تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٢

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) ، وبيّن أن قربته ووصله تتعلق برحمته السابقة لا بأمانة النفوس وكثرة المجاهدات.

وأيضا : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) الروحانية الملكوتية بمتابعة هوى النفوس الأمارة الشيطانية ؛ فإنّ النفس الروحانية في جوار النفس الأمارة ، وإذا علت بهواها على النفس الروحانية أظلمتها بغيم المعصية.

قال بعضهم : لا تهلكوا أنفسكم بارتكاب المخالفات واستكثار الطاعات.

قال محمد بن الفضل : باتباع هواها ، قال : فقيل : لا تغفلوا عن حظ أنفسكم ، فمن غفل عن حظ نفسه فكأنه قتلها (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً).

ويقال : بنظركم إليها ، وملاحظتكم إياها.

وقال علي بن موسى الرضا ، عن أبيه ، عن جعفر ـ رضي الله عنهم : معناه لا تغفلوا عن أنفسكم ؛ فإنّ من غفل عن نفسه غفل عنه ربه ، ومن غفل عن ربه قتل نفسه.

قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) (١) الكبائر هاهنا في الإشارة رؤية العبودية في مشهد الربوبية ، ورؤية الأعواض في الخدمة ، وميل النفس إلى غير الله من العرش إلى الثرى ، والسكون والوقفة في مقام الكرامات ، وإظهار المقامات قبل بلوغها برسوم الرسومات والخطرات السارقة الجارية بخفيات ضمائر الرضا في بطنان ضمائر الأسرار ، وهذه المحن حجبات المعارف من بقي فيها تقاعد عن سلوك المعرفة ، واحتجب بنفسه عن نور المشاهدة ، وأنّه تعالى نبّهنا أن من حجب عنها ، وإن باشرها يعينه ويؤيده بتخليصه عنها وبرفع الوحشة والكدورة التي بقيت منها في قلبه عن ذلك.

قوله تعالى : (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) ومن خرج عن هذه الظلمات أدرك ما فاته من المقامات ، وزاد قربه في المشاهدات بقوله تعالى : (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) والمدخل الكريم : وصال جماله وإدراك لطائف نواله.

قال أبو تراب : أمر الله باجتناب الكبائر ، وهي الدعاوى الفاسدة ، والإشارات الباطلة ، وإطلاق اللفظ بغير الحقيقة.

__________________

(١) الكبائر ـ على لسان العلم ـ هاهنا : الشّرك بالله ، وعلى بيان الإشارة أيضا الشّرك الخفيّ ، ومن جملة ذلك ملاحظة الخلق ، واستجلاء قبولهم ، والتودد إليهم ، والإغماض على حق الله بسببهم ، ويقال : إذا سلم العهد فما حصل من مجاوزة الحد ؛ فهو بعيد عن التكفير ، ويقال : أكبر الكبائر إثباتك نفسك ، فإذا شاهدت نفيها تخلّصت من أسر المحن [تفسير القشيري (٢١ / ٤٧٢)].

٢٤١

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣))

قوله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) التمني هاهنا وصف النفس الأمّارة التي رأت الأشياء بعين الجهل ، وقصورها عن حقائق المقادير الأزلية التي سبقت في الجمهور على قدر مراد الله والاستعداد ، وذلك التمني وهمها على غير قصد الحق من رؤية هواها ، ولو كان طلب القلب سني المقامات من الحق سبحانه بنعت التواضع وصدق الافتقار لكان مما يوجب البلوغ إليه ، وذلك قوله : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ).

وأيضا : زجرا للضعفاء عن جمال أحكام المجاهدات ، ومقام أهل المشاهدات.

وقال بعضهم : لا تتمنوا منازل السادات والأكابر أن تبلغوها ، ولم تهذبوا أنفسكم في ابتداء إرادتكم برياضات السنن ، ولا إسراركم بالتطهير عن الهمم الفاسدة ، ولا قلوبكم عن الاشتغال بالفانية ، فإنّ الله قد فضّل بهذه الأحوال أولئك ، فلا تقربوا إلى الدرجات الأعلى ، وقد ضيقتم الحقوق الأدنى.

قال أبو العباس ابن عطاء : لا تتمنوا ؛ فإنكم لا تدرون ما تحت تمنيكم ، فإن تحت أنوار نعمه نيران محنه ، وتحت نيران محنه أنوار نعمه.

قال الواسطي في هذه الآية : إن تمنى ما قدر له ، فقد أساء الظن بالحق ، وإن تمنى ما لم يقدر له ، فقد أساء الثناء على الله بأن ينقص قسمته من أجل تمني عبده.

قوله تعالى : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) أمر بالسؤال ، ونهى عن التمني ؛ لأن السؤال افتقار ، والتمني اختبار ، والسؤال استرداد النعمة ، والتمني الاقتحام في المحنة.

وعرف تعالى طلابه عظم فسحة سرادق كبريائه وجلاله ووسع عطايا أزليته أي : أنتم يا دنيات الهمم لا تنظروا إلى فقيرات الفيض ، فإنّي واسع الفضل والعطاء ، لو أعطي ألف جنان في طرفة عين إلى عبد واحد لم ينقص من ملكي ذرة ، أين وقعتم من رؤية جلال قدمي وبحار منني ، انظروا مني إليّ ، واسألوا زيادة فضلي ، فإنّي وهّاب كريم.

وافهم أنّ للسؤال مقامات ، ولتلك المقامات آداب ينبغي أن يعرفها العبد ، فإنّ من ترك السؤال في مقام الانبساط ، وسأل في مقام الهيبة استعمل سوء الأدب ، ويسقط من عين الله.

ووبّخ الله سبحانه بهذه الآية أهل دناءة الهمة ، والمقصرين في طلب مشاهدته ؛ حيث

٢٤٢

خاطبهم (وَلا تَتَمَنَّوْا) ، فقال : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) حجبهم جميعا بالفضل عن رؤية جماله ، ولو كان على محل التحقيق من معرفته ومحبته لم يحملهم إلى الفضل ، بل يردهم إلى نفسه ، كما وصف صفيه عليه‌السلام ؛ حيث عرض إليه الأكوان والحدثان في مقام المشاهدة ، ما زاغ سره إليها ، بقوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧].

