تفسير القاسمي - ج ٥

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٥

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٢

يقتصروا في المبالغة والدليل في توريث ذي الرحم ، إلا على ما روي عن عبد الله بن العباس ، جدّ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ، وترجمان القرآن ، وبحر العلم ، ومن كان إذا تكلم سكت الناس ، ومن دعا له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال (١) : اللهم! فقهه في الدين وعلمه التأويل. ودعوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستجابة. ومن كان أعلم بتأويل القرآن فاتباعه فيه أوجب. وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك من قول عمر وعليّ وعبد الله والجماعة. وما زالت الخلفاء من أجداد أمير المؤمنين ، أعزه الله ، يستقضون الحكام ، فيقضون برد المواريث على الأقارب ، ولا ينكرون ذلك على من قضى به من قضاتهم ، ولا تردونه متجاوزا للحق فيه ، وما عرفت الجماعة بغير هذا الاسم إلا منذ نحو عشرين سنة ، وأمير المؤمنين أولى من اتبع آثار السلف ، واقتدى بخلفاء الله ، ومال إلى أفضل المذهبين ، وإلى الله الرغبة في عصمة الأمير ، وتسديده ، والحمد لله رب العالمين. انتهى.

ونقل أبو الحسن الصابي قبل نسخة أبي الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة في المواريث ، وفيها نقل ما كتبه عبد الحميد في كتاب مواريث أهل الملة ، وأنه حكى فيه أن عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم ومن اتبعهم من الأئمة الهادين رحمة الله عليهم ، رأوا أن يردّ على أصحاب السهام من القرابة ما يفضل عن السهام المفترضة في كتاب الله تبارك وتعالى من المواريث ، إذا لم يكن للمتوفى عصبة يحوز باقي ميراثه ، وجعلوا ، رضي الله عنهم ، تركة من يتوفى ولا عصبة له لذوي رحمه ، إن لم يكن له وارث سواهم ، ممتثلين في ذلك أمر الله سبحانه إذ يقول : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في توريثه من لا فرض له في كتاب الله تعالى من الخال وابن الأخت والجدة. انتهى.

الثالث ـ استدل بالآية الإمامية على تقديم الإمام علي كرم الله وجهه على غيره في الإمامة ، لاندراجها في عموم الأولوية. والجواب ـ على فرض صحة هذه الدلالة ـ أن العباس رضي الله عنه كان أولى بالإمامة ، لأنه كان أقرب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من علي رضي الله عنه.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : العلم ، ١٧ ـ باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم! علمه الكتاب» ، ونصه : اللهم! علمه الكتاب.

وفي : الوضوء ، ١٠ ـ باب وضع الماء عند الخلاء ، ونصه : اللهم فقهه في الدين.

وفي : فضائل أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ٢٤ ـ باب ذكر ابن عباس ، ونصه : اللهم! علمه الحكمة.

وفي : الاعتصام بالكتاب والسنة ، ونصه : اللهم! علمه الكتاب ، والحديث رقم ٦٥. أما النص الذي أورده المؤلف فلم أعثر عليه.

٣٤١

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة التوبة

هي مدنية بإجماعهم. قيل : سوى آيتين في آخرها (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ..) [التوبة : ١٢٨] فإنهما نزلتا بمكة. وفيه نظر. فقد روى البخاري (١) عن البراء أنها آخر سورة نزلت ، واستثنى بعضهم (ما كانَ لِلنَّبِيِّ ..) [التوبة : ١١٣] ـ لما

ورد أنها نزلت في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي طالب : لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك. وهي مائة وتسع وعشرون آية ولهذه السورة عشرة أسماء :

١ ـ براءة : سميت بها لافتتاحها بها ، ومرجع أكثر ما ذكر فيها إليها.

٢ ـ التوبة : لتكرارها فيها ، كقوله تعالى : (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [التوبة : ٣] ، (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ) [التوبة : ٥ و ١١] ، وقوله : (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) [التوبة : ٢٧] ، وقوله : (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) [التوبة : ٧٤] وقوله (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٠٢] وقوله : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) [التوبة : ١١٧] ، وقوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) [التوبة : ١٠٤] ، وقوله : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) [التوبة : ١١٢] وهما أشهر أسمائها.

٣ ـ الفاضحة : أخرج البخاري (٢) عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس :

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٩ ـ سورة التوبة ، ١ ـ باب قوله (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، حديث ١٩٤١.

(٢) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٥٩ ـ سورة الحشر ، ١ ـ حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حديث رقم ١٨٦٩.

٣٤٢

سورة التوبة ، قال : التوبة هي الفاضحة ، ما زالت تنزل : ومنهم ومنهم ، حتى ظنوا أنها لم تبق أحدا منهم إلا ذكر فيها.

٤ ـ سورة العذاب : رواه الحاكم عن حذيفة ، وذلك لتكرره فيها.

٥ ـ المقشقشة : رواه أبو الشيخ عن ابن عمر ، والقشقشة معناها التبرئة ، وهي مبرئة من النفاق.

