم ، فثبتت المشاهدة قبل المحبة ، وثبتت المحبة بعد المشاهدة ، والمحبة بعد المشاهدة من قبل المحبين لم تكن محبة حقيقية ، لأن محبة الآلاء والنعماء وقعت معلولة ، ولذلك لم يرتدوا عن دينهم الذي هو المحبة ؛ لأن من رأى عشقه فكيف يرجع عنه من كان مسلوب القلب بعشقه وجماله!

ثم زاد الله في وصفهم بذكره تواضعهم لأحبائه وغلبتهم على أعدائه بقوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) ، وذكر بذل وجودهم في طريق محبته ، بنعت جهدهم أعدائه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقلّة مبالاتهم في الله إلى ملامة اللائمين بقوله تعالى : (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) ، وعلّق جميل أوصافهم بفضله وسعة رحمته ، كما أنه علّق محبتهم بمحبته بقوله تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

قال أبو بكر الوراق : الجهاد ثلاثة : جهاد مع نفسك ، وجهاد مع عدوك ، وجهاد مع قلبك ، والجهاد في سبيل الله هو مجاهدة القلب بألا تتمكن منه الغفلة بحال ، وجهاد النفس ألا تفتر عن الطاعة بحال ، وجهاد الشيطان ألا يجد منك فرصة فيأخذ بحظه منك.

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ

٣١٨

راكِعُونَ (٥٥))

قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) أي : محبّكم الله بصدق العناية ، ومحبة الرسول تأديبهم بالشريعة ، ومحبة المؤمنين الإيثار للنفس والمال إليهم بالأخوة.

قال سهل : أما ولاية الله فهو الاختيار لمن استولاه ، وولاية الرسول عليه‌السلام إعلام الله ورسوله أنه وليّ ، فيجب على الرسول أن يوالي من والى الله.

(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧))

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) أي : من وقعت له تولية الله بمحبته ورؤية مشاهدته ووقعت التولية من رسول الله بموافقته لطاعة الله ، وتوليه المؤمنين من جهة استعداد الفطرة ورؤية أنوار الغيب في وجوههم ، فإنه محبوب الله ، ومحبوب رسوله ، ومحبوب المؤمنين ، ويكون طالبا على نفسه وشيطانه بالنصرة الإلهية.

قال القاسم : موالاة الله مشتقة من موالاة رسول الله ، ومولاة رسول الله مشتقة من موالاة السادة والأكابر من عباده ، وهم المؤمنون ، ومن لم يعظم الكبراء السادة لا يبلغ إلى شيء من مقام الموالاة مع الله ورسوله.

قال عليه‌السلام : «من تعظيم جلال الله إكرام ذي الشيب المسلم» (١).

قال في قوله : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) قال : لأهوائهم وإرادتهم ومقاصدهم.

وقال بعضهم : حزب الله أهل خاصته القائمين معه على شرائط الاستقامة.

(وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ

__________________

(١) رواه البخاري في التاريخ الكبير (٦ / ١٩).

٣١٩

لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣))

قوله تعالى : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) مناداة الحق لا يسمعها إلا أهل الحق ، من سمع نداء الأزل وأجاب بالتلبية بنعت المحبة يسمع نداءه بالواسطة بشرط إصغاء سمعه الخاص في السماع إلى قول الغيب ، ومن لم تكن روحه مستروحة بمروحة الصفاء لم يكن سرّه منوّرا بنور البقاء ، ولم يكن قلبه مشتاقا إلى جمال مشاهدة الله بنعت الحرق والهجان ، ولم يكن من أهل السماع ، ولم يجب داعي الغيب.

قال الأستاذ في هذه الآية : الأذان دعاء إلى محل النجوى ، فمن تحقق بعلوّ المحل فسماع الأذان يوجب له روح القلب واسترواح الروح ، ومن كان محجوبا عن حقيقة الحال لاحظ ذلك بعين اللعب ، وأدركوا بسمع الاستهزاء.

قوله تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) في الآية تحذير الربانيين العارفين بالله وبحقوق الله ، والأحبار العلماء بالله ، وبعذاب الله لمن عصاه ، وبثواب الله لمن أطاعه ؛ لئلا يسكنوا عن زجر المبطلين والمغالطين المائلين عن طريق الحق إلى طريق النفس ، وبيّن تعالى أن من داهن في دينه عذّبه وإن كان ربانيّا.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من رجل يجاور قوما يعمل بالمعاصي بين ظهرانيهم ، فلا يأخذون على يديه إلا أوشك الله أن يعمّهم منه بعقاب» (١).

قال الواسطي : الربانيون العارفون مقادير الخلق من جهة الحق ، والأحبار الآمرون بالمعروف ، والناهون عن المنكر.

قال أبو عثمان : الربانيون هم أهل حقيقة الحق ، وهم أهل المحبة لله بالصدق.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ

__________________

(١) رواه الطبراني في الكبير (٢ / ٣٣٢).

٣٢٠