قال ابن عطاء في قوله : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) : فإنّ عنده أنوار كرمه.

قال الواسطي : لو لم يعط إلا على السؤال لكان الكرام ما هو أمر المعروف بالكرم من يبتدئ بالعطاء قبل السؤال.

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥) وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦))

قوله تعالى : (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) فالصالحات العارفات بالله ، وبحقوق الله ، وبأمر الله ، وبعفو الله وبعقوبته ، وبما وجب عليهن من حقوق أزواجهن في حسن معاشرتهن معهم ، والنصيحة في أمرهم ، والقانتات قائمات على باب الله بخلوص نيتهن في عبوديته ، والشوق إلى لقائه والتواضع في خدمته.

(حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) أي : ساترات على ما كوشف لهن من أحكام الغيب ، وأنوار القرب حتى لا يطّلع عليهن أحد ؛ حياء من الله ، وسترا على حالهن ؛ لئلا يخرجن من حدة الوجد وصفاء الود ، ومتابعة قول الله سبحانه بما أمرهن ، قال : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) [الأحزاب : ٣٣].

ولما رقّت زجاجات قلوبهن بنيران الخوف ونور الرجاء ولطف المراقبة وسناء الشهود ورقة الملازمة في البيوت وشوقهن إلى عالم الآخرة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك منهن ، وأمر الحادي

٢٤٣

بالسكوت عن إنشاد الشعر فقال : «يا فلان إياك والقوارير» (١).

ولا يكون ذلك إلا بما حفظن الله من الغلبات ، والخروج من الحجرات ، فتولى حفظهن بنفسه ، يعني حفظهن أنفسهن بحفظي إياهن ، كما أخبر من لطفه تعالى على أم موسى عند غلبات شوقها إلى موسى ، فقال : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) [القصص : ١٠].

وأيضا : (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) أي : ما رأين من أزواجهن من الكرامات وأسرار الله التي انكشفت لهم فلا يقلن عند أحد.

وأيضا : بما رأين من فقرهم ومجاهدتهم وعبادتهم ؛ لئلا يفتتنوا برياء الخلق ، ولا يقعن في الشكاية عنهم ، وأيضا : حافظات لفروجهن وعوراتهن من خوف الله ؛ فإن خوف الله يمنعهن من هتك الأستار.

قال بعضهم : بحفظ الله لهن صرن حافظات للغيب ، ولو وكلهن إلى أنفسهن لهتكت ستورهن.

(فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) اختلفت طينة الأشباح في التداني والتباعد ، وهكذا جوهر الأرواح وقت إيجادها ، فوقعت بينها منازعة ؛ لتفاوت الأخلاق والحالات والمقامات.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف» (٢).

من هنا وقع النشوز والخلاف بين الأزواج ؛ لتفاوت السجيات ، فإذا جعل بالممارسة والمجاهدة والرياضة صوره طاعة ، طاعة الرجال فلا ينبغي أن يطلبوا منهن مرافقة الطباع ومجانسة الأشباح والأرواح ؛ فإن ذلك منازعة القدر ، وهذا معنى قوله (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) أي : لا تكلفوهن بما لا يكون لهن من تبديل الخلق ، قال تعالى : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم : ٣٠].

وقيل : لا تبغوا فيهن المحبة وخلوص النية معكم ؛ فإن قلوبهن بيد الله ؛ ولذلك قال عليه‌السلام : «اللهمّ هذا قسمي فيما أملك ، فلا تؤاخذني بما تملك ولا أملك» (٣).

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (١ / ٣٥٠) ، والديلمي في الفردوس (٥ / ٣٩١).

(٢) رواه البخاري (٣ / ١٢١٣) ، ومسلم (٤ / ٢٠٣١).

(٣) رواه أبو داود (٢ / ٢٤٢) بلفظ : «فلا تلمني» بدلا من «فلا تؤاخذني».

٢٤٤

قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (١) أمر بشيئين : العبودية والإخلاص في العبودية ، ولا تكون العبادة مع الشرك ، ولا يكون الإخلاص والتوحيد بغير العبادة ، فطلب التوحيد بنعت إفراد القدم عن الحدوث ، ونفي الأنداد والأضداد ، وطلب العبادة المقرونة بهذا التوحيد ؛ لتكون العبادة موافقة للتوحيد ، ويكون التوحيد موافقا لتنزيه القدم.

خلق النفس مع حظها ، وأمر العباد بتقديس حظ اليقين عن اليقين ، وكيف يكون تبديل الخلق وطبع النفس أن يكون مائلا إلى غير الله ـ تعالى ـ أي : اطلبوا مني تقديس الأسرار في كشوف الأنوار ؛ فإني قادر على أن أزمّها بأزمّة الوحدانية ، وأسيرها خاضعة لفردانيتي.

وأيضا : اعبدوا الله لله ، لا على رؤية العوض والعبادة ؛ فإنهما شرك العارفين ، واعبدوه على رؤية التقصير ؛ فإنها عبادة الموحدين ، وأيضا : شغلهم منه به ، ولو أحبهم بالحب البالغ أسكرهم بشراب القرب والمشاهدة ، وأوقعهم في بحار القدم بعد خروجهم من العدم ، وهذا آخر الأمر في المحبة والمعرفة ؛ ألا ترى كيف وقع بالامتحان من أهل الجنة ، وأخبر عنهم بما وجدوا من راحة القرب والمشاهدة بغير نصب الامتحان (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) [فاطر : ٣٥].

قال أبو يزيد : إن الله سبحانه نظر في العالم فلم ير أهلا لمعرفته ، فشغلهم بعبادته.

قال أبو عثمان : حقيقة العبودية قطع العلائق والشركاء عن الشرك.

وقال الواسطي : الشرك رؤية التقصير والعزة من نفسه والملامة عليها ، يقال له : ألزمت الملامة من تولى إقامتها ومن قضي عليها الشره.

وقال بعضهم : العبودية فناؤك عن مشاهدتك في مشاهدة من تعبده.

قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) الوالدان : مشايخ المعرفة ، وإحسان المريدين إليهم بوضع أعناقهم عند ساحاتهم بنعت ترك مخالفاتهم في جميع الأنفاس مع نشر فضائلهم عند الخلق والدعاء لهم بمزيد القرب.