٦ ـ المنقرة : أخرجه أبو الشيخ عن عبيد بن عمير لأنها نقرت عما في قلوب المشركين. أي بحثت.

٧ ـ البحوث : بفتح الباء ، صيغة مبالغة ، رواه الحاكم عن المقداد.

٨ ـ الحافرة : ذكره ابن الغرس ، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين ، أي بحثت عنها ، مجازا.

٩ ـ المثيرة : رواه ابن أبي حاتم عن قتادة لأنها أثارت مثالبهم وعوراتهم أي أخرجتها من الخفاء إلى الظهور.

١٠ ـ المبعثرة : لأنها بعثرت أسرارهم أي أظهرتها.

١١ ـ المدمدمة : أي المهلكة لهم.

١٢ ـ المخزية.

١٣ ـ المنكلة : أي المعاقبة لهم.

١٤ ـ المشردّة : أي الطاردة لهم والمفرقة جمعهم.

وليس في السور أكثر أسماء منها ومن الفاتحة.

تنبيه :

للسلف في وجه ترك كتابة البسملة في هذه السورة والتلفظ بها أقوال :

١ ـ روى الحاكم في (المستدرك) عن ابن عباس قال : سألت عليّ بن أبي طالب : لم لم تكتب في (براءة) البسملة؟ قال : لأنها أمان. وبراءة نزلت بالسيف. أي فنزولها لرفع الأمان الذي يأبى مقامه التصدير بما يشعر ببقائه من ذكر اسمه تعالى ، مشفوعا بوصف الرحمة. ولذا قال ابن عيينة : اسم الله سلام وأمان ، فلا يكتب في النبذ والمحاربة. قال الله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) [النساء : ٩٤] ، قيل له : فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كتب إلى أهل الحرب البسملة. قال : إنما ذلك ابتداء منه يدعوهم ، ولم ينبذ إليهم. ألا تراه يقول : سلام على من اتبع الهدى؟ فمن دعي إلى الله عزوجل فأجاب ، ودعي إلى الجزية فأجاب ،

٣٤٣

فقد اتبع الهدى ، فظهر الفرق. وكذا قال المبرد : إن التسمية افتتاح للخير ، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود ، فلذلك لم تفتتح بالتسمية.

٢ ـ عن ابن عباس قال : قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال ، وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا سطر البسملة ، ووضعتموها في السبع الطوال ، ما حملكم على ذلك؟ قال عثمان : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ، وكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وإذا نزلت عليه الآية يقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت (الأنفال) من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت (براءة) من آخر القرآن نزولا ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وظننت أنها منها. وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبين لنا أنها منها أو من غيرها ، من أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب البسملة ، ووضعتها في السبع الطوال. أخرجه أبو داود (١) والترمذي (٢) وقال : حديث حسن ورواه الإمام أحمد (٣) والنسائي وابن حبان في صحيحه ، والحاكم وصححه.

قال الزجاج : والشبه الذي بينهما أن في (الأنفال) ذكر العهود ، وفي (براءة) نقضها.

٣ ـ أخرج أبو الشيخ عن أبي روق قال : (الأنفال) و (براءة) سورة واحدة. ونقل مثله عن مجاهد ، وأخرجه ابن أبي حاتم عن سفيان. وقال ابن لهيعة : يقولون إن (براءة) من (الأنفال) ، ولذلك لم تكتب البسملة في (براءة) ، وشبهتهم اشتباه الطرفين ، وعدم البسملة. ويردّه تسمية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلا منهما.

وقال الحاكم : استفاض النقل أنهما سورتان.

وقال أبو السعود : اشتهارها بهذه الأسماء ـ يعني الأربعة عشر اسما المتقدمة ـ يقضي بأنها سورة مستقلة ، وليست بعضا من سورة الأنفال ، وادعاء اختصاص الاشتهار بالقائلين باستقلالها ، خلاف الظاهر ، انتهى.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الصلاة ، ١٢٢ ـ باب من لم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، باب من جهر بها ، حديث رقم ٧٨٦.

(٢) أخرجه الترمذي في : التفسير ، ٩ ـ سورة التوبة ، ١ ـ حدثنا محمد بن بشار.

(٣) أخرجه في المسند ١ / ٥٧ ، حديث ٣٩٩.

٣٤٤

ونقل صاحب (الإقناع) أن البسملة ثابتة (لبراءة) في مصحف ابن مسعود ، قال : ولا يؤخذ بهذا.

وعن مالك : أن أولها لما سقط ، سقط معه البسملة ، فقد ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولها. كذا في (الإتقان).

ثم اعلم أن القراء أجمعوا على ترك قراءة البسملة في أول هذه السورة اتباعا لسقوطها في الرسم من مصحف الإمام ، إلا ابن مناذر ، فإنه يسمي في أولها ، كما في مصحف ابن مسعود.

وقال السخاوي في (جمال القراء) : إنه اشتهر تركها في أول براءة.

