مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-048-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٥

يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ). فلا إجبار في عمل الله كما أنّه ليس محكوماً بالجبر الطبيعي ولا الجبر التأريخي ، بل إنّ إرادته فوق كل شيء وتعمل في كل شيء.

ثم تشير الآية إلى أنّ آيات الله التي تفضح أقوال ومعتقدات هؤلاء تجعلهم يوغلون أكثر في صلفهم وعنادهم ويتمادون في طغيانهم وكفرهم بدلاً من تأثيرها الإيجابي في ردعهم عن السير في نهجهم الخاطيء حيث تقول الآية الكريمة : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا).

بعد ذلك تؤكد الآية على أنّ صلف هؤلاء وطغيانهم وكفرهم سيجر عليهم الوبال ، فينالهم من الله عذاب شديد في هذه الدنيا ، من خلال تفشّي العداء والحقد فيما بينهم حتى يوم القيامة ، فتقول الآية الكريمة : (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ).

وتشير الآية ـ في الختام ـ إلى المساعي والجهود التي كان يبذلها اليهود لتأجيج نيران الحروب ، وعناية الله ولطفه بالمسلمين في انقاذهم من تلك النيران المدمرة الماحقة ، فتقول : (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ).

وتعتبر هذه الظاهرة إحدى معاجز حياة النبي الأكرم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ اليهود كانوا الأقوى بين أهل الحجاز والأعرف بمسائل الحرب.

ثم تبيّن الآية ـ أيضاً ـ أنّ هؤلاء لا يكفّون عن نثر بذور الفتنة والفساد في الأرض فتقول : (وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا) وتؤكد أيضاً قائلة : (وَاللهُ لَايُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) (٦٦)

بعد أن وجّهت الآيات السابقة النقد لنهج واسلوب أهل الكتاب ، جاءت هاتان الآيتان وفقاً لما تقتضيه مبادىء التربية الإنسانية لتفتحا باب العودة والتوبة أمام المنحرفين من أهل الكتاب ، لكي يعودوا إلى الطريق القويم ، ولتريهم الدرب الحقيقي الذي يجب أن يسيروا فيه ، ولتثمّن دور تلك الأقلية من أهل الكتاب التي عاشت في ذلك العصر لكنها لم تواكب

٥٤١

الأكثرية في أخطائها ، فتقول الآية الاولى في البدء : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيَاتِهِمْ).

بل ذهبت إلى أبعد من هذا فوعدتهم بالجنة ونعيمها ، إذ قالت : (وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتٍ النَّعِيمِ) وهذه إشارة إلى النعم المعنوية الأخروية.

ثم تشير الآية الثانية إلى الأثر العميق الذي يتركه الإيمان والتقوى ، في الحياة الدنيوية للإنسان ، فتؤكّد أنّ أهل الكتاب لو طبّقوا التوراة والإنجيل وجعلوهما منهاجاً لحياتهم وعملوا بكل ما نزل عليهم من ربّهم ، سواء في الكتب السماوية السابقة أم في القرآن ، دون تمييز أو تطرّف لغمرتهم النعم الإلهية من السماء والأرض ، فتقول الآية : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَيةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم).

وبديهي أنّ المراد من إقامة التوراة والإنجيل هو إتّباعهم لما بقي من التوراة والإنجيل الحقيقيين في أيديهم في ذلك العصر.

إنّ الآية الأخيرة تؤكد مرّة اخرى هذا المبدأ الأساسي القائل بأنّ اتّباع التعاليم السماوية التي جاء بها الأنبياء ، ليس لإعمار الحياة الآخرة التي تأتي بعد الموت فحسب ، بل إنّ لها ـ أيضاً ـ انعكاسات واسعة على الحياة الدنيوية المادية للإنسان ، فهي تقوّي الجماعات وتعزز صفوفها وتكثّف طاقاتها ، وتغدق عليها النعيم وتضاعف امكانياتها وتضمن لها الحياة السعيدة المقترنة بالأمن والإستقرار.

ولو ألقينا نظرة على الثروات الطائلة والطاقات البشرية الهائلة التي تهدر اليوم في عالم الإنسان نتيجة للانحراف عن هذه التعاليم ، في صنع وتكديس أسلحة فتّاكة ، وفي صراعات لا مبرر لها ومساع هدّامة ، لرأينا أنّ ذلك كله دليل حيّ على هذه الحقيقة ، حيث إنّ الثروات التي تستخدم لإشاعة الدمار في هذا العالم ـ إذا أمعنا النظر جيداً ـ إن لم تكن أكثر حجماً من الثروات التي تنفق في سبيل البناء ، فهي ليست بأقل منها.

إنّ العقول المفكّرة التي تسعى وتعمل جاهدة ـ اليوم ـ لإكمال وتوسيع انتاج الأسلحة الحربية ، ولتوسيع بقعة النزاعات الاستعمارية ، إنّما تشكّل جزءاً مهمّاً من الطاقات البشرية الخلّاقة التي طالما احتاجها المجتمع البشري لرفع احتياجاته ، وكم سيصبح وجه الدنيا جميلاً وجذّاباً لو كانت كل هذه الطاقات تستغل في سبيل الإعمار؟

وفي الختام تشير الآية الكريمة إلى الأقلية الصالحة من أهل الكتاب الذين اختاروا طريق الإعتدال في حياتهم خلافاً لنهج الأغلبية المنحرفة ، فعزل الله حسابهم عن حساب

٥٤٢

هذه الأكثرية الضالة ، حيث تقول الآية : (مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ).

