تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٢

ارتبط الأشياء بأضدادها ، وانفرد هو عن الأحوال لأنه محولها.

(ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أذل حلاوة زهرة الكونين والعالمين عن قلوب أهل الصفوة بقوله : (ما فِي السَّماواتِ) أي : الحوادث التي استأصلها عن مزار وحدانيتي ، ألا وهي الأسرار الموحدين رغبهم بفنائهم عن الأسباب والعلامات ، ووبخ من التفت سره عنه إلى ماله ؛ لأن الالتفات من المنعم إلى النعماء شرك بالمنعم ، (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أغرق الشافع والمستشفع في بحار مننه إذ لا يفرض كلاءة عباده إلا إلى نفسه ، وأيضا قطع أسباب حيل الوسيلة عن عناية الأزلية ، وأيضا أدب الخلق بهذه الآية حتى لا ينبسط إليه إلا من غلبه السكر والانبساط ، والأذن مقام الهيبة عند سرادق العظمة ، والحكم حال الانبساط في بساط الألفة ، والخائفون مراقبون الإذن ، والعاشقون يريدون ويقتحمون في الحكم ؛ لأن صاحب الحكم في هيجانه ملتبس بسناء التوحيد ، معتزل عن الأشباح بنعت التفريد ، أسكرته مشاهدة الحسن ، واضطرته مكاشفة القدس إلى البسط والانبساط ، وهذين الوصفين يكونان في العارف من الأنبياء والأولياء ، فالأول نعت تبت ، والآخر نعت أزلي.

وقيل : جذب به قلوب عباده إليه في العاجل والآجل.

قال الواسطي : لو جعل إلى نفسه وسيلة غير نفسه كان معلولا ، ومن تزيّن بإخلاصه ومحبته ورضاه توسل بصفاته إلى من لا وسيلة له إلا به قال الله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ).

قال منصور : فأي الشفيع إلى من لا يسعه غيره ، ولا يحجبه سواه.

وقال الواسطي : من ذا الذي يدعوني حتى أذن له في الدعاء ، ومن ذا الذي يؤمن به حتى أهديه ، ومن ذا الذي يطيعني حتى أوقفه ، ومن ذا الذي ينتهي عن المعاصي حتى أعصمه (١).

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي : يعلم ما بين أيديهم من الخطرات ، وما خلفهم من العثرات ، وأيضا يعلم ما بين أيديهم من المقامات ، وما خلفهم من الحالات ، وأيضا يعلم منهم قبل إيجادهم ما ابتلاهم به من أسرار الأفعال المقرونة بالإرادة ، ويعلم منهم بعد كونهم من درك المعاينات في مقام العبودية من أسرار علم الأزليات.

وقال أبو القاسم : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) لأنه لا يخرج عن علمه

__________________

(١) وقال ابن عجيبة : هذا بيان لكبرياء شأنه ، وأنه لا يدانيه أحد ليقدر على تغيير ما يريده بشفاعة واستكانة ، فضلا عن أن يعاوقه عنادا أو مناصبة. البحر المديد (١ / ٢١٢).

١٠١

معلوم ، ولا يلتبس عليه وجود ولا معدوم.

(وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) حجب علم القدم عن إدراك من أوجد من العدم ، إلا ما كاشف لأهل القلوب من معانات الغيوب ، وأيضا أي ولا يحيطون بشيء مما علمه الله من نفسه من علم الأزل إلا بما شاء ، أي إلا به لأنه لا وسيلة إلى علمه سواه.

وقيل : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) يعني من معلوماته وإذا تقاصرت العلوم من الإحاطة بمعلوماته إلا بإذنه فأي طمع لها في الإحاطة بذاته قالها أبو القاسم القشيري.

(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) كرسيه قلب العارف ، وهو واسع من السموات والأرض ؛ لأنه معدن علوم الألوهية وعلم اللدني ، الذي لا نهاية له ولا حد له ، وأيضا (كُرْسِيُّهُ) عالم الملكوت وهو مطاف أرواح العارفين لجلال الجبروت ، وأيضا (كُرْسِيُّهُ) وعرشه قبلتان لأهل الحدثان ولا جهة للرحمن ، ولا يعرفه بنعت التنزيه عن التباس الكون والتصاقه إلا أهل كشف العيان.

وقيل : العرش والكرسي إظهار للقدرة لا محلا للذات.

وقال أبو القاسم : خاطبهم على قدر فهم ، وإلا فإن خطر الأكوان عند صفاته وحلال قدرته عن التعزز بعرش أو كرسي ، أو التجمل بجنبي أو أنسى قبل علمه.

وقيل : (كُرْسِيُّهُ) في السموات والأرض هي منه كدرة.

(وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) أي : لا يعجزه حفظه ذلك على سعته وكبره ، وأيضا لا يوازيان في عظمته خردلة ؛ لأنهما في ملكه وسلطانه أقل من ذرة ، وأيضا قامت السموات والأرض به ولا علّة في صنعه ولا آلة في فعله منه ظهرت وبه قامت.

وقيل : وصف نفسه بالامتناع عن اعتراض القواطع والعلل.

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها

١٠٢

مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨))

قوله تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) تبيّن ما استتر عن الكون في الكون في علم الأزل من السعادة والشقاء ، فظهرت سمة السعادة والشقاوة من المقبولين والمطرودين ؛ لأن في جباه السعداء مصابيح أنوار المعرفة تلوح ، وفي جباه الأشقياء كدورات ظلمات الغي تبوح.

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) الطاغوت رؤية الطاعات ، والطمع في المكافآت ، فمن يكفر بها فهو من أهل المشاهدات ، والطاغوت يقع على كل شيء سوى الله تعالى من الدنيا والنفس والشيطان. وقيل : طاغوت كل امرئ نفسه.

قال الشيخ أبو عبد الرحمن رحمه‌الله : من لم يتبرأ من الكلي لا يصح له الإيمان بالله.

(وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي : من أقبل من نفسه وحوله وقوته إلى خالقه فقد وجده بنعت الحفظ والكلاية ، (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) هي ذات الحق سبحانه وجل عن التشبيه ، وأيضا هي المحبة والمشاهدة ، وأيضا هي العصمة القديمة التي سبقت بنعت العناية الأزلية لأهل المعرفة.

وقيل : (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) التوفيق في السبق والسعادة في الختم.

وقيل : (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : لا إله إلا الله. وقيل : هي السنة.