قال الجنيد : أمرني أبي أمرا ، وأمرني السري أمرا ، فقدّمت أمر السري على أمر أبي ، وكل ما وجدت فهو من بركاته.

قوله : (وَبِذِي الْقُرْبى) أي : إخوان المحبة من أهل قربة الله.

__________________

(١) العبادة موافقة الأمر ، وهي استفراغ الطاقة في مطالبات تحقيق الغيب ، ويدخل فيه التوحيد بالقلب ، والتجريد بالسر ، والتفريد بالقصد ، والخضوع بالنفس ، والاستسلام للحكم ، ويقال : اعبدوه بالتجرد عن المحظورات ، والتجلد في أداء الطاعات ، ومقابلة الواجبات بالخشوع والاستكانة ، والتجافي عن التعريج في منازل الكسل والاستهانة [تفسير القشيري (١ / ٢٨)].

٢٤٥

(وَالْيَتامى) أهل فرقة الله الذين وقعوا في الفترة وآفة الشهوة ، واحتجبوا بها عن المشاهدة ، فإحسانهم ترغيبهم إلى طاعة مولاهم ، وتشويقهم إلى مشاهدة سيدهم مع التلطف والظرافة في دعائهم الله ، ومن مات أستاذه قبل بلوغه إلى درجة القوم فهو يتيم المعرفة ، والإحسان إليه تربيته بآداب القوم ؛ لئلا ينقطع عن الطريق.

قوله تعالى : (وَالْمَساكِينِ) أراد به السالكين غير المكذوبين ؛ فإن المساكين سلكوا طريق المقامات بالمجاهدات ، وإحسانهم كشف أسرار المشاهدات عندهم لتقع آثار المحبة في قلوبهم ، فيسكنوا عن المجاهدات الظاهرة ، ويطلبوا الحق بالقلوب الحاضرة والأسرار الظاهرة ؛ ليصلوا بطرفة عين إلى مقام لا يصلون إليه بألف سنة بالمجاهدة والرياضة.

وأيضا : المساكين الذين وقفوا على باب العظمة ، وتاهوا في أودية الصفة ، وتحيروا في بيداء القدم ، ولم يجدوا سبيلا إلى مرادهم الكلي لظهور النكرة في المعرفة ، والمعرفة في النكرة ، فأمر الله سبحانه أن يواسيهم بما يفرج عنهم أثقال العظمة بروح القلوب ، وذلك المجالسة بالسماع مع صوت طيب ورائحة طيبة بين كرام المعارف وأشراف الكواشف ؛ ليستأنسوا بسماع ساعة كي لا يحترقوا بنيران الكبرياء.

قال عليه‌السلام : «روّحوا قلوبكم ساعة فساعة» (١).

أمرهم بالنشاط بالله على الله ؛ لعلمه باحتراق أهل الإجلال والعظمة ؛ فأشفق عليهم ، وأمرهم بالتوسع ، وفتح عليهم باب الرخص زيادة تشوقهم ومحبتهم جماله تعالى.

قوله تعالى : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) أي : أحسنوا إلى من كان مقامه موافقا لمقاماتكم ؛ لأنه في طريق المعرفة جار قربة الله ، وهو قرابتكم في محبة الله.

وأيضا : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) هو الروح الناطقة العارفة العاشقة الملكوتية ، التي خرجت من العدم بتجلي القدم ، وانقدحت من زنود الأزل ، وهي أقرب كل شيء منك ، وهي جار الله ، وهي مصبوغة بصبغ الله ، وهي في يمين الله ، قال عليه‌السلام : «الأرواح في يمين الله» (٢) ، ومعذبها من قلبك منظر نور التجلي ، ومسكن نور سنا التدلي ، وإحسانها أن تطيرها بجناح المعرفة والشوق والمحبة إلى عالم المشاهدة ، بعد أن تطلقها من قيد الطبيعة ، وتقدس سكنها من حظوظ البشرية ، وهي أقرب القرابة منك ؛ لأنها أصل قيامك ، وأنت قائم بها.

(وَالْجارِ الْجُنُبِ) هو المريد المبتدئ ، فإحسانك إليه أن ترغّبه إلى سلوك مدارج

__________________

(١) رواه الديلمي في الفردوس (٢ / ٢٥٣).

(٢) ذكره المصنف في مشرب الأرواح (ص ٧٨).

٢٤٦

الصدّيقين العارفين ، وتنشر له مطويات أسرار المحبين وفضائل أحوال المشتاقين.

وأيضا : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) صورتك التي هي حاملة الروح ، والإحسان إليها أن تفطم جوارحها من حظوظ المعاصي والشهوات.

(وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) يعني رفيقك في سفر الغيب ، الذي هيّجه حب الله إليه ، وشوقه معرفة الله إلى معرفة الله ؛ فأنفاسه أنفاسك ، وسرّه سرّك ، ومقامه مقامك ، وهو قرينك في غربة الأزل ، وأسفار الأبد ، وإحسانك إليه ؛ إذ كاد ينقطع بلذة المحبة من المحبوب ، لن تخوفه من مكره ، وترغبه إلى طلب الفناء فيه.

وأيضا : (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) هو قلبك ، وإحسانك إليه أن تفرده من الحدثان ، وتشوقه إلى جمال الرحمن.

وأيضا : (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) هي النفس الأمّارة بالسوء ، التي قال سيد المرسلين وإمام العالمين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك» (١) ، وإحسانك إليها أن تحبسها في سجن العبودية ، وتمنعها عن الشهوة ، وتحرقها بنيران المحبة ، وتزر ترابها برياح المعرفة ، حتى لا يبقى في جار الله غير الله.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) أي : غريب الله في بلاد الله ؛ حيث لا يعرفه سوى الله ، الذي يتطرق إليه من نور الأفعال إلى نور الصفات ، ومن نور الصفات إلى نور الذات ، وهو في غربة الآزال والآباد لا يذكر روعته ولا يطفئ حرقته ، ويزيد تحيره وتغربه ، لا يعرفه أحد يواسيه ، قال عليه‌السلام : «إن حضروا لم يعرفوا ، وإن غابوا لم يفتقدوا» (٢).

