تفسير القاسمي - ج ٥

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٥

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٢

اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ، قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ...) [هود : ٥٤ ـ ٥٦] الآية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) (١٩٧)

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ) أي لا يتولون أحدا ، لأنهم لا يستطيعون نصركم (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أي إذا قصد إضرارهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لايُبْصِرُونَ) (١٩٨)

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) إذ ليس لهم سمع ، وإن صوّرت لهم الآذان. كما أنه لا بصر لهم ، وإن صورت لهم الأعين. كما قال : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) إذ صورت لهم الأعين (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) لأنهم جماد عوملوا معاملة من يعقل ، فعبر عنهم بضميره ، لأنهم على صور مصورة كالإنسان. وهذا من تمام التعليل ، لعدم مبالاته بهم ، فلا تكرار.

وقال السدّيّ : المراد بهذا (المشركون) وروي عن مجاهد نحوه ، أي وإن كانوا ينظرون إليك ، فإنهم لا ينتفعون بالنظر والرؤية.

قال ابن كثير : والأول أولى ، وهو اختيار ابن جرير ، وقاله قتادة. أي تفصيا من التفكيك ، لأن المحدث عنهم الأصنام.

تنبيه :

من غرائب استنباط المعتزلة قولهم في هذه الآية ـ والعبارة للجشمي ـ ما مثاله : تدل الآية على أن النظر غير الرؤية ، وأنه لا يقتضي الرؤية ، لذلك أثبتهم ناظرين غير رائين.

قال : ومثله قولهم نظرت إلى الهلال فلم أره. ويقسمون النظر إلى وجوه ، ولا تنقسم الرؤية.

قال : فبطل قول من يقول : إن قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] ، يقتضي الرؤية. انتهى.

٢٤١

ولا يخفى أن الأصل في إطلاق النظر هو الرؤية والإبصار ، ولذلك تتعاقب في هذا المعنى ، وتترادف كثيرا ، وانفكاكه عن الرؤية في هذه الآية لقرينة كون المحدّث عنهم جمادا ، ولا قرينة في الآية لتقاس على ما هنا. دع ما صح من الأخبار في وقوعها ، مما هو بيان لها ـ فافهم ـ.

ثم أمر تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصفح عن المشركين ، إذا جادلوه في شركائهم بعد هذا البيان ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩)

(خُذِ الْعَفْوَ) أي مكان الغضب ، ليكونوا أقبل للنصيحة (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي بالجميل المستحسن من الأفعال ، فإنها قريبة من قبول الناس من غير نكير ، ولما كان الناصح لغيره ، كالمعرّض لعدوانهم ، ثلّث بما يحتاج إليه في ذلك فقال : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) أي المصرّين على جهلهم ، فلا تكافئ السفهاء بمثل سفههم ، ولا تمارهم ، واحلم عنهم ، وأغض على ما يسوؤك منهم.

تنبيهان :

الأول ـ قال بعض العلماء : إن سر الشريعة في الطباع والعادات ، هو تأييد المستحسن ومحو المستقبح. وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فإن المعروف ما عرفته الطباع السليمة واستحسنته ، والمنكر ما أنكرته واستقبحته. ذلك لأن غاية الشريعة راحة الخلق على حال ونظام معقولين ، فلا يصح الحكم بتوحيد العادات في كل البلاد.

الثاني : روي عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه قال : أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكارم الأخلاق ، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.

وروى البخاري (١) عن ابن عباس أن عيينة بن حصين قال لعمر بن الخطاب : هي يا ابن الخطاب! فو الله ، ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم فينا بالعدل ، فغضب عمر ، حتى همّ أن يوقع به. فقال له الحرّ بن قيس : يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال لنبيه

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٧ ـ سورة الأعراف ، ٥ ـ باب (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) ، حديث ٢٠٠٤.

٢٤٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) ، وإن هذا من الجاهلين.

قال ابن عباس : والله! ما جاوزها عمر حين تلاها. عليه ، وكان وقّافا عند كتاب الله عزوجل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٠٠)

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) أي يصيبنّك من الشيطان وسوسة تثير غضبك على جهلهم وإساءتهم ، وتحملك على خلاف ما أمر فيه من العفو والأمر بالمعروف (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي استجر به ، وادعه في دفعه (إِنَّهُ سَمِيعٌ) أي لدعائك (عَلِيمٌ) أي باستعاذتك.

قال الزمخشري : النزغ والنسغ : الغرز والنخس ، كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي. أي فشبهت وسوسته وإغراؤه بالغرز ، وهو إدخال الإبرة وطرف العصا وما يشبهه في الجلد ، كما يفعله السائق لحث الدواب. وجعل النزغ نازغا مجاز بالإسناد ، لجعل المصدر فاعلا ، كجد جدّه.