(لَا انْفِصامَ لَها) (١) ترجيه من الله لأهل المعرفة ، أي من تمسك بحبلي فاز في الدارين ، وسعد في المنزلين ، ولا يدخل في حجال عصمته خلل الحوادث ؛ لأنه في كنف العناية محروسا بالكفاية ، (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) لوجدهم من ظلمات العدم إلى كشف أنوار القدم ، وأيضا يخرجهم من ظلمات الامتحان إلى مشاهدة البيان ، وأيضا يخرجهم من ظلمات العبودية إلى جمال الربوبية ، وأيضا يخرجهم من الفرح بما وجدوا من المقامات والدرجات إلى نور مشاهدة الذات والصفات ، وأيضا يقدسهم ويخرجهم من ظلمات البشرية بمياه الشفقة لنور الأبدية ، وأيضا يزيلهم عن أوصافهم المحدثة ويقربهم إلى بساط الجزية ، ويلبسهم صفات الأزلية وسناء الصمدية.

وقال ابن عطاء : يغنيهم عن صفاتهم بصفته ، فيندرج صفاتهم تحت صفاته ، كما

__________________

(١) أي : لا انقطاع وهو استئناف لبيان قوة دلائل الحق بحيث لا يعتريها شيء من الشبه والشكوك ، فإن العروة الوثقى استعارة المحسوس للمعقول لأن من أراد إمساك هذا الدين تعلق بالدلائل الدالة عليه ، ولما كانت دلائل الإسلام أقوى الدلائل وأوضحها وصفها الله بأنها العروة الوثقى. تفسير حقي (٢ / ٥٩).

١٠٣

اندرجت أكوانهم تحت كونه ، وحقوقه عند ذكر حقه فيصير قائما بالحق مع الحق للحق.

وقال أيضا : بذل النفس لله على حكم الإيمان من علامة الهدى والقيام بأداء ما استدعى منهما من علامة التوفيق والانتهاء عما زجر عنه من علامة العصمة ، فذاك لنفي الظلمات عنه بها ، نوّره الله تعالى أنوار من الإيمان ، وذلك الذي يوجب له الولاية ، قال الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية.

وقال الواسطي : يخرجهم من ظلمات نفوسهم ، صدقها ورضاها وتقواها إلى نور صفاته وما سبق لهم من منابعه.

وقال أيضا : يخرجهم من ظلمات نفوسهم إلى أنوار ما جرى لهم في السبق عن الرضا ، والصدق والمحبة وغيرها.

وقال النوري : يخرجهم من ظلمات العلم إلى نور المشاهدة ؛ لأنه ليس المعاين كالمخبر.

قال الجنيد : يخرجهم من الظلمات أوصافهم إلى أنوار صفاته.

قال أبو عثمان : يخرجهم من رؤية الأفعال إلى رؤية المنن والأفضال.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) أي : الذين ستروا ما قد عاينوا من نفوسهم أنوار فعله وقدرته وما بدت في قلوبهم من لوائح العقول بالشروع في لذائذ الشهوة وغطاء الغفلة ، أولياءهم الطاغوت ومتوليهم في اعتزاء التماثيل الباطلة المتخيلة ، الشيطان يخرجونهم من أنوار العقول إلى ظلمات الجهل والعنادة.

(أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) أي : أصحاب الهجران عن مشاهدة الرحمن ، (هُمْ فِيها) في القطيعة والابتلاء ، (خالِدُونَ) ليس لهم مساغ في الوصول أبد الآبدين.

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠) مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ

١٠٤

سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١))

قوله تعالى : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) وقع عليه‌السلام في طلب مشاهدة القدرة صرفا ليرى بنورها مشاهدة القادر في المقدور ، وأيضا تعجبه في القدرة ليس بشك ؛ ولكنه تلون الخاطر ونقله من مقام الإيمان إلى مقام مشاهدة الحال في ظهور البرهان ، وأيضا خاض في بحر التفكر لطلب درّ المعرفة ، والفرق بين سؤال إبراهيم وعزير ـ عليهما الصلاة والسلام ـ أن إبراهيم عليه‌السلام كان في محل التمكين فأراه الله تعالى مشاهدة القدرة في غيره ، وكان عزير عليه‌السلام في محل التلوين فأراه الله مشاهدة القدرة في نفسه حتى يباشر قلبه نور الصفات ، فيشاهد حقيقة فعل القديم ، ويصير محكما في محل التمكين ، وأيضا مقام الخليل عليه‌السلام مقام الانبساط ، ومقام عزير عليه‌السلام مقام التحير ، فانبسط الخليل عليه‌السلام وسأل مشاهدة الصفات في لباس الآيات ، فأراه ما سأله في غيره ؛ لأنه مملوء من أنوار القدرة ، فيطلب مزيدا على حاله ، وتعجب عزير عليه‌السلام نبي الله من غاية تحيره في أسرار الربوبية ، فأراه الله الآيات في نفسه تأديبا له ؛ لأن أهل الانبساط ليس بمؤاخذين كخليل الله عليه‌السلام ، وأيضا سؤال الخليل عليه‌السلام في طلب المشاهدة وتعجب عزير عليه‌السلام تحير في كمال القدرة بطلب الآيات تثبيتا للوحدانية ، وأيضا مقام الخليل عليه‌السلام مقام اتحاد تجلّي الصفات ، ومقام عزير عليه‌السلام مقام اتحاد تجلّي الأفعال فتجلّي الصفات باشر قلب الخليل عليه‌السلام لقوله : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) وتجلّي الأفعال باشر صورة عزير عليه‌السلام ليكون له تحصيل العلم بقدرة القادر لقوله : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وأيضا خصّ الخليل عليه‌السلام بتجلّي الصرف بلا آيات في نفسه ، فلا يحتاج إلى أن يميته ثم يحييه ؛ لأن الحق يتجلى له في نفسه بلا واسطة الآيات ، ولكن يحتاج أن يرى الحق في غيره فيختص بالمنزلتين الصرف والالتباس ، ولم يكن لعزير عليه‌السلام مشاهدة الخاص ، فيحتاج أن يراه في نفسه بواسطة موته وحياته ، وفي غيره يعني في الحمار واللبن والثمار ، ليكون له مقامات وإن لم يكن صرفا كمشاهدة إبراهيم عليه‌السلام وهو بعد ما رأى من نفسه ما رأي فقيل له : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ) وهو مشاهدة الله في غيره ، وأيضا بلغ الخليل عليه‌السلام مقام كشف المعاينات في الحياة ، وكشف له ملكوت الأشياء لأجل اقتباسه نور مشاهدة الحق في الآيات ، ولم يضطر إلى أن يغيب روحه من الحواس حتى يرى صرف العين ؛ لأنه في حال الصحو ، ولم يبلغ عزير في ذلك الزمان مقام العيان ، فأنجاه الله إلى غيبته عن الصورة بنعت الغشيان ليرى في حال غيبته مشاهدة الحق ؛ لأنه في حال السكر ، فلما انتبه رأى في صحوه ما رأى في سكره ، لكن ما رأى في السكر وحال الغيبة مشاهدة الروح ، وما رأى في الصحو مشاهدة العيان.