وزاد في وصفهم : لا يفتح لهم السدد ، ولا يروحهم المنعمات ، أنوار قلوبهم أنور بنور الشمس ، والإحسان إليهم بدر المهجة بين أيديهم ، وزيادة الاستطابة في أوقاتهم ، ودفع الأغيار عن صحبتهم ، حتى لا يطّلع عليه أحد يمنعهم من أحوالهم ساعة.

(وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي : مريدوكم الذين هم أرقّاء الإرادة ، والإحسان إليهم تربيتهم في طريق الله بآداب الله ، ونشر كرامة الله عندهم ، ودعاؤهم إلى طريق الرجاء ؛ لأن الراجي طيار ، والخائف سيار ، وتعليمهم طريق المشاهدة بلزوم المراقبة.

وذكر سهل بن عبد الله في تفسير هذه الآية قال : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) هو القلب ، و (وَالْجارِ الْجُنُبِ) هو النفس ، (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) العقل الذي ظهر على اقتضاء

__________________

(١) رواه البيهقي في الزهد الكبير (٢ / ١٥٧).

(٢) ذكره ابن الجوزي في صفوة الصفوة (٤ / ٢٥٠).

٢٤٧

السنّة والشرع ، (وَابْنِ السَّبِيلِ) والجوارح المطيعة لله.

وقال الأستاذ في قوله (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) من جيرانك ملكان ، فلا تؤذيهما بعصيانك ، وراع حقهما بما يصل إليهما من إحسانك.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) من عرف الله وشاهد صفاته وبدا له حقائق المحبة ، ولم يطق أن يبذل نفسه لله وفي الله ، فهو بخيل ، ولم يذق حلاوة المحبة بحقائقها ، ومن كشف الله له أحكام الملكوت ، ولا يذكرها عند المشتاقين إلى لقائه ، فهو بخيل ، ومنع الأساتذة والمشايخ عن بيان حقائق طريق الله عن المريدين ، فهو معاتب بهذه الآية ، وتصديق ما ذكرناه قوله سبحانه وتعالى : (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فضله : معرفته ومحبته ، ورؤية نوال قربه ولطف بره.

قيل : الذين يمنون بالعطاء ، ويطلبون من الناس الثناء عليهم.

قال ابن عطاء في قوله : (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) : من البراهين الصادقة.

وقال بعضهم : لا يشكرون نعمة العافية عليهم.

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) أخبر عن تنزيه جلاله وتنزيه نواله عن النقص على المحسنين ، وبشّر في تضعيف الآية الذين يظنون أعمالهم الصالحة لا تقع موقع القبول ، ولا يجدون ثوابها بأنه تعالى يثيبهم على ذلك بأحسن ما يحبون منه ؛ لأن علمه تعالى محيط بما كان وما سيكون ، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة من العرش إلى الثرى ، لا ينقص ثواب الصادقين ، وإن كان أقلّ من ذرة ؛ لأنه خالق ذلك ، وكيف يخفى عليه ذلك ، وهذا إخبار عن كمال علمه وقدرته جميع المخلوقات ، وفيه إذا كان المرء مسيئا فتاب هو تعالى يبدّل سيئته حسنة ، فكيف إن كان محسنا؟ فهو يقبل الحسنة منه ، ويثيبه بها بعشرات أمثالها ، وأن يعطيه جميع درجات الجنان بلا حسنة ، فهو أهل له ؛ لأنه أهل التقوى وأهل المغفرة.

والحسنة ههنا توحيد الله ، وإذا كان صادقا مخلصا في ذلك فدرجاته مضاعفة على درجات غيره من العامة ، ثم أخبر أنه تعالى يتفضّل على عبده الصادق بلا سبب من عند كرمه

٢٤٨

وجلاله ما لا يحصي عدده من نوال قربه ، ومشاهدته بقوله : (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) والأجر العظيم : مشاهدته.

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥))

(مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧))

قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) أخبر تعالى عن مقام جلاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مشاهدته تعالى حيث شاهده جمهور الأنبياء والصديقين ، وبيّن عن عظيم خوفه في قلوب الجميع ، ووضع هاهنا الرغبة والرهبة معا ؛ لأن العارف إذا قرب من البساط يغلب عليه التعظيم والإجلال والرغبة والرجاء ؛ لأن شهود أنوار قربه يقتضي هاتين الحالتين ، أي : كيف حالك في رؤية القدم ، وأنت لا أنت ، وكيف حال هؤلاء عند بروز سطوات عظمته ، وهم في حد الفناء في رؤية كبريائي؟ وكيف حال الأنبياء والصديقين قبلك وقبل أمتك في ميادين عزتي وجلالي ، إذا كان حالك وحال أمتك بهذه الصفة؟ أي : فكيف تشهد الشهداء والمشهودين عليهم حين أبرزت وجهي الكريم؟ كيف تشهدون على الأمة في وجهي وكشف جمالي؟ وكيف تبقي الأمة عند فناء الأنبياء؟ أما مقام الرهبة فيها فإن الله سبحانه لما كشف بعد حواشي سرادق كبريائه من الأنبياء والصديقين وقع عليهم البهتة والتحير والفناء من عظمته وسطوة عزته ، فلا يبقى أحد منهم إلا أن يكون مضمحلا في نفسه ، فخاطب على وجه التعجب ، أي : كيف يقومون بإيذاء كشف جمالي بنعت

٢٤٩

الرضا ، وأنتم على شبه السكارى حيارى من حلاوة لذة جمالي؟.

وفي الحديث المروي : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر ابن مسعود ببعض قراءة القرآن عنده ، فقال : يا رسول الله أنزل عليك القرآن ، وأنا أقرأ عندك ، فقال عليه‌السلام : «أنا أحبّ أن أسمعه من غيري ، فقرأ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ...) إلى قوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) فوضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على ابن مسعود وقال : إلى ههنا ، وبكى بكاء شديدا حتى اضطربت لحياه» (١).

وفي رواية أنه عليه‌السلام صاح صيحة عند سماع هذه الآية ، وبيّن في وجده عليه‌السلام هاتين المنزلتين.

وأيضا : بيّن شرف نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته وشرف الأنبياء وأممهم ، وألا يخفى عليه شيء من العرش ليستره.