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (٦٧)

اختيار الخليفة مرحلة إنتهاء الرسالة : هذه الآية تتوجّه بالخطاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحده وتبيّن له واجبه ، فهي تبدأ بمخاطبة الرّسول : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) وتأمره بكل جلاء ووضوح أن (بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ).

ثم لكي يكون التوكيد أشد وأقوى ، تحذّره وتقول : (وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ).

ثم تُطمئن الآية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وكأنّ أمراً يقلقه ـ وتطلب منه أن يهدىء من روعه وأن لا يخشى الناس ، فيقول له : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

وفي ختام الآية إنذار وتهديد بمعاقبة الذين ينكرون هذه الرسالة الخاصة ويكفرون بها عناداً ، فتقول : (إِنَّ اللهَ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).

أسلوب هذه الآية ، ولحنها الخاص ، يدل على أنّ الكلام يدور حول أمر مهم جدّاً بحيث إنّ عدم تبليغه يعتبر عدم تبليغ للرسالة كلها.

فما هذه المسألة المهمة التي برزت في الشهور الأخيرة من حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث تنزل هذه الآية وفيها كل ذلك التوكيد؟

ليس ثمّة شك أنّ قلق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن لخوف على شخصه وحياته ، وإنّما كان لما يحتمله من مخالفات المنافقين وقيامهم بوضع العراقيل في طريق المسلمين.

هل هناك مسألة تستطيع أن تحمل كل هذه الصفات غير مسألة استخلاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعيين مصير مستقبل الإسلام؟!

في مختلف الكتب التي كتبها علماء من أهل السنة في التفسير والحديث والتأريخ ، أوردوا فيها روايات كثيرة تقول جميعها بصراحة : إنّ الآية المذكورة قد نزلت في علي عليه‌السلام.

حادثة الغدير بايجاز : إنّه في السنة الأخيرة من حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أدّى المسلمون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حجّة الوداع في عظمة وجلال.

لم يكن أهل المدينة وحدهم قد رافقوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الحجة ، بل إلتحق بركبه مسلمون توافدوا من سائر أنحاء الجزيرة العربية لينالوا شرف الصحبة في هذه الحجة.

٥٤٣

كانت الشمس ترسل أشعّتها اللافحة المحرقة على الوديان والسهول لكن لذّة هذا السفر الروحي يسّرت كل شيء. اقترب وقت الظهيرة ، واقترب الركب الكبير من أرض الجحفة ، وظهرت من بعيد أرض «غدير خم» القاحلة الجافة المحرقة.

كان يوم الخميس من السنة العاشرة للهجرة ، وقد مضت ثمانية أيّام على عيد الأضحى ، وإذا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصدّر أمره للحجيج بالتوقف ، وصعد مؤذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ينادي في الناس لصلاة الظهر ، وأخذ الناس يستعدّون ـ مسرعين ـ لأداء الصلاة ، كانت الرياح لافحة محرقة ، حتى اضطر بعضهم إلى أن يضع قسماً من عباءته تحت قدميه وقسماً منها فوق رأسه كي يتّقي حرارة الحصى وأشعة الشمس.

إنتهت صلاة الظهر وهرع الحجيج يريدون نصب خيامهم الصغيرة التي كانوا يحملونها معهم ليلوذون بها من حر الهاجرة ، إلّاأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبرهم أنّ عليهم أن يستعدّوا لسماع رسالة إلهيّة جديدة في خطبته ، وكان الذين يقفون على مسافة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يستطيعون رؤيته ، لذلك صنعوا له منبراً من أهداج الإبل ارتقاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «الحمد لله ونستعينه ونؤمن به ونتوكّل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضلّ ولا مضلّ لمن هدى وأشهد أن لا إله إلّاالله وأنّ محمّداً عبده ورسوله. أمّا بعد : أيّها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمر نبيّ إلّامثل نصف عمر الذي قبله ، وإنّي أوشك أن ادعى فأجيب ، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون؟»

قالوا : نشهد أنّك بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً.

قال : «ألستم تشهدون أن لا إله إلّاالله وأنّ محمّداً عبده ورسوله وأنّ جنّته حق وناره حق وأنّ الموت حق وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور؟»

قالوا : بلى نشهد بذلك.

قال : «اللهم اشهد». ثم قال : «أيّها الناس ألا تسمعون؟» قالوا : نعم.

ثم ساد الجوّ صمت عميق ولم يُسمع فيه سوى أزيز الرياح ... قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «... فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين».

