تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٢

بموته أو برفع الوسائط بيني وبينكم ؛ لأنّ من شاهد الحق وعاينه تكون محبته وعبوديته بغير واسطة الربوبية ، قائمة بذاته ، أبدا ليس للأولياء والأنبياء إلا الإخبار والأنباء عند أمر الله ، وكشفه مراده لهم ، وخصّ من بينهم الصدّيق وأقرانه ـ رضي الله عنهم أجمعين.

ألا ترى حين قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كان يعبد محمدا ؛ فإن محمد قد مات ، ومن كان يعبد الله ؛ فالله حي لا يموت» (١) ، وهذا الوصف ظاهر في آخر الآية (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) في الصديق ونظرائه رضوان الرحمن عليهم بقوله : (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) يعنى : أبا بكر ، ومن كان قلبه مثل قلبه في الإيمان والإيقان شكرهم استقامتهم في الرب والولاية ، وجزاء شكرهم نصر الله وظفره لهم بانهزام المروة عن ساحة الشريعة.

قال الواسطي : غضت البصائر عند وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا لرجل واحد ، وهو فضل عليهم ، وهو الداعي إلى الله على بصيرة ، وهو أبو بكر ، فكأن هذه الآية خصّ هو بها ، وعجزت الأمة عن ذلك لضعف نحائرها ، ووهن بصائرها ، وبأن فضيلة أبي بكر بذلك ، وهو قول : «من كان يعبد محمدا ؛ فإن محمد قد مات».

وقال الحسين : ليس للرسول إلا ما أمر به أو كشف له ، ألا تراه لما سئل : «فيم يختصم الملا الأعلى» (٢) ، يعني : لم يسمع حسّا ولا نطقا ، فلما غيب عنه شاهده فوقع الصفة عليه شاهدهم بشهود الحق ، وذهب عنه صفة آدميته فتكلم بالعلوم كلها.

قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) بيّن الله سبحانه أن من قدرته إماتة حي أعظم من إيجاد حي وأعجب من إبقائه ؛ لأنّ في الموجود قدرة وليس في المعدوم قدرة ، وأيضا إشارة إلى أهل الرياضة ، أي أن النفس الأمّارة لا تزول بالرياضة والمجاهدة أنها تطمئن بإذن الله وبحلاوة ذكره ومناجاته.

قال الواسطي : ليس نفس تملك الفناء والبقاء ، بل كان ذلك الآجال مضروبة ، كما قال تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ).

وقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) ثواب الدنيا المعرفة ، وثواب الآخرة المشاهدة ، وأيضا ثواب الدنيا محبته ، وثواب الآخرة قربته ، وأيضا أي : من وقع في محل الإرادة وأرادني فقد أتجلى له بالآيات ومن الآيات

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) رواه أحمد في مسنده (٤ / ٦٦).

٢٠١

وفي الآيات ، التباسا ومن وقع في المعرفة وأرادني صرفا أتجلى له بلا علة ؛ لأن الإرادة محل الغيبة ، والمعرفة محل الحضور ، وأيضا ثواب الدنيا صحبة الأولياء ، وثواب الآخرة صحبة الحق.

قيل : ثواب الدنيا العافية.

وقيل : إلهام شكر النعمة ، وثواب الآخرة : الجنة ونعيمها

(بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣))

قوله تعالى : (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) أي : محبكم بمحبة الأزلية ، وحافظكم عن شر أنفسكم ، وكل خاطر يشير إلى غيره ، وناصركم عند تحملكم مشاق العبودية عن إباء نفوسكم عن تحملها.

قال ابن عطاء : معينكم على ما حملكم من أوامره ونواهيه.

قال جعفر : متولي أموركم بدار عاقبته.

وقال ابن عطاء في قوله : (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) : خير الناصرين لكم على أنفسكم وهواكم (١).

قوله تعالى : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي : منكم من وقع في بحر غنى القدم واتصف به ، ويخرج منه بنعت التمكين ، ورؤية النعم في شكر المنعم كسليمان عليه‌السلام ، ومنكم من وقع في بحر التنزيه وتقديس الأزلية ، فغلب عليه القدس والطهارة ، فيخرج بنعت الفقر بتجريد التوحيد ، وإفراد قدمه من الحدوث ، كمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال :

__________________

(١) ويقال : كل من استنصرت به احتجت إلى أن تعطيه شيئا من كرائمك ثم قد ينصرك وقد لا ينصرك ، فإذا استنصرته ـ سبحانه ـ يعطيك كلّ لطيفة ، ولا يرضى بألا ينصرك. انظر : تفسير القشيري (١ / ٤٠٢).

٢٠٢

«الفقر فخري» (١).

وأيضا : منكم من يريد الدنيا للفناء ، ومنكم من يريد الآخرة للبقاء ، وأيضا منكم من يريد مشاهدة الله في الدنيا كموسى عليه‌السلام ، ومنكم من يريد مشاهدة الله على نعت السرمد ، ولا يكون إلا في الآخرة وعده.

قوله تعالى : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) أي : ربّ الدنيا كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي : أهل القرية.

قال أبو سعيد الخرّاز : ما دمتم بكم ، وأوصافكم كانت همتكم الحوادث والدارين ، وإذا توليتكم وأخليتكم من صفاتكم وأكوانكم ، وعلوت بهممكم إلىّ فأفنيتكم من النظر إلى الأكوان وإرادتها ، وأفنيتكم بالحق مع الحق ، وقال : متى ما طالعهم بأسرارهم بحقهم عن آثارهم ودهشتهم في مبادئهم.

قال النوري : العامة في قميص العبودية ، والخاصة في قميص الربوبية ، فلا يلاحظون العبودية ، وأهل الصفوة جذبهم الحق ومحاهم عن نفوسهم.

قال الشبلي : منكم من يريد الدنيا للقناعة ، ومنكم من يريد الآخرة للجنة ، وأين مريد الله؟ ومريد الله من إذا قال ، قال : الله ، وإذا سكت فليس سوى الله.

وقال سهل بن عبد الله : دنياك نفسك ، فإذا أفنيتها فلا دنيا لك.

قيل : قرئت هذه الآية بين يدي الشبلي ، فقال : أوه ، من قطع طريق الخلق إليه وردّ الأشباح إلى قيمتها.