قال بعضهم : (وَجِئْنا) من كل أمة بوليّ وصديق ، (وَجِئْنا بِكَ) مصدقا لولايتهم أو مكذبا لها ، قال الله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) هذا خطاب لأهل العشق والمحبة والشوق الذين أسكرتهم أنوار القدوسية ، وسبحات السبوحية وسطوات العظمة ، وشربات بحار الأزلية ، ولطائف كشوفات القدمية ، وهم حيارى سكارى ، تائهون في مشاهد الجلال والجمال ، فغالب أحوالهم العبرات والغلبات والزعقات والشهقات ، والهيجان والهيمان ، لا يعرفون الأوقات ، ولا يعلمون الليل من النهار ، ولا النهار من الليل ، لا يقدرون في حال سكرهم أي : ماتوا على شرائط الصلاة من القيام والقراءة والركوع والسجود ، كهشام بن عبدان ، وبهلول ، وسعدون ، وجميع عقلاء المجانين.

أي : أيها العارفون بذاتي وصفاتي وأسمائي ونعوتي السكارى من شراب محبتي وسلسبيل أنسي وتسنيم قدمي وزنجبيل قربي وخمور عشقي وعقار مشاهدتي إذا كشفت لكم جمالي وأوقعتكم في مقام ربوبيتي فلا تكلفوا أنفسكم أمر صورة الظاهر ؛ لأنكم في جنان مشاهدتي ، وليس في جنة جلالي تعبّد ، حتى سكنتم من سكركم ، وصرتم صاحين على نعت التمكين ، فإن جنون العشق يرفع قلم التكليف عن مجنون محبتي ، فإذا تصلون وتقربون مقام البدايات على حدّ الصحو ، وإن كنتم مضطربين من خمار ذلك السكر ، لأنّ السكران

__________________

(١) رواه البخاري (٤ / ١٦٧٣) ، ومسلم (١ / ٥٥١).

٢٥٠

والصاحي يذهبان عن صورة العقل إلى عالم العشق ، عند طلوع جلال عظمتي ، من مطالع قدمي في عيون أبصار أسرارهم ، فعند ذلك يستوي حالهما :

إذا طلع الصباح لنجم راح

تساوى فيه سكران وصاحي

وكشف غمة إبهام المبطلين ، الذين يطعنون إشاراتنا لقلة أفهامهم بها ؛ حيث قال : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ذكر القربة ، وما قال : لا تصلوا ، وشرط فيها السكر ، والسكر خطرات ، والصحو وطنات ، وإذا أبقى العقل الإلهي في إشراق أنوار سلطان المشاهدة ذرة فينبغي أن يصلي ، ويؤدي حق الأوقات ، فإنّ بعض مشايخنا لما حان عليهم وقت الصلاة وهم في وجد وحالة قاموا إلى الصلاة ، ومريدوهم عدوا ركعاتهم وسجداتهم وركوعاتهم فإذا سهوا عن شيء ذكّروهم ذلك ، وهذا من كمال ظرافتهم في المعرفة.

وأيضا : خاطب أهل الغفلة وسكارى الجهل من شراب الهوى والشهوة ألا يأتوا إلى مقام مناجاته وقربه ومشاهدته حتى يخرجوا منها ؛ فإن الغافل لا يؤدي فرائضه على شرائط السنة.

قال الواسطي : لا تقرب إلى مواصلتي إلا وأنت منفصل عن جميع الأكوان.

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢))

(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) مكان الآية مكان الخوف والرجاء ، أخبر أنه غفر عن العام جميع المعاصي الصغائر والكبائر دون الشرك الجلي الذي يستوجبون به النار ، ولم يشترط التوبة هاهنا ، ولم يبين مكان الغفران ، وفيه رجاء ، وهم بعدم الشرطين ؛ لأنّه يغفر ذنوبهم في الدنيا ، ولم يذكرها عندهم في الآخرة ؛ لطفا وكرما إن لم تصادف المعصية الشرك ، وشدّد الأمر على الخواص بمؤاخذته إياهم ؛ حيث تفحّص أمر الخطرات المخفية من رؤية الطاعة وأعواضها ، وحب الجاه والمحمدة والرياء والسمعة ، بيّن أن ما دون هذه الأشياء منهم مغفور من العثرات والزلات ، فإنها غير نقض عهد المحبة والمعرفة ، وإنهم مأخوذون بالشرك الخفي ، فهو خطرات الرياء والشك في الطريق ،

٢٥١

وأراد تعالى بذلك أنهم محاسبون به في جميع الأنفاس ، فإن بقوا في ذلك لمحة عاقبهم الله بذلك الحجاب ، وهذا إذا كانوا غافلين عن تلك الخطرات ، أما إذا استدركوها بعد جريانها ولم يغفلوا عنها برد الخاطر ورد وسوسة العدو بذكر الله ونشر صفاته والتفكر في آلائه ونعمائه بفسح قلوبهم بأنوار ذكره حتى تداركوها بالخجل ورؤية تقصيرهم بالمراقبة والحضور ، فبعد ذلك تنتشر أسرار الألوهية وأنوار الربوبية في صدورهم ، قال تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [الزمر : ٢٢] ، فبتلك الأنوار والأسرار عمروا طرق المعارف والكواشف.

قال بعضهم في الآية : أن يطالع سره شيء سوى الله.

وقال بعضهم : إن رؤية العمل ورؤية النفس وطلب المدح عليه كلها من أنواع الشرك الذي أخبر الله أنه لا يغفره ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاكيا عن ربّه : «من عمل عملا أشرك فيه غيري ، فأنا منه بريء» (١).

قال الأستاذ : العوام طولبوا بترك الشرك الجلي ، والخواص طولبوا بترك الشرك الخفي.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) شكا سبحانه عن أهل الدعاوى الباطلة ، الذين يراءون الناس ، ولا يذكرون الله ، سمعوا كلام الأولياء ، وباعوا على سوق السالوسيين ، وأضافوا حقائق الصديقين إلى أنفسهم ، وأشاروا إلى مقام الرياضات والمجاهدات بغير علم ، ولم يشموا رائحة الصدق ، ومع هذه العيوب يرون أنفسهم عنها ، فرّد الله عليهم بقوله : (يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي : يلبس أنوار تنزيهه أولياءه وأصفياءه ، فيقدّسهم به عن كل سوء ، وعن كل خاطر غير سبيل الحق.