قالوا : وما هذان الثقلان يا رسول الله؟

قال : «أمّا الثقل الأكبر فكتاب الله عزوجل سبب ممدود من الله ومني في أيديكم ، طرفه بيد الله والطرف الآخر بأيديكم فيه علم ما مضى وما بقي إلى أن تقوم الساعة ، وأمّا الثقل الأصغر

٥٤٤

فهو حليف القرآن وهو علي بن أبي طالب وعترته عليهم‌السلام وأنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض».

ثم أخذ بيد أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ فرفعها حتى بدا للناس بياض إبطيهما ثم قال : «أيّها الناس : من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟»

قالوا : الله ورسوله أعلم.

قال : «إنّ الله عزوجل مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه». (يقولها ثلاث مرات) وفي لفظ الإمام أحمد إمام الحنابلة : (أربع مرات). ثم قال : «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبّه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب».

ثم لم يتفرّقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى) الآية. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الربّ برسالتي والولاية لعليّ من بعدي».

ثم طفق القوم يهنّئون أمير المؤمنين عليه‌السلام وممّن هنّأه أبوبكر وعمر كل يقول : بخّ بخّ لك يابن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٩)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان وتفسير القرطبي عن ابن عباس قال : جاء جماعة من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : ألست تقرّ بأنّ التّوراة من عند الله؟ قال : «بلى». قالوا : فإنّا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها (وفي الحقيقة فإنّ التوراة تعتبر القدر المشترك بيننا وبينكم ، ولكن القرآن كتاب مختص بكم). فنزلت الآية الاولى.

٥٤٥

التّفسير

هذه الآية تشير إلى جانب آخر من ذلك العقبات التي كان يضعها أهل الكتاب (اليهود والنصارى) تردّ فيها على منطقهم الواهي الداعي إلى اعتبار التوراة كتاباً متفقاً عليه بين المسلمين واليهود ، وترك القرآن باعتباره موضع خلاف. لذلك فالآية تخاطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلة : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَىْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَيةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبّكُمْ). وذلك لأنّ هذه الكتب صادرة عن مبدأ واحد وأصولها واحدة.

ويعود القرآن ليشير إلى حالة أكثريتهم ، فيقرّر أنّ أكثرهم لا يأخذون العبرة والعظة من هذه الآيات ولا يهتدون بها ، بل إنّهم ـ لما فيهم من روح العناد ـ يزدادون في طغيانهم وكفرهم (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا).

وفي ختام الآية يخفف الله من حزن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إزاء تصلّب هذه الأكثرية من المنحرفين وعنادهم فيقول له : (فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).

هذه الآية ليست مقصورة على اليهود ـ طبعاً ـ فالمسلمون أيضاً إذا اكتفوا بادّعاء الإسلام ولم يقيموا تعاليم الأنبياء ، وخاصة ما جاء في كتابهم السماوي ، فلن تكون لهم منزلة ومكانة لا عند الله ، ولا في حياتهم الفردية والاجتماعية.

الآية التالية تعود لتقرّر مرّة اخرى هذه الحقيقة ، وتؤكد أنّ جميع الأقوام وأتباع كل المذاهب دون إستثناء ، مسلمين كانوا أم يهوداً أم صابئين أم مسيحيين ، لا منقذ لهم من الخوف من المستقبل والحزن على ما فاتهم إلّاإذا آمنوا بالله وبيوم الحساب وعملوا صالحاً : (إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنءَامَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). (١)

هذه الآية ردّ قاطع على الذين يظنون النجاة في ظل قومية معينة ، ويفضّلون تعاليم بعض الأنبياء على بعض ، ويتقبّلون الدعوة الدينية على أساس من تعصب قومي ، فتقول الآية إنّ طريق الخلاص ينحصر في نبذ هذه الأقوال.

(لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَنْ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) (٧١)

__________________

(١) «الصابئون» : هم أتباع يحيى أو نوح أو إبراهيم.

٥٤٦

في آيات سابقة من سورة البقرة ، وفي أوائل هذه السورة أيضاً إشارة إلى عهد وميثاق أخذه الله تعالى على بني إسرائيل وفي هذه الآية تذكير بهذا الميثاق : (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً).

ثم يضاف إلى ذلك القول بأنّهم ، فضلاً عن كونهم لم يعملوا بذاك الميثاق : (كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَاتَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ).

هذه هي طرائق المنحرفين الأنانيين وسبلهم ، فهم بدلاً من إتّباع قادتهم ، يصرّون على أن يكون القادة هم التابعين لأهوائهم.

في الآية التالية إشارة إلى غرورهم أمام كل ما اقترفوه من طغيان وجرائم : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فُتْنَةٌ). أي ظنّوا مع ذلك أنّ البلاء والجزاء لن ينزل بهم ، واعتقدوا ـ كما صرحت الآيات الاخرى ـ أنّهم من جنس أرقى ، وأنّهم أبناء الله!

وأخيراً إستحال هذا الغرور الخطير والتكبر إلى ما يشبه حجاباً غطّى أعينهم وآذانهم : (فَعَمُوا وَصَمُّوا) عن رؤية آيات الله وعن سماع كلمات الحقّ.