وروي عن عاصم التسمية في أولها ، وهو القياس. لأن إسقاطها ، إما لأنها نزلت بالسيف أو لأنهم لم يقطعوا بأنها سورة مستقلة ، بل من الأنفال. ولا يتم الأول ، لأنه مخصوص بمن نزلت فيه ، ونحن إنما نسمي للتبرك. وأما الابتداء بما بعد أول براءة ، فلا نصّ للمتقدمين من أئمة القراء فيه ، وظاهر إطلاق كثير التخيير فيها ، واختار السخاوي الجواز ، وقال : ألا ترى أنه يجوز بغير خلاف أن يقول : بسم الله الرحمن الرحيم (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٣٦]. وإلى منعها ذهب الجعبري ، وتعقبه السخاويّ فقال : إن كان نقلا فمسلّم ، وإلا فردّ عليه ، لأنه تفريع على غير أصل.

وقال ابن الجزري في (النشر) : من اعتبر بقاء أثر العلة التي من أجلها حذفت البسملة أولها ، وهي نزولها بالسيف ، لم يبسمل. ومن لم يعتبر ذلك ، أو لم يرها ، بسمل بلا نظر. والله أعلم.

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١)

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) خبر لمحذوف ، وتنوينه للتفخيم. أي هذه براءة. أو مبتدأ مخصص بصفة ، وخبره (إِلَى الَّذِينَ). و (البراءة) في اللغة انقطاع العصمة ، يقال : برئت من فلان براءة ، أي انقطعت بيننا العصمة ، ولم يبق بيننا علقة.

فإن قيل : حق البراءة أن تنسب إلى المعاهد ، فلم لم تنسب إليهم ، ونسبت إلى الله ورسوله؟

٣٤٥

أجيب : أن (عاهَدْتُمْ) إخبار عن سابق صدر من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجماعة ، فنسب إلى الكل ، كما هو الواقع ، وإن كان بإذن الله أيضا.

وأما البراءة فهي إخبار عن متجدّد ، فكيف ينسب إليهم ، وهم لم يحدثوه بعد ، وإنما يسند إلى من أحدثه؟ وقال الناصر : إن سر ذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مقام نسب فيه النبذ إلى المشركين ، لا يحسن أدبا. ألا ترى إلى وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمراء السرايا حيث يقول لهم (١) : «إذا نزلت بحصن فطلبوا النزول على حكم الله ، فأنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدري أصادفت حكم الله فيهم أو لا! وإن طلبوا ذمة الله ، فأنزلهم على ذمتك. فلأن تخفر ذمتك ، خير من أن تخفر ذمة الله»!

فانظر إلى أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوقير ذمة الله ، مخافة أن تخفر ، وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع ، فتوقير عهد الله ، وقد تحقق من المشركين النكث ، وقد تبرأ منه الله ورسوله بألا ينسب العهد المنبوذ إلى الله ـ أحرى وأجدر. فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه.

وقال الشهاب : ولك أن تقول : إنما أضاف العهد إلى المسلمين ، لأن الله علم أن لا عهد لهم ، فلذا لم يضف العهد إليه ، لبراءته منهم ، ومن عهدهم في الأزل. وهذا نكتة الإتيان بالجملة اسمية خبرية. وإن قيل : إنها إنشائية للبراءة منهم ، ولذا دلت على التجدد. انتهى.

قال ابن إسحاق. نزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين من العقد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم ، ألا يصدّ عن البيت أحد جاءه ، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام. وكان ذلك عهدا عامّا بينه وبين الناس من أهل الشرك. وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة ، فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في (تبوك) ، وفي قول من قال منهم ، فكشف الله سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون.

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الجهاد ، حديث رقم ٣.

وأخرجه أبو داود في : الجهاد ، ٨٢ ـ باب في دعاء المشركين ، حديث رقم ٢٦١٢.

وأخرجه الترمذي في : السير ، ٤٧ ـ باب ما جاء في وصية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القتال.

وأخرجه ابن ماجة في : الجهاد ، ٣٨ ـ باب وصية الإمام ، حديث رقم ٢٨٥٨.

٣٤٦

وقال ابن كثير : وأول هذه السورة نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجع من غزوة (تبوك) ، وهمّ بالحج. ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك. وأنهم يطوفون بالبيت عراة ، فكره مخالطتهم ، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة ، ليقيم للناس مناسكهم ، ويعلم المشركون ألا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادي بالناس (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) ، فلما قفل ، أتبعه بعليّ بن أبي طالب ، ليكون مبلغا عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكونه عصبة له ، كما سيأتي.