قال محمد بن علي : منكم من يريد الدنيا للآخرة ، ومنكم من يريد الآخرة لله.

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ

__________________

(١) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ١١٣).

٢٠٣

كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩))

قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) أي : من رسم طريق المعرفة تجلى القهر واللطف ، القهر من العظمة والغيرة ، واللطف من الحسن والجمال ، وفي عين الحقيقة هما واحد الأول : تربية ، والثاني : رفاهية ، وسنّة الله جرت على مباشرتهما على التسرمد ، فما باشر للقهر وجود العارف إلا ويأتي بعده نور تجلى اللطف والبسط والروح والكشف والأنس ، قال الله تعالى : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) [البقرة : ٢٤٥] ، وقال : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٦] ، فلمّا ذاقوا ألم الامتحان أنسوا برؤية الرحمن ، الأول خوف ؛ لأنهم في العبودية ، والآخر أمن لأنهم في رؤية الربوبية ، وذلك يقتضي الأمن والنعاس محل الكشف ، كاشفهم الله هموم المجاهدة بنور المشاهدة.

قال ابن عطاء : من صدق إرادته واجتهاده ورياضته ردّ إلى محل الأنس.

صدق ابن عطاء ، هذا وصف من وصفهم الله بالتمكين والاستقامة من الصحابة المباركة رضي الله عنهم بالصبر في البلاء كأنصار الأنبياء ، وصفهم الله بقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) والربيون الربانيون الذين هم مربون في قرب الرب ومشاهدته.

قال الجريري : منقطعون إلى الرب فانية منهم أوصافهم وإرادتهم ، متطلعون لإرادة الله فيهم.

قال بعضهم : (رِبِّيُّونَ) وزراء الأنبياء.

وقوله تعالى : (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) لأنّ عليهم روع أنوار عظمة الله ، (وَما ضَعُفُوا) لأنهم مقوون بقوة الله ، (وَمَا اسْتَكانُوا) ؛ لأنهم مؤيدون بتأييد الله ومع جلالتهم وضعوا أقدامهم على أعناق نفوسهم الخيانة الأمّارة هواها فخرجوا من داعية هواهم إلى مراد الله ، لا جرم ألبسهم الله لباس وصفه الذي وصف نفسه بالصبر ، ثم أحبهم لوصفه عليهم بقوله : (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).

٢٠٤

قال الواسطي : أي كونوا كأبي بكر لما كانت لنسبته إلى الحق أتم لم يؤثر عليه فقدان السبب ولما ضعف نسبتهم أثّر عليهم ، فعمر بن الخطاب قال : «من قال مات محمد ضربت عنقه» ، وأبو بكر نظر إلى ما دلّ عليه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، فقرأ : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ).

قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) إنّ الله سبحانه خلق قلوب هذه الأمة وقت إيجادها في رؤية جمال القدم ، ونورها بالحسن والرجاء ، وأخرج أرواحها من العدم إلى عالم البسط والسرور ، وسنا المشاهدة والسماع والحور ، وألبسها خلق اللطف ، فصارت مستعدة لرؤية الألطاف قابلة نور الأنس ، ومن كمال حكمة الله ولطفه علينا خلق نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خلق البسط وروح الإنس ، فوافقت المرافقة ، وحصلت في البين أهلية ، ودانت الأرواح وقربت الأشباح ، فبقيت الحشمة وفنيت الغلظة ، وصار رحمة تامة لهذه الأمة المرحومة ، وتصديق ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) تبيّن من الخطاب لطف الجانبين نسب الفعل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان غير متكلف في التليين ؛ لأنّه كان مخلوقا باللطف والكرم من الله ، وفيها الإشارة إلى تأديب الصحابة ، أي لو كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدقق عليهم أحكام الحقائق لضاقت صدورهم ، ولم يتحملوا أثقال حقيقة الآداب في الطريق ، ولكن سامحهم بالشريعة والرخص بحقائق ما أوجبه الله عليهم ، وتصديق ذلك قوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فالعفو والاستغفار من مسامحة الله لهم ، فاعف عنهم تقصيرهم قلّة عرفانهم أقدارك ، واستغفر لهم ما يجري في صدورهم من الخطرات التي لا تليق بالمعرفة ، وما يجري على صورهم من الحركات التي لا تليق بصحبتك ومجالستك ؛ لأنك مستغرق في الربوبية ، وهم يطلبونك في مقام العبودية ، وهم في وصف المحبة والإرادة ، فأنت في محل التوحيد مشاهد مطالع شموس الآزال وأقمار الآباد (١).

قال الواسطي في قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) : جميع أوصافك وما يخرج من أنفاسك رحمة مني عليك وعلى من اتبعك.

وقال ابن عطاء : لما علا خلقه جميع الأخلاق عظمت المؤنة عليه ، فأمر بالغض والعفو والاستغفار.

__________________

(١) جرّده عن أوصاف البشرية ، وأفرده بما ألبسه من نعت الربوبية ، وأخبر أن ما يلوح إليه فمن أنوار التولي ، لا من آثار الوفاق والتبري ، ولو لا أنه استخلقه بما ألبسه وإلا متى كان بتلك الصفة؟! انظر : تفسير القشيري (١ / ٤٠٩).

٢٠٥

قال الحارث المحاسبي في قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) : نسب ما كان منه في ذلك من اللين والمداراة إلى نفسه بقوله : برحمتي لنت لهم ، وما كان الله يقول لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك لنت لولا إنه لينه بمعرفته ووفّقه للمداراة.

قال الفارسي : انظر كيف وصف الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم باللين والشفقة ، ثم عرّاه عن أوصافه فقوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) وذاك حق قيامك بنا وهجرانك الخلق أجمع.

قال الأستاذ : يقال : إن من خصائص رحمته سبحانه عليه أن قواه حتى صحبهم ، وصبر على تبليغ الرسالة مع الذي كان يقاسيه من أخلاقهم مع سلطان ما كان مستغرقا له ، ولجميع أوقاته من استيلاء الحق عليه ، فلولا قوة الإلهية استأثره الحق بها ، وإلا متى أطاق صحبتهم ، ألا ترى إلى موسى عليه‌السلام لما كان قريب العهد بسماع كلامه ، كيف له يصير على مخاطبة أخيه (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) [الأعراف : ١٥٠].