ولكنهم عندما أصابتهم مظاهر من عقاب الله وشاهدوا نتائج أعمالهم المشؤومة ، ندموا وتابوا بعد أن أدركوا أنّ وعد الله حق ، وأنّهم ليسوا عنصراً متميزاً فائقاً.

وتقبل الله توبتهم : (ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ).

إلّا أنّ حالة الندم والتوبة لم تلبث طويلاً ، فسرعان ما عاد الطغيان والتجبّر وسحق الحق والعدالة ، وعادت أغشية الغفلة الناتجة عن الإنغماس في الإثم تحجب أعينهم وآذانهم مرّة اخرى (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مّنْهُمْ) فلم يعودوا يرون الآيات أو يسمعوا كلمة الحق ، وعمّت الحالة الكثير منهم.

في نهاية الآية جملة قصيرة عميقة المعنى تقول : إنّ الله لا يغفل أبداً عن أعمالهم ، إذ أنّه يرى كل ما يعملون : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧٤)

٥٤٧

تعقيباً على البحوث الماضية بشأن انحرافات اليهود التي مرّت في الآيات السابقة ، تتحدّث هذه الآيات والتي تليها عن انحرافات المسيحيين ، فتبدأ أوّلاً بأهم تلك الانحرافات ، أي «تأليه المسيح» و «تثليث المعبود» : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ).

وأيّ كفر أشدّ من أن يجعلوا الله اللامحدود من جميع الجهات متحداً مع مخلوق محدود من جميع الجهات ، وأن يصفوا الخالق بصفات المخلوق ، مع أنّ المسيح عليه‌السلام نفسه يعلن صراحة لبني إسرائيل : (يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ) وبهذا يستنكر كل لون من ألوان الشرك ، ويرفض الغلوّ في شخصه ويعتبر نفسه مخلوقاً كسائر مخلوقات الله.

ولكي يشدد المسيح التوكيد على هذا الأمر ، وليزيل كل إبهام وخطأ ، يضيف قائلاً : (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَيهُ النَّارُ).

ويمضي في التوكيد وإثبات أنّ الشرك والغلو ضرب من الظلم الواضح ، فيقول أيضاً : (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ).

فإنّ ما ورد في الآية المذكورة عن إصرار المسيح عليه‌السلام على مسألة التوحيد إنّما ينسجم مع المصادر المسيحية الموجودة ويعتبر من دلائل عظمة القرآن.

وينبغي الإلتفات إلى أنّ الموضوع الذي تتناوله الآية هو الغلو ووحدة المسيح بالله ، أو بعبارة اخرى هو «التوحيد في التثليث» ولكن الآية التالية تشير إلى مسألة «تعدد الآلهة» في نظر المسيحيين ، أي «التثليث في التوحيد» وتقول : إنّ الذين قالوا إنّ الله ثالث الأقانيم (١) الثلاثة لا ريب أنّهم كافرون : (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلثَةٍ).

ويردّ القرآن عليهم ردّاً قاطعاً فيقول : (وَمَا مِن إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ وَاحِدٌ).

وفي ذكر «من» قبل «إله» نفي أقوي لأيّ معبود آخر.

ثم ينذرهم بلهجة قاطعة : (وَإِنْ لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

في الآية الثالثة يدعوهم القرآن إلى أن يتوبوا عن هذه العقيدة الكافرة لكي يغفر لهم الله تعالى ، فيقول : (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

__________________

(١) «الأقنوم» : بمعنى الأصل والذات ، جمعها «أقانيم».

٥٤٨

(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (٧٧)

تواصل هذه الآيات البحث الذي جاء في الآيات السابقة حول غلو المسيحيين في المسيح عليه‌السلام واعتقادهم بألوهيته ، فتفنّد في بضع آيات قصار اعتقادهم هذا ، وتبدأ متسائلة عمّا وجدوه في المسيح من اختلاف عن باقي الأنبياء حتى راحوا يؤلّهونه ، فالمسيح ابن مريم قد بعثه الله كما بعث سائر الأنبياء من قبله : (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ).

إذا كان بعثه من قبل الله سبباً للتأليه والشرك ، فلماذا لا تقولون القول نفسه بشأن سائر الأنبياء؟

ولمزيد من التوكيد يقول : (وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ). أي إنّ من تكون له ام حملته في رحمها ، ومن يكون محتاجاً إلى كثير من الامور ، كيف يمكن أن يكون إلهاً؟! ثم إذا كانت امه صديقة فذلك لأنّها هي أيضاً على خط رسالة المسيح عليه‌السلام منسجمة معه وتدافع عن رسالته ، لهذا فقد كان عبداً من عباد الله المقربين ، فينبغي ألّا يتخذ معبوداً كما هو السائد بين المسيحيين الذين يخضعون أمام تمثاله إلى حد العبادة.

ومرّة اخرى يشير القرآن إلى دليل آخر ينفي الربوبية عن المسيح عليه‌السلام فيقول : (كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ).

وفي ختام الآية إشارة : إلى وضوح هذه الدلائل من جهة ، وإلى عناد اولئك وجهلهم من

٥٤٩

جهة اخرى ، فيقول : (انظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الْأَيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (١).