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) (٢)

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) أي فقولوا لهم : سيروا في الأرض بعد نبذنا العهد آمنين من القتل والقتال مدة أربعة أشهر ، وذلك من يوم النحر إلى عشر يخلون من ربيع الآخر. والمقصود تأمينهم من القتل ، وتفكرهم واحتياطهم ، ليعلموا أنهم ليس لهم بعدها إلا السيف ، وليعلموا قوة المسلمين إذ لم يخشوا استعدادهم لهم. وهذه الأربعة الأشهر كانت عهدا لمن له عهد دون الأربعة الأشهر ، فأتمت له. فأما من كان له عهد موقت ، فأجله إلى مدته ، مهما كانت ، لقوله تعالى : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) [التوبة : ٤] ، كما يأتي. روي هذا عن غير واحد ، واختاره ابن جرير. وقال مجاهد : هذا تأجيل للمشركين مطلقا ، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفع إليها ، ومن كانت أكثر حط إليها ، ومن كان عهده بغير أجل حدّ بها ، ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله ، يقتل حيث أدرك ويؤسر ، إلا أن يتوب ويؤمن.

أقول : ولا يرد عليه إطلاق قوله تعالى : (إِلى مُدَّتِهِمْ) ، لأن له أن يجيب بأن الإضافة للعهد ، أي المدة المعهودة وهي الأربعة الأشهر. والله أعلم.

(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) يعني أن هذا الإمهال ليس لعجز عنكم ، ولكن لحكمة ولطف بكم. أي فلا تفوتونه. وإن أمهلكم (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) أي مذلّهم بالقتل في الدنيا ، والعذاب في الآخرة.

٣٤٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣)

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ). (الأذان) بمعنى الإيذان ، وهو الإعلام ، كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء. وارتفاعه كارتفاع (بَراءَةٌ) وهذه الجملة معطوفة على مثلها ، والفرق بين معنى الجملة الأولى والثانية أن تلك إخبار بثبوت البراءة ، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت ، وإنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين ، وعلق الأذان بالناس ، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأما الأذان فعامّ لجميع الناس ، من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث. كذا في (الكشاف).

ويوم الحج الأكبر : قيل يوم عرفة ، وقيل يوم النحر.

قال ابن القيم : وهو الصواب ، لأنه ثبت في الصحيحين (١) أن أبا بكر وعليّا رضي الله عنهما ، أذّنا بذلك يوم النحر ، لا يوم عرفة.

وفي سنن أبي داود (٢) بأصح إسناد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر ، وكذلك قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة.

ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه ، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع والتوبة والابتهال والاستقالة ، ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة ، ولهذا سمي طوافه طواف الزيارة ، لأنه قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة ، ثم أذن لهم يوم النحر في زيارته ، والدخول عليه إلى بيته ، ولهذا كان فيه ذبح القرابين ، وحلق الرؤوس ، ورمي الجمار ومعظم أفعال الحج وعمل يوم عرفة ، كالطهور والاغتسال بين يدي هذا اليوم ، انتهى.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٩ ـ سورة التوبة ، ٢ ـ باب قوله : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ، و ٣ ـ باب قوله : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) ، حديث رقم ٢٤٥.

وأخرجه مسلم في : الحج ، حديث رقم ٤٣٥.

(٢) أخرجه أبو داود في : المناسك ، ٦٦ ـ باب يوم الحج الأكبر ، حديث رقم ١٩٤٥ و ١٩٤٦.

٣٤٨

تنبيه :

روى الأئمة هاهنا آثارا كثيرة ، نأتي منها على جوامعها :

قال ابن أبي نجيح عن مجاهد : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من (تبوك) حين فرغ ، فأراد الحج ثم قال : إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج. حتى لا يكون ذلك : فأرسل أبا بكر وعليّا فطافا بالناس في (ذي المجاز) وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها ، وبالمواسم كلها ، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر ، فهي الأشهر المتواليات ، عشرون من ذي الحجة ، إلى عشر يخلون من ربيع الآخر ، ثم لا عهد لهم ، وآذن الناس كلهم بالقتال ، إلى أن يؤمنوا.

وروى ابن إسحاق بسنده عن أبي جعفر محمد بن عليّ رضوان الله عليه قال : لما نزلت (براءة) على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج ، قيل له : يا رسول الله! لو بعثت بها إلى أبي بكر ؛ فقال : لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي. ثم دعا عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال له : اخرج بهذه القصة من صدر براءة ، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى ، أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان. ومن كان له عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فهو له إلى مدته. فخرج عليّ بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (العضباء) حتى أدرك أبا بكر الصديق ، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال : أمير أو مأمور؟ فقال : بل مأمور. ثم مضيا. ، فأقام أبو بكر للناس الحج ، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية. حتى إذا كان يوم النحر قام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أيها الناس! إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان. ومن كان له عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فهو له إلى مدته. وأجّل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم ، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم ، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة. إلا أحد كان له عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد إلى مدة ، فهو له إلى مدته. فلم يحجّ بعد ذلك العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان.

ثم قدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن إسحاق : فكان هذا من أمر (براءة) فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العامّ ، وأهل المدة إلى الأجل المسمى.

٣٤٩

وروى البخاري (١) عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذّنين. بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان.

قال حميد : ثم أردف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعليّ بن أبي طالب ، فأمره أن يؤذن ببراءة.