قال أبو السعود : وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويل لأمره ، وتنبيه على أنه من الغوائل الصعبة التي لا يتخلص من مضرتها إلا بالالتجاء إلى حرم عصمته عزوجل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢٠١)

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ) أي أصابهم (طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) أي وسوسة وخاطر منه (تَذَكَّرُوا) أي الاستعاذة به تعالى والتوكل عليه (فَإِذا هُمْ) أي بسبب ذلك التذكر (مُبْصِرُونَ) أي مواقع الخطأ ، ومكائد الشيطان. فينتهون عنها ولا يتبعونه. وقرئ (طيف) على أنه مصدر ، من قولهم (طاف به الخيال يطيف طيفا) ، أو تخفيف (طيّف) كليّن وهيّن. وهذه الآية تأكيد وتقرير لما قبلها من وجوب الاستعاذة بالله تعالى ، عند نزغ الشيطان ، وأن المتقين هذه عادتهم. وقوله تعالى :

٢٤٣

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) (٢٠٢)

(وَإِخْوانُهُمْ) يعني وأما إخوان الشياطين من شياطين الإنس. كقوله : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) [الإسراء : ٢٧] ، وهم الذين لم يتقوا ، فلم يتأت لهم التذكر ، ولا ينفع فيهم الاستعاذة لأن الشياطين (يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) أي يكونون مددا لهم بتكثير الشبه والتزيين والتسهيل في الضلال ، يعني تساعدهم الشياطين على المعاصي ، وتسهلها عليهم وتحسّنها لهم (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) أي لا يمسكون عن إغوائهم ، حتى يصرّوا ولا يرجعوا. يعني أن الشياطين يمدون أولياءهم من الإنس ، ولا يسأمون من إمدادهم من الشر ، لأن ذلك طبيعة لهم وسجية : وجوز عود الضمير ل (الإخوان) ، أي لا يرعوون عن الغيّ ولا يقصرون ، وإن بولغ عليهم في الوعظ بآيات الله ، وإقامة الدلائل ، ورفع الشبه ، وغير ذلك. وجوز أيضا أن يراد أيضا ب (الإخوان) الشياطين ، ويرجع الضمير إلى (الْجاهِلِينَ) أي وإخوان الجاهلين ، وهم الشياطين ، يمدون الجاهلين في الغيّ.

قال الزمخشري : والأول أوجه ، لأن (إخوانهم) في مقابلة (الَّذِينَ اتَّقَوْا).

ثم بين تعالى ، من أنواع إغوائهم ، لجاجهم في طلب آيات معينة ، وتعنتهم في اقتراحها ، مع أن لديهم المعجزة العظمى ، والخارقة الكبرى ، وهي القرآن العظيم ، فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٠٣)

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) أي مما اقترحوه (قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) أي هلا تكلفتها وأنشأتها من عندك (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي فلست بمفتعل للآيات ، ولا أتقدم إليه تعالى في شيء منها. ثم أرشدهم تعالى إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات ، وأبين الدلالات ، وأصدق الحجج والبينات ، فقال سبحانه (هذا) أي القرآن (بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) أي بمنزلة البصائر للقلوب ، بها يبصر الحق ، ويدرك الصواب. فالكلام على طريقة التشبيه البليغ. أو سبب البصائر ، فهو مجاز مرسل. أو استعارة لإرشاده. أو المعنى : حجج بيّنة ، وبراهين نيّرة. وإنما جمع خبر المفرد

٢٤٤

لاشتماله على آيات وسور ، جعل كل منها بصيرة. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ـ لتأكيد وجوب الإيمان بها (وَهُدىً) أي من الضلالة (وَرَحْمَةٌ) أي من العذاب (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي به ، فيتفكرون في حقائقه.

تنبيه :

قال الجشمي : تدل الآية أنه تعالى ينزل الآيات بحسب المصلحة ، لا بحسب اقتراحهم ، لأن ذلك قد يكون فسادا. ويدل قوله : (هذا بَصائِرُ) أن المعارف مكتسبة. وتدل أن جميع ما يقوله الرسول ويفعله من الشرع من وحيه ، لذلك قال : (أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَ) ، ومتى قيل : هل تدل الآية على أنه لا يجتهد ولا يقيس؟ قلنا : لا! لأن القياس والاجتهاد إذا كان متعبدا به ، فاتباعه اتباع الوحي. كالعاميّ يقبل من المفتي ، والعالم يجتهد ، ويتبع الوحي ، كذلك هذا. والذي يدل عليه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يفعل شيئا من تلقاء نفسه حتى يؤمر به ـ انتهى كلامه ـ وفي إطلاقه تفصيل له موضع آخر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٢٠٤)

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) أي عن حديث النفس وغيره (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة ، أرشد إلى طريق الفوز بما انطوى عليه من منافعه الجليلة. أي وإذا قرئ القرآن الذي ذكرت خصائصه ، فاستمعوا له ، أي أصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا معانيه ، وتتدبروا مواعظه ، وأنصتوا لقراءته حتى تنقضي ، إعظاما له واحتراما ، لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أعظم ثمراته ، لا كما يعتمده كفار قريش من قولهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦].

تنبيهات :

الأول ـ ظاهر الآية يقتضي وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها ، وعليه أهل الظاهر ، وهو قول الحسن البصريّ وأبي مسلم الأصفهاني. وقد روى مسلم (١) عن أبي موسى الأشعريّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما جعل

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الصلاة ، حديث ٧٧ ـ ٨١ عن أنس و ٨٢ عن عائشة و ٨٦ عن أبي هريرة أما حديث أبي موسى فلم أهتد إليه.