وقيل : أري إبراهيم عليه‌السلام إحياء الموتى في غيره ، وأري عزير عليه‌السلام في نفسه ؛ لأن الخليل عليه‌السلام

١٠٥

تلطف في السؤال فقال : (أَرِنِي) فأري في الغير وتعجب عزير عليه‌السلام في القدرة ؛ ألا ترى أنه ختم قصته بالإيمان (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وختم قصة الخليل عليه‌السلام بالعزة والحكمة فقال : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ؛ لأن الخليل عليه‌السلام سأل إظهار الحكمة ومشاهدة العزة ، وعزير عليه‌السلام تعجب من القدرة ، فأجيب كل من حيث سأل.

وقوله تعالى : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) يجوز أن الله تعالى امتحن الخليل عليه‌السلام بأنواع البلايا في ظاهره وباطنه ، أما ما في ظاهره ؛ فهو الذي أخبر الله تعالى في كتابه أنه ألقى في النار وعذبه بأيدي الكفار ، وأيضا ابتلاه بذبح الولد وما أشبهه.

وأما الذي في باطنه فهو ما أخبر الله من اضطراب قلبه في تحصيل إدراك محض الربوبية ، وكان يقول : هذا ربى مرة ، ويقول : (أَرِنِي) مرة ؛ لأنه كان يطلب من خاطره إثبات محض اليقين ، فأخبر الله تعالى عن جميع امتحانه مع خليله عليه‌السلام في آية من كتابه قال : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) ، ومقصود الحق سبحانه وتعالى في ذلك أن بديع بواطن أنبيائه وأوليائه بخطرات نفوسهم حتى يحترقوا بفقدان الحبيب وتتقدس عن شوائب البشرية وإلقاء الشيطانية ، وأكثر ابتلاء الخواص هكذا كإبراهيم عليه‌السلام وموسى عليه‌السلام وعزير عليه‌السلام ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وذكر الله تعالى أحوالهم جميعا في كتابه ، أما لموسى عليه‌السلام ما روي عنه أنه كان يقول في مناجاته : «أي ربّ ، من متى أنت!».

وقال تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) ، وقال عليه‌السلام : «إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في كلّ يوم سبعين مرة» (١).

هكذا ابتلاء خواص الأنبياء والأولياء لا بأس ؛ لأن الرب رب والعبد عبد ، وأيضا اسأل الخليل عليه‌السلام مشاهدة الحق في لباس الخلق ، وأيضا أراد في سؤاله زيادة المعرفة في وسائط الآية لا من الاضطراب في الشك والتهمة.

وأيضا قال : (أَرِنِي) حقيقة بطنان الألوهية والربوبية ، وهذا من الخليل عليه‌السلام غاية استغراقه في الاشتياق وغوصه في سر حبيبه وأوصاف قدرته ؛ لأن المحب أراد أن يحيط بحقيقة ذات المحبوب من جميع الوجوه وذلك من شرط الاتحاد.

__________________

(١) رواه مسلم (٢٧٠٢) ، وأحمد في مسنده (٤ / ٢٦٠) ، وأبو داود (٢ / ٨٤).

١٠٦

وتحصيل ذلك زوائد اليقين وحقائق مقام التمكين ، وأن الله تعالى منزه عن أن يدركه أحد من خلقه ؛ لأن ذاته تقدس وتعالى امتنع بعزة هويته عن مطالعة المخلوقات ، فأجاب الله تبارك وتعالى خليله وقال : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) إنك لم تدركني بشرائط سر القدم ، وأنت مخلوق أسير بنعوت الحدث ، قال : (قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) بعد رؤية جنابي في عز عظمتك وبقاء ربوبيتك ؛ لأن قلبي لا يسكن عن طلب مشاهدة جمال ربوبيتك ، وأراد عليه‌السلام في سؤاله حيلة كي يخرج من عجز العبودية ويلتبس بصفاء الربوبية ، ولهذا السؤال أعظم من سؤال موسى عليه‌السلام بأن موسى عليه‌السلام سأل كشف المشاهدة ، والخليل عليه‌السلام سأل حقيقة علم صاحب المشاهدة وصرف ربوبيته ، فإذا علم الحق سبحانه من الخليل عليه‌السلام أنه أراد علوم الربوبية وحقائق صفات القدمية وكنه ذات السرمدية.

(قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أشار إلى طيور الباطن ، التي في نقص الجسم ، وهي أربعة من أطيار الغيب ، الأول : هو العقل ، والثاني : القلب ، والثالث : النفس ، والرابع : الروح ، أي : اذبح طير العقل بسكين المحبة على باب الملكوت ، واذبح طير القلب بسكين الشوق على جناب الجبروت ، واذبح طير النفس بسكين العشق في ميادين الفردانية ، واذبح طير الروح بسكين العجز في تيه عزة أسرار الوحدانية.

(ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) أي : اجعل العقل على جبل العظمة حتى يتراكم عليه أنوار سلطنة الربوبية فيصير موصوفا بها ليدركني بي بعد فنائه فيّ ، واجعل القلب على جبل الكبرياء حتى ألبسه سناء قدسي فيتيه في بيداء التفكر منعوتا بصرف نور المحبة ، واجعل النفس على جبل العزة حتى ألبسها نور العظمة لتصير مطمئنة عند جريان ربوبيتي عليها ، لا تنازعني في العبودية ولا تطلب أوصاف الربوبية ، واجعل الروح على جبل جمال الأزل حتى ألبسها نور النور وعز العز وقدس القدس ، لتكون منبسطة في السكر مطمئنة في الصحو عاشقة في الانبساط راسخة في الإيجاد ، فإذا كانوا ملتبسين بصفاتي يطيرون بأجنحة الربوبية في هواء الهوية ، ويرونني بلباس الديمومية والأزلية ، (ثُمَّ ادْعُهُنَ) بصوت سر العشق ، وزمزمة الشوق ، وجرس المحبة من بساتين القربة إلى عالم المعرفة ، (يَأْتِينَكَ سَعْياً) بسرعة جناح سلطان الربوبية إلى معدن العبودية بجمال الأحدية ، وتراني بعد جمعهن في مربع صدرك بعيون اللاهوتية ونور الملكوتية ، (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) بعزك عرفان هذه المعاني واطلاعك على صفاته القديمة حكيم في ظهوره بغرائب التجلي لأسرار باطنك.