قال بعضهم : ليست الأنفس بمحل التزكية ، فمن استحسن من نفسه شيئا ، فقد أسقط من باطنه أنوار اليقين.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) وبّخ الله تعالى أهل ظاهر العلم ، الذين اختاروا الرئاسة ، وأنكروا على أهل الولاية ، وآثروا صحبة المخالفين ، يقبلون هواجس نفوسهم التي هي الجبت ، ويخطون آثار الطاغوت التي هي إبليس.

قال سهل بن عبد الله : رأس الطواغيت نفسك الأمّارة بالسوء إذا خلا العبد معها عن العصمة.

__________________

(١) رواه ابن ماجه (٢ / ١٤٠٥) ، وأحمد (٢ / ٤٣٥).

٢٥٢

وقال ابن عطاء : أعطوا الكتاب حجة عليهم لا كرامة لهم.

قال بعضهم : الجبت مرادك ، والطاغوت هيكلك.

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧) إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨))

قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أخبر عن حسدة الأولياء ، الذين يرون الناس الهيبة والوقار على الصديقين ، وهم معظمون به في عيون الخلق ، وهم يحسدون بهم وبكراماتهم وولايتهم ، فإذا ذكر الخلق أوصافهم يدفعونه بإنكار عليهم ، وفضل الله معرفة الله وكراماته.

قال بعضهم : الفضل هاهنا الكرامات والولايات والمشاهدات ، يكذبون صاحبها ولا يعظمونه.

قوله تعالى : (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) الملك العظيم : النبوة والولاية ، التي تشتمل على فنون الحقائق من الفراسات والكرامات ، ورؤية الغيب وكشف الأسرار.

قيل : إشرافا على الأسرار.

وقيل : فراسة صادقة.

قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) وصف المقبلين والمدبرين مقبلين بنعت الإرادة في حق الأولياء ، ومدبرين بوصف الإنكار عليهم.

قوله تعالى : (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) أي : في مشاهدة صفات الأزلية ورؤية جلال ذاته سبحانه.

وأيضا : الظل الظليل : عنايته الأزلية ، وكفايته الأبدية ، ورعايته السرمدية.

قال بعضهم : التفويض ، وهو محل الراحة والأمن في الدارين.

٢٥٣

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (١) الأمانة : عهد الله الأزلي ، الذي عاهد به أرواح أهل القرب في مشاهدة جماله ؛ حيث قبلت الأرواح من الربوبية سمات العبودية ، ومن المشاهدة لطائف المحبة ، ووجدت أسرار الملك والملكوت عند سرادق الجبروت ، فكتمتها عن الأغيار ، فلما تلبست بالأشباح كادت تفشيها من الضعف عن حملها ، فأمرهم الله بكتمانها عن الخلق حتى يؤدونها إلى الحق سبحانه عند كشف جماله في الآخرة ؛ لأنه تعالى أهل تلك الأمانة ، وذلك قوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) [الأحزاب : ٧٢] ، لأنه أيضا أمرهم بإظهار ما كوشف لهم من أحكام الغيب عند العارفين وكتمانها عن الجاهلين.

قال الجريري : أفضل الأمانات أمانة الأسرار ، فلا يظهرها ولا يكشفها إلا لأهلها ؛ لأنهم أهل الأمانة العظمى.

قال بعضهم : الأمانة أسرار الله ، وأهل الأمانة هم العارفون بالله والعالمون بأسراره ، وهم الناظرون إلى القلوب بأنوار الغيوب ، فيحكمون عليها ، حقق الله أحكامهم ، وهو الذي قال الله : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ) جعل الله تعالى الطاعة على ثلاث مراتب ، وهي في الأصل واحد ؛ لأنّه مرجع الكل ، وكل طاعة منها مخصوصة بمقام من مقام الولاية ، فإذا كان أهلا لبساط القربة وفهم خطاب الحق بلا واسطة

__________________

(١) ردّ الأمانات إلى أهلها تسليم أموال الخلق لهم بعد إشرافك عليها بحيث لا تفسد عليهم ، ويقال لله سبحانه وتعالى أمانات وضعها عندك ؛ فردّ الأمانة إلى أهلها تسليمها إلى الله سبحانه سالمة من خيانتك فيها ؛ فالخيانة في أمانة القلب ادعاؤك فيها ، والخيانة في أمانة السّرّ ملاحظتك إياها ، والحكم بين الناس بالعدل تسوية القريب ، والبعيد في العطاء والبذل ، وألا تحملك مخامرة حقد على انتقام لنفس [تفسير القشيري (١ / ٤٩١)].

٢٥٤

أطاعه بمراده بلا واسطة ، وإذا لم يبلغ إلى تلك الدرجة ولم يفهم حقائق رمز الله يرجع إلى بيان نبيه عليه‌السلام ؛ لأنه بيّن غوائص خطاب الله ، وأطاعه فيما أمر ، وذلك طاعة الله بواسطة نبيه ، وإن لم يبلغ إلى فهم خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستنباطه إشارته يرجع إلى بيان أكابر علماء أمته من أصحابه وغيرهم من الأولياء والصديقين والعارفين ؛ لأنهم بيّنوا خطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأيضا : هذا طاعة الله بوسيلة أولي الأمر والأنبياء والملوك في الدنيا مساقط ظل الله ، ومن أراد أن يرى بهاء الله وآثار عظمته فلينظر إليهم ، قال عليه‌السلام : «السلطان ظلّ الله في الأرض» (١) ، وقال : «الملك والنبوة توأمان» ، ومن التبس بظل الله صار أمره أمر الله ، وهاهنا أشار عين الجمع.

وفي الآية إشارة : أي : إذا بلغتم مقام خطاب الخاص من العلوم المجهولة المشكلة اسلكوا مسلكها بغير الواسطة ، كالخضر كان متابعا للعلم اللدني في الخارج عن أمر الظاهر ، مثل قتل الغلام ، وكسر الألواح ، وهذا خاصّ لمن وقع له سهم الغيب ، ومن بلغ مقام التوحيد ومرتبة الاستقامة لسلك مسلك الأنبياء في مباشرة التوسع والرخص كالأنبياء ، مثل سليمان وداود عليه‌السلام ويوسف عليه‌السلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا منزل الاقتداء ، ولا يصلح هذا للمتكلفين ، ومن فتح له باب بيان علم الحقائق يتكلم بإصلاح علماء الله ، فإن سلوك مسالكهم لمن له فهم الغيب طاعة معروفة وأسوة حقيقية ، وكل ما ذكر فهو تفسير قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).