٢٤٥

الإمام ليؤتم به ، فإذا كبّر فكبروا ، وإذا قرأ فأنصتوا». وكذا رواه أهل السنن من حديث أبي هريرة.

وروى الإمام أحمد (١) وأهل السنن عن أبي هريرة أن «رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال : هل قرأ أحد منكم معي آنفا؟ قال رجل : نعم. يا رسول الله. قال : إني أقول : ما لي أنازع القرآن؟ قال : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة ، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

قال الترمذي (٢) : هذا حديث حسن. وصححه أبو حاتم الرازي. نعم وردت السنة الصحيحة باستثناء الفاتحة وحدها للمأموم. وذلك فيما رواه عبادة قال : «صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصبح ، فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف قال : إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم؟ قال : قلنا : يا رسول الله! إي والله. قال : لا تفعلوا إلا بأم القرآن ، فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها» ـ رواه أبو داود (٣) والترمذي (٤) ـ وفي لفظ : فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت به ، إلا بأم القرآن ـ رواه أبو داود والنسائي ، والدار قطني وقال : رواته كلهم ثقات.

وأخرج ابن حبان عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتقرءون في صلاتكم خلف الإمام ، والإمام يقرأ؟ فلا تفعلوا ، وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه».

وأما حديث أبي هريرة المتقدم ، فلا يستدل به على عدم قراءة المأموم مطلقا ، بل جهرا. لأن المنازعة إنما تكون مع جهر المأموم ، لا مع إسراره. ولو سلّم دخول ذلك في المنازعة لكان الاستفهام الإنكاري فيه عامّا لجميع القرآن ، أو مطلقا في جميعه. وحديث عبادة خاص أو مقيّد ، ولا تعارض بين عام وخاص ، أو مطلق ومقيد ، لابتناء الأول على الثاني. وكذا يقال في عموم الآية ، وفي هذا جمع بين دلالة الكتاب ، وصحيح السنة ، إذ جاءنا بها من جاء بالقرآن.

الثاني ـ روي عن كثير من السلف أن الآية نزلت في الصلاة. وعن بعضهم : فيها وفي الخطبة يوم الجمعة. وعن بعضهم : فيهما وفي خطبة الأضحى والفطر. وقد

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢ / ٢٤٠ والحديث رقم ٧٢٦٨.

(٢) أخرجه الترمذي في : الصلاة ، ١١٦ ـ باب ما جاء في ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر بالقراءة.

(٣) أخرجه أبو داود في : الصلاة ، ١٣١ ـ باب القراءة في الفجر ، حديث ٨٢٣.

(٤) أخرجه الترمذي في : الصلاة ، ٦٩ ـ باب لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب.

٢٤٦

قدمنا في مقدمة الكتاب مصطلح السلف في قولهم (نزلت هذه الآية في كذا) وبيّنّا أنه قد يراد بذلك ، أن الآية تشمل ذلك الشيء لدخوله في عمومها ، لا أنه سبب لنزولها ، وذلك في بعض المقامات ، وما هنا منه. وبتحقيق هذا يسقط ما للرازي هنا من أنه إذا قيل بنزولها في منع المأموم من الجهر بالقراءة ، يذهب تناسب الآية مع ما قبلها من إفحام المشركين ، بأن يستمعوا لقراءته ، ليقفوا على إعجازه. وما للخازن ، بأن الآية مكية ، وخطبة الجمعة والعيدين شرعتا بالمدينة ـ فافهمه ـ.

الثالث ـ روى الأمام أحمد (١) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من استمع إلى آية من كتاب الله ، كتبت له حسنة مضاعفة ، ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة».

قال ابن كثير تفرد به الإمام أحمد رحمه‌الله تعالى.

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) (٢٠٥)

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد عامّ. أو المعنى : واذكر ربك أيها الإنسان. والأول أظهر ، لأن ما خوطب به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن من خصائصه ، فإنه مشروع لأمته. وقد أوضح هذا آية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الأحزاب : ٤١ ـ ٤٢]. والأمر بالذكر ، قال الزمخشريّ : هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك. وقال بعض الزيدية : هذا الأمر يحتمل الوجوب ، إن فسر الذكر بالصلاة ، وإن أريد الدعاء أو الذكر باللسان ، فهو محمول على الاستحباب. قال : وبكلّ فسرت الآية.

ثم إنه تعالى ذكر آدابا لذكره :

الأول ـ أن يكون في نفسه ، لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص ، وأقرب إلى الإجابة ، وأبعد من الرياء.

__________________

(١) أخرجه في المسند ٢ / ٣٤١.

٢٤٧

الثاني ـ أن يكون على سبيل التضرع ، وهو التذلل والخضوع والاعتراف بالتقصير ، ليتحقق بذلة العبودية لعزة الربوبية.

الثالث ـ أن يكون على وجه الخيفة أي الخوف والخشية من سلطان الربوبية ، وعظمة الألوهية ، من المؤاخذة على التقصير في العمل ، لتخشع النفس ، ويخضع القلب.