وقال الأستاذ في قوله : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ) لو سقيتهم صرف شراب التوحيد غير ممزوج بما فيه لهم حظ ، لتفرقوا هائمين على وجوههم غير مطيقين الوقوف معك لحظة.

وقوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) إذا كان في محل العبودية وأمور الشريعة وعالم العقل أمر لله بحسن معاشرته معهم واستبشارهم في وقائع مستقبلات القدر ، كيف يقبلونها بالعقول والقلوب بنعت التفكر والصبر في أحكامه ؛ لأنهم كانوا يشربون من سواقي بحاره ، ولأنهم في مقام الولاية ، وهو في مقام الرسالة والنبوة وهما واحد في عين الجمع ، يرون الغيب بنور الفراسة ، وهو يراه بأنوار النبوة والرسالة ، وكان عليه‌السلام يحتاج في محل العبودية إلى نصرة الصحابة له في الدين.

وإذا كان في مشاهدة الربوبية ، وخرج من التفرقة إلى الجميع ، أمره الله سبحانه بإفراد القدم عن الحدث ؛ حيث تجرد في سيره عما لله إلى الله بقوله : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فإنه حسبك فيما يريد منه.

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣))

٢٠٦

قوله تعالى : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) نصر الله سكينته وقعت من نور تجلي الحق سبحانه في قلوب العارفين ؛ حيث توجهت من الحدثان إلى جلاله بنعت التضرع في عظمته وكبريائه ، فلما تلبّست أنوار الغيب مع نور البسط والرجاء ، فقويت بها الأشباح فأيدت لهم بحلول الأزل وقوته ، فحينئذ انحسرت جنود القهر بسطوة الهيبة عن معارك عساكر اللطف.

وذلك قوله : «سبقت رحمتي غضبي» (١) ، وحقائقه مشروحة في ترقي مقامات دنو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك إشارته في سجوده بقوله : «أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك» (٢).

نصر الله في المريدين توفيقهم في قمع الشهوات ، ونصره في المحبين نور اليقين من تبسم فلق صبح الأزل بنعت المداناة ، ونصره في العارفين انفتاح كنوز أسرار علوم المجهولة بمفاتيح كشف المشاهدات.

قال بعضهم : إنّما يدرك نصر الله من تبرأ من حوله وقوته واعتصم بربه في جميع أسبابه ؛ لأن من اعتمد على حوله وقوته ورأى الأشياء منه ، فإنه مردود إلى حول الله وقوته وعلمه.

قال الأستاذ : نصرته بالتوفيق بلا أشباح ، ثم بالتحقيق للأرواح.

ويقال : ينصركم بتأييد الظاهر ، وتسديد السرائر.

ويقال : النصرة إنما يكون على العدو ، وأعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك ، النصر على تهزم دواعي فتنتها بعواصم رحمته حتى تنقص جنود الشهوات بهجوم وقود المنازلات ، فتبقى الولاية خالصة عن شبهات الدواعي التي هي أوصاف البشرية ، وشهوات النفوس وأمانيها التي هي آثار الحجبة وموانع القربة.

قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) مقدّس أسراره عن دنس الخطرات ، ووصفه بالأمانة عند إخباره عن أنباء الغيب لم يجر على قلبه عند بيان الشريعة والطريقة ، مداهنة لرؤية شريف ووضيع ، ولم يخف حق الله عزوجل عن عباده وأعطى علم الحق لأهل الحق ، وبيّن المحجوبين آية الحق ببرهان الحق ، ولم يخط في طريق الحق خطوة بحظ نفسه.

قال بعض المشايخ : (وَما كانَ لِنَبِيٍ) أن تستأثر بالوحي والشريعة بعض متبعيه على بعض.

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) سبق تخريجه.

٢٠٧

قال يحيي العلوي : (وَما كانَ لِنَبِيٍ) أن تضيع أسراره إلا عند الأمناء من أمته.

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠))

قوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرآة الحق يتجلى بجلاله وجماله للأمناء والصدّيقين منه ، يرون الله برؤيته لقوله عليه‌السلام : «من رآني فقد رأى الحق» (١) ، منّ على عباده بوجوده ، ولو يتجلى لهم صرفا لاحترقوا بأول سطوات عظمته ، جعله برحمته واسطة تجليه وذلك بمحل الالتباس من ظهور نفسه لذوي الأبصار ، وإشارة قوله : (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي : حال أمته من حيث حاله ، وشربهم من حيث شربه ، وأي منّة أعظم على المؤمنين من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو منظر جمال الحق للخلق ، ومعرفهم أسماءه وصفاته ونعوته ، ومهالك المهلكات ، ومنازل السجيات.

قال بعض المشايخ : أكثر منّة على الخلق وسائط الأنبياء إليهم ليصلوا بهم إليه ؛ لأنه لو أظهر عليهم من صفاته ذرة لأحرقهم جميعا ، ولضلّوا فيه عن الطريق إلا المعصومون.

قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) نبّه الخلق أن من قتل في سبيل العشق بسيوف العشق انسلخ من الحدث إلى القدم ، والتبس بنور الأزل من الأزل ، فلما بلغ نعت الأولية واتصف بصفة الأزلية ، يصير منعوتا بنعت الأخروية موصوفا بوصف الأبدية ؛ لأن صفات الحق جلّ سلطانه واحدة في الوحدانية خارجة عن الجمع والتفرقة ، فيضها في الأفعال تفرقة مع الأسماء ، ونورها في العينية جمع لأهل الوحدة ، ومحل أن وصل

__________________

(١) سبق تخريجه.

٢٠٨

نور الصفة فيكون خارجا عن الصفة الأولية صفة ، والأخروية صفة ، والآخر أول في النعت ، فمن كان نعته أولية فيكون نعته أخروية ، وإذا خرج من الحدثان إلى جمال الرحمن لم يجر عليه صفات الحدث بعده عن صفة الموت والفناء ، بل يصير حيا باتصافه بحياة الحق ، وحياة الحق أبدي ، لم يجر عليه علل حياة الإنساني وموت الإنساني ، وهذا من فيض نور مشاهدته وعنديته ؛ لأن مقتول السيف التجلي يحيا بقبض القربة والعندية ، ومن يكون في العندية كيف يفنى ويموت وهو مشاهد في شهود الحق إياه ورزقه فيض مزيد مشاهدة الحق ، وزيادة اتصافه ببقاء الحق ، وفرحه بنيل بقائه من بقاء الحق (١).