وعن جعفر بن محمد قال : (أَطِيعُوا اللهَ) بالرضا بحكمه ، (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في المجاهدة في الوفاء بأمره والسر مع الله والظاهر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال محمد بن علي : أطع الله ، فإن تملك ذلك ، وإلا فاستعن بطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طاعة الله ،

فإن وصلت إلى ذلك ، وإلا فاستعن بطاعة الأئمة والمشايخ على طاعة رسول الله ، ولا تسقط عن هذه الدرجة فتهلك.

قال الجنيد في تفسير هذه الآية : العبد مبتلى بالأمر والنهي ، ولله في قلبه أسرار تخطر دائما ، فكلما خطر خاطر عرضه على الكتاب فهو طاعة الله ، فإن وجد له شفاء ، وإلا عرضه على السنة ، وهو طاعة الرسول ، فإن وجد له شفاء ، وإلا عرضه على سر السلف الصالحين ، وهو طاعة أولي الأمر.

قال أبو سعيد الخرّاز : العبودية ثلاثة : الوفاء لله بالحقيقة ، ومتابعة الرسول في الشريعة ،

__________________

(١) رواه البيهقي في الشعب (٦ / ١٦).

٢٥٥

والنصيحة لجماعة الأمة.

قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) أي : إذا وقع عليكم حكم من أحكام الغيب المتشابه وتظهر في أسراركم معارضات الامتحان فارجعوا إلى خطاب الله ورسوله ؛ فإن فيها بحار علوم الحقائق ، فكل خاطر لا يوافق خطاب الله ورسوله فهو مردود ولا تعتبر به ، وإذا أشكل عليكم خطاب الله ورسوله من علم الإشارة فقيسوه بظاهر الكتاب والسنة ، فإن في الظاهر إعلام الباطن.

قيل : فإن أشكل عليكم شيء من أحوال الكبراء والسادة واختلفتم فيها فاعرضوا ذلك على أحوال الرسول ، وردوه إليه ، فإن لم يتبين لكم فردوه إلى الكتاب المنزّل من ربّ العالمين.

قال النصر آبادي : إن علمنا لا يصلح إلا لمن له علم الكتاب والسنة ، وله معاملة واردة ، ومع ذلك يكون له ظرف ونظافة.

(فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥))

قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) المصيبة التي أصابتهم هي جزاء إنكارهم على النبي وأصحابه ، ومصيبتهم احتجابهم بأنفسهم عن بلوغهم إلى مقام الولاية والمعرفة ، وأعظم المصائب عند القوم الانقطاع عن الله ، والتحير عن وجدان السبيل إليه.

قيل : أعظم المصائب اشتغالك عن الله ، وأعظم الغنائم اشتغالك بالله.

قال أبو الحسين الوراق : أعظم المصائب سقوط الحرمة من قلبك ، ونزع الحياء من وجهك ، وثقل السنن على جوارحك.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) يسلّي قلب نبيه عليه‌السلام بقوله : (يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) أي : لا تهتم ، فأنا أجازيهم بما في صدورهم ، فأحجبهم عن كل مرادهم في الدنيا والآخرة ، فأعرض عنهم أي : اترك صحبتهم وصحبة كل

٢٥٦

جاهل غافل ، وعظهم على قدر فهومهم ، فإن موعظتك لهم عقوبة ، حيث لم يعرفوها ، ولم يتبعوها حق الاتباع.

قال الواسطي : أعرض عن الجهّال ، وعظ الأوساط ، وأخبر بعيوب الأشراف ، وخاطب كلّا على قدر طاقته.

وقيل : أعرض عنهم بقولك ، وعظهم بفعلك.

قوله تعالى : (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) أي : صفني بالعظمة والكبرياء واستغنائي عن كفرهم وإيمانهم ، وبعدهم الأبدي عني حين احتجبوا عني بحب الرئاسة ، والإنكار على الأنبياء والصديقين.

قال الجنيد : كلّمهم على مقادير العقول ومحتمل الطاقة.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) أخبر الله سبحانه عن قوم نقصوا حظ أنفسهم منه باشتغالهم بحظ أنفسهم من الكون ، وعن مرارة قلوبهم بمر البعد ، لو يخرجون من ظلماتها وحجابها إلى أنوار رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبصرون في وجهه طلعة جلالي وجمالي ، فيخرجون في رؤيته عن اشتغالهم بالكون ، فيرجعون من أنفسهم بنعت الخجل والحياء إلى ساحة كرمه ، ويقفون على باب عظمته مرهونين باستغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن عليهم بقايا الذنوب من ترك الحرمة في ديوان النبوة ، التي لا ترفع عنهم إلا بشفاعته عليه‌السلام ، فإذا كانوا كذلك يجدون الله بنعت الإقبال عليهم ، وقبولهم وإرشادهم بنفسه إلى نفسه.

قال ابن عطاء في هذه الآية : أي لو جعلوك الوسيلة إليّ لوصلوا إليّ.

قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) بيّن الله سبحانه أنه عليه‌السلام سبب إيمان الكل ، والإيمان به يكون بمحل الإيمان بالله ، وقد أشار ههنا إلى مقام الاتحاد وعين الجمع ، وأقسم بنفسه تعالى على ذلك ؛ إعلاما بأن الحبيب والمحبوب واحد في المحبة ، وبيّن أن حقائق الحكم ودقائق الدين لا تظهر إلا عنده ؛ لأنه لسان بيان الحق في العالم ، ونفى الحكم عن غيره من الجبت والطاغوت ، الذين قرأوا الكتب ولم يظفروا بحقائقها.