وقال بعضهم : أراد أن يصير له علم اليقين ، وعين اليقين فعل الدوام يؤمن ، والإيمان

١٠٧

غيبي في علم اليقين وعين اليقين ، فقال : (بَلى) ولكن أسأل مشاهدة الغيب.

وقال بعضهم : هذا السؤال على شرط الأدب ، كأنه يقول : أقدرني على إحياء الموتى ، يدل عليه قوله : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) والطمأنينة لا تكون ضد الشك ، قوله : (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) على هذه الشهوة والمنية.

وقيل : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) القلوب الميتة عنك بإحيائها بك.

قيل : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) أي : لست كنت لتستدل علينا بالشمس والقمر وأفعالنا ، فأسقطنا عنك علة الاستدلال ، وكنا دليلك علينا.

وقال بعضهم : اعلم أن الخليل مع خليله مختال في أموره حتى يجد قربا إلى خليله ، أو سماعا لكلامه حتى أن بعضهم قال :

وإنّي لأستنعس وما بي نعسة

لعلّ خيالا منك يلقى خياليا

وقال جعفر الصادق : شكّ في الكيفية ، وما شكّ في غيره ، قال النبي عليه‌السلام :

«أنا أولى بالشك من إبراهيم» (١). وعن جعفر في قوله : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال : قلب أصحابي.

وقال ابن عطاء : أي إني إذا سألتك أجبني ، وإذا ذكرتك ذكرتني ، فإن بذكرك تطمئن القلوب.

وقال سهل بن عبد الله : سأل كشف غطاء العيان ليزداد بنور اليقين يقينا وتمكنا في حاله ، ألا تراه كيف أجاب عن لفظ الشك ببلى.

وقال بعضهم : إذا سكن العبد إلى ربه واطمأن إليه أظهر الله عليه من الكرامات ما أقلها إحياء الموتى ، قال الله تعالى لإبراهيم : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ).

وقيل : إنه طلب رؤية الحق سبحانه لكن بالرمز والإشارة فمنع منها بالإشارة بقوله تعالى : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، وأن موسى إنما سأل الرؤية جهرا ، فقال : (أَرِنِي) فرد بالجهر صريحا فقال : (لَنْ تَرانِي).

وقيل : إنما طلب حياة قلبه ، فأشير عليه بأن ذلك بذبح هذه الطيور الأربع ، ومنها الإشارة في الطيور الأربع الطاوس ، فالإشارة إلى ذبحه هي زينة الدنيا وزهرتها ، والغراب بحرصه ، والديك بشقه ، والبط لطلب رزقه.

__________________

(١) رواه البخاري (٣١٩٢) ، ومسلم (١٥١).

١٠٨

وقيل : لما قال إبراهيم عليه‌السلام : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) قيل له : أرنا كيف تذبح الأحياء يعني إسماعيل عليه‌السلام يطالبه بما طالبه ، فلما رأى ما طلب منه وافى الحق سبحانه بحكم ما طلب.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩))

قوله تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) المن : تعزز البشرية على الخيرية واستكبار الحدث على الكبرياء القديم ، (وَالْأَذى) ازدراء السر عند العطاء المسئول.

وأيضا (بِالْمَنِ) : تذكر الحدث ونسيان العدم ؛ لأن المنان إذا منّ على أحد فقد نسي الله عند تذكر نفسه وهذا نوع من الشرك ، (وَالْأَذى) : بالبذل بنعت البخل ، والرمي بالعين إلى الفقراء على جهة تعظيم نفسه ورؤية شرفه عليهم.

وأيضا (بِالْمَنِ) : شهود الأفعال ، (وَالْأَذى) التماس الأعواض.

١٠٩

قال السري : من تزيّن بعمله كانت حسناته سيئات ، فكيف من رأى لها قيمة ، أو طلب لها عوضا؟

ويقال : ينفقون ما ينفقون ، ثم لا يشهدون أفعالهم ولا أعمالهم.

وقيل : كيف تمنون بشيء تستقدرونه وتستحقرونه؟

وقال الجنيد : أعلمنا أن الذي يخلص له ثواب صدقته ، وينجز له ما وعده فيستحق الثواب على عمله ، من لا يمن بصدقة ، ولا يؤذي من تصدق عليه.

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ) القول المعروف : الإنصاف لأخيك عند رؤية مكروه منه ، الذي يهيجك بالغضب ، والمغفرة عفوك له عند قدرتك عليه خير من أن تعطيه شيئا وتؤذيه ، وأيضا : ردك السائل بقول جميل وسترك عليه ، مما ترى منه من قبيح خير من إعطائك بالمن أو وعدك مع المطل.

ويقال : إقرار منك مع الله لعجزك وجرمك ، وغفران الله تعالى على تلك المقالة خير من صدقة بالمن مشوبة ، بالأذى مصحوبة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) أي : أنفقوا لأرواحكم ما كسبتم بأشباحكم من المعاملات المقدسة عن شوائب الرياء والسمعة (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي : مما أخرجنا بمزن المعرفة عن سحاب المكاشفة ، ومزارع قلوبكم من الحكمة والعلم اللدني ، والصدق والإخلاص والرضا واليقين على المريدين لتخلصوا بذلك من مكائد الشيطان ، أي : أنفقوها لنجاة صوركم بهذه المعاني التي تخرج من بساتين صفاء أسراركم ، (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) أي : يعدكم إلى قطع الرجاء عن الله تعالى في إتيان نواله منه.

وأيضا : يعدكم إلى قلة الطمأنينة ، وكثرة الشك فيما وعد الله تعالى لعباده من نفائس الألطاف وجميع الأقسام التي هي سبب حياة العباد في الدنيا والآخرة.