قال أبو هريرة : فأذن معنا عليّ في أهل منى يوم النحر ببراءة ، وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان.

وفي رواية أخرى للبخاري (٢) ، قال أبو هريرة : يعثني أبو بكر فيمن يؤذّن يوم النحر بمنى : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ويوم الحج الأكبر يوم النحر. وإنما قيل (الأكبر) من أجل قول الناس ـ للعمرة ـ الحج الأصغر. فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام ، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حجّ فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشرك. هذا لفظ البخاري في (كتاب الجهاد).

وروى الإمام أحمد (٣) عن أبي هريرة قال : كنت مع عليّ بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهل مكة ب (براءة) فقال : ما كنتم تنادون؟ قال : كنا ننادي : أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فإن أجله ـ أو أمده ـ إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت الأربعة الأشهر ، فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك. قال : فكنت أنادي حتى صحل صوتي (صحل الرجل وصحل صوته : بحّ).

وقوله تعالى : (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي فإن تبتم أيها المشركون ، من كفركم ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الالهة والأنداد ، فهو خير لكم من الإقامة على الشرك رأس الضلال والفساد (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي عن الإيمان وأبيتم إلا الإقامة على ضلالكم وشرككم (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي غير فائتين أخذه وعقابه (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي جحدوا نبوّتك وخالفوا أمر ربهم (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي موجع يحل بهم. وفيه من التهكم والتهديد ما فيه ، كيلا يظن أن عذاب الدنيا ، لو فات وزال خلصوا من العذاب. بل العذاب معدّ لهم يوم القيامة.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الحج ، ٦٧ ـ باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك ، حديث رقم ٢٤٥.

(٢) أخرجه البخاري في : الجزية والموادعة ، ١٦ ـ باب كيف ينبذ إلى أهل العهد ، حديث رقم ٢٤٥.

(٣) أخرجه في المسند ٢ / ٢٩٩ ، والحديث رقم ٧٩٦٤.

٣٥٠

ثم استثنى تعالى من ضرب مدة التأجيل ، لمن له عهد مطلق بأربعة أشهر ، من له عهد مؤقت بتأجيله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها ، فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٤)

(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) أي من شروط الميثاق فلم يقتلوا منكم أحدا ولم يضروكم فقط. قال أبو السعود : وقرئ بالمعجمة ، أي لم ينقضوا عهدكم شيئا ، من (النقض) ، وكلمة (ثم) للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة (وَلَمْ يُظاهِرُوا) أي لم يعاونوا (عَلَيْكُمْ أَحَداً) أي عدوّا من أعدائكم (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) ثم حرّض تعالى على الوفاء بذلك ، منبها على أنه من باب التقوى بقوله سبحانه (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي فاتقوه في ذلك.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥)

(فَإِذَا انْسَلَخَ) أي انقضى (الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) أي التي أبيح للذين عوهدوا فيها أن يسيحوا في الأرض وحرم فيها قتالهم (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أي من حلّ أو حرم ـ كذا قاله غير واحد ـ قال ابن كثير : هذا عام ، والمشهور تخصيصه بغير الحرم ، لتحريم القتال فيه ، لقوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١]. (وَخُذُوهُمْ) أي ائسروهم (وَاحْصُرُوهُمْ) أي احبسوهم في المكان الذي هم فيه ، لئلا يتبسطوا في سائر البلاد (وَاقْعُدُوا لَهُمْ) أي لقتالهم (كُلَّ مَرْصَدٍ) أي طريق وممرّ (فَإِنْ تابُوا) أي عن الكفر (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أي فاتركوا التعرض لهم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر.

تنبيهات :

الأول ـ ما ذكرناه من أن المراد (بالأشهر الحرام) أشهر العهد ، هو الذي

٣٥١

اختاره الأكثرون. سماها (حرما) لتحريم قتال المشركين فيها ودمائهم. فالألف واللام للعهد. ووضع المظهر موضع المضمر ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة ، تأكيدا لما ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم ، مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها. وقيل : المراد (بالأشهر الحرام) : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، روي ذلك عن ابن عباس والضحاك والباقر ، وأختاه ابن جرير. وضعف بأنه لا يساعده النظم الكريم ، لأنه يأباه ترتبه عليه (بالفاء) فهو مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشهر.

قال ابن القيم : (الحرم) هاهنا هي أشهر التسيير ، أولها يوم الأذان ، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة ، وهو يوم الحج الأكبر ، الذي وقع فيه التأذين بذلك ، وآخرها العاشر من ربيع الآخر. وليست هي الأربعة المذكورة في قوله : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) [التوبة : ٣٦] ، فإن تلك واحد فرد هو رجب ، وثلاثة سرد وهي ذو القعدة وتالياه. ولم يسيّر المشركين في هذه الأربعة ، فإن هذا لا يمكن ، لأنها غير متوالية ، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر ، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم. انتهى.