وصرح في بيان الآية أن من أسلم وسلم الحكم إليه لم يبلغ حقائق الإيمان إلا بسلامة الصدر وسكونه عند قبوله أمره ؛ لأن الطمأنينة هي موضع اليقين ، وحقيقة الإيمان هو اليقين ، وهذا معنى قوله تعالى : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

قال أبو حفص : رضي الله تعالى من عباده لنفسه بظاهر القول ، ولم يرض لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا

٢٥٧

بإخلاص القلب ، والرضا بحكمه ساء أم سرّ ، ومن لم يكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستقيما ظاهرا وباطنا وسرّا وعلنا وحقيقة ورسما كان بعيدا عن حقيقة الإسلام ومراتب المسلمين.

قال عبد العزيز المكي : أقسم الحبيب للحبيب بالحبيب أنهم لا يؤمنون حتى يحكموك ، فيا لها من شرف ، ويا لها من كرامة حارت فيه أوهام الخلائق ، وجعل نفسه لنفسه ، وجعل الرضا بحكمه كالرضا بحكمه ما وجب على خلقه الرضا ، والتسليم بحكم نبيه عليه‌السلام ، كما أوجب عليهم الرضا والتسليم بحكمه ، فهكذا إنسان المتحابين.

قال بعضهم في هذه الآية : أظهر الحق على حبيبه خلعة من خلع الربوبية ، فجعل الرضا بحكمه ساء أم سرّ سبيلا لإيمان المؤمنين ، كما جعل الرضا بقضائه لإيقان الموقنين ، فأسقط عنه اسم الواسطة ؛ لأنه متصف بأوصاف الحق متخلق بأخلاقه ؛ ألا ترى كيف قال حسان : «فذو العرش محمود وهذا محمد» (١).

قال الأستاذ : سدّ الطريق إلى نفسه على الكافّة إلا بعد الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن لم يمش تحت رايته فليس من الله في نفس.

ثم جعل من شرط الإيمان زوال المعارضة بالكلية بقوله : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) ، فلا بدّ لك من ملقي المهالك بوجه ضاحك.

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ

__________________

(١) رواه البخاري في التاريخ الصغير (١ / ١٣).

٢٥٨

الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦))

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) شكا الله سبحانه عن أحبائه بهذه الآية ، وتقصيرهم من بذل نفوسهم لرضائه إعلاما منه للمحبين أنهم لن يصلوا إليه إلا بإيثار مراده على مرادهم ، وهذه الشكاية لا تكون من محل إيمانهم ؛ لأنهم بحمد الله على الصدق والإخلاص والإيمان واليقين وصلوا إليه ، لكن أخبر عن معارضة نفوسهم عند نزول البأس إلا الأقوياء والمستقيمين في المحبة بقوله : (إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ).

ثم أخبر أن قتلهم النفوس بالرياضات والمجاهدات والهجرة من الخطايا والذنوب ، وهجران السوء من أمارات محبة الله.

قال محمد بن الفضل : (اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بمخالفة هواها ، أو (اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم ، (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) في العدد ، كثير في المعنى ، وهم أهل التوفيق والولايات الصادقة ، وقرن سبحانه مقام المجاهدة بمقام المشاهدة ، وبيّن أن من قصّر في واجب حقوقه لم يبلغ إلى معالي الدرجات.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي : بقاؤهم في مشاهدة الله خير من بقائهم في الدنيا مع نفوسهم ، ورهن الوصول بقتل النفوس بقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا) ، وزاد الوضوح بالآية الثانية في شرح ما ذكرنا بقوله تعالى : (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) الأجر العظيم مشاهدته الأزلية وكشفه الأبدي.

(وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) : الإرشاد إلى معارف طرق الصفات ، والفناء في بقاء الذات ، تعالى الله عن كل إشارة وإيماء ، والصراط المستقيم المعرفة بعد المعرفة بعد النكرة ، وإفراد القدم عن كل العلة.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) إنّ طاعة الله لا تحصل بحقائقها إلا بعد مشاهدة الله ؛ لأن حقيقة الطاعة لا تكون إلا من المحبة ، ولا تكون المحبة إلا بعد الرؤية ، والمشاهدة أي :

٢٥٩

من أطاع الله محبة الله في رؤية الله ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعبد الله كأنّك تراه» (١) ، وطاعة الرسول بمعرفة الرسول من معرفة الله ، أي : بلغ طاعته إلى هذه المراتب ، فهو أهل الله ، وهو شبيه أنبيائه وشهدائه ورسله وأوليائه ، ويكون في الدنيا والآخرة رفيقهم ، وهذا معنى قوله تعالى : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ) إنعام الله على النبيين مداناتهم ومشاهداتهم وعلومهم بذاته وصفاته تعالى ، واستشرافهم على خزائن ملكه وملكوته ، وإنعامه على الصديقين إعطاؤهم سني الكرامات ، وفتح أبصارهم بأنوار الصفات ، وإنعامه على الشهداء كشف جماله لهم دية لدمائهم ، وإنعامه على الصالحين إبراز لطائف بره لهم ليألفوه بها ، ويستقيموا في الحضرة بالخدمة.

قوله تعالى : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) معناه حسن مرافقتهم مع المطيع لله ، وحسن مرافقة الله مطيع الله لهم ؛ لقرب منازلهم ودنو مقاماتهم بعضهم بعضا ؛ لأن المرافقة لا تحسن إلا بموافقة المقامات ، والأنبياء هم الذين سمعوا أنباء الله بسمع الخاص ، والصدّيقون هم الذين مع الله بحسن الرضا ، ومشاهدة نور البقاء ، والشهداء المقتولون بسيوف محبته في معارك سطوات عظمته ، والصالحون هم الذين خرجوا من محن الامتحان ، وظفروا بنعمة الجنان ، والروح والريحان ، ويتراءون هلال جمال الرحمن ، ولم يذكر المرسلين ؛ لأنهم في الغيب غائبون وعن غيب الغيب غائبون ، آواهم الله في ستره ، لا يطّلع عليهم أحد من خلقه إلا عند بروزهم من الحضرة.

قال فارس : أدنى منازل الأنبياء أعلى مراتب الصديقين ، وأدنى منازل الصديقين أعلى مراتب الشهداء ، وأدنى منازل الشهداء أعلى مراتب الصالحين ، والصالحون في ميدان الشهداء ، والشهداء في ميدان الصديقين ، والصديقون في ميدان الأنبياء ، والأنبياء في ميدان المرسلين.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨))

__________________

(١) رواه البخاري (٤ / ١٧٩٣).

٢٦٠