وأيضا : يعدكم إلى ظنون شتى في الله تعالى ، وهذا من قلة عرفان الحق والجهل بسلطانه ؛ لأن لقاء العدو يهيج سر العبد إلى الشك في الله ، وفيما وعد لعباده ، ويلجئه إلى التحير حتى يظن أن الحق سبحانه وتعالى عاجز فقير ، كما قال اليهود : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) وهذا من وسوسة العدو ، وليس لهم بإحراز العلوم والخوف من المعدوم والجمع والمنع وكثرة التهمة ، ودفع الصدقة والفرار من القناعة ومن الغنى بالكفاية ، وغرهم بالشروع

١١٠

في طلب الزيادة (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) (١) أي : البخل وسوء الظن في الله وحب الدنيا وبغض الموت ، وعمارة الضياع والعقار ، وطلب الزيادة وبغض الفقر والفقراء ومنع الزكاة ، وما أوجب الله تعالى عليهم من الحج والجهاد.

وزيّن لهم حب الرئاسة ، وطلب نسوان المسلمين لأجل الزنا ، وشرب الخمور وسماع المعازف ، والتكبر والتجبر على الضعفاء والمساكين والجور والظلم والعناد ، وقلة الإنصاف واتخاذ الأرباب لحفظ الأموال وأشباه ذلك من الأمور الرديئة الفاحشة.

(وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) معرفته تطهر قلوب الأشحاء من أوساخ الشح والفاحشة ، وتحفظها عن الميل إلى حب الدنيا وما فيها وفضله مشاهدته وقربته ومعرفته وتوحيده وكشف أسراره لهؤلاء العباد الذين اصطفاهم لمحبته وخصائص مناجاته وخطابه وخدمته.

وأيضا المغفرة : طمأنينة النفس بكشف اليقين ، والفضل : الرضا بحكم الأزل.

وأيضا المغفرة : عن الكون ، والفضل : الوصول بلا وحشة البون.

وقيل : (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) بنسيان ما تعود به من فضله.

وقيل : إنه يعدكم الفقر في طلب فوق الكفاية فيكون عبده ، ومشتغلا به فيردك عن غنى الكفاية إلى طلب الزيادة ، وهو الفقر الحاضر.

وقيل : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) أي : الحرص ، والله يأمركم بالقناعة.

وقال أبو عثمان : الشيطان يعدكم الفقر على ترك الدنيا والإعراض عنها ، والله يعدكم على ذلك مغفرة منه وفضلا.

قال محمد بن علي : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) لفقره ، (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) وهو عمارة داره ، (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) وهو جزاء عمارة المآب ، وفضله وهو استغناؤه عن كل ما سواه.

قال بعضهم : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) تحذيرا للموحدين لا تفريقا للكافرين ؛ لأن الشيطان لا يدعو أحدا إلى معصيته ولا يزينها له حتى يعده الفقر فإذا خاف العبد الفقر دعاه إلى المعصية ، فإذا استحل المعصية دعاه إلى النفاق ، فإذا استحل النفاق دعاه إلى الكفر ، ولا يخاف الفقر إلا من نسي القسمة ولا ينسى القسمة من عرف الله الذي قسم لعباده ما أراد بمشيئته ، وأصل المعاصي إيقاد الشهوات وأصل النفاق التزيين للخلق ، وأصل الكفر منازعة

__________________

(١) قال التستري (١ / ٥٩) : قال : هو أن يأخذوا الشيء من غير حله ، ويضعوه في غير محله.

١١١

القدرة.

وقال سهل : الفقر أن تأخذ شيئا من غير وجهه ، وتضعه في غير حقه : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) الحكمة : إدراك أنوار بواطن القلوب أسرار عجائب بواطن الغيوب ، والحكمة ما حفظته الأرواح من ألواح الملكوت ، تلقف العقول إلهام الأحكام من علم الجبروت ، والحكمة أدب الرباني لتهذيب خلق الإنساني ، وأيضا الحكمة معرفة الأخلاق ، وإطلاع لغيوب النفس ودقائق الشيطان والعلم بفرق حديث النفس والعدو ولمسة الملك وإرشاد العقل ، وبصيرة القلب دفعه إلهام الحق ونطق الروح ، ورمز السر وأنواع خطاب الحق ومعرفة أقدار الخلق ، ومداواة معرض الباطن ، ودفع الوسوسة والمعرفة بأحوال الخلق والمقامات ، ووقائع المكاشفات وأنوار المشاهدات وإدراك منازل المعرفة ودرجات التوحيد وما يليق بهذه الحقائق مثل معرفة دقائق الرياء ، وشك النفس ، والخطرات المذمومة ، والبلوغ إلى علم اللدني والكرامات والفراسات الخاصة ، ورؤية الغيب ، والمحادثة والمخاطبة والمكالمة مع الحق جل اسمه في أسرار الخلوات وأنوار المناجاة. ومن يؤت هذه الدرجات فقد أوتي خلافة الأنبياء والرسل ودرجة الملائكة الكرام ، وهذه منزلة الأعلى من منازل الأولياء ومرتبة العليا من مقامات الأصفياء ، وهو خير الدنيا والآخرة ، وأيضا : صرف الحكمة إدراك مراد الحق من رموز خطابه ، وامتثال ما أدركه ، والحكمة زم الجوارح ودفع الخواطر والسكون في الطوارق وفي الجملة الحكمة ما تلتفت الروح الناطقة من الحق سبحانه من خصائص الكلام والإشارات الإلهية.

والحكمة : المعرفة بأفعاله في المصنوعات والآيات ، وأيضا : شهود السر على أسرار شواهد الملكوت ورؤية غرائبها.

وأيضا : الحكمة عند العارفين ولوح السر قباب الغيب واطلاعه على خزائن الملكوت برؤية العيان إلا بالدلائل والبرهان وتحصيله علوم الربوبية بلا واسطة الشواهد ، وانشراحه باقتباس أنوار القرب وانفساخه بإدراك خطاب الخاص ، واندراجه في طرقات الصفات ، وبسطه في مشاهدة الذات ، وإذا بلغ السر مدارج الربوبية عرف مراد الحق عزوجل في مجاري أحكامه ، ورأى في الشواهد صرف الألوهية بنعت جريان القدرة ؛ لأن الحكمة في هذه المواطن من بلوغ الروح سر عين الجمع ، وهو صفة الاتحاد وأفهم الحكمة من صفة الحق سبحانه الخاصة الذاتية القدمية ، ولا تدركها إلا بشرط الاتحاد ، وإذا أراد الله تعالى أن يهدي عبدا من عباده إلى مقام الحكمة ألبس روحه تلك الصفة حتى تصير ربانية صمدية مطلعة على جميع الأشياء ظاهرا وباطنا ، وتفرست المغيبات وتدرك حقائق الأشياء بتلك الصفة الخاصة ، وهذه

١١٢

كلها مستفادة من قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً).