ولكي يكمل الاستدلال السابق تستنكر الآية التالية عبادتهم المسيح مع أنّهم يعلمون أنّ له احتياجات بشرية ، وإنّه لا قدرة له على دفع الضرر عن نفسه أو نفعها ، فكيف يتسنى له دفع الضرر عن الغير أو نفعهم؟ (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَايَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا).

وفي النهاية يحذّرهم من أن يظنّوا أنّ الله لا يسمع ما يتقوّلونه أو لا يعلم ما يكنونه : (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

الآية التالية تأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بعد اتضاح خطأ أهل الكتاب في الغلو ـ أن يدعوهم بالأدلة الجلية إلى الرجوع عن السير في هذا الطريق : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَاتَغْلُوا فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ) (٢).

إنّ غلو النصارى معروف ، إلّاأنّ غلو اليهود ، الذي يشملهم تعبير (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) قد يكون إشارة إلى ما كانوا يقولونه عن عُزير وقد اعتبروه ابن الله ، ولمّا كان الغلو ينشأ ـ أكثر ما ينشأ ـ عن إتّباع الضالين أهواءهم ، لذلك يقول الله سبحانه (وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ).

وفي هذا إشارة أيضاً إلى ما انعكس في التأريخ المسيحي ، إذ أنّ موضوع التثليث والغلو في أمر المسيح عليه‌السلام لم يكن له وجود خلال القرون الاولى من المسيحية ، ولكن عندما اعتنق بعض الهنود وأمثالهم من عبدة الأصنام المسيحية أدخلوا فيها شيئاً من دينهم السابق كالتثليث والشرك.

(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) (٨٠)

__________________

(١) «الإفك» : كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه ، و «المأفوك» : المصروف عن الحقّ ، وإن كان عن تقصيره ، ومن هنا يسمّى إفكاً ، لأنّه يصد الإنسان عن الحقّ.

(٢) «تغلو» : من مادة «الغلو» وهي بمعنى تجاوز الحدّ ، إلّاأنّها تستعمل للإشارة إلى تجاوز الحدّ بالنسبة لمقام شخص من الأشخاص ومنزلته.

٥٥٠

تشير هذه الآيات إلى المصير المشؤوم الذي انتهى إليه الكافرون السابقون ، لكي يعتبر به أهل الكتاب فلا يتّبعونهم إتّباعاً أعمى ، فيقول : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ).

فالآية تشير إلى أنّ مجرد كون الإنسان من بني إسرائيل ، أو من أتباع المسيح دون أن ينسجم مع خط سيرهما ، لا يكون مدعاة لنجاته ، بل إنّ هذين النبيين قد لعنا من كان على هذه الشاكلة من الناس.

وفي آخر الآية توكيد لهذا الأمر وبيان للسبب : (ذلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ).

وتتحرك الآية التالية من موقع الذم ولتقريع لتؤكّد أنّ هؤلاء لم يعترفوا أبداً بأنّ عليهم مسؤولية اجتماعية ، ولم يكونوا يتناهون عن المنكر ، بل إنّ بعضاً من صلحائهم كانوا بسكوتهم وممالاتهم يشجّعون العصاة عملياً (كَانُوا لَايَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ) لذلك فقد كانت أعمالهم سيئة وقبيحة : (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).

في تفسير العياشي عن الإمام الصّادق عليه‌السلام في قوله : (كَانُوا لَايَتَنَاهَوْنَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) قال : «أمّا أنّهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا يجلسون مجالسهم ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم وآنسوا بهم».

الآية الثالثة تشير إلى معصية اخرى من معاصيهم : (تَرَى كَثِيرًا مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

من البديهي أنّ صداقتهم لأولئك لم تكن صداقة عادية ، بل كانت ممتزجة بأنواع المعاصي ، وكانوا يشجّعون الأعمال والأفكار الخاطئة ، لذلك أدانت الآية في عباراتها الأخيرة الأعمال التي قدّموها ليوم المعاد ، تلك الأعمال التي استوجبت غضب الله وعذابه الدائم : (لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ).

(وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (٨١)

هذه الآية تبيّن لهم طريق النجاة من نهجهم الخاطىء ، وهو أنّهم لو كانوا حقاً يؤمنون

٥٥١

بالله وبرسوله وبما أنزل عليه ، لما عقدوا أواصر الصداقة مع أعداء الله ولا اعتمدوا عليهم أبداً : (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِىّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ).

ولكن الذي يؤسف له هو أنّ الذين يطيعون أوامر الله قلّة ، ومعظمهم خارجون عن نطاق إطاعته وسائرون على طريق الفسق (وَلكِنَّ كَثِيرًا مّنْهُمْ فَاسِقُونَ).

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (٨٦)

سبب النّزول

المهاجرون الاوَل في الإسلام : نزلت في النجاشي ، وأصحابه. قال المفسرون : ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين ، يؤذونهم ويعذّبونهم ، فافتتن من افتتن ، وعصم الله منهم من شاء ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب. فلما رأى رسول الله ما بأصحابه ، ولم يقدر على منعهم ، ولم يؤمر بعد بالجهاد ، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة ، وقال : «إنّ بها ملكاً صالحاً ، لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد ، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله عزوجل للمسلمين فرجاً». وأراد به النجاشي ، واسمه أصحمة وهو بالحبشية عطية.