ومن قتل بسيف الإرادة فهو باق بنور القربة ، ومن قتل بسيف المحبة فهو باق في سنا المشاهدة ، ومن قتل بسيف المعرفة فهو باق في أنس الوصلة ، ومن قتل بسيف التوحيد فهو باق بالوحدة في الوحدة ، وحياة هؤلاء من تجلي الأزلية وشهادة هؤلاء بغيرة العزة ، غار عليهم فأفناهم ، وأحبهم فأبقاهم.

قال ابن عطاء : المقتول على المشاهدة باق برؤية شاهده ، والميت من عاش على رؤية نفسه ومتابعة هواه.

قال أبو سعيد القرشي في هذه الآية : لا تظنن الهالكين في طريق الإرادة طلبا لوصله مردودين إلى مقاماتهم ، بل قد بلغ بهم غاية ما قصدوا من القرب والوصلة إحياء بقرب الحق عند ربهم في مجلس المشاهدة ، يرزقون زيادة الفوائد من أنوار الاطلاع فرحين بالغين أقصى رضاه.

(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥))

قوله تعالى : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) نعمة الله معرفة الله ومحبته وفضله مشاهدته ، فاستبشار القوم برؤية الله وجلاله وقدمه وبقائه لا بشيء من الحدثان ، كانوا إذا نظروا إلى قدمه استبشروا بنعمة بقائه ، وإذا نظروا إلى بقائه فرحوا بمشاهدة قدمه.

__________________

(١) ويقال : إن الذي وارثه الحي الذي لم يزل فليس بميت. انظر : تفسير القشيري (١ / ٤١٧).

٢٠٩

قال ابن عطاء : لو نظروا إلى المنعم لتنقص عليهم الاستبشار بنعمه وفضله ، وكان استبشارهم بالمنعم المتفضل.

قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) استجابوا لله بحب شاهدته ، والاشتياق إلى جماله ولطائف قربه ، ولذائذ صحبته ، وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عليه من آثار أنوار صفاته ، وفيه إشارة إلى مقام الاتحاد حيث الأمر واحد ، وإنّ الله سبحانه وتعالى وصفهم بحسن الإرادة في محبته ، وطلب جماله ببذل أرواحهم بعد احتمال آلام الامتحان على أبدانهم بقوله : (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ).

قال الواسطي : استجابوا لله بالوحدانية ، وأجابوا الرسول باتباع أوامره ، واجتناب نواهيه ، وقبول الشريعة منه على الرأس والعين.

وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي : للذين بلغوا مقام الإحسان وهو رؤية الله في مقام الامتحان ، (وَاتَّقَوْا) جميع الحجاب بينهم وبينه إحسانهم إلقاء نفوسهم وهواجسها عند قبولهم مراد الحق بعد خروجهم عن مرادهم ، و (أَجْرٌ عَظِيمٌ) الذي وصفه الله بإعداده لهم ، هو إيصالهم إليه بغير الهجران والعتاب ، والحساب والحجاب (١).

وقيل : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) في إجابة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَاتَّقَوْا) مخالفته سرّا وعلنا ، (أَجْرٌ عَظِيمٌ) هو البلوغ إلى المحل العظيم من مجاورة الحق ومشاهدته.

قال الأستاذ : في هذه الآية استجابة الحق بالتحقيق بوجوده ، واستجابة الرسول بالتخلق بما شرع من حدوده ، واستجابة الحق بالصفاء في حق الربوبية ، واستجابة الرسول بالوفاء في إقامة العبودية ، (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) في ابتداء مقاماتهم قبل ظهور أنوار التجلي على قلوبهم ، وابتسام الحقائق في أسرارهم ، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، وهو المشاهدة ، (وَاتَّقَوْا) «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (٢) ، وهو المراقبة في حال المجاهدة أجر عظيم لأهل البداية ، مؤجلا ولأهل النهاية معجلا.

قوله تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قدّس الحق سبحانه حضرة

__________________

(١) كذا سنّة الحق ـ سبحانه ـ مع من صدق في التجائه إليه أن يمهد مقيله في ظل كفايته ؛ فلا البلاء يمسه ، ولا العناء يصيبه ، ولا النّصب يظلّه. انظر : تفسير القشيري (١ / ٤٢١).

(٢) سبق تخريجه.

٢١٠

الكبرياء عن تهمة الأغيار ، ونفي الأنداد عن ساحة الجلال ، قال : (وَخافُونِ) في التفاتكم بالأسرار بنعت الخوف من الأغيار ، رفع ما استحق له عمّن ليس له استحقاق ، وخوف العباد منه حقوق ربوبيته ، وليس في هذا الخوف من الغير نصيب ، قرن الخوف والإيمان محل البرهان عند وقوع الامتحان ، فإذا وقع نور المشاهدة تظهر أنوار الهيبة ، وتذهب علّة الخوف ، خوفهم بنفسه لا من عذابه ، أي : من نظر إلى غيري بنعت إجلاله احتجب عني به ، وأنا أبقيه في الخوف من غيري ، وهو محل الشرك به ، أي : من خافني فهو في محل الإيمان ، ومن خالف غيري فهو في محل الشرك ، وهذا الشرك شرك خفي.

قال الواسطي : الخوف من شرط الإيمان ، والخشية من شرط العلم ، وإشارته في ذلك إلى قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨].

وقال ابن عطاء : ما دمتم متمسكين بالطريقة فخافوني ، فمن ترك الخوف فقد ترك الطريقة المستقيمة.

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨))

قوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) امتحن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعزائم الأمر في التوكل والرضا ؛ حيث أحزنه بحث الكفار وتخويفهم إياه ، ثم أمره بفتح عين سره في جلال قدمه ، الذي سبب ذهاب جميع الأحزان من غيره عن قلبه ، فإنّ من استحكم في معرفته فلا يجري أحكام التلوين على قلبه.

قال الواسطي : الحزن في الأحوال كلها ، وفي الحقيقة تعريف لهم وتنبيه ، وهذه الآية من خيار الحقائق التي جرت أنهم لن يضروا الله شيئا ؛ لأنهم جحدوا ما يليق بطبائعهم.

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) أخبر عن كمال اهتمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشفقته على شريعة الله ونظام دينه ، حيث أخبر بقوله : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ) ؛ لأن حزنه من أجله ، أي : فلا تحزن فإن ساحة الكبرياء مقدسة عن هجوم ضلال الضلّال ، وفيه أيضا إشارة الاتحاد بقوله : (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) أي : كيدهم بك لا يضرك ، أخبر به عنه ، وأقام نفسه حيث تخلق الحبيب بالحبيب ، وتوحد الحبيب بالحبيب.

وقيل في قوله : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) : لأنه الذي تولاهم وفي البلية ألقاهم.

٢١١

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥))

قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) إنّ لله غيوبا ، غيب الظاهر ، وغيب الباطن ، وغيب الغيب ، وسر الغيب ، وغيب السر.

أمّا غيب الظاهر : فما أخبر الله تعالى عن أمر الآخرة ولا يطّلع عليها إلا من بلغ مقام اليقين ، وصاحبه خارج عن شواغل النفوس ، وخطرات الشياطين ، لكن لم يكن على حد الاستقامة ، فرؤية الآخرة له تارة ؛ لأن اليقين خطرات ، وهذا الخطاب بهذا المعنى خطاب الأضداد.

وأما غيب الباطن فغيب للمقدورات المكتومة عن قلوب الأغيار ، وذلك الخطاب خطاب أهل الإيمان.

وأما غيب الغيب فهو سر الصفات في الأفعال ، وفي هذا المعنى خطاب المريدين.

وأما سر الغيب فهو نور الذات في الصفة ، وهذا الخطاب للمحبين.

وأما غيب السر ، فهو عينية القدم التي لا يطّلع عليها أسرار الخليقة أبدا (١).

وإذا كان هذا الغيب المذكور في قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)

__________________

(١) وقيل : إنّ أسرار الغيب لا تظهر للمتلوثين بأدناس البشرية ، وإن الحق سبحانه مستأثر بعلم ما جلّ وقلّ ، فيختص من يشاء من أنبيائه بمعرفة بعض أسراره. انظر : تفسير القشيري (١ / ٤٢٦).

٢١٢

فخطابه مع جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين ، والأصفياء الصديقين العارفين الموحدين ؛ لأن الأزلية منزّهة عن إدراك الخلائق أجمعين ، وخاصية نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا المعنى رؤية هذه المعاني بنعت الكشف له ، وابتسام إصباح الأزل في وجهه ، لا بنعت الإحاطة وإدراك الكلية ، وذلك قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) مثل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعيسى وموسى وإبراهيم وآدم صلوات الله عليهم أجمعين ، وذلك مشروح في قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧].

قيل : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) وأنتم تلاحظون أشباحكم وأفعالكم وأحوالكم ، وإنّما يطلع على الغيب من كان أمين السر والعلانية موثوق الظاهر والباطن ، ثم يفتح له من طريق الغيب بقدر أمانته ووثاقته ، ألا تراه يقول : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧] ، هو الفاني من أوصافه ، المتّصف بأوصاف الحق.

وبيّن أن بعض الغيب مظهر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك حكمه بالغيب ، وحكمه على الغيب بقوله : «عشرة من قريش في الجنة» (١).

ومثل ما أخبر عن الله سبحانه وعن أمر الدنيا والآخرة قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) إن الله تعالى زجر الستارين هاهنا بكتمان المكاشفات ، وحقائق الواردات ، ووقائع المغيبات عن الطالبين ؛ لأن أصل السخاء تخليص المتحيرين عن درك الامتحان ، وإرشادهم إلى طريق العرفان ، وأي سخاء أعظم من إظهار مواهب الله على المريدين لاستزاد محبتهم وجه الله سبحانه ، واستكبار شوقهم إلى جماله ، وتحبيبهم أعمالهم وعبوديته ، وتصديق ذلك قوله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : ١١].

ومن كان يطيق ما ذكرنا من إرادة الخير على طلاب الله كيف لا يطيق بذل نفسه وماله وروحه في طريق الحق فداء لأولياء الله ، لأنهم معدن السخاء ، والسخاء منهم ينشعب ، والسخاء بالمال وصف المريدين ، وبالنفس وصف المحبين ، وبالروح وصف العارفين ، والبخل بجميع الأشياء أعمى النفس الأمّارة عن رؤية منن بحار القدم ، والسخاء انفتاح عين القلب على ذخائر القدرة ، وكنوز الألوهية المملوءة من الآلاء والنعماء ومباشرة تجلي الوهابية

__________________

(١) رواه البزار في مسنده (٤ / ٩٥) ، والنسائي في «السنن الكبرى» (٥ / ٦٠) ، والطبراني في «الأوسط» (٢ / ٣٥١).

٢١٣

الأزلية السرمدية قلوب الصدّيقين العاشقين ، وتلك الجبلة جبلة الأولياء ليس للأعداء فيها نصيب.

كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما جبل ولي الله إلا على السخاء» (١).

والذي نبأنا الله من أخبار اليهود دليل على ما ذكرنا أنهم سرقوا نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي وصف الله به نبيه في التوراة والإنجيل ، وهذا الكتمان أصل البخل ، فمن كان في الدنيا محجوبا بالمال عن مقام السخاء والتخلق بوصف الله سبحانه من الغنى والعطاء ، بقي فيه ذلك حجاب إلى الأبد ، ويكون مفتضحا في الدنيا والآخرة ، مشهورا بعلامة اللؤم وسمة البعد ، وذلك قوله تعالى : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وبّخ المفلسين ؛ حيث وصف نفسه ببقائه مع ملكه القديم بعد فناء خلقه وانقطاعهم عن مأمولهم ، بقوله : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : أنا صاحب المواهب السنية ، أجازي بها المنفقين وجودهم في طريقي ، وأعطيهم ما لم يؤت أحدا من العالمين.

قال ابن عطاء : السلوك في طريق الحق على السخاء واجتناب البخل ، وهو بذل النفس والمال والسر والروح والكل ، ومن بخل بشيء في طريق الحق حجب به ، وبقي معه ، ومن نظر في طريق الحق إلى الغير ، حرم فوائد الحق وسواطع أنوار القرب.

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))

قوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) النفس صنم زينها الحق بكسوة الربوبية ، وملأها من القهر واللطف ، وكسي زينة ملكه أموال الدنيا امتحانا للعاشقين ، فمن نظر إلى نفسه بغير زينة الحق صار فرعونا نطق لسان القهر منه ب (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] ، وذلك مكر القدم واستدراجه.

ومن نظر إلى ربوبية وفنيت نفسه فيها نطق لسان الربوبية منه كالحلاج ـ قدّس الله

__________________

(١) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٢٤١) ، والمنذري في «الترغيب والترهيب» (٣ / ٢٥٩).

٢١٤

روحه العزيز ـ بقوله : أنا الحق ، ومثاله في ذلك مثال شجرة موسى عليه‌السلام ؛ حيث نطق الحق سبحانه منها بقوله : (إِنِّي أَنَا اللهُ) [القصص : ٣٠] ، نطق بصفته عن فعله.

ومن نظر إلى زينة الأموال التي هي زينة الملك صار حاله حال سليمان ـ صلوات الله عليه ـ لأنه كان ينظر إلى شرف جلاله بإعطاء الملك إياه ، ومن نظر إلى خضرة الدنيا وتابع شهواتها صار كالبلعام ، فمثله كمثل الكلب ، وأي الابتلاء أعظم من رؤية الملك ورؤية الربوبية في الكون ؛ لأنه محل الالتباس ، فمن كان محتجبا بهذين الوسيلتين عن رؤية الفردانية ، بقي في تهمة العشق خارجا عن نعوت الفردانية والوحدانية.

قال ابن زانيار : (لَتُبْلَوُنَ) أموالكم بجمعها ومنعها ، والتقصير في حقوق الله فيها ، (وَأَنْفُسِكُمْ) باتباع شهواتها وترك رياضتها ، وملازمة أسباب الدنيا ، وخلوها عن النظر في أمور المعاد.

وقيل : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ) بالاشتغال بها أخذا وإعطاء.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) إنّ الله تعالى أمر الصادقين الذين هم أصحاب إلهام الخاصة والمحدثين والمكلمين من المقربين ، بأن يظهروا بعض مقاماتهم التي بينهم وبين الله سبحانه ، وما يليق بفهم الطالبين ، ويعرفوا سنيات أحوال أهل الولاية في زمانهم للخلق ليتركوا بهم ويصلوا إلى الله ببركاتهم ، ولا يغار عليهم ، وذلك صفة أهل الكمال من علماء المعرفة ، ولا يكونوا مداهنين في كتمان مناقب الصدّيقين.

قيل : أخذ الله المواثيق على عامة أولياء الله به ألا تخفوا كرامات الله عندهم ، فمن لا يفتتن بذلك ، ولا يتخذه دعوى ، وإن يعلموا من قصدهم من المريدين الطريق إلى الحق.

وقوله تعالى : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) هذا لمن لم يبلغ مقام الواصلين ، ولو وصل ما باعه بالحدثان ، وكيف يطيق ممن رآه أن يشتغل بسواه ، ولم يصلوا مقاصد القوم ، وبقوا في أول الطريق برهة من الدهر ، ولم يجدوا حلاوة الوصال ، فادّعوا عند الخلق بالبلاغة والكمال ، وهم علموا أنهم لم يشاهدوا مواهب الله وكراماته ، فباعوا ما ليس لهم ، ووقفوا في تغير الله ، وخجلوا بين يدي أولياء الله ؛ لأنهم عرفوا خيانتهم (١).

__________________

(١) أخبر أنهم أبرموا عهودهم ألا يزولوا عن وفائه ، ولكنهم نقضوا أسباب الذّمام بما صاروا إليه من الكفران ، ثم تبيّن أنّ ما اعتاضوا من ذهاب الدين من أعراض يسيرة لم يبارك لهم فيه. انظر : تفسير القشيري (١ / ٤٣٣).

٢١٥

قيل : ادعوا ذلك لأنفسهم ليفتتنوا به الخلق.

قوله تعالى : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) هذا وصف الكذّابين في دعوى المعاملات قبل شروعهم فيها في إظهارهم سمات أهل المعاملة بظاهر التقشف وزي أهل الناموس لصرف وجوه الناس إليهم بمجرد الدعوى ، وأهل الرياء علوا على رؤية الخلق ، وجب محمدتهم ، وذلك القوم أضل من المرائين ؛ لأنهم يطلبون المحمدة والجاه بغير عمل ، وهم أقبح طائفة من المرائين الكذابين ، وإن الله تعالى بيّن بما ذكرنا في قوله : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) وأخبر أنهم لم يخرجوا من حجب النفسانية ، وبقوا في حجاب الهجران وهو أشد عذاب.

قال حاتم الأصم : حذّر الله بهذه سلوك طريق المرائين والمتقربين والمتزهدين والمتوسلين بسمات الصالحين ، وهم من ذلك أحوال.

قال الله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) إنّ ذلك الظاهر ينجيهم من العذاب ، كلا بل لهم عذاب أليم ، وهو أن يحجبهم عن رؤيته ويمنعهم لذيذ خطابه.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢))

قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) في هذه الآية إشارة لطيفة ، وذلك أن الله سبحانه وصف الربانيين بإدراك أنوار صفة الأزل وذات القدم في ظهور قدرته في فعله ، أي : لهم برهان منه إليه لا من الخلق ؛ لأن في إيجاده غلقة يدركه نظّار المعارف وحذّاق الكواشف لا في رؤية الخلق ؛ لأن الحدث حجاب عن رؤية القدم ، وهذا مقام الخليل صلوات الله عليه أحسن الأدب ، وعلل في السؤال برؤية الخلق مراده إدراك الربوبية المحضة ، وذلك السؤال أعظم من سؤال موسى عليه‌السلام ؛ لأن موسى سأل رؤية الله تعالى قط بغير الواسطة ، وهذا عام ، وما سأل الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالواسطة أدق ؛ لأنه سأل سر التقدير والقدرة من كمال شوقه من معرفته إلى نكرته ، ومن نكرته إلى معرفته ، وأيضا خصّ السماء بظهور الآيات منها ؛ لأنها مزينة بنور جلاله ، ملتبسة بسنا جماله ؛ لأنها مرآة كواشف الصدّيقين وطرق معارج المرسلين.

ألا ترى إلى قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] ، وقال :

٢١٦

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥] ، وكشف جلاله للخليل عليه‌السلام بواسطة الشمس والقمر والنجم ، حتى قال : (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٦] ، وخاصية الأرض لموقع أقدام الصدّيقين والأنبياء والمرسلين ، وإشراق نوره للمراقبين والمشاهدين ؛ لأنها مقبوضة بطش الحق بقبضة العزة ، قوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧].

وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معالم القدرة عن ظهور جلال الأزل من مواقف المقدسية بقوله : «جاء الله من سيناء ، واستعلن بساعير ، وأشرف من جبال فاران» (١).

وخصّ الليل ؛ لأنها محل مناجاة العارفين وكشوف عظمته ، فهو الأزل بنعت الهيبة للموحدين ، وخصّ النهار ؛ لأنه سبب فرحة المحبين ، وموضع بسط المشتاقين ، ورؤية جلاله للمبصرين ، الذين يرون الله في مرآة الكون بنور القدرة وسنا المعرفة ، وقفوا باب المعارف على هذه الشواهد ، ورأوا الشاهد قبل المشاهد.

كما قال بعضهم : ما نظرت إلى شيء إلا ورأيت الله فيه ، أرى الباء الحقيقة أنور فعله في السماوات والأرض والليل والنهار ، ثم أراهم فيها أنوار القدرة الخاصة الصفاتية ، وأرى ذاته تعالى في أنوار الصفة ، فعلل الحقائق بلفظ المجهول ، وأبهم على الأغيار أسرار معاني الخطاب ، بقوله الآيات وعني بالآيات ما ذكرنا.

أنشد بعضهم :

إنّ المودة لم تزل موصولة

قرر بلادي وأكثر ودادي

واحذر عداة الحيّ أن يلقوك

وليظنّ العداة أنّك حادي

هذا محل الالتباس ، وشبيه ذلك ما أخبر تعالى لمن حق فهم ظهور جلال عظمته في لباس القهر ، وفعل المجهول من المقصرين في نعوت الإرادة ؛ حيث قال : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : ٢١٠] ، ومع هذا لو كنوا هؤلاء شاهدين على نعت رؤية الفردانية لم تخلهم إلى رؤية الصفة في الآيات ؛ لأنها وسائط تليق بمقام المحبة وإفراد القدم عن الحدوث ، مقام أهل التوحيد ؛ حيث يرونه به لا بغيره.

ألا ترى كيف خاطب الحق من انسلخ عن نعوت الحدث إلى نعوت الحدث إلى نعوت الأزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) [الفرقان : ٤٥] ، ولولا أنهم حجبوا بالعقول ما رفعهم إلى رؤية الحوادث بأن الله سبحانه خلق العقول لجولانها في الآيات بنعت التفكر والتذكر ، وخلق

__________________

(١) سبق تخريجه.

٢١٧

الأرواح لتنسم نفحات تجلي القدس من بساتين الأنس ، وأيضا من احتاج في معرفة الله سبحانه إلى رؤية الآيات ليثبت بها وجود الحق سبحانه ، فهو عامي حيث يعرف القديم بالمحدث ، وأن الأكوان تلاشت في أول باد بدأ من نور العظمة والكبرياء القديم.

قال الجنيد : كل من أثبته بعلّة فقد أثبت غيره ، لأن العلّة لا تصحب إلا معلولا جل الحق عن ذلك.

وقال الواسطي في هذه الآية : هو فرّق ما بين معرفة العامة ومعرفة المحققين ؛ لأن العامة اعتقد به بما يليق بطبعها ، والخواص اعتقدوا به بما يليق به ، وكل حال أثبته العموم جحدته الخصوص ، فهو عند الخاص منزّه عن كل ما وصفه به العامة ؛ لأن العام اعتقدوه من حيث العبودية ، والخاص اعتقدوه من حيث الربوبية.

وقال بعضهم : إنّ الخواص لم ينظروا إلى الكون ، والحوادث إلا لمشاهدة الآيات ، وما شاهدوا الآيات إلا لمشاهدة الحق فيها ، ومن شاهد الحق لم يمازج سريرته طعم الحدث.

وقال النصر آبادي : من لم يكن من أولي الألباب ، لم يكن له في النظر إلى السماوات والأرض اعتبار ، وأولو الألباب هم الناظرون إلى الخلق بعين الحق.

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) إنّ الله سبحانه لمّا خلق أرواح أهل المعارف أوجدها على كشف جماله ، فوقعت كينونة الأرواح على سواطع نور المشاهدة ، فباشرت أنوارها صميم الأرواح ، فعشقت بالله جماله وجلاله ، فلمّا اشترت بالأشباح بقي الذكر والعشق والمحبة معها عوض المشاهدة ، ففي كل نفس لا يخلو عن ذكر معاهد الأول ومشاهدة القديم بنعت الشوق والمحبة والعشق ، وذلك بغير اختيارها ذاكرة للمذكور ، متفكرة للغيبة والحضور ، شائقة عاشقة بنعت الهيجان والهيمان على جميع الأحوال ، مجذوبة بسلسلة الوصلة إلى جمال القدم ، مستغرقة في بحار المواجيد وأنوار الكواشف ، لأجل ذلك وصفها الله بدوام الذكر والفكر على نعت التسرمد ، وأخبر على قدر عقول الخلق عن أحوالهم بلفظ الذكر والفكر ، وذلك نعت قلوبهم وعقولهم وأبدانهم ، وأخفى شهود أرواحهم مشاهد القدس والأنس لطفا وإبقاء ومحبة وغيرة ، بقوله : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) قيامهم مقرون بذكر العظمة والكبرياء ، وقعودهم مقرون بذكر الجمال وحسن الأفضال ، واضطجاعهم مقرون بذكر البسط والانبساط ، والرفاهية في الشوق والمحبة ، فذكرهم على قدر كشوف الصفات ، فكشف العظمة هيجهم إلى ذكر الفناء إلى التوحيد ، وكشف الكبرياء هيجهم إلى ذكر الاضمحلال في التواضع والتفريد ، وكشف البهاء هيجهم إلى ذكر الخمود في الشهود ، وكشف القدرة هيجهم إلى ذكر العجز في العبودية عن إدراك

٢١٨

الربوبية ، وكشف الجمال هيجهم إلى الغيبة في ذكر الآباد ، وعلى ذلك كل صفة لها تجلي ، ولذلك التجلي مباشرة في قلوب الذاكرين ، ولكل ذكر له عمل في المقامات ، وله حقيقة وجد في الحالات (١).

ذكر الرضا من رضا الحق والتوكل من حب الله ، وذكر القهر من جبروت الله ، وذكر الأفضال من ملكوت الله ، وذكر الآلاء من ملك الله ، وعلى قدر ظهور الصفات لهم تسرمد الذكر الذي وافق الكشف من الأسماء والصفات والنعوت والذات.

سبحان من خصّ الأولياء بكشوف صفاته ، سبق ذكره لهم بهذه الفضائل والقربات قبل ذكرهم إياه إلى الآزال ، فذكره جعلهم ذاكرين ، ورحمته جعلتهم متفكرين في جلاله وعظمته ، ومن عاش منهم عن حقيقة القدم ، صار متصفا بعد الذكر بصفة المذكور ، وخرج من مقام الذكر لغيبته عن الذكر في رؤية الأزل والأبد ، فعند ذلك الذاكر والذكر والمذكور في باب الاتحاد واحد في شرط الفردانية ، والموحد الذاكر يفنى ويبقى الموحد لا غير ، كما لم يزل في الأزل.

قال جعفر : (يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً) في مشاهدات الربوبية ، و (وَقُعُوداً) في إقامة الخدمة (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) في رؤية الزلف.

وقال الواسطي : كل ذاكر على قدر مطالعة قلبه بذكره ، فمن طالع ملك الجلال ذكره بذلك ، ومن طالع ملك رحمته ذكره بذلك ، ومن طالع ملك معرفته ذكره على ذلك ، ومن طالع ملك سخطه وغضبه كان ذكره أهيب ، ومن طالع المذكور أغلق عليه باب الذكر.

قال النصر آبادي : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً) بقيوميته ، أفمن هو قائم على كل نفس ، (وَقُعُوداً) بمجالسة ، «أنا جليس من ذكرني» (٢) ، (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) على إشادة (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ).

قال بعضهم : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً) يذكرونه قائمون باتباع أوامره ، (وَقُعُوداً) أي : قعودا عن زواجره ونواهيه ، (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي : وعلى اجتنابهم مطالعات المخالفات بحال.

__________________

(١) استغرق الذكر جميع أوقاتهم ؛ فإن قاموا فبذكره ، وإن قعدوا أو ناموا أو سجدوا فجملة أحوالهم مستهلكة في حقائق الذكر ، فيقومون بحق ذكره ويقعدون عن إخلاف أمره ، ويقومون بصفاء الأحوال ويقعدون عن ملاحظتها والدعوى فيها. انظر : تفسير القشيري (١ / ٤٣٦).

(٢) رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (١ / ١٠٨) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (١ / ٤٥١).

٢١٩

وقوله تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، التفكر في خلق السماوات والأرض على معنيين :

الأول : طلب غيبة القلوب في الغيوب التي هي كنوز أنوار الصفات التي تبرز منها مقادير الخلق ، يتفكرون في محض الربوبية ، وإرادتهم إدراك أنوار القدرة التي تبلغ الشاهد إلى المشهود بحقيقة رؤية الوصف.

والثاني : جولان القلوب بنعت التفكر في إبداع الملك في الملك ، طلب مشاهدة المالك في الملك ، الأول منزل التوحيد ، والآخر منزل الجمع.

قال بعضهم : هو رؤية الله قبل التفكر في الأشياء ، وواسطة التفكر أن ترى الأشياء قائمة بالله ، وفساد التفكر أن ترى الأشياء فيستدل بها على الله ، وقبل ذلك بالتفكر في صفات الحق لا في المحدثات ، ولو كان ذلك على المحدثات لقال : ويتفكرون في السماوات.

وقوله تعالى : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) تطرقوا من مقام الذكر إلى مقام التفكر في خلق الكون ، استرواحا من الاحتراق بنور الذكر بمروحة صفاء الفعل ، لكيلا يفنوا في مشاهدة المذكور ، وذلك غلبة المريدين في طلب الرفاهية ، وركوب الرخص ، ألا ترى كيف احتجبوا بالفعل عن الفاعل.

وأيضا : لمّا استحلوا رؤية الفاعل في الفعل ، ووجدوا حكم الأزلية بنعت التجلي في مرآة الفعل ، قالوا : (ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) أرادوا وجود الكون مرآة التجلّي المكون في مقام التفكر بعد إرادتهم زواله في صفاء الذكر ، غيرة على الغير ، وذلك قوله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ) ، وعلة ذلك أن الله سبحانه عرف مكان ضعف الخلق عن حمل مشاهدته ، صرفا فأظهر الكون ليتطرقوا بالوسيلة إليه ، كيلا يحترقوا في أول بوادي ظهور العظمة ، وسطوات الكبرياء رحمة وشفقة.

قال فارس : الحكمة في إظهار الكون إظهار حقائق حكمته بالفعل الحكيمي.

قال الخواص : أمرهم بالتفكر في خلق السماوات والأرض ، ثم قطعهم عن ذلك بقوله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) دلّهم عليها ، ثم حثّهم على الرجوع إليه ؛ لكيلا يقفوا معها ، وينقطعوا عن مشاهدته ، والإقبال عليه.

وقوله تعالى : (سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) لمّا نزل القوم من مقام الذكر الخالص بغير الوسائط إلى مقام التفكر في الأفعال والآيات ، ووقعوا في رؤية الخلق أدركوا مافاتهم من خوالص الذكر بقولهم : (سُبْحانَكَ) أي : أنت منزّه عن كل ذكر وفكر ، وكل خاطر وإشارة

٢٢٠