وقال تعالى في بعض أخباره التي أخبر نبيه عليه‌السلام : «لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى كنت سمعه الذي يسمع بي ، وبصره الذي يبصر بي ، ولسانه الذي ينطق بي ، وقلبه الذي يعقل بي» (١).

فإذا كان جميع وجوده مستغرقا في رؤية خالقه فكيف لا يطلع على مكنونات الغيب ومطلعه بنعت صفة الخاص هو الله تعالى.

وقيل : الحكمة إشارة لا علة فيها ، وقيل : الحكمة إشهاد الحق على جميع الأحوال ، وقيل : الحكمة تجريد السر بورود الإلهام.

وقال أبو عثمان : الحكمة هي النور المفرق بين الإلهام والوسواس.

وقال الشيخ أبو عبد الرحمن : سمعت منصور بن عبد الله يقول : سمعت الكتاني يقول : إن الله بعث الرسل بالنصح لأنفس خلقه ، وأنزل الكتاب لتنبيه قلوبهم وإنزال الحكمة لتسكن أرواحهم بها ، والرسول داع إلى أمره ، والكتاب داع إلى أحكامه والحكمة مشيرة إلى فضله.

وقال القاسم : الحكمة أن يحكم عليك خاطر الحق ، ولا يحكم عليك شهوتك.

وقال الجنيد : أحيا الله قوما بالحكمة ومدحهم عليها فقال : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (٢).

وقال عبد الله بن المبارك : الحكمة الخشية.

وقيل : الحكمة إصابة القول مع صحة الفعل بالإخلاص.

وقال بعضهم : متى أثر فيك الحكمة؟ قال : منذ بدأت أحقر نفسي.

قال بعضهم : الحكمة كنز الله ، والحكماء فيها ذمة الله ، أمرهم ربهم أن ينفقوا كنز الله على عباد الله.

وقال بعضهم : الحكمة نور الفطنة.

وقال معروف الكرخي : من حسن علمه نزلت الحكمة في قلبه.

وقال سهل : الحكمة هي مجمع العلوم وأصلها السنة.

قال الله تعالى (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) [الأحزاب : ٣٤] والآيات الفرض والحكمة السنة.

__________________

(١) رواه البخاري (٦١٣٧) ، وابن حبان (٢ / ٥٨) بنحوه.

(٢) فثبت أن الحكمة من المواهب لا من المكاسب ؛ لأنها الأقوال لا من المقامات والمعقولات التى سمتها الحكماء حكمة ليست بحكمة فإنها من نتائج الفكر السليم. تفسير حقي (١٠ / ٤٠٤).

١١٣

وروى سهل عن شيوخه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القرآن حكمة الله بين عباده» (١) ، فمن تعلم القرآن ، وعمل به فكأنما استدرجت النبوة بين كتفيه لا الوحي ، يحاسب حساب الأنبياء إلا بتبليغ الرسالة.

وروى أيضا عن شيوخه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القرآن حكمة من تعلم القرآن في شيبته خلط القرآن بلحمه ودمه ، ألا وإن النار لا تمس قلبا داعي القرآن ولا جسدا اجتنب محارمه ، وأحل حلاله ، وحرم حرامه ، وآمن بمحكمه ، ووقف عند متشابهه ، ولم يبتدع فيه» (٢).

وقال بعضهم : الحكمة أربعة أشياء العلم والحلم والعقل والمعرفة.

قال أبو بكر الوراق : الإفاقة مع الحكمة ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً).

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢))

قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) يبشر أولياءه بعظيم المجازاة وجزيل المكافأة ، ويهيجهم إلى بذل الموجود والمجهود ، وأدبهم ليستعملوا خواطر الإلهام من عقد القلب وتلفظ باللسان ، ويحذر أولياءه باطلاعه على ضمائرهم وسرائرهم ، وأنه لا يقبل إلا من وجه الإخلاص ، وأعلم أنه يجازي كلا الفريقين المحسن بإحسانه والمسيء بسيئاته.

وقال الواسطي : أشار به إلى قوم لا يضرهم ولا ينفعهم مال ولا بنون ، أي : إن الله بعلمه يعلم من يختم له بخير.

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) إن كان الإعطاء من مقام اليقين بنعت التمكين ، وإن كان محقّا عن مطالعة النفس بنعت خصائص الإخلاص ، وأيضا أن أعلنت الإنفاق لتسبي بها قلوب المريدين وتهيج أسرارهم إلى بذل الأرواح في شرائط محبتنا (فَنِعِمَّا هِيَ) ،

__________________

(١) ذكره التستري في تفسيره (١ / ٦٠).

(٢) رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (٢ / ٥٥٣) ، و «السنن الصغرى» (١ / ٥٤٣).

١١٤

لأن المعاملة من الممكن تصير قدوة لطلاب المعرفة ، وإن أخفيت ما عملت من نفسك والتفات المخلوقات وارتفاع الطبع في الأعواض (فَنِعِمَّا هِيَ) لأن قدس الباطن عن رؤية الأفعال وطمع الأعواض يكون واقعا لخطرات المشوبة بالرياء ، ويتولد منه صرف النفس في جميع الأحوال (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) قطع أسباب البداية من المعاملات والشفاعات عن قلوب أهل الولايات ، وأضاف كلاءتهم إلى نفسه بأنه هاديهم (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) أي : لأنفسكم جزاء ما علمتم من مقامات المجاهدات بصوركم ، ومن أعمال قلوبكم من ألم الفراق واحتراقها بنيران الأشواق ، كما قال عليه‌السلام حاكيا عن الله عزوجل : «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم ؛ فإنه لي وأنا مجاز به» (١).

وأيضا : أي لأنفسكم جزاء معاملتكم ، وإلى التفضل كله بالفضل به عليكم لا بأعمالكم وأفعالكم ؛ لأن خاصية الفضل لي ، لا يدخل فيه على العبودية.

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩))

قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الذين حبسوا أنفسهم عن

__________________

(١) رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (٣ / ٢٩٥) ، والطبراني في «الأوسط» (٥ / ١٣١).