فخرج إليها سرّاً أحد عشر رجلاً ، وأربع نسوة ... وذلك في رجب ، في السنة الخامس من مبعث رسول الله وهذه هي الهجرة الاولى.

ثم خرج جعفر بن أبي طالب ، وتتابع المسلمون إليها ، وكان جميع من هاجر إلى الحبشة

٥٥٢

من المسلمين ٨٢ رجلاً سوى النساء والصبيان ، فلما علمت قريش بذلك ، وجّهوا عمرو بن العاص وصاحبه عمارة بن الوليد بالهدايا ، إلى النجاشي وإلى بطارقته ليردّوهم إليهم.

فلما ركبوا السفينة شربوا الخمر ... وألقى الله بينهما العداوة في مسيرهما ، قبل أن يقدما إلى النجاشي.

ثم وردا على النجاشي فقال عمرو بن العاص : أيّها الملك! إنّ قوماً خالفونا في ديننا وسبّوا آلهتنا ، وصاروا إليك فردّهم إلينا. ثم قدّما ما حملاه من هدايا إلى النجاشي.

فبعث النجاشي إلى جعفر ، فجاءه ، فقال : يا أيّها الملك سلهم ، أنحن عبيد لهم؟

فقال : لا بل أحرار.

قال : فسلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟

قال : لا ، ما لنا عليكم ديون.

قال : فلكم في أعناقنا دماء تطالبونا بها؟

قال عمرو : لا.

قال : فما تريدون منّا؟ آذيتمونا فخرجنا من دياركم. ثم قال : أيّها الملك! بعث الله فينا نبيّاً أمرنا بخلع الأنداد وترك الإستقسام بالأزلام ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي.

فقال النجاشي : بهذا بعث الله عيسى ، ثم قال النجاشي لجعفر : هل تحفظ مما أنزل الله على نبيّك شيئاً؟ قال : نعم ، فقرأ سورة مريم ، فلمّا بلغ قوله : (وَهُزّى إِلَيْكَ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا). قال : هذا والله هو الحق! فقال عمرو : إنّه مخالف لنا فردّه إلينا.

فرفع النجاشي يده وضرب بها وجه عمرو وقال : اسكت ، والله لئن ذكرته بعد بسوء لأفعلنّ بك. وقال : أرجعوا إلى هذا هديته ، وقال لجعفر وأصحابه : امكثوا فإنّكم سيوم ، والسيوم : آمنون ، وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق ، فانصرف عمرو وأقام المسلمون هناك بخير دار ، وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله وعلا أمره وهادن قريشاً ، وفتح خيبر ، فوافى جعفر إلى رسول الله بجميع من كانوا معه ، فقال رسول الله : «لا أدري أنا بفتح خيبر أسرّ أم بقدوم جعفر».

ووافي جعفر وأصحابه رسول الله في سبعين رجلاً ، منهم إثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام ، فيهم بحيراء الراهب ، فقرأ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سورة «يس» إلى آخرها

٥٥٣

فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى ، فأنزل الله فيهم هذه الآيات.

التّفسير

حقد اليهود ومودّة النصارى : تقارن هذه الآيات بين اليهود والنصارى الذين عاصروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وضعت الآية الاولى اليهود والمشركين في طرف واحد ، والمسيحيين في طرف آخر : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَءَامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى).

يشهد تاريخ الإسلام بجلاء على هذه الحقيقة ، ففي كثير من الحروب التي أثيرت ضد المسلمين كان لليهود ضلع فيها ، بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، ولكنّنا قلّما نجد المسلمين يواجهون المسيحيين في غزواتهم.

ثم يعزوا القرآن هذا الاختلاف في السلوك الفردي والاجتماعي إلى وجود خصائص في المسيحيين المعاصرين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن موجودة في اليهود :

فأوّلاً كان بينهم نفر من العلماء لم يسعوا ـ كما فعل علماء اليهود ـ إلى إخفاء الحقائق (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ) (١).

ثم كان منهم جمع من الزهاد الذين تركوا الدنيا ، وهي النقطة المناقضة لما كان يفعله بخلاء اليهود الجشعين.

وعلى الرغم من كل انحرافاتهم كانوا على مستوى أرفع بكثير من مستوى اليهود : (وَرُهْبَانًا).

وكثير منهم كانوا يخضعون للحق ، ولم يتكبّروا ، في حين كان معظم اليهود يرون أنّهم عنصر أرفع ، فرفضوا قبول الإسلام الذي لم يأت على يد عنصر يهودي : (وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ).

ثم إنّ نفراً منهم كانوا إذا استمعوا لآيات من القرآن تنحدر دموعهم مثل من صحب جعفر من الأحباش لأنّهم يعرفون الحق إذا سمعوه : (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ).

__________________

(١) «القسيس» : تعريب لكلمة سريانية تعني الزعيم والموجّه الديني عند المسيحيين.

٥٥٤

فكانوا ينادون بكل صراحة وشجاعة ، و (يَقُولُونَ رَبَّنَاءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ).