الرابع ـ أن يكون دون الجهر ، لأنه أقرب إلى حسن التفكر. قال ابن كثير : فلهذا يستحب أن لا يكون الذكر نداء ولا جهرا بليغا. وفي الصحيحين (١) عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال : رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار ، فقال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أيها الناس! اربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا. إن الذي تدعونه سميع قريب ، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته. قال الإمام : المراد أن يقع الذكر متوسطا بين الجهر والمخافة ، كما قال تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء : ١١٠].

الخامس ـ أن يكون باللسان لا بالقلب وحده ، وهو مستفاد من قوله : (وَدُونَ الْجَهْرِ) لأن معناه : ومتكلما كلاما دون الجهر ، فيكون صفة لمعمول حال محذوفة معطوفا على (تَضَرُّعاً) ، أو هو معطوف على (فِي نَفْسِكَ). أي اذكره ذكرا في نفسك ، وذكرا بلسانك دون الجهر.

السادس ـ أن يكون بالغدوّ والآصال ، أي في البكرة والعشيّ. فتدل الآية على مزية هذين الوقتين ، لأنهما وقت سكون ودعة وتعبد واجتهاد. وما بينهما ، الغالب فيه الانقطاع إلى أمر المعاش. وقد روي : أن عمل العبد يصعد أول النهار وآخره ، فطلب الذكر فيهما ، ليكون ابتداء عمله واختتامه بالذكر.

ثم نهى تعالى عن الغفلة عن ذكره بقوله (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) أي من الذين يغفلون عن ذكر الله ، ويلهون عنه ، وفيه إشعار بطلب دوام ذكره تعالى ، واستحضار عظمته وجلاله وكبريائه ، بقدر الطاقة البشرية.

ثم ذكر تعالى ما يقوي دواعي الذكر ، وينهض الهمم إليه ، بمدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار ، لا يفترون ، فقال :

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الجهاد ، ١٣١ ـ باب ما يكره من رفع الصوت بالتكبير ، حديث ١٤٢٣.

وأخرجه مسلم في : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، حديث ٤٤ ـ ٤٧.

٢٤٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦)

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني الملائكة الذين هم في أعلى مقامات القرب (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) أي لا يتعظمون عنها. وقوله (وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي فينبغي أن يقتدى بهم فيما ذكر عنهم ، ففيه حث ولطف مرغب في ذلك. لأنه إذا كان أولئك ـ وهم ما هم في قرب المنزلة والعصمة ـ حالهم في عبادته تعالى وتسبيحه ما ذكر ، فكيف ينبغي أن يكون غيرهم.

تنبيهات

الأول ـ قال الرازي : تمسك أبو بكر الأصم بهذه الآية في تفضيل الملائكة على البشر قال : لأنه تعالى لما أمر رسوله بالعبادة والذكر قال : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ...) الآية ـ أي فأنت أولى وأحق بالعبادة ، والمسألة مستوفاة في كتب الكلام. واستنبط من قال بالتفضيل المذكور من الآية ، أنه ينبغي للعبد أن ينظر إلى من فوقه في طاعة الله تعالى.

الثاني ـ قال الرازي : المشبهة تمسكوا بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ...)

وقالوا : لفظ (عند) مشعر بالجهة. ثم أجاب بما هو معروف للخلف. ويعني ، سامحه الله ، بالمشبهة الحنابلة ، وهم براء من التشبيه ، كما يعلمه من طالع عقائدهم ، واقفون على حدّ النصوص بلا تشبيه ولا تعطيل ، ولم ينفردوا بذلك ، فقد تقدمهم من لا يحصى في هذه المسألة. راجع كتاب (العلوّ للذهبيّ) تعلم ما ذكرنا.

الثالث ـ قال الجشمي : تدل الآية على كون الملائكة مكلفين. وتدل على أنهم سجدوا لله. وآدم كان قبلة السجود ، لأنه وصفهم بأنهم يسجدون له.

الرابع ـ هذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع. وقد ورد في حديث رواه ابن ماجة (١) عن أبي الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه عدها في سجدات القرآن.

وروى الشيخان عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ القرآن ، فيقرأ

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في : إقامة الصلاة والسنة فيها ، باب عدد سجود القرآن ، حديث رقم ١٠٥٦.

٢٤٩

سورة فيها سجدة ، فيسجد ونسجد معه ، حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته ، في غير وقت صلاة. (١)

وروى مسلم (٢) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد ، اعتزل الشيطان يبكي يقول : يا ويلتا! أمر ابن آدم بالسجود فسجد ، فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت. فلي النار».

وروى مسلم (٣) عن ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : عليك بكثرة السجود لله ، فإنك لا تسجد لله سجدة ، إلا رفعك الله بها درجة ، وحط عنك بها خطيئة».

الخامس ـ السجدة المشروعة ، إن كانت لآية ، أمر فيها بالسجود فللأمر ، أو حكى فيها استنكاف الكفرة عنه ، فلمخالفتهم وإرغامهم ، أو حكي فيها سجود الأنبياء أو الملائكة ، فللتأسي بهم ـ كذا في (العناية).