وقالوا : يلزم على هذا بقاء حرمة تلك الأشهر. وتكلف الجواب بنسخها ، إما بانعقاد الإجماع عليه ، أو بما صح من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم ، مع أن هذا الإجماع كلاما ، وقد خالف بعضهم في بقاء حرمتها ، إلا أنهم لم يعتدّوا به كما قاله في (العناية). وفيها : إن لك أن تقول : منع القتال في الأشهر الحرم في تلك السنة ، لا يقتضي منعه في كل ما شابهها ، بل هو مسكوت عنه ، فلا يخالف الإجماع ، ويكون حلّه معلوما من دليل آخر.

وأقول : يظهر لي هذا الثاني وأن المراد بالأربعة الأشهر هي المعروفة ، وأن قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) هي هذه الأربعة ، لأنها حيثما أطلقت في التنزيل لا تنصرف إلا إليها ، فصرفها إلى غيرها يحتاج إلى برهان قاطع.

قال في (فتح البيان) ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم. وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر ، فكان الباقي من الأشهر الحرم ، التي هي الثلاثة المسرودة ، خمسين يوما ، تنقضي بانقضاء شهر المحرم ، فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون ، وبه قال جماعة من أهل العلم. انتهى.

٣٥٢

ولا يقال : إن الباقي من الأشهر الحرم ثمانون يوما ، إذ الحج في تلك السنة كان في العاشر من ذي القعدة ، بسبب النسيء ، ثم صار في السنة المقبلة في العاشر من ذي الحجة ، وفيها حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال (١) : إن الزمان قد استدار ... الحديث ـ لأنا نقول : كان ذو القعدة عامئذ هو ذا الحجة بحسابهم ، لا في الواقع ، وكذلك ذو الحجة ، المحرم ، فعوملوا بحسابهم.

الثاني ـ قال السيوطي في (الإكليل) في قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) هذه آية السيف الناسخة لآيات العفو والصفح والإعراض والمسالمة. انتهى.

وروي عن الضحاك أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة محمد : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد : ٤]. وردّه الحاكم بأنه لا شبهة في أن براءة نزلت بعد سورة محمد ، ومقتضى كلام الحاكم ، أنها لا ناسخة ولا منسوخة ، قال : لأن الجمع ، من غير منافاة ، ممكن فحيث ورد في القرآن ذكر الإعراض ، فالمراد به إعراض إنكار ، لا تقرير. وأما الأسر والفداء ، فالمراد به أنه خيّر بين ذلك ، لا أن القتل حتم ، إذ لو كان حتما ، لم يكن للأخذ معنى بعد القتل. انتهى.

ويشمل عمومها مشركي العرب وغيرهم ، واستدل بقوله تعالى : (وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) على جواز حصارهم والإغارة عليهم وبياتهم.

الثالث ـ فهو من قوله تعالى : (فَإِنْ تابُوا ...) الآية أن الأمر بتخلية السبيل معلق على شروط ثلاثة : التوبة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فحيث لم تحصل جاز ما تقدم من القتل والأخذ والحصر. ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه ، في قتال مانعي الزكاة ، على هذه الآية الكريمة وأمثالها.

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يرحم الله أبا بكر ، ما كان أفقهه!

وفي الصحيحين (٢) عن ابن عمر رضي الله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله عنهما وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٩ ـ سورة التوبة ، ٨ ـ باب قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) ، حديث رقم ٥٩ عن أبي بكرة.

(٢) أخرجه البخاري في : الإيمان ، ١٧ ـ باب (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) ، حديث رقم ٢٤.

وأخرجه مسلم في : الإيمان ، حديث رقم ٣٦.

٣٥٣

وروى الإمام أحمد (١) عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فإذا شهدوا ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم. ورواه البخاري وغيره.

الرابع ـ ذكر ابن القيّم خلاصة بديعة في سياق ترتيب هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الكفار والمنافقين ، من حين بعث ، إلى حين لقي الله عزوجل ، مما يؤيد فهم ما تشير إليه هذا السورة ، قال رحمه‌الله :

أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق ، وذلك أول نبوته ، فأمره أن يقرأ في نفسه ، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ ، ثم أنزل عليه (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر : ١ ـ ٢] فنبأه بقوله (اقْرَأْ) [العلق : ١] ، وأرسله ب (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين ، ثم أنذر قومه ، ثم أنذر من حولهم من العرب ، ثم أنذر العرب قاطبة ، ثم أنذر العالمين ، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ، ويؤمر بالكف والصبر والصفح ، ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكفّ عمن لم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة. فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد. وأمر أن يقاتل من نقض عهده ، ولما نزلت سورة (براءة) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها ، فأمره فيها أن يقاتل عدوّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، أو يدخلوا في الإسلام. وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان ، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ، ونبذ عهودهم إليهم ، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام :

قسما أمره بقتالهم ، وهم الذين نقضوا عهده ، ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم.

وقسما لهم عهد موقت لم ينقضوه ، ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم.

__________________

(١) أخرجه في المسند ٣ / ١٩٩.