لقد كان تأثّرهم بالآيات القرآنية من الشدة بحيث إنّهم كانوا يقولون : (وَمَا لَنَا لَانُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ).

الآيتان الأخيرتان فيهما إشارة إلى مصير هاتين الطائفتين وإلى عقابهما وثوابهما ، اولئك الذين أظهروا المودة للمؤمنين وخضعوا لآيات الله وأظهروا إيمانهم بكل شجاعة وصراحة : (فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) (١).

وأمّا اولئك الذين ساروا في طريق العداء والعناد فتقول الآية عنهم : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٨٩)

سبب النّزول

لا تتجاوزوا الحدود : في تفسير القمي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين عليه‌السلام وبلال وعثمان بن مظعون ، فأمّا أمير المؤمنين عليه‌السلام فحلف أن لا ينام بالليل أبداً وأمّا بلال فإنّه حلف أن لا يفطر بالنهار أبداً وأمّا عثمان بن مظعون فإنّه حلف أن لا ينكح أبداً فدخلت امرأة عثمان على عائشة وكانت امرأة جميلة ، فقالت عائشة ما لي أراك معطلة فقالت ولمن أتزين فوالله ما قاربني زوجي منذ كذا وكذا فإنّه قد ترهب ولبس

__________________

(١) «أثابهم» : من الثواب وهي في الأصل بمعنى العودة وما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله.

٥٥٥

المسوح وزهد في الدنيا ، فلما دخل رسول الله أخبرته عائشة بذلك فخرج فنادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «ما بال أقوام يحرمون أنفسهم الطيبات ألا إنّي أنام بالليل وأنكح وأفطر بالنهار فمن رغب عن سنتي فليس مني». فقاموا هؤلاء فقالوا : يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك فأنزل الله تعالى عليه (لَايُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ ...) الآية.

التّفسير

القسم وكفارته : في هذه الآية والآيات التالية لها مجموعة من الأحكام الإسلامية المهمة. في الآية الاولى إشارة إلى قيام بعض المسلمين بتحريم بعض النعم الإلهية ، فنهاهم الله عن ذلك قائلاً : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَاتُحَرّمُوا طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ).

فبذكر هذا الحكم يعلن الإسلام صراحة إستنكار الرهبنة وهجر الدنيا كما يفعل المسيحيون والمرتاضون.

ثم لتوكيد هذا الأمر تنهى الآية عن تجاوز الحدود ، لأنّ الله لا يحبّ الذين يفعلون ذلك : (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَايُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

وفي الآية التي تليها نهي آخر للأمر ، إلّاأنّ الآية السابقة كان فيها نهي عن التحريم ، وفي هذه الآية أمر بالإنتفاع المشروع من الهبات الإلهية ، فيقول : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَللاً طَيّبًا).

والشرط الوحيد لذلك هو الإعتدال والتقوى عند التمتع بتلك النعم : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ). أي إنّ إيمانكم بالله يوجب عليكم إحترام أوامره في التمتع وفي الإعتدال والتقوى.

والآية التي بعدها تتناول القسم الذي يقسم به الإنسان في حالة تحريم الحلال وفي غيره من الحالات بشكل عام ، ويمكن القول أنّ القسم نوعان :

فالاولى : هو القسم اللغو ، فيقول : (لَايُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ).

والقسم الثاني : هو القَسَم الجاد الإرادي الذي قرره المرء بوعي منه ، هذا النوع من القسم هو الذي يعاقب عليه الله إذا لم يف به الإنسان : (وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ).

بديهي أنّ الجد وحده في القَسَم لا يكفي لصحته ، بل لابدّ أيضاً من صحة محتواه وأن

٥٥٦

يكون أمراً مباحاً في الأقل ، كما لابدّ من القول بأنّ القسم بغير اسم الله لا قيمة له.

وعليه إذا أقسم إمرؤ بالله ، فيجب عليه أن يعمل بقَسَمه ، فإن لم يفعل ، فعليه كفارة التخلف.

وكفارة القسم هي ما ورد في ذيل الآية المذكورة ، وهي واحدة من ثلاثة :

الاولى : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ). ولكيلا يؤخذ هذا الحكم على إطلاقه بحيث يصار إلى أيّ نوع من الطعام الدنيء والقليل ، فقد جاء بيان نوع الطعام بما لا يقل عن أوسط الطعام الذي يعطى لأفراد العائلة عادة : (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ).

الثانية : (أَوْ كِسْوَتُهُمْ).

من الطبيعي أنّ ذلك يعني الملابس التي تغطّي الجسم حسب العادة ، لذلك لا يستبعد أن تكون الكسوة التي تعطى كفارة تختلف أيضاً باختلاف الفصول والأمكنة والأزمنة.

الثالثة : (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ).

ولكن قد يوجد من لا قدرة له على أيّ منها ، لذلك فإنّه بعد بيان تلك الأحكام يقول سبحانه وتعالى : (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلثَةِ أَيَّامٍ).

ثم يؤكد القول ثانية : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ).