١١٥

الميل إلى غير الله في مجلس مراقبة الله ، ناظرين من الله إلى الله وراضين بقضاء الله في مراد الله ، صابرين في بلاء الله محتسبين لله في مجاهدة أنفسهم ، لا ينقضون عهود ميثاق الأزل إلى الأجل ، أي : الذين وصفهم الله تعالى بإحضار نفوسهم عن التعرض إلى غير ذلك بالرمز والإشارة ، وسؤال غيره على أحوالهم وصونا لأسرارهم ومراعاة لحقيقة فقرهم ، وعفة في مجاهدتهم خدمة أهل الدنيا ببذل المال والأنفس ليلا ونهارا (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) أي : لا يتفرقون عن مجالستهم ومراقبتهم من قوة الحال ، وغلبة الذكر عليهم واشتغالهم بمشاهدة سيدهم وشدة محبتهم وكثرة عشقهم وحقيقة يقينهم بربهم لطلب معاشهم وحوائجهم ؛ لأنه قد غلب عليهم صحة التوكل وحسن الرضا وحقيقة التسليم وهم كانوا يفوضون جميع أمورهم إلى الله ، ويسكنون بوعده ؛ لأنه منّان بأوليائه ، وأهل طاعته أهل الثناء والمغفرة بحفظ أوقاتهم عن الخطرات والزلات (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) لأنهم لا يتملقون عند أبناء الدنيا بكلام اللين وإظهار التقشف ، ولا يظهرون أحوالهم لأجل الرياء والسمعة شفقة بأحوالهم مع شدة افتقارهم إلى الله.

وصف الجاهل بقلة المعرفة بأحوالهم ؛ لأن العالم يعرفهم بنور العلم والإيمان (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) بشارة مشاهدة الحق في وجوههم ، وبهجة نور المعرفة في قلوبهم ؛ لأن الله تعالى أسبل على وجوههم نقاب سناء الصفات ، وألبس جباههم نور جمال الذات أي : تعرفهم بهذه الصفات ؛ لأنهم الأتقياء الأخفياء الذين لا يركنون إلى الخلق بسبب الدنيا وزينتها ولذتها ، وأنهم من أهل المحبة الذين يبتلون بأنواع البلايا هم صابرون محتسبون لله وفي الله ، (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) لا ينبسطون إلى أهل الدنيا ولا يبتغون حظوظ أنفسهم من الخلق ، ولكن ينبسطون إلى الإخوان في الله تلطفا بهم وتعطفا عن الميل إلى مألوفات الطبع والهوى.

وأيضا : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) وصف الله تبارك وتعالى أهل حقائق المعرفة ، ونعتهم بالفقر أي أنهم حبسوا في صحاري التوحيد ، وتيه التقديس بأصفار التحير ، وألزموهم تراكم لطمات بحار الوحدانية ، وأغرقوهم في سر العظمة مفتقرين من عين التلوين إلى عين التمكين ، لا يستطيعون من ثقل أحمالهم مسيرا من الحيرة إلى رؤية المنة وكشف القربة في أرض الديمومية ، والطيران عن أشكال الحدوثية في أسرار الهوية القدمية.

وأن الله تعالى كشف لهم عن بساط العظمة ، وأراهم نقوش صور غيب الغيب التي التبس الحق بها بنعت الرضا عن العشاق فيتحيرون بين الرسم والصرف تحيرا استأصل لباس الحدوثية عن نفس أرواحهم ، فإذا برزوا بهذه السمات من بطنان عجائب الغيب يحسبهم

١١٦

صبيان الملكوت أنهم في جمال بسط الديمومية ، ولا يعرفون شأن قبضهم ؛ لأنهم في طيب مزمار الإحسان يحتجبون به عن إدراك أحوال المحترقين بنيران الكبرياء ، لكن يعرف من غيب وراء الوراء وقطع حجب رسوم العبودية والربوبية أنهم مفتقرون إلى مشاهدة حسن الحسن ، ومكاشفة قدم القدم والجمع بنعت الاتحاد ، لا يظهرون مع عجزهم أحوال تحيرهم واحتياجهم لأهل التمكين غيرة على أهل الانبساط لكن يحترقون في الباطن ويستبشرون في الظاهر ، هؤلاء مرضى المحبة وأسرار المعرفة ينعتهم الله مقام التفرقة بنعت الجمع ، وقيل : (أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الذين وقفوا مع الله بهممهم فلم يرجعوا منه إلى غيره ، وقيل : (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) (١) أي : لا يتحركون لطلب الأرزاق.

وقال محمد بن الفضل في هذه الآية : يمنعهم علو همتهم عن رفع حوائجهم إلى مولاهم.

وقال ابن عطاء : يحسبهم الجاهل بحالهم أغنياء في الظاهر ، وهم أشد الناس افتقارا إلى الله تعالى في الظاهر ، فاستغناؤه في الباطن.

وقيل في (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) : أي في تطييب قلوبهم وحسن حالهم وبشاشة وجوههم ونور أسرارهم وجولان أرواحهم في ملكوت ربهم.

وقال سهل : إن الله عزوجل وصف الفقراء بصفة القدم من حال سؤال الافتقار واللجوء إليه ووصفهم بالرضا والقنوع لا استطاعة لهم إلا به ومنه ، ولا قوة لهم من حولهم وقوتهم.

قد نزع الله منهم ركون قلوبهم إلى غيره ، والمساكين راجعون إلى الأسباب كما وصفهم الله مساكين يعملون في البحر فردّهم إلى حال السكون إلى الأسباب.

لذلك قال بعضهم : الفقر عز والمسكنة ذل.

وقال عمرو المكي : من أحب شيئا كان به ضنينا ، من حب شيئا كان به أنيسا ، ومن أحب شيئا كان له أسيرا.

وقال النصر آبادي : الفقير ينبغي أن يكون له قناعة وعفة ، ويعتبر بالقناعة ويرتدي بالعفة ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلم قال : «القناعة مال لا ينفد» (٢) ، فإذا كان الفقر بهذه الصفة دخل في

__________________

(١) أي : ذهابا في الأرض للتجارة أو للأسباب ، بل شغلهم الجهاد والتبتل للعبادة عن الأسباب ، وهم أهل الصّفّة ، كانوا نحوا من أربعمائة من فقراء المهاجرين ، يسكنون صفة المسجد ، يستغرقون أوقاتهم في العلم والذكر والعبادة ، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. البحر المديد (١ / ٢٣٢).

(٢) رواه الطبراني في «الأوسط» (٧ / ٨٤) ، والديلمي في «الفردوس بمأثور الخطاب» (٣ / ٢٣٦).

١١٧

جملة حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام» (١).