٣٥٤

وقسما لم يكن لهم عهد ، ولم يحاربوه ، أو كان لهم عهد مطلق ، فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر ، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم. فقتل الناقض لعهده ، وأجّل من لا عهد له أو له عهد مطلق ، أربعة أشهر ، وأمره أن يتم للموفي بعهده إلى مدته ، فأسلم هؤلاء كلهم ، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم. وضرب على أهل الذمة الجزية فاستقرّ أمر الكفار معه بعد نزول (براءة) على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام ، فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه ، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن. وخائف محارب.

وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ، ويكل سرائرهم إلى الله ، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ، وأمر أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهي أن يصلّي عليهم وأن يقوم على قبورهم ، وأخبره أنه إن استغفر لهم أو لم يستغفر لهم ، فلن يغفر الله لهم. فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين. انتهى.

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (٦)

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) : أي وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم ، أي استأمنك بعد انقضاء أشهر العهد ، فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله ، أي القرآن الذي تقرؤه عليه ، ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الأمر ، وتقوم عليه حجة الله به ، فإن أسلم ثبت له ما للمسلمين ، وإن أبى فإنه يردّ إلى مأمنه ودراه التي يأمن فيها ، ثم قاتله إن شئت. وقوله تعالى : (ذلِكَ) يعني الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن ، بسبب أنهم قوم لا يعلمون ، أي جهلة ، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق ، ولا يبقى لهم معذرة.

تنبيهات :

الأول ـ دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى ، وأنه يمكّن من العود من غير

٣٥٥

غدر به ولا خيانة ، ولذا ورد في الترهيب من عدم الوفاء بالعهد والغدر ما يزجر أشد الزجر. فروى البخاري في (تاريخه) والنسائي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أمّن رجلا على دمه فقتله ، فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا».

وروى أحمد والشيخان (١) عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة.

قال ابن كثير : من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام ، في أداء رسالة أو تجارة ، أو طلب صلح أو مهادنة ، أو حمل جزية ، أو نحو ذلك من الأسباب ، وطلب من الإمام أو نائبه أمانا أعطي ، ما دام مترددا في دار الإسلام ، إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه.

قال الحاكم : وإنما يجار ويؤمّن إذا لم يعلم أنه يطلب الخداع والمكر ، لأنه تعالى علل لزوم الإجارة بقوله (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ).

الثاني ـ قال الحاكم : تدل الآية على أنه يجوز للكافر دخول المسجد لسماع كلام الله.

الثالث ـ استدل بهذه الآية من ذهب إلى كلام الله بحرف وصوت قديمين ، وهم الحنابلة ، ومن وافقهم كالعضد. قالوا : لأن منطوق الآية يدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق ، والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات. فدل ذلك على أن كلام الله ليس هذه الحروف والأصوات. والقول بأن كلام الله شيء مغاير لها باطل ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان يشير بقوله (كلام الله) إلا لها ، وقد اعترف الرازي بقوة هذا ، لإلزام من خالف فيه ، وقد مضى لنا في قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] في آخر سورة النساء ، فارجع إليه.

الرابع ـ قال الرازي : دلت الآية على أن التقليد غير كاف في الدين ، وأنه لا بد من النظر والاستدلال ، وذلك لأنه لو كان التقليد كافيا ، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر ، بل يقال له : إما أن تؤمن ، وإما أن نقتلك. فلما لم يقل له ذلك ، بل أمهل وأزيل الخوف عنه ، ووجب تبليغه مأمنه ـ علم أن ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين ، وأنه لا بد من الحجة والدليل ، فلذا أمهل ليحصل له النظر والاستدلال.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الجزية والموادعة ، ٢٢ ـ باب إثم الغادر للبر والفاجر ، حديث رقم ١٥٠٤.

وأخرجه مسلم في : الجهاد والسير ، حديث رقم ١٤.

٣٥٦

ثم بيّن تعالى حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر ، ثم بعدها السيف المرهف بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٧)

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) أي أمان (عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) أي وهم كافرون بهما ، فالاستفهام بمعنى الإنكار ، والاستبعاد لأن يكون لهم عهد (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يعني أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية على ترك الحرب معهم عشر سنين (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي فما داموا مستقيمين على عهدهم ، مراعين لحقوقكم ، فاستقيموا لهم على عهدهم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي فاتقوه في نقض عهد المستقيمين على عهدهم.

قال ابن كثير : وقد فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك والمسلمون ، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد ، ومالئوا حلفاءهم ، وهم بنو بكر ، على خزاعة ، أحلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقتلوهم معهم في الحرم أيضا ، فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رمضان سنة ثمان ، ففتح الله عليه البلد الحرام ، ومكنه من نواصيهم ، ولله الحمد والمنة ، فأطلق من أسلم منهم ، بعد القهر والغلبة عليهم ، فسموا الطلقاء ، وكانوا قريبا من ألفين ، ومن استمر على كفره ، وفرّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعث إليه بالأمان والتسيير في أربعة أشهر ، يذهب حيث شاء. ومنهم صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما ، ثم هداهم الله للإسلام.