ومع ذلك ، فلكي لا يظن أحد أنّه بدفع الكفارة يجوز للمرء أن يرجع عن قَسَم صحيح أقسمه ، يقول تعالى : (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ).

في ختام الآيات يبين القرآن أنّ هذه الآيات توضّح لكم الأحكام التي تضمن سعادة الفرد والمجتمع وسلامتها لتشكروه على ذلك : (كَذلِكَ يُبَيّنُ اللهُ لَكُمْءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٩٢)

سبب النّزول

في تفسير المنار : في مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي والترمذي أنّ عمر (وكان يكثر

٥٥٧

من الخمر ، كما جاء في تفسير في ظلال القرآن ج ٣ ، ص ٣٣) كان يدعو الله تعالى : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً. فلمّا نزلت الآية (٢١٩) من سورة البقرة : (يَسَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ...) قرأها عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فظل على دعائه وكذلك فلمّا نزلت الآية (٤٣) من سورة النساء : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَاتَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى). فلمّا نزلت آية المائدة دعي فقرأت عليه فلما بلغ قول الله تعالى (فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) قال : انتهينا انتهينا!

التّفسير

مراحل تحريم الخمر وحكمها النهائي : سبق أنّ ذكرنا في ذيل الآية (٤٣) من سورة النساء ، إنّ معاقرة الخمر في الجاهلية وقبيل الإسلام كانت منتشرة إنتشاراً أشبه بالوباء العام ، حتى قيل : أنّ حبّ عرب الجاهلية كان مقصوراً على ثلاثة : الشعر والخمر والغزو.

من الواضح أنّ الإسلام لو أراد أن يحارب هذا البلاء الكبير الشامل بغير أن يأخذ الأوضاع النفسية والاجتماعية بنظر الاعتبار لتعذّر الأمر وشقّ تطبيق التحريم ، لذلك إتخذ أسلوب التحريم التدريجي وإعداد الأفكار والأذهان لإقتلاع هذه الآفة من جذورها ، وهي العادة التي كانت قد تأصّلت في نفوسهم وعروقهم ، ففي أوّل الأمر وردت إشارات في الآيات المكية تستقبح شرب الخمر ، إلّاأنّ تلك العادة الخبيثة ـ عادة معاقرة الخمرة ـ كانت أعمق من أن تستأصل بهذه الإشارات ، عندما هاجر المسلمون إلى المدينة وأسسوا أولى الحكومات الإسلامية ، نزلت آية ثانية ـ هى الآية (٢١٩) من سورة البقرة ـ أشدّ في تحريم الخمر من الاولى.

إنّ تقدّم المسلمين في التعرّف على أحكام الإسلام ، أصبحا سبباً في نزول آية صريحة تماماً في تحريم الخمر حتى سدّت الطريق أمام الذين كانوا يتصيّدون الأعذار والمسوّغات ، وهذه الآية هي موضوع البحث.

وإنّه مما يستلفت النظر أنّ تحريم الخمرة يعبّر عنه في هذه الآية بصوره متنوعة :

١ ـ فالآية تبدأ بمخاطبة المؤمنين : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا). أي إنّ عدم الصدوع بهذا الأمر لا ينسجم مع روح الإيمان.

٢ ـ استعمال «إنّما» التي تعني الحصر والتوكيد.

٣ ـ وضعت الخمر والقمار إلى جانب الأنصاب (وهي قطع أحجار لا صورة لها كانت تتخذ كالأصنام) للدلالة على أنّ الخمر والقمار لا يقلّان ضرراً عن عبادة الأصنام ، ولهذا جاء (في تفسير جامع البيان) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «شارب الخمر كعابد الوثن».

٥٥٨

٤ ـ الخمر والقمار وعبادة الأصنام ، والإستقسام وبالأزلام (ضرب من اليانصيب) كلها قد اعتبرها القرآن رجساً وخبثاً : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلمُ رِجْسٌ).

٥ ـ وهذه الأعمال القبيحة كلها من أعمال الشيطان : (مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطنِ).

٦ ـ وأخيراً يصدر الأمر القاطع الواجب الإتباع : (فَاجْتَنِبُوهُ).

٧ ـ وفي الختام يقول تعالى أنّ ذلك : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). أي لا فلاح لكم بغير ذلك.

٨ ـ وفي الآية التالية لها يعدد بعضاً من أضرار الخمر والقمار ، التي يريد الشيطان أن يوقعها بهم : (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَوةِ).

٩ ـ وفي ختام هذه الآية يتقدّم بإستفهام تقريري : (فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ).

أي بعد كل هذا التوكيد والتوضيح ، ثمّة مكان لخلق المبررات أو للشك والتردد في تجنّب هذين الإثمين الكبيرين؟ لذلك نجد أنّ عمر الذي كان شديد الولع بالخمر والذي كان ـ لهذا السبب ـ لا يرى في الآيات السابقة ما يكفي لمنعه ، قال عندما سمع هذه الآية : إنتهينا ، إنتهينا! لأنّه رأى فيها الكفاية.

١٠ ـ في الآية الثالثة التي تؤكد هذا الحكم ، يأمر المسلمين : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا).

ثم يتