تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٢

رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢) إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤))

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) أي : قل إن ادّعيتم محبة الله وأنتم صادقون فيما ادعيتم فاتبعوني فإنّي سيد المحبين ، ورئيس الصدّيقين ، ومقدم المرسلين ، وقدوة المريدين حتى أريكم مغيبات المهلكات ، وغوامض طريق المنجيات ، ودقائق أحكام المشاهدات ، وأسرار لمعات المداناة ، وأرشدكم إلى أحسن المعاملات ، وأفضل الطاعات ، وأعملكم حسن الآداب ، ونفائس الأخلاق ، زاد إلى المآب ؛ لأنّ قد كوشفت بأسرار المحبة ، وأنوار القربة ، وإن متابعتي حقيقة شكر محبة المحبوب ، وإذا شكرتم الله بمتابعتي زادكم الله محبته ومعرفته ، قال تعالى : (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ، وقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم : ٧].

وحقيقة المحبة عند العارفين والمحبين احتراق القلب بنيران الشوق ، وروح الروح بلذة العشق ، واستغراق الحواس في بحر الأنس ، وطهارة النفس بمياه القدس ، ورؤية الحبيب بعين الكل ، وغمض عين الكل عن الكونين ، وطيران السر في غيب ، وتخلّق المحب بخلق المحبوب ، وهذا أصل المحبة.

أما فرع المحبة فهو موافقة المحبوب في جميع ما يرضاه ، وتقبل بلائه بنعت الرضا ، والتسليم في قضائه وقدره بشرط الوفاء ومتابعة سنة المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وأما آداب أهل المحبة الانقطاع عن الشهوات واللذات ، والمسارعة في الخيرات ، والسكون في الخلوات والمراقبات ، واستنشاق نفخات الصفات ، والتواضع في المناجات ، والشروع في النوافل والعبادات ، حتى صاروا متصفين بصفات الحق ، ومنقادين بنوره بين الخلق.

قال الله تعالى : «لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى كنت له سمعا ، وبصرا ، ولسانا ، ويدا» (١).

وصرف المحبة لا يكون إلا بعد أن يرى الروح الناطقة بعين السر مشاهدة الحق بنعت الجمال وحسن القدم لا بنعت الآلاء والنعمة ؛ لأنّ المحبة إذا كانت من تولد رؤية النعماء تكون محبة معلولة ، وحقيقة المحبة ما لا علة فيها من المحب ، والحبيب شيء دون المحبوب.

وقال أبو عمرو بن عثمان : محبة الله هي معرفته ، ودوام خشيته ، ودوام اشتغال القلب

__________________

(١) سبق تخريجه.

١٤١

به ، ودوام انتصاب القلب بذكره ، ودوام الأنس به.

وقال محمد بن حنيف رحمه‌الله : المحبة : الموافقة لله في التماس مرضاته.

وقال بعضهم : المحبة هي موافقة القلوب عند بروز لطائف الجمال.

وقال أبو يزيد : أحببت الله حتى أبغضت نفسي ، وأبغضت الدنيا حتى أحببت طاعة الله ، وتركت ما دون الله حتى وصلت إلى الله ، واخترت الخالق فاشتغل بخدمتي كل مخلوق.

وقيل : المحبة هي اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله وآدابه إلا ما خصّ به ؛ لأنّ الله قرن محبتاه باتباعه.

وسئل الأنطاكي : ما علامة المحبة؟ قال : أن يكون قليل العبادة ، دائم التفكر ، كثير الخلوة ، ظاهر الصمت ، لا يبصر إذا نظر ، ولا يسمع إذا نودي ، ولا يحزن إذا أصيب ، ولا يفرح إذا أصاب ، ولا يخشى أحدا ، ولا يرجوه.

وسئل يحيى بن معاذ عن حقيقة المحبة ، قال : الذي لا يزيد بالبر ، ولا ينقص بالجفوة.

وقال جعفر في قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) قيد أسرار الصدّيقين بمتابعة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكي تعلموا أنهم وإن علمت أحوالهم وارتفعت مراتبهم لا يقدرون مجاوزته ولا اللحاق به.

وقال ابن عطاء : في هذه الآية أمر بطلب نور الأدنى من عمي عن نور الأعلى ، وأقول : لا وصول النور الأعلى من لم يستدل عليه بالنور الأدنى ، ومن لم يجعل السبيل إلى النور الأعلى والتمسك بآداب صاحب نور الأدنى ومتابعته فقد عمي عن نورين جميعا ، وألبس ثواب الاعتزاز.

قال أبو يعقوب السوسي : حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من ربه ، وينسى حوائجه إليه.

قال الواسطي : لا تصح المحبة والإعراض على سره أثر والشواهد في قلبه خطر بل صحة المحبة نسيان الكل في استغراق مشاهدة المحبوب وفناؤه به عنه.

وقال ابن منصور : حقيقة المحبة قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك ، والاتصاف باتصافه.

قال الشيخ أبو عبد الرحمن : سمعت النصر آبادي يقول : محبة توجب حقن الدم ، ومحبة توجب سفكه بأسياف الحب ، وهو الأجل.

وروى أبو الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ

١٤٢

فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) : «على البر والتقوى والتواضع ، وذلة النفس» (١).

وسئل عمرو بن عثمان المكي عن المحبة! قال : المحبة في نفسها أصلها التواضع في القلوب من لطف المعاني التي يعاينها من المحبوب على شرط ما تعلقت به.

وسئل سهل بن عبد الله : ما علامة المحبوب؟ فقال : ألا يزال لسانه ذاكرا لحبيبه مشغوفا به ، مستأنسا مسرورا به ، حامدا شاكرا له ، وجوارحه مشغولة بمرضاة حبيبه ، فهو المحب له ، والمرضي عنه.

وقال الأستاذ : المحبة تشير إلى صفاء الأحوال ، والمحبة توجب الاعتكاف بحضرة المحبوب بالسر ، ويقال : أحب البعير إذا استناخ ، فلا يبرح بالضرب ، وللحب حرفان حاء وباء ، والإشارة بالحاء إلى الروح ، والإشارة من الباء إلى البدن ، والمحب لا يدخر عن محبوبه لا قلبه ولا بدنه.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) الآية اصطفى آدم بعلم الصفات ، وكشف جمال الذات قبل خلق الخلق في أزل الأزل ، فإذا أراد خلق روحه نظر بجماله إلى جلاله ، ونظر بجلاله إلى جماله فظهر بين النظريين روح آدم فخلقها بصفة الخاص ، ونفخ في روحه روحا ، وهو علم الصفات بفعل الخاص الذي يتعلق بالذات ، وخلق أيضا صورته بصفة الخاص ، ونفخ فيها روح الأول وروح الثاني ، فوصف روحه فقال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] ووصف صورته فقال : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] فسبق بهذه الصفات من الملائكة الكرام البررة ، وألبسه خلعة خلافته ، وأسجد له ملائكته لأجل هذا التخصيص كرامة له وتشريفا وتفضيلا على مشايخ الملكوت ، وقال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ، وقال : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) [البقرة : ٣٤] لا تؤثر في نعوت الأزل طوارقات الحدوث ما دام الاصطفاء بهذه الصفة سابق له ، وأيضا اصطفاهم لنفسه عن خلقه لموقع الخطاب ، وكشف النقاب لاستعدادهم تحمل أثقال أمانته ، والتعمق في بحار أزليته ، والسيران في ميادين وحدانيته ، والطيران في هواء فوقانيته لطلب كشف أحديته ، وجمال سرمديته ، والإشارة في نوح عليه‌السلام وآل إبراهيم عليه‌السلام أنّ الاصطفاء من سبب المحبة الأزلية لا من جهة الأنساب الحديثة ، كما قال الأستاذ رحمة الله عليه : اتفق آدم وذريته في الطبقة وإنما الخصوصية بالاصطفاء الذي هو من قبله لا بالنسب والسبب.

وقال الفارس : اصطفاهم على الناس لثبوته ، واستخلصهم لرسالته ، فهم المبعوثون إلى

__________________

(١) رواه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (٤ / ٣٦).

١٤٣

خلقه رحمة على أوليائه ، وحجة على أعدائه ، فهم الدعاة إلى الله بالحكمة والموعظة ، مبشرين عباده جزيل الثواب ، ومنذرين أليم العقاب ، (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥] إذ لو شاء لهداهم أجمعين.

قال الواسطي : اصطفاهم للولاية ، وقال أيضا : واصطفاهم في أزليته ، وصفاهم لقربه ، وصافاهم لمودته.

وقال أيضا : اصطفاء في الأزل قبل كونه ، أعلم بهذا خلقه أن عصيان آدم لا يؤثر في اصطفائيته له ؛ لأنه سبق العصيان مع علم الحق بما يكون منه.

وقال أيضا : اصطفى الأنبياء للمشاهدة والتقريب ، واصطفى المؤمنين للمطالعة والتهذيب ، واصطفى العالم للمخاطبة والترتيب.

وقال النصر آبادي : إذا نظرت إلى آدم عليه‌السلام بصفته لقيته ، بقوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) وإذا لقيته بصفة الحق لقيته ، بقوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ) وماذا يؤثر العصيان في الاصطفاء.

وقال الواسطي : الاصطفائية قائم بالحق ، والمعصية إظهار البشرية وتوبة أعجب لأنه من نفسه إلى نفسه رجع.

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨))

قوله تعالى : (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) أي : حرا عن رق النفس ، مقدسا عن مس الشيطان ، صافيا لك عما سواك ، مخلصا في مودتك ، صادقا في طاعتك ، موافقا لخدمة أوليائك ، وأيضا حرا في مقام مشاهدتك عن الاشتغال بخدمتك ليكون لك خالصا في حظ الربوبية ، وأيضا حرّا في مقام عبوديتك بنعت محبتك ، منفردا عن الاشتغال بالجنة والنار حتى يكون في عبادتك لك مفردا عن الالتفات إلى شيء غيرك ، وأيضا أيقنت أسرار باطنها وقوع الأنثى ، وإن لم يعلمها بنص العقل ، فقالت : أحررت لك ؛ لأنها موقع كلمتك يعني عيسى عليه‌السلام

١٤٤

ولا ينبغي لمن حمل حرّا إلا أن يكون هو أيضا حرا.

قال الأستاذ : المحرر الذي ليس في رق شيء من المخلوقات ، حرره الحق في سابق حكمه عن رق الاشتغال بجميع الوجود والأحوال.

قال جعفر : (مُحَرَّراً) أي : عتيقا من رق الدنيا وأهلها.

وقال محمد بن علي في قوله : (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) أي : يكون لك عبدا مخلصا ، ومن كان خالصا لك كان حرّا مما سواك.

وسئل سهل بن عبد الله عن المحرر فقال : هو المعتق من إرادة نفسه ، ومتابعة هواه.

وقال النوري : أي : خادما لأهل صفوتك.

قال أبو عثمان : (مُحَرَّراً) عن شغلي به ، وتدبيري له فيكون مسلم إلى تدبيرك فيه حسن اختيارك له.

وقال محمد بن الفضل : (مُحَرَّراً) عن الاشتغال بالمكاسب.

قوله تعالى : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) قبول الحق لها أنه أخلصها لعبادته ، وجعلها محل آيته وكرامته ، ورباها في حجر صفوة أنبيائه وأوليائه ، وكشف لها من عظيم آياته ما لا يقوم بإزائها أكثر أهل زمانها الأنبياء ، وأرسل إليها في الظاهر روح القدس حتى يعلمها حسن الأدب ، ونفخ فيها روح الخاص الذي هو طير الأنس ، حتى يكون لها ذخيرة المآب. وقال جعفر : يقبلها حتى يعجب الأنبياء مع علو أقدارهم في عظم شأنها عند الله.

ألا يرى أن زكريا قال لها : (أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : من عند من تقبلني.

وقال الواسطي : (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) محفوظ قوله تعالى : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أنبتها شجرة الربوبية وسقاها من مياه القدرة حتى أثمرها ثمرة النبوة ؛ لتكون الثمرة حياة الخلق ؛ لأنها هي روح الحق يعني عيسى ، وقيل : أضاف الإحسان إليها في الشريعة وفي الحقيقة حفظها وأنبتها.

وقال ابن عطاء : أحسن النبات ما كان ثمرته مثل عيسى عليه‌السلام روح الله.

وقال الأستاذ : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) حيث بلغها فوق ما تمنت أمها ، وقيل : القبول الحسن إن رباها على نعت العصمة ، حتى كانت بقول : (أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) [مريم : ١٨].

وقال أيضا : من إشارات القبول الحسن أنها لم تكن توجد إلا في المحراب (وَكَفَّلَها

١٤٥

زَكَرِيَّا) ؛ لأن خدمة الأولياء لا تحصل إلا من الأولياء ، وأيضا أنه يوافقها في جميع أحوالها من الخلوة والمراقبة والسر والنجوى والمشاهدة والمكاشفة (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) يرزقها الله تعالى زرق الجنة في الخلوة مكافأة للخدمة والعفة كرامة لها حتى لا يشغلها تولاه المخلوق ، ويكون في حقيقة التوكل ما فيه من الالتفات إلى غير الحق ، وإن كان نبيّا مرسلا.

وقال الأستاذ : إذا دخل عليها زكريا بطعام وجد عندها رزقا ليعلم العالمون أن الله سبحانه لا يلقي شغل أوليائه إلى غيره.

وقال : من خدم وليّا من أوليائه كان هو في رفق الولي لا أنه يكون عليه مشقة لأجل أوليائه.

وقال : في هذه إشارة لمن يخدم الفقراء لا أن الفقراء تحت خلقه (أَنَّى لَكِ هذا) أي : بأي عمل أوجدت هذا (قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : خالصا وجدته لا يكلفه العمل ، وعلة الكسب.

وأيضا خاف عليها أن تلك المنزلة من حيل الشيطان ففتش أحوالها حتى يعلم حقيقة صدقها ، فقال : (أَنَّى لَكِ هذا) (١) قالت : ليس كما خطر ببالك إنه من خصائص كرامات الله التي وهبها لي ليس فيها شيء من مخيلات الشيطان.

وقال الأستاذ : لم يكن يعتقد فيها زكريا استحقاق تلك المنزلة ، وكان يخاف أن غيره لعلة انتهز فرصة تعهدها وسعة بكفاية شغلها (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) إذا دخل زكريا على مريم وجد عندها من فواكه الألوان علم أنها من نفائس كرامات الله تعالى فتحرك فيه غيرة النبوة ، وسكن هناك في الخلوة ، وطلب من الله تعالى ولدا فأعطاه الله ما سأله.

وأيضا نظر بنور النبوة في مريم فأبصر فيها نور عيسى صلوات الله عليهم أجمعين يتشعشع في مريم ، ورأى كرامته عند الله فتمنى عليه ولدا مثل عيسى فناجى ربه بلسان الاضطرار ، وسأل عنه يحيى عليه‌السلام مشكاة الأنوار ؛ فاستجاب الله تعالى دعوة شيخ الأنبياء شفقة

__________________

(١) من إمارات القبول الحسن أنها لم تكن توجد إلا في المحراب ، ومن كان مسكنه وموضعه الذي يتعبّد فيه وهناك يوجد المحراب ـ فذلك عبد عزيز ، ويقال من القبول الحسن أنه لم يطرح أمرها كلّه وشغلها على زكريا عليه‌السلام : فكان إذا دخل عليها زكريا ليتعهدها بطعام وجد عندها رزقا ليعلم العاملون أن الله ـ سبحانه ـ لا يلقي شغل أوليائه على غير ، ومن خدم وليا من أوليائه كان هو في رفق الولي لا إنه تكون عليه مشقة لأجل الأولياء ، وفي هذا إشارة لمن يخدم الفقراء أن يعلم أنه في رفق الفقراء. تفسير القشيري (١ / ٣٠٧).

١٤٦

على غيرته ، وإظهارا لكرامته ، وهذا حسن الأدب للأولياء ، وأهل المعرفة إذا كانوا يحتاجون إلى الله تعالى بشيء من مرادهم خلوا عن الخلق ، ودخلوا في زوايا الصدق حتى يناولوا بالاعتزال عن الخلق والاشتغال بالدنيا والإخلاص في النجوى حقيقة مقام استجابة الدعوة ، لأن من لزم سيده في الخلوات والمراقبات يكشف له المقامات السنية والأحوال الشريفة من أسرار الآخرة وأنوار المعرفة (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) سأل من الله من يعينه في طاعة الله ، ويكون له خليفة في أداء الرسالة والنصيحة للأمة ، وأيضا يكون له مشاورات السير في عالم الربوبية والعبودية ، ومؤنسا من الله في الكشف والحقيقة والعشق والمحبة ، (طَيِّبَةً) يعني مطهرا من أشغال الكونين منفردا عن إرادته مقدسا من شهواته ، فإذا علم الحق سبحانه صدق نيته أعطاه مأموله على الفور ليكون له معجزة وكرامة ، والإشارة فيه أن من طلب من الله شيئا بعينه في طاعته وسببا لمرضاته فيحصل له استجابة الدعوة في الساعة.

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١))

قوله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) محل مناجات الحق الصلاة لأنها فيه عصمة الحق فيها نزول الوحي من دخل فيها بشرط التفريد ، وخلوص النية ألهمه الحق خصائص الخطاب ، وأخبره بما يكون قبل أن يكون ، و (الْمِحْرابَ) محل لزوم المراقبين فيه لأجل تعرض السر نفحات أسرار الحق ، وبروز نور التوحيد ، وكشف جمال مشاهدة الحضرة ، و (الْمِحْرابَ) محل الأنس ، وتصفية السر ، وذم الجوارح ، وإشراق اليقين ، وسبب الزلفة ، ووجدان حلاوة العبادة ، واسترواح الروح من أداء صحبة الخلق بوجدان صحبة الحق ، و (الْمِحْرابَ) فقر العباد ، وملجأ الزهاد ، ومعصم المتوكلين ، ومجلس المشتاقين ، ومسند الراضين ، وبستان المحبين ، وسرور المريدين ، ورياض العاشقين ، وكعبة المستأنسين ، وحرم المؤمنين ، وفوز التائبين ، وقيد الموحدين ، وستر الشطّاحين إذا أراد الله أن يستر أحدا من خاصة معرفته ألحاه إليه ليكون له مقويّا في مقاصده من الله.