وقال الثوري : تعرفهم بسيماهم يفرحون بفقرهم ، واستقامة أحوالهم عند موارد البلاء عليهم.

وقال أبو عثمان : تعرفهم بسيماهم بإيثار ما يملكون مع الحاجة إليه.

وقال الجنيد : كلّت ألسنتهم عن سؤال من يملك الملك ، فكيف من لا يملكها.

قال الجنيد : سئل عن الفقير الصادق متى يكون مستوجبا لدخول الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام؟ قال : إذا كان هذا الفقير معاملا لله بقلبه ، موافقا له في جميع أحواله منعا وعطاء بعد الفقر من الله نعمة عليه يخاف على زوالها ، كما يخاف الغني على زوال غناه ، وكان صابرا محتسبا مسرورا باختيار الله له الفقر صائنا لدينه كاتما لفقره يظهره الإياس من اليأس ، مستغنيا بربه في فقره ، كما قال الله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ، فإذا كان الفقير بهذه الصفة دخل الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ، ويكفى يوم القيامة مؤنة الموقف.

وقال الأستاذ في قوله : (الَّذِينَ أُحْصِرُوا) : أي أخذ عليهم سلطان الحقيقة كل طريق لهم فلا لهم في الشرق مذهب ، ولا لهم في الغرب مشرب ، كيفما نظروا رأوا سرّ ذوقات التوحيد محدقة بهم :

كأنّ فجاج الأرض ضاقت برحبها

عليّ فما تزداد طولا وعرضا

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) من بلغ رؤية جمال مشاهدة الحق عشقه ، ومن شرط العشق أن يبذل العاشق وجوده وماله في جميع الأوقات دفعا للخطرات وخوفا أن يسقط عن درجات المشاهدات.

قال ابن عطاء : الوقت وقتان ، والحال حالان ، فالوقت ليل ونهار ، والحال سر وعلانية فإذا أنفق في الليل والنهار والسر والعلانية فقد قضى ما عليه إذ المحب لا يدخر عن حبيبه شيئا ، لا يفتر عن رضاه بحال.

قال عبد العزيز المكي في هذه الآية : أي : في ظلمة الليل حذرا من خجلة الأخذ والنهار بواسطة تجعل بينه وبين الأخذ وحذرا عن حياته منه سر صفائه ، وإخلاصا وعلانية أسوة واقتداء.

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ

__________________

(١) رواه الترمذي (٤ / ٥٧٨) ، والدارمي (٢ / ٤٣٧) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٨٠).

١١٨

تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢))

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) أدّب قوما بتأديبه في كرمه ورحمته على المعسرين من الطاعة والمكثرين من المعصية ، وهذا إخبار عن غاية شفقته على عباده إذ أمر بعضهم أن يمهل بعضا في واجب حقوقهم ، أشار بهذا إلى حقيقة الحقوق له يهب بفضله ما قصروا في واجب أمره تقدس وتعالى ، وأيضا : رمز لأصحاب المعاني في هذه الآية أي : إذا كان أهل المعرفة في عسر من المشاهدة وكشف القربة ، فلا تطالبوهم بأثقال المعاملات والتماس الكرامات إلى ميسرة الكشوف ، وبروز أنوار الحضرة في قلوبهم لأن للعارف مقامين : الأول : هو القبض ، والثاني : هو البسط ، فإذا كان في القبض فهو في هبوط الهجران وهو عسر ظاهر لا يؤدي في ذلك المقام حق الحقيقة ، وإذا كان في مقام حق الحقيقة في مقام البسط وهو في رخاء التوحيد ويطيق أن يؤدي ما وجب عليه من حق الطريقة ؛ لأنه في ذلك الحال ملتبس بأنوار الربوبية ويتهيأ له ما يريد كما وصف الله تعالى أنبياءه وأولياءه في حال انبساطهم وبسطهم مثل عيسى عليه‌السلام حيث قال : (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ).

(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) أي : خافوا يوم الفصل من الوقوف مقام الحياء والخجلة بين يدي ملك يمنع المندرجين عن مشاهدته ، ويعاقب أولياءه بالخطرات والإشارات.

١١٩

قال الواسطي : هذا ترهيب للعام وأما للخواص بقوله : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ).

قال بعضهم : من لم يتعظ بمواعظ القرآن فليس له سواه سقط ، وأي موعظة أعظم مما أخبر الله به عباده من الرجوع إليه ، فمن لم يحزن ؛ لذلك الموقف ولم يبك لذلك المشهد فبأي موعظة يتعظ؟ والذي يمضي فيه غير موثوق والذي يبقى غير مأمون.

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))

قوله تعالى : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) أي : لا تكتموا ما أشهدكم الله من مقام أهل الولاية بأن تخملوا ذكرهم حسدا عليهم (وَمَنْ يَكْتُمْها) يعني : ما خصهم الله به (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) أي : جزاء كتمانه قسوة قلبه ، وإثم قلبه الحسد بأهل الولاية ، وجزاء الحسد الطبع والختم ، نعوذ بالله من ذلك.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي : لله خزائن ملكوت الكونين وأسرار غيب العالمين ، لا يكشفها إلا لخواص أحبته.

قال ابن عطاء : الكونان هو مبديهما من غير شيء فمن اشتغل بهما قطعاه عن الله ، ومن أقبل على الله وتركهما ملكهما الله تعالى إياه (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) أي : إن تظهروا ما في قلوبكم من حقائق المكاشفات والمخاطبات ليقتدي به أهل الإرادة ، وتخفوه عجائب الغيب التي ترى عيون الأرواح القدسية تورعا لئلا تفتتن بها أقوام من شفعاء المؤمنين لقلة فهمهم يرينكم الله تمكين المظاهر بما أظهرتم ، حتى لا تفتتنوا بدقائق الرياء والسمعة ، وبيقين الباطن بما أخفيتم من الخلق إخلاصا وصدقا لتذوقوا حلاوة صفاء الإخلاص في كتمان الأسرار ، وأيضا : أن تبدوا في الظاهر من شره الإحساس متابعة الوسواس (أَوْ تُخْفُوهُ) ما تحدث به أنفسكم في باطنكم من أطباء القلوب وحراس الغيوب يجازيكم بفتنة النفس والشيطان والغفلة والشهوة (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) لمن يدفع خطرات الباطن ترغيبا ، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) لمن يتبع هواه بدخوله في الزلات تهذيبا.

وقال جعفر : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الإسلام ، (أَوْ تُخْفُوهُ) قال : الإيمان.

١٢٠