وهذا آخر ما تيسر تعليقه على سورة الأعراف ، فلله الحمد على هذا التسهيل والإسعاف. ونسأله بمنه وكرمه العون على الإتمام ، فإنه ذو الجلال والإكرام.

وكان الفراغ في ذلك طلوع الشمس من يوم الثلاثاء ، في ٢٦ رمضان المبارك سنة ١٣٢١ بشباك السدة العليا اليمنى من جامع السنانية. على يد الفقير جمال الدين القاسميّ غفر الله له ولوالديه ولجميع المؤمنين ، ورحمه وإياهم إنه أرحم الراحمين.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : سجود القرآن ، ٨ ـ باب من سجد لسجود القارئ ، حديث رقم ٥٩٢.

وأخرجه مسلم في : المساجد ومواضع الصلاة ، حديث رقم ١٠٥.

(٢) أخرجه مسلم في : الإيمان ، حديث رقم ١٣٣.

(٣) أخرجه مسلم في : الصلاة ، حديث رقم ٢٢٥.

٢٥٠

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنفال

مدنية ، أو ، إلّا (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ...) الآيات السبع ، فمكية. وآياتها خمس وسبعون آية.

سميت بالأنفال لأنها مبدأ هذه السورة ، ومنتهى ما ذكر فيها من أثر أمر الحروب.

٢٥١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ، قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

روى البخاري (١) عن ابن عباس أن سورة الأنفال نزلت في بدر.

وروى الإمام أحمد (٢) عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فشهدت معه بدرا. فالتقى الناس ، فهزم الله تعالى العدوّ ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون : وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه. وأحدقت طائفة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يصيب العدوّ منه غرة. حتى إذا كان الليل ، وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها ، فليس لأحد فيها نصيب. قال الذين خرجوا في طلب العدوّ : لستم بأحق به منا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لستم بأحق بها منا. نحن أحدقنا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة ، واشتغلنا به ـ فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...) الآية ـ فقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فواق من المسلمين.

وهذا الحديث رواه الترمذي أيضا وحسنه ، ورواه ابن حبان في صحيحه ، وصححه الحاكم. ولفظ ابن إسحاق عن عبادة قال : فينا ، أصحاب بدر ، نزلت ، حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقسمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المسلمين على السواء.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٨ ـ سورة الأنفال ، باب قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) ، حديث رقم ١٨٦٩.

(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥ / ٣٢٣.

٢٥٢

وروى أبو داود (١) والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من صنع كذا وكذا فله من النّفل كذا وكذا. فتسارع في ذلك شبّان القوم ، وبقي الشيوخ تحت الرايات. فلما كانت المغانم ، جاءوا يطلبون الذي جعل لهم. فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا ، فإنا كنا ردءا لكم ، لو انكشفتم لثبتم إلينا. فتنازعوا ، فأنزل الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...) الآية ـ وهذا مما يفيد أن التشاجر كان متنوعا ، وأن الآية نزلت لفصله.

والأنفال : هي المغانم ، جمع (نفل) محركة ، وهو الغنيمة. أي كل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب. قال ابن تيمية : سميت بذلك ، لأنها زيادة في أموال المسلمين. أي لأن النفل يطلق على الزيادة ـ كما في (التاج). ومنه النافلة لصلاة التطوع لزيادتها على الفريضة.

وقوله تعالى : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ـ قال المهايمي : أي ليست هي في مقابلة الجهاد ، وإنما مقابله الأجر الأخرويّ ، وهذه زائدة عليه ، خرجت عن ملك المشركين فصارت ملكا خالصا لله ولرسوله. والرسول خليفة يعطيها ، على ما أراه الله ، من يشاء. ولما أطلق له صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحكم فيها ، قسمها بينهم بالسوية ، ووهب من استوهبه. فروى الإمام أحمد (٢) عن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص ، وأخذت سيفه ، وكان يسمى ذا الكتيفة ، فأتيت به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : اذهب فاطرحه في القبض. قال ، فرجعت ، وبي ما لا يعلمه إلا الله ، من قتل أخي ، وأخذ سلبي. قال ، فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال. فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اذهب فخذ سلبك. وروى الإمام أحمد (٣) والترمذي ـ وصححه ـ عن سعد بن مالك قال : قلت : يا رسول الله! قد شفاني الله اليوم من المشركين ، فهب لي هذا السيف ، فقال : إن هذا السيف لا لك ولا لي ، ضعه. قال ، فوضعته ثم رجعت ، فقلت : عسى أن يعطي هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي. قال ، إذا رجل يدعوني من ورائي. قال ، قلت : قد أنزل الله فيّ شيئا. قال : كنت سألتني السيف ، وليس هو لي ، وإنه قد وهب لي ، فهو لك. قال ، وأنزل الله هذه الآية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...) الآية.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الجهاد ، ١٤٤ ـ باب في النفل ، حديث رقم ٢٧٣٧.

(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١ / ١٨٠ والحديث رقم ١٥٥٦.

(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١ / ١٧٨ والحديث رقم ١٥٣٨.

٢٥٣

تنبيهات

الأول ـ ذهب بعضهم إلى أن أنفال بدر قسمت من غير تخميس ، ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس ، فنسخت الأولى.

قال ابن كثير : فيه نظر. ويرد عليه حديث عليّ بن أبي طالب في شارفيه اللذين حصلا له ، من الخمس ، يوم بدر. فالصواب أنها مجملة محكمة ، بيّن مصارفها في آية الخمس.

الثاني ـ روي عن عطاء أنه فسر (الأنفال) بما شذّ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال من دابة أو أمة أو متاع. قال : فهو نفل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصنع به ما يشاء.

قال ابن كثير : وهذا يقتضي أنه فسر (الأنفال) بالفيء ، وهو ما أخذ من الكفار من غير قتال.

قلت : صدق (النفل) عليه ، لا شك فيه ، وأما كونه المراد من الآية بخصوصه ، فلا يساعده سبب نزولها المارّ ذكره ، لا سيما قوله : (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) المشير إلى التنازع المتقدم.

ثم قال ابن كثير : واختار ابن جرير أنها الزيادة على القسم ، أي ما يدفع إلى الغازي زائدا على سهمه من المغنم ، والكلام الذي قلته قبل ، يجري هنا أيضا.

ونقل الرازي عن القاضي ؛ أن كل هذه الوجوه تحتمله الآية. قال : وليس فيها دليل على ترجيح بعضها على بعض ، وإن صح في الأخبار ما يدل على التعين ، قضى به. وإلا فالكل محتمل. وكما أن كل واحد منها جائز ، فكذلك إرادة الجميع جائزة ، فإنه لا تناقض بينها. أي لصدق (النّفل) عليها.

الثالث ـ وقع عند الزمخشري أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر ، لمن الحكم فيها ا للمهاجرين أم للأنصار ، أم لهم جميعا؟ فأجيبوا بأن الحاكم فيها الرسول ، وليس لأحد فيها حكم. وتأثر الزمخشري أبو السعود في سوقه لما ذكر ، وزاد عليه اعتماده له ، بتطويل مملّ. ولا أدري من أين سرت لهم هذه الرواية. فإن رواة الآثار لم يخرجوها في صحاحهم ولا سننهم ، بل ولا أصحاب السير ، كابن إسحاق وابن هشام. وهل يمكن للمسلمين أن يختلفوا للحكم على الغنائم ، ويتنازعوا ولايتها ، والرسول بين أظهرهم؟ ومتى عهد ذلك من سيرتهم؟ سبحانك

٢٥٤

هذا بهتان عظيم! ولكن هو الرأي (قاتله الله!) ونبذ كتب السنة ، والتقليد البحث ، الذي لا يهتم صاحبه بحقائق الأشياء ، ولا يريد معرفتها ولا فحصها بالعقل يضع قدمه على القدم ، حيث يكون مطواعا لآراء غيره ، منقادا لها مصدقا ما ينطق به فمه ، غثّا كان أو سمينا. اللهم نوّر بصيرتنا بفضلك.

وقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ) أي في الاختلاف والتخاصم ، وكونوا متحدين متآخين في الله.

وقوله تعالى : (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي أحوال بينكم ، يعني ما بينكم من الأحوال ، حق تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق.

وقوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي في قسمه بينكم ، على ما أراه الله تعالى. وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) متعلق بالأوامر الثلاثة.

قال الزمخشري : جعل التقوى ، وإصلاح ذات البين ، وطاعة الله ورسوله ، من لوازم الإيمان وموجباته ، ليعلمهم أن كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها : فمعنى قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي كاملي الإيمان.

ثم بيّن تعالى من أريد بال (مؤمنين) بذكر أوصافهم الجليلة ، المستتبعة لما ذكر من الخصال الثلاث ، ترغيبا لهم في الامتثال بالأوامر المذكورة ، فقال سبحانه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٢)

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي الكاملون المخلصون فيه (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ) أي حقه أو وعيده (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي فزعت لذكره ، واقشعرت إشفاقا ألا تكون قامت بحقه ، وتهيبا من جلاله وعزة سلطانه ، وبطشه بالعصاة وعقابه.

قال الجشمي : ومتى قيل : لم جاز وصفهم هاهنا بالوجل والطمأنينة في قوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) [الرعد : ٢٨] ، فجوابنا فيه وجوه :

منها : أنه تطمئن قلوبهم عند ذكر نعمه ، وتوجل لخوف عقابه بارتكاب معاصيه.

ومنها : أن قلوبهم تطمئن لمعرفة توحيده ، ووعده ، ووعيده ، فعند ذلك توجل

٢٥٥

لأوامره ونواهيه ، خوف التقصير في الواجبات ، والإقدام على المعاصي ، والمستقبل يتغير حاله. انتهى.

(وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ) أي حججه وهي القرآن (زادَتْهُمْ إِيماناً) أي يقينا وطمأنينة نفس ، إلى ما عندهم ؛ فإن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه ، وأثبت لقدمه.

وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها ، على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب ، كما هو مذهب جمهور الأمة. بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد ، كالشافعيّ وأحمد بن حنبل وأبي عبيد (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي لا يرجون سواه ، ولا يخشون غيره ، ولا يفوّضون أمورهم إلى غيره.

ولما ذكر تعالى ، من أعمالهم الحسنة ، أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل ، أعقبه بأعمال الجوارح من الصلاة والصدقة ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣)

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي المفروضة بحدودها وأركانها ، في أوقاتها. والموصول نعت للموصول الأول ، أو بيان له ، أو منصوب على المدح.

وقوله (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) عامّ في الزكاة ، وأنواع البر والقربات.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤)

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي لا شك في إيمانهم. و (حَقًّا) صفة لمصدر محذوف ، أي إيمانا حقّا أو مصدر مؤكد للجملة ، أي حق ذلك حقّا ، كقولك. هو عبد الله حقّا.

قال عمرة بن مرة (في هذه الآية) : إنما أنزل القرآن بلسان العرب ، كقولك : فلان سيّد حقّا ، وفي القوم سادة. وفلان تاجر حقّا ، وفي القوم تجار. وفلان شاعر حقّا ، وفي القوم شعراء. انتهى.

وكأنه أراد الرد على من زعم أن (حقّا) من صلة قوله : (لَهُمْ دَرَجاتٌ) بعد ، تأكيدا له ، وأن الكلام تم عند قوله (الْمُؤْمِنُونَ) ، فإن هذا الزعم يصان عنه أسلوب التنزيل الحكيم.

٢٥٦

وقد تطرف بعض المفسرين هنا لمسألة شهيرة. وهي : هل يجوز أن يقال : أنا مؤمن حقا.

قال الطوسي في (نقد المحصل) : المعتزلة ومن تبعهم يقولون : اليقين لا يحتمل الشك والزوال. فقول القائل : (أنا مؤمن إن شاء الله) لا يصح إلا عند الشك ، أو خوف الزوال. وما يوهم أحدهما ؛ لا يجوز أن يقال للتبرك. انتهى.

والغزاليّ في الإحياء ، بسط هذه المسألة ، وأجاب عمن سوّغ ذلك بأجوبة :

منها : التخوف من الخاتمة ، لأن الإيمان موقوف على سلامة الخاتمة.

ومنها : الاحتراز من تزكية النفس.

ومنها : غير ذلك. انظره بطوله.

وقال ابن حزم في (الفصل) : القول عندنا في هذه المسألة ؛ أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه ، فإن كان يدري أنه مصدّق بالله عزوجل ، وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبكل ما أتى به ، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك ، فواجب عليه أن يعترف بذلك ، كما أمر تعالى في قوله : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : ١١]. ولا نعمة أوكد ولا أفضل ، ولا أولى بالشكر ، من نعمة الإسلام. فواجب عليه أن يقول : أنا مؤمن مسلم قطعا عند الله تعالى ، في وقتي هذا. ولا فرق بين قوله (أنا مؤمن مسلم) وبين قوله (أنا أسود أو أنا أبيض) وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها. وليس هذا من باب الامتداح والعجب في شيء ، لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد. وقول ابن مسعود : (أنا مؤمن إن شاء الله) عندنا صحيح ، لأن الإسلام والإيمان اسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة ، إلى جميع البر والطاعات. فإنما منع ابن مسعود الجزم على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات ، وهذا صحيح. ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك. وما منع أن يقول المرء (إنّي مؤمن) بمعنى (مصدق).

وأما قول المانعين : (من قال أنا مؤمن ، فليقل إنه من أهل الجنة) فالجواب : إنا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن ، فلا بد لنا من الجنة بلا شك. وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع ، أن من آمن بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبكل ما جاء به ، ولم يأت بما هو كفر ، فإنه في الجنة إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا ، ولا نأمن مكر الله تعالى ، ولا إضلاله ، ولا كيد الشيطان ؛ ولا ندري ماذا نكسب غدا ، ونعوذ بالله من الخذلان. انتهى كلام ابن حزم رحمه‌الله ، ولقد أجاد فيما أفاد.

٢٥٧

وقوله تعالى : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي منازل ومقامات عاليات في الجنة (وَمَغْفِرَةٌ) أي تجاوز لسيئاتهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وهو ما أعدّ لهم من نعيم الجنة.

تنبيه :

قال الجشمي : تدل الآية على أشياء :

منها : أن الإيمان اسم شرعي لثلاث خصال : القول ، والاعتقاد ، والعمل. خلاف ما تقوله المرجئة. لأن الوجل وزيادة التصديق من فعل القلب ، والتدبر والتفكر كذلك ، والصلاة والإنفاق من أعمال الجوارح ، والتوكل يشتمل على فعل القلب والجوارح. ثم بين في آخره أن من جمع هذه الخصال فهو المؤمن حقا.

ومنها : أنها تدل على أن الإيمان يزيد وينقص ، لأن هذه الطاعات تزيد وتنقص ، وقد نص على ذلك في قوله (زادَتْهُمْ إِيماناً).

ومنها : أن الواجب عند تلاوة القرآن التدبر والتفكر فيما أمر ونهى ، ووعد وأوعد ، لينجرّ للرغبة والرهبة. وذلك حثّ على الطاعة ، وزجر عن المعاصي.

ومنها : وجوب التوكل عليه. والتوكل على ضربين : منها في الدنيا ، ومنها في الدين. أما في الدنيا فلا بد من خصال :

منها : أن يطلب مصالح دنياه من الوجه الذي أتيح له ، ولا يطلب محرما.

ومنها : إذا حرم الرزق الحلال لا يعدل إلى محرّم.

ومنها : ألا يظهر الجزع عند الضيق ، بل يسلك فيه طريق الصبر ، واعتقاد أن ما هو فيه مصلحة له.

ومنها : أن ما يرزق من النعم بعدها ، من جهته تعالى. إما بنفسه أو بواسطة.

ومنها : ألا يحبسه عن حقوقه خشية الفقر.

ومنها : ألا يسرف في النفقة ولا يقتر.

فعند اجتماع هذه الخصال يصير متوكلا.

فأما الذي يزعمه بعضهم ؛ أن التوكل إهمال النفس ، وترك العمل ـ فليس بشيء. وقد أمر الله تعالى بالإنفاق ، وبالعمل. وثبت عن الصحابة ـ وهم سادات الإسلام ـ التجارة والزراعة والأعمال. وكذلك التابعين. وبهذا أجرى الله العادة. وقد أمر النبيّ (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأعرابيّ أن يعقل ناقته ويتوكل.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في : صفة القيامة والرقائق والورع ، ٦٠ ـ باب حدثنا عمرو بن عليّ.

٢٥٨

فأما التوكل في الدين فخصال :

منها : أن يقوم بالواجبات ، ويجتنب المحارم ، لأنه بذلك يصل إلى الجنة والرحمة.

ومنها : أن يسأله التوفيق والعصمة.

ومنها : أن يرى جميع نعمه منه ، إذ حصل بهدايته وتمكينه ولطفه.

ومنها : أن لا يثق بطاعته جملة ، بل يطيع ويجتنب المعاصي ، ويرجو رحمة ربه ، ويخاف عذابه. فعند ذلك يكون متوكلا.

ثم قال الجشمي : وتدل الآية على أن تارك الصلاة والزكاة لا يكون مؤمنا ، خلاف قول المرجئة. انتهى.

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) (٥)

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) الكاف في (كما) كاف التشبيه ، والعامل فيه يحتمل وجوها ، فإما هو معنى الفعل الذي دل عليه (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ) ، تقديره نزع الأنفال من أيديهم بالحق ، كما أخرجك بالحق. وإما هو معنى الحق ، يعني هذا الذكر حق ، كما أخرجك بالحق. وإما أنه خبر مبتدأ محذوف هو المشبه ، أي حالهم هذه في كراهة تنفيل الغزاة ، كحال إخراجك من بيتك للحرب في كراهتهم له (كما سيأتي في تفصيل القصة). وهذا هو قول الفرّاء ، فإنه قال : الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته ، بالقصة المتقدمة ، التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها ، مع أنها أولى بحالهم.

وقوله تعالى : (مِنْ بَيْتِكَ) أراد به بالمدينة ، أو المدينة نفسها ، لأنها مثواه. أي إخراجه إلى بدر. وزعم بعض أن المراد إخراجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى المدينة للهجرة. وهو ساقط ، برده سياق القصة البدرية في الآيات بعد. وملخصها أن أبا سفيان قدم بعير من الشام في تجارة عظيمة ، فخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ليغنموها ، فعلمت قريش. فخرج أبو جهل ومقاتلو مكة ليذبّوا عنها ، وهم النفير. وأخذ أبو سفيان بالعير

٢٥٩

طريق الساحل ، فنجت. فقيل لأبي جهل : ارجع ، فأبى وسار إلى بدر. فشاور صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه وقال لهم : إن الله وعدني إحدى الطائفتين ، فوافقوه على قتال النفير ، وكره بعضهم ذلك ، وقالوا : لم نستعد له ، كما قال تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (٦)

(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) وهو الجهاد وتلقي النفير (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) أي ظهر لهم أنهم ينصرون فيه (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت ، وهو ناظر إلى أسبابه ، وكان ذلك لقلة عددهم ، وعدم تأهبهم. إذ روي أنهم كانوا ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا ، فيهم فارسان ، المقداد والزبير. وقيل الأول فقط. والمشركون ألف ، ذوو عدّة وعدّة وفيه تعريض بأنهم إنما يسار بهم إلى الظفر والغنيمة للوعد الحق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) (٧)

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) العير أو النفير (أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ) أي تحبون (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) وهو العير ، لا ذات الشوكة ، وهي النفير. والشوكة : السلاح أو حدته (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) أي يثبته ويعليه ، وهو دعوة رسوله (بِكَلِماتِهِ) أي بآياته المنزلة ، وأوامره في هذا الشأن (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي يستأصلهم ، فلا يبقى منهم أحدا.

ثم بيّن تعالى الحكمة في اختيار ذات الشوكة لهم ونصرتهم عليها ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨)

(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) أي ليثبت الدين الحق ، ويمحق الدين الباطل ، باستئصال أهله ، مع ظهور شوكتهم (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أي المشركون ذلك.

ثم ذكرهم تعالى التجاءهم إليه ، واستمدادهم منه النصر يوم بدر ، وإمداده حينئذ بقوله سبحانه :

٢٦٠