وقال ابن عطاء : ما فتح الله على عبد من عبيده حالة سنية إلا بأتباع الأوامر وإخلاص

١٤٧

الطاعات ، ولزوم المحاريب.

وقال الواسطي : هو قائم بربه يصلي سره بمحاربة نفسه وهواه.

وقال أبو عثمان : (الْمِحْرابَ) باب كل بر ، وموضع الإجابة ، واستفتاح الطريق الانبساط ، والمناجاة والإعراض عن المحراب سبب إغلاق الباب دونك.

قال الله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) وقيل : ملازمة الخدمة يورثك آداب الخدمة ، وآداب الخدمة يورثك منازل القربة ، ومنازل القربة تورثكم حلاوة الأنس (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) يسمى يحيى ؛ لأنّ من نظر إليه يرى مشاهدة الحق في جمال نبوته ، فيحيي قلبه من موت الفترة.

وقيل : إنه حيا به عقر أمه.

وقيل : إنه سبب حياة من آمن بقلبه (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) السيد الذي قد غلب عليه نور هيبة عزة الحق جل وعلا ، والحصور الذي عصم عن جميع الشهوات بعصمة الأزلية ، وأيضا السيد الذي خلعه نور الأنانية ، وكساه لباس الفردانية ، وتوجه بتيجان البهاء حتى يستحق أن يستحيي منه جميع الخلق ، ويضعوا تحت أمره ونهيه أعناق الجبرية ، والحصور المقدس عن شوائب التقليد ، وعن الالتفات إلى الكونين ، وقيل : (وَسَيِّداً) ؛ لأنه لم يطلب لنفسه مقاما ولا شاهدا لنفسه قدرا.

وقال جعفر بن محمد : السيد الذي عرف ربه وأنكر ما دونه ، والحصور الذي يملك ولا يملك ، والسيد الذي يألف ولا يؤلف ، والحصور الذي لا يعرف سوى الله.

وقال : السيد الذي ساد أهل زمانه بأخلاقه ، والحصور الذي حصر ماءه عن النساء وسمي يحيى حصورا ؛ لأنه قرع في قلبه تلك العظمة ، فخذ فيه ماء الشهوات ، وصار حصورا ومحصورا.

وقال ابن عطاء : السيد المتحقق بحقيقة الحق ، والحصور المنزه عن الأكوان وما فيها.

وقال جعفر : السيد المبائن عن الخلق وصفا وحالا وخلقا.

وقال النصر آبادي : السيد من صحح نسبته مع الحق ، فاستوجب به ميراث نسبته.

وقال الجنيد : السيد الذي جاد بالكونين عوضا عن ربه.

وقال محمد بن على : السيد من استوت أحواله عند المنع والعطاء.

وقال ابن منصور : السيد من خلى من أوصاف البشرية ، وأظهر بنعوت الربوبية.

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) لما وعد الله تعالى نبيه عليه‌السلام يحيى طلب من الله تعالى علامة وقت ظهوره ، ولا يشك في وعد الله لكن غرضه طمأنينة قلبه ليتهيأ أسباب

١٤٨

الأدب لزمان ظهور موهبة الله استقبالا إلى الله بشكر نعمته ليدوم عليه مواهب الإلهية (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) حصر لسان نبيه عليه‌السلام عن المكالمة والمحادثة مع غير الله ليتجرد سره وحاله عن ازدحام الخلق وذكرهم ، والأدب فيه أن من يطلب من الله تعالى شيئا من معاني الغيب ورؤية معجزته وكرامته لا يتحرك لسانه بالفضولات ، وقلبه لا يخطر به من طوارقات الوسواس حتى يكون ظاهره وباطنه مشغولا بالحق لأن التفرق إذا وقع في الظاهر يتشوش به الباطن ، وأجاز له الرمز ليدفع به ضيق قلبه ، ومن دخل عليه من أهله ، والرمز من الأنبياء للأولياء ، والرمز من الأولياء الخاصة المريدين ، وحقيقة الرمز من تمريض السر إلى السر وإظهار التفرس إلى التفرس وإعلام الخاطر إلى الخاطر بنعت تحريك سلسلة المواصلة بين المخاطب والمخاطب (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) الذكر الكثير هاهنا تخليص النية عن الخطرات وجمع الهموم بنعت تصفية السر في المناجاة ، وتحير الروح في المشاهدات ، أدّب الله أهل محبته وإرادته بما أخبر عن معجزة زكريا واستجابة دعوته حتى إذا أرادوا كشف الغيب واستجابة الدعوة اعتزلوا عن الخلق ، وعن محادثتهم وتركوا ما لا يعينهم وقطعوا لسانهم بمقاريض الصمت ، وجعلوه رطبا بذكر الله في أيام مناجاتهم التي أرادوا فيها كشف المقصودة.

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي

١٤٩

حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤))

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) بإلقاء كلمته فيك ، وأيضا أصطفيك برؤية الملائكة والخطاب معهم.

وأيضا أصطفيك بالكرامات والآيات حتى يأتي الملائكة يرزقك من الجنة (وَطَهَّرَكِ) أي : من لمس البشر وأيضا من دنس الخليقة.

وأيضا أي : طهر سرك عن الالتفات من الله إلى كفالة زكريا عليه‌السلام (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) اصطفاء الأول : رفع المنزلة ، واصطفاء الثاني : حقيقة العصمة بإشارته على نساء العالمين.

قال الأستاذ : فائدة تكرار الاصطفاء ، الأول : أصطفيك بالكرامة والمنزلة وعلو الحالة ، والثاني : أصطفيك ؛ لأنّك حملت بعيسى عليه‌السلام من غير أب (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أي : استقيمي في طاعة مولاك (وَاسْجُدِي) أي : كوني في السجود خالصة عن غيري (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي : تقربي إليّ بتواضعك مع المتواضعين من أوليائي وأنبيائي وخواص أهل محبتي لتنال بركات الجمع ؛ لأن صحبة الأولياء استحكام في العبودية ، وتخليص عن رق البشرية (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) بشرها حتى رسخت في تحمل إيذاء اللائمين ، وعرفت منزلتها حتى لا يسقط عن درجة اليقين بحديث العالمين (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) في الدنيا ملتبسا بأنوار الربوبية ، وفي الآخرة ملتبسا بجمال المشاهدة ألبسه الله خلعة الهيبة ، ليكون عظيما في أعين الناظرين من الفريقين المؤمنين والكافرين (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) تكلم الناس في المهد ليكون شاهدا على نبوته ورسالته وطهارة أمه ، وكهلا عن انبساطه ، وحالة اتحاده ، فالأولى من النبوة ، والآخر من الأنانية ، وفعله شاهد قوله بأحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، في بدايته كان ملتبسا بلسان العبودية ، في نهايته كان ملتبسا بصفات الربوبية.

وقيل : يكلم الناس في المهد معجزة له ، وكهلا داعيا ربه.

١٥٠

وقيل : يكلم الناس في المهد صبيا ، وعند نزوله من السماء كهلا ؛ ليكون على طرفي كلامه معجزة.

قال الواسطي : يكلم الناس في المهد ردا لقول المخالفين إنه نطق في حال يعجز من كان مثله عن ذلك ، وإذا كان كهلا ليس فيه بطش الشباب لا ضعف الشيوخ (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) انسلخ من أوصاف الحدوثية ، واتصف بصفات الربوبية فأظهر منه الحق جل عن الأهل والولد والحلول والمكان والجمعية والاختلاط مع الخليقة حقائق القدرة ليس لي في هذه الآية كلام أجل من ذلك مع أن أهل المعرفة قد سبقوني في هذا المعنى ، ولا بدّ لي من أن أتكلم فيه بشيء من عبارتي ما دام شرعت في تفسير القرآن.

وقيل : من اشتد عليه الصفات الربوبية ، وغاب عن أوصاف الحدث حتى بنفسه وأحيى به كل شيء ، وأبطل بهذه الآية دعاوي من ادعى إظهار معجزة عليه به دون ربه ، والله قادر على الإعجاز في جميع الأوقات يظهرها على من يشاء ، فالإعجاز الله والسبب مظهر عليهم ذلك في الهياكل والصور (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) عاينوا بأبصار القلوب حقائق الغيوب ، فقالوا : (رَبَّنا آمَنَّا).

قال ابن عطاء : (آمَنَّا) بما نورت به قلوب أصفياك من علوم غيبك ، (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) فيما أظهر من سنن أوامرك ، ونواهيك رجاء أن يوصلنا اتباعه إلى محبتك (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) مع من يشهدك ولا يشهد معك سواك (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) سقطوا عن مشاهدة سابق الحق فاحتالوا مع أهل الولاية بتدبير النفس فكان مكرهم مكر الحق عليهم ، وهم لا يعلمون أنهم مخدعون.

قال محمد بن علي : مكروا أنفسهم فحسن مكر الله عندهم ، وكان في الحقيقة الماكر بهم لتزيينه ذلك عندهم ألا تراه يقول : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر : ٨].

سئل بعض أهل الحقيقة : كيف تنسب المكر إلى الله؟ فصاح وقال : لا علة لصنعه وأنشد :

ويقبح من سواك الفعل عندي

وتفعله فيحسن منك ذاك

فديتك قد جبلت على هواكا

فنفسي لا تنازعي سواك

أحبك لا ينغصني بل بكل

وإن لم يبق حبك لي حراكا

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا

١٥١

وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣))

قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ) إن الله تعالى نفخ في صورة عيسى روحا قدسيا ورباها فيها بأنوار النبوة والعبودية ، وتجلي المشاهدة ، فإذا كمل في مقامات المصطفى من صفوة أنبيائه وأوليائه ، قال : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) على عن رسم الحدوثية (وَرافِعُكَ) إليّ بنعت الربوبية ، (وَمُطَهِّرُكَ) عن شوائب البشرية.

قال الواسطي : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) عنك ، (وَرافِعُكَ إِلَيَ) ، (وَمُطَهِّرُكَ) من إرادتك وهواك ، وذلك لإظهار نعوت الأزلية عليه (١).

__________________

(١) قال التستري (١ / ٤٥٥) : فإنه إذا مات فينزع عنه لطيف نفس الروح النوري من لطيف نفس الطبع الكثيف الذي به يعقل الأشياء ويرى الرؤيا في الملكوت ، وإذا نام نزع عنه لطيف نفس الطبع الكثيف لا لطيف نفس الروح النوري ، فيستفيق النائم نفسا لطيفا ، وهو من لطيف نفس الروح الذي إذا زايله لم تكن له حركة ، وكان ميتا. ولنفس طبع الكثيف لطيفة ، ولنفس الروح لطيفة ، فحياة لطيف نفس الطبع بنور لطيف نفس الروح ، وحياة روح لطيف نفس الروح بالذكر ، كما قال : (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ١٦٩] أي يرزقون الذكر بما نالوا من لطيف نفس النوري ، وحياة الطبع الكثيف بالأكل والشرب والتمتع ، فمن لم يحسن الإصلاح بين هذين الضدين ، أعني نفس الطبع ونفس الروح حتى يكون عيشهما جميعا بالذكر والسعي بالذكر ، فليس بعارف في الحقيقة. وقال عمر بن واصل : وكان المبرد النحوي يقول : الروح والنفس شيئان متصلان لا يقوم أحدهما بدون الآخر. قال : فذكرت ذلك لسهل ، فقال : أخطأ ، إن الروح يقوم بلطفه في ذاته بغير نفس الطبع الكثيف ، ألا ترى أن الله تعالى خاطب الكل من الذر بنفس روح وفهم عقل وفطنة قلب وعلم لطيف بلا حضور طبع كثيف.

١٥٢

قال بعضهم : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) عن حظوظك ، ورافع شخصك إليّ ، ومطهر سرك من مطالعة الأغيار والأعواض بالكلية ، ومما سمح لي في هذه بالبديهة بعد ذكر المشايخ رضوان الله عليهم ، (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) غيرة حتى لا ينظر إليك بنعت المحبة غيري ، (وَرافِعُكَ إِلَيَ) بنعت العشق ، (وَمُطَهِّرُكَ) من التفاتك إلى الملكوت ؛ لأن من شرط اتحاد الحبيب بالمحبوب ألا يدخل بينهما من الحدثان ، فإذا كان العارف بلغ مقام صرف التوحيد يتشعشع نور جمال الحق من وجوده فسجد له الكون ، ومن فيه بالظاهر طوعا وكرها ؛ لأن من رأى حسن جلال الحق بالواسطة ، ولم يبلغ حقيقة تحقيق المعرفة يصير مشبهيّا بوقوعه في الوسائط لأجل ذلك رفع روحه إليه حتى يستقيم نظام الشريعة ولم ينسخ أحكام السنة (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) خلق الله الأرواح القدسية من معادن الربوبية ، وجللها بنور المشاهدة فصارت تلك الجواهر من أصل واحد ، وإن كان تتفاوت في المقامات وصورة البشريات فروح آدم من الملكوت خلق ، وجميع ذريته من الأنبياء والصديقين معها ، فذكر الله تعالى ما صنع بروح آدم من تخصيصها بالقربة والكرامة والمشاهدة والعلم والمكاشفة والتفريد والتوحيد فذكر أن روح عيسى في منازل القربات مثل روح آدم بما ذكر من تخصيصها ، فقال لآدم عليه‌السلام : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص : ٧٣] ومثل هذا قال لعيسى عليه‌السلام لكن شرف آدم عليه‌السلام بإضافة خلق صورته إلى نفسه فقال : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] وأنه أسجد له ملائكته تخصيصا أو تشريفا من جميع الخلق لهذه المنزلة ، وقوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) دفعا لتهمة الجهلة حتى لا يظنون قدحا في الربوبية.

قال الأستاذ : حضهما بتطهر الروح عن التناسخ في الأصلاب ، وأفرد آدم بصنعة اليد وعيسى بتخصيص نفخ الروح فيه على وجه الإعزاز ، وهما وإن كانا كبيري الشأن فنقض الحدثان والمخلوقية لازم لهما ، قال الله تعالى : (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) قوله : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) طيب الله تعالى هذا قلب نبيه عليه‌السلام أي : كما كنت قادرا بخلق آدم وعيسى بكلمتي وقوة سلطاني فأعطيتك بما وعدتك من كمال دينك وشريعتك وتمام نعمة المعرفة عليك وعلى متبعيك فلا تكن ملهوفا من خطرات نفسك.

قال بعضهم : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ألا يظهر شيئا من المكونات إلا من تحت ذل (كُنْ) فلا تشكنّ فإنه منفرد بأسمائه وصفاته لا ينازعه في صفاته أحد من عبيده وخلقه.

وقال الأستاذ : الحق من ربك يا محمد فلا تشكنّ في أنه لا يماثله في الإيجاد واحد ، ولا على إثبات سببه لمخلوق قدرة فالموجودات التي حقت بوجودها عن كتم العدم من الله عز

١٥٣

وجل بدؤها وإليه عودها.

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي : من آذاك بالحجة الباطلة من المدعين الكاذبين فادع عليهم دعوة الحلم والانبساط ليهلكوا جميعا بدعوتك لأني خصصتك من بين الأنبياء بمقام المحمود واستجابة الدعوة في السجود.

قال جعفر الصادق : هذه إشارة في إظهار المدعين لأهل الحقائق لتفتضحوا في دعواهم عند أنوار التحقيق وبطلان ظلمات الدعاوي الكاذبة.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢))

قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) هو إفراد القدم من الحدوث وإظهار الحق بنعت العبودية ، والخروج من رسم دعاوي البشرية ، ودفع النفس عن الالتفات إلى الأكوان والتجلي بمحبة الرحمن.

(أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) أي : لا نتبع الهوى والدنيا وشهوتها ، ولا نلتفت بنعت الرياء والسمعة إلى غير الحق.

(وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) لا يفرح بالمدح والتزكية والعطاء والخدمة والرئاسة التي يتوقع بعضنا من بعض ، والإشارة فيه أنه أعلم الحق عباده بتجرد قلوبهم عما سواه.

١٥٤

وقال الواسطي في قوله : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) قال : هو إظهار العبودية عند ملاحظة الصمدية.

وقال ابن عطاء : هو تحقيق التوحيد.

وقال أبو عثمان : في قوله (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) قال : أعلمك طريق التعبد في هذه الآية ، وهو ألا تطالع بسرك عند اشتغالك بالعبادة سوى معبودك ، ولا تفرغ في أمر من أمورك إلى غيره فتتخذ بذلك ربّا.

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) ما كان الخليل عليه‌السلام متعلقا بالتشبيه مثل اليهود ، ولا بالثنوية مثل النصارى ، ولكن كان حنيفا مائلا عن الكون برؤية المكون ، مسلما منقادا عند جريان قضائه وقدره لإرادته.

وقال الأستاذ : الحنيف : المستقيم على الحق.

قوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) أن أولى الناس بالخليل عليه‌السلام للذين اتبعوه بشرط التجرد عن الكونين والعالمين ومنع النفوس عن حظوظ أشكال الملكوت ؛ لأن الخليل إذا بلغ مبلغ رجال القدس زاغ بصره عن عرائس الملكوت ، فقال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٨ ، ٧٩] وهذا النبي يعني محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى بمتابعة أبيه خليل الله ؛ لأنه زبدة مخاض محبته ، وخلاصة حقيقة فطرته ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي : أيقنوا وشاهدوا معاينات الآخرة ، ومنازل الأبرار السفرة ، والله ولي المؤمنين حافظهم عن آفات القهريات ، وأدخلهم في قباب العصمة والكرامات.

قال جعفر الصادق : الذين اتبعوه في شرائعهم ومناسكهم ، وهذا النبي لقرب حال إبراهيم من حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشريعته من شريعته ، دون سائر الأنبياء وسائر الشرائع ، والذين آمنوا لقرب حالهم من حال إبراهيم (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) في تشريفهم إلى بلوغ مقام الخليل عليه‌السلام إذ القرب منه في درجة المحبة بقوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤].

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ

١٥٥

عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥))

قوله تعالى : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) أي : لا تصبحوا إلا أهاليكم من العارفين والربانيين الذين لا يظهرون أحوالهم عند أهل الدنيا بالرياء والسمعة ولا يغالطون الناس في معاني أهل الحقيقة فيقعون فيهم بالوقيعة والإنكار ويقصدون سفك دمائهم.

وقال بعضهم : لا تعاشروا إلا من يوافقكم على أحوالكم وطريقتكم.

وقال المرتعش : لا تفشوا أسرار الحق إلا إلى أهله.

وقال أبو بكر بن طاهر : لا تصدقوا ظهور كرامات الله على ما لم تتبينوا ولايته ورياضته ومحافظته على ظاهر الشريعة.

(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) الرحمة هاهنا : النبوة والولاية يختص بها من يشاء من صفوة خلقه ؛ لأن سبق عنايته قبل وجود المجاهد والمجاهدة والشواهد والبراهين والكون والعلل فمن أشرقه نور المشاهدة وملأ سمع سره من خصائص الخطاب ، وسكرت روحه من شراب الوصلة ، فأنى له النظر إلى نفسه ومعاملته ومجاهدته ؛ لأن من النقص صار مرادا وإن ذل ، ومحبوبا وإن اعتد ، والاختصاص الأصلي يقع على ثلاثة أحوال : الأول : هو مكاشفة غيب الملكوت ، والثاني : يقع على مشاهدة الجبروت ، والثالث : يقع على مدارج المعرفة والتوحيد ، وهو أعلى وأجل ؛ لأن فيهما السكر والبسط والصحو والانبساط والإيجاب والأنانية والفردانية والحرية والاتصاف بالربوبية ، ولهذه أصل حقائق التمكين وتحقيق التوحيد.

وقال أبو عثمان : أمهل القول ليبقى معه رجاء الراجي وخوف الخائف.

وقال بعضهم : أزال العلل في العطايا والنفوس عن ملاحظات المجاهدات فاقطعهم عن الشواهد والموارد.

وقال سهل : من نال الهداية والقربة نالهما بربه لا بنفسه.

وقال الواسطي : ارتفعت العلل في العطايا وفيما أظهر من النعوت والخفايا ، وفتر النفوس عن مطالعات المجاهدات ، وكيف يتوسل المتوحد بالوسائل من أعمال البر بعد قوله : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) (١) وأيقن بأن ليس إليه طريق بالشواهد والموارد والعوائق.

__________________

(١) يقال خصه بالشيء واختصه به إذا أفرده به دون غيره ومفعول من يشاء محذوف ، والرحمة النبوة والوحي والحكمة والنصرة. والمعنى يفرد برحمته من يشاء إفراده بها ويجعلها مقصورة عليه لاستحقاقه الذاتي

١٥٦

وقال ابن عطاء : أنبأ ألا طريق إليه بالعوائد والفوائد.

وقال الواسطي : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) أن يكون بحيث كنت بلا أنت ، ويكون القائم هو لك بذاته ونعته.

وقال أيضا : من تجلى له بأحوال ليس كمن تجلى له بحالة واحدة كذلك (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ).

وقال أيضا : لما أن شاهدوا البرهان وعاينوا الفرقان ، فزعوا من صفاتهم إلى صفاته ومن فعلهم إلى فعله ، فسكنوا إلى ما سبق حسناه ؛ حيث يقول : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [الأنبياء : ١١].

وقال أبو سعيد الخرّاز : إن الرحمة هاهنا فهم معاني السماع بالسمع الحقيقي ، وهو الذي خص به الحق خواص السادة من عباده.

وقال الفارس : هو الهداية والخدمة والمشاهدة والولاية والنبوة والرسالة ، ولو لا أنه خصهم بما خصهم به ما ظهر عليهم من آثار الموافقة شيء.

قال أبو سعيد الخرّاز : اختص الله من عباده خواصا جعلهم أهل ولايته ، فقال : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) فطوبى لهذا العبد الضعيف ، ما حباه به سيده من هذه الدرجة العظيمة.

وسئل ابن عطاء : ما الذي فتر العابدين عن عبادتهم؟ قال قوله : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ).

وقال بعضهم : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) بمعرفة نعمه عليه ، والقيام بشكرها.

وقال الأستاذ : أي : بنعمته من يشاء ، فقوم اختصهم بنعمة الأرزاق ، وقوم اختصهم بنعمة الأخلاق ، وقوم اختصهم بنعمة العبادة ، وآخرين بنعمة الإرادة ، وآخرين بتوفيق الظاهر ، وآخرين بتحقيق السرائر ، وآخرين بعطاء الإيثار ، وآخرين بلقاء الأسرار.

وقال الله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤].

__________________

الفائض عليه بحسب إرادته عزوجل لا تتعداه إلى غيره لا يجب عليه شيء وليس لأحد عليه حق وما وقع في عبارة مشايخنا في حق بعض الأشياء أنه واجب في الحكمة يعنون به أنه ثابت متحقق لا محالة في الوجود لا يتصور ألا يكون لا أنه يجب ذلك بإيجاب موجب.

١٥٧

وقيل : لما سمعوا قوله سبحانه : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) علموا أن الوسائل ليس بها شيء ، وأن الأمر بالابتداء والمشيئة.

وقيل : يختص برحمته من يشاء بالفهم عنه فيما يكاشفه به من الأسرار ، ويلقيه من فنون التعريفات.

(بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠))

قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى) العهد ثلاثة : عهد الأزل بنعت الكشف للأرواح في أحانين بقلب القلب في سره في أوصاف الربوبية مع الأسرار ، وهو إلقاء مخاطبة الحق بما وافق توفيق المعارف في خصائص العبودية ، وعهد الله بعد تمكين العارف وكونه عارفا بالله مع عقله بوسائط الكتاب والسنة لكون الأدب منه في جميع عمره فمن وافى روحه عهد الأزل فاز من دركات الشرك ، وبلغ سر التوحيد ، ومن وافى قلبه إلهام الخاص بإلقاء سمع الخاص وسكونه في جريان الحكم فقد بلغ عين حقيقة الرضا وخلص من درك الفناء ، ومن وافى عقله أوامر الحق بالوسائل في ظاهره وباطنه فقد بلغ حسن الأدب في مقام العبودية ويكون مرشد للمريدين ، وقائد للعارفين قوله : (وَاتَّقى) أي : من اتقى خطرات النفوس وطوارق الشهوات فإن الله يبلغه مقام حقيقة المحبة.

قال الأستاذ : صاحب الوفاء للوصلة مستوجب ، وللتكريم أهل ، وللرحمة مستحق ، وصاحب الخطأ ممقوت وللهوان أهل ، وللخجلة معترض ، والوفاء بالعهد الكون معه بقطع ما سواه.

قال جعفر : من أوفى بالعهد الجاري عليه في الميثاق الأول ، وأبقى وطهر ذلك العهد وذلك الميثاق من تدنسه بباطل ، لذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصدق كلمة تكلمت بها العرب كلمة

١٥٨

لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل» (١).

ومن وافى بالعهد سمي محبّا ، (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) من مال إلى حضرة الدنيا وأثرها على رؤية مشاهدة حضرة الحق ، وزين ظاهره بعبادة المقربين ، ويبيعها بحظ الرياسة ، فقد سقط عن رؤية اللقاء مخاطبة الحق في الدنيا والآخرة.

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) أي : ليس من يختص بقربة الحق وكشف مشاهدته أن يلتفت سره إلى رياسة الخلق وحرمتهم له ، وأن يرى لنفسه قيمة عند إجلال عظمة الحق ؛ لأن من بلغ تحقيق التوحيد لا يرى لنفسه وزنا عندما يبدو من تجلي عظمة الحق ، ويكون خجلا على الدوام بين يدي الرحمن من وجوده عند وجود الحق ، ويريد فناء وجوده استحياء من ربه تعالى ، ولكن ما رأى نعم الله تعالى من كشف جماله وقرب وصاله ، وتعرفه بالجلال والعز والكبرياء والعظمة والقهر واللطف أشفق على الخلق ، ويدعوهم إلى عبادته وطالب مرضاته ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) ، ومعنى كونوا ربانيين أمر من الحق تعالى لأنبيائه وأوليائه أي : كونوا موصوفين بصفته كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تخلقوا بأخلاق الرحمن» (٢) ، وهذا وصف من كساه الله سنا قدس جمال الأزلي ، وجلال الأبدي قبل كون طينة البشر ، فكان منورا بنور صبح القدم ، إذ الأشباح والأجسام في العدم ، فإذا سكن الأرواح في ظلم الهياكل خاطبهم الانبساط ، فقال : لا تنسبوا إلى الماء والطين ، ولكن انتسبوا إلى الحق بنعت المحبة والمكاشفة والمشاهدة والاتصاف بصفقاته ، والتربية في حجر وصاله ، وكونهم بأفعاله الخاصة بالذاتية القدمية ، وليس هؤلاء كمن كان كونه بالأمر ؛ لأن الأمر للعوام ، والفعل للخواص ، مع أن الحق جلّ من الأشكال والأشباه ، والخيال والأوهام والأفهام ، والجزء والكل ، والتبعيض والصور ، والأزمان والمكان ، تعالى كبرياؤه وجلّت صفاته ، قوله : (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أي : لكم خاصة علم اللدني ، وعلم الكتاب والسنة والشريعة ، بها يلزم عليكم الخروج عن رسم الإنسانية ، وأوصاف البشرية.

وقال جعفر الصادق : في قوله تعالى : (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) قال : مستمعين بسمع القلوب ، وناظرين بأعين الغيوب.

__________________

(١) رواه البخاري (٣٦٢٨) ، ومسلم (٢٢٥٦).

(٢) ذكره المناوي في «التعاريف» (١ / ٥٦٤).

١٥٩

وقيل : (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) علما والله حلما عن عباده.

وقال ابن عطاء : عاينوا أول تربيتكم ليتخلصوا من هذه الآفات كلها ، وقال أيضا : أخرجهم بهذا الخطاب عمّا خاطبهم به من العبودية.

قال الواسطي : عاينوا أوقات تربيتكم وتقديركم قبل آدم عليه‌السلام ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالانتساب إلى آدم عليه‌السلام ، والافتخار بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بالافتخار ممن قدّسك في الأزل.

وقال أيضا : قال : كونوا كأبي بكر إذا أورد عليه قوادح الأمور لا يؤثر على سره حين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر : «دع بعض مناشدتك ربك ؛ فإنه ينجز لك ما وعدك» (١).

وقال أيضا : في هذه الآية أمر إبراهيم عليه‌السلام بالاستسلام ، وأمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعلم ، فقال : فاعلم والاستسلام إظهار العبودية ، والعلم به التوسل إلى الأزلية والأبدية ، لذلك خاطبهم فقال : (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) ، وأيضا قال : (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) جذبهم بهذا من الافتخار بالطين إلى الافتخار بالحق.

قال الجنيد : أخرجهم من الكون جملة ، وجذبهم إلى الحق إشارة ، فإذا أردت أن تعرف مقامات الخلق ، وبواطنهم في الحقيقة ، فانظر إلى تصرف أخلاقهم تجد كل واحد قائما في أشخاصه ، استقطعه ما وافق سريرته ، فانظر بما ربطت القلوب ، فيشهد سرائرهم ؛ لأنهم أخذوا من المصادر الأول ، فمن لم يستقطعه إلا إسبال أنواره والحياء فيما ورد عليه ، أيقن كيفية باطنه على الحقيقة تنازعه في ربوبيته ، وتمر عليه في عبودية وأنت لا تشعر ، وقال بعض العرافين : أخرجهم من آدم عليه‌السلام وتراهم منه كي ينسوا العبودية والافتخار بالماء والطين.

وقال الشبلي : أخرجهم عما خاطبهم به من العبودية ، فمن استحق العلم به استحق علم الربانية ، والرباني الذي لا يأخذ العلوم إلا من الرب ، ولا يرجع في بيانه إلا إلى الرب جلّ وعلا.

وقال الواسطي في هذه الآية : (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) ؛ لأن تكون ابن الأزل والأبد خير لك وأحسن بك من أن تكون ابن الماء والطين والأفعال والإحصاء والعدد.

وقال سهل : الرباني هو العالم بالله والعالم بأمر الله ، والمكاشف له من العلوم اللدني ما غاب عن غيره ، وقال أيضا : الرباني الذي لا يختار على ربه حالا.

وقال الجريري : (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) أي : سامعين من الله ناطقين بالله.

وقال فضل بن العباس الشكلي : قال كونوا كأبي بكر الصديق ؛ فإنه لما مات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) رواه مسلم (٣ / ١٣٨٤) ، وأحمد في مسنده (١ / ٣٠) ، والترمذي (٥ / ٢٦٩).

١٦٠