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) (٨)

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا) أي قرابة ويمينا (وَلا ذِمَّةً) أي عهدا. وهذه الجملة

٣٥٧

مردودة على الآية الأولى ، أي كيف يكون لهم عهد ، وحالهم ما ذكر؟ وفيه تحريض للمؤمنين على التبرؤ منهم ، لأن من كان أسير الفرصة ، مترقيا لها ، لا يرجى منه دوام العهد.

قال الناصر : ولما طال الكلام باستثناء الباقين على العهد ، أعيدت (كيف) تطريه للذكر ، وليأخذ بعض الكلام بحجزة بعض. انتهى.

ثم استأنف تعالى بيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد بقوله (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) أي ما تتفوه به أفواههم (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) أي متمردون ، لا عقيدة تزعمهم ، ولا مروءة تردعهم. وتخصيص الأكثر ، لما في بعض الكفرة من التفادي عن العذر ، والتعفف عما يجرّ إلى أحدوثة السوء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩)

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ) أي استبدلوا بها (ثَمَناً قَلِيلاً) أي من متاع الدنيا. يعني أهويتهم الفاسدة (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (١٠)

(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) أي المجاوزون الغاية في الظلم والمساوئ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١١)

(فَإِنْ تابُوا) أي مما هم عليه من الكفر (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فهم إخوانكم ، لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم ، فعاملوهم معاملة الإخوان ، وفيه من استمالتهم واستجلاب قلوبهم ما لا مزيد عليه.

٣٥٨

وقوله (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) جملة معترضة للحث على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (١٢)

(وَإِنْ نَكَثُوا) أي نقضوا (أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي فقاتلوهم. وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم ، للإيذان بأنهم صاروا بذلك ذوي رئاسة وتقدم في الكفر ، أحقاء بالقتل والقتال. وقيل : المراد بالأئمة رؤساؤهم وصناديدهم وتخصيصهم بالذكر إما لأهمّيّة قتلهم ، أو للمنع من مراقبتهم ، ولكونهم مظنة لها أو للدلالة على استئصالهم ، فإن قتلهم غالبا يكون بعد قتل من دونهم أفاده أبو السعود. (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) جمع يمين أي لا عهود لهم على الحقيقة ، حيث لا يراعونها ولا يعدّون نقضها محذورا ، فهم ، وإن تفوهوا بها ، لا عبرة بها. وقرئ (لا أَيْمانَ) بكسر الهمزة ، أي لا إسلام ولا تصديق لهم ، حتى يرتدعوا عن النقض والطعن (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) أي عن الكفر والطعن ويرجعون إلى الإيمان.

تنبيه :

قال السيوطي في (الإكليل) : استدل بهذه الآية من قال إن الذّمّي يقتل إذا طعن في الإسلام أو القرآن أو ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسوء ، سواء شرط انتقاض العهد به أم لا. واستدل من قال بقبول توبته بقوله (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ). انتهى.

ثم حض على قتالهم بتهييج قلوب المؤمنين وإغرائهم بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٣)

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) أي التي حلفوها في المعاهدة (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) يعني من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة ، حسبما ذكر في قوله

٣٥٩

تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٣٠] فيكون نعيا عليهم جنايتهم القديمة (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي بالقتال يوم بدر ، حين خرجوا لنصر عيرهم فما نجت وعلموا بذلك ، استمروا على وجوههم طلبا للقتال ، بغيا وتكبرا. وقيل : بنقضهم العهد ، وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة ، أحلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى سار إليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح وكان ما كان. قاله ابن كثير.

وقال الزمخشري : أي وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءهم أولا بالكتاب المنير ، وتحداهم به ، فعدلوا عن المعارضة ، لعجزهم عنها ، إلى القتال ، فهم البادئون بالقتال ، والبادئ أظلم. فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله ، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم (أَتَخْشَوْنَهُمْ) أي أتخافون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) بمخالفة أمره وترك قتالهم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ، ولا يبالي بمن سواه كقوله تعالى : (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) [الأحزاب : ٣٩]. قاله الزمخشري ـ وفيه من التشديد ما لا يخفى.

ثم عزم تعالى على المؤمنين الأمر بالقتال لحكمته بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (١٤)

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ) أي بآلام الجراحات والموت (بِأَيْدِيكُمْ) أي تغليبا لكم عليهم (وَيُخْزِهِمْ) أي بالأسر والاسترقاق ، فيجتمع في حقهم العذاب الحسي والمعنوي (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) أي : ممن لم يشهد القتال.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٥)

(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) أي بما كابدوا من المكاره والمكايد (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي فيحصل لكم أجرهم (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي في أفعاله وأوامره. وقد أنجز الله سبحانه لهم هذه المواعيد كلها ، فكان إخباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة دالة على صدقه وصحة نبوته.

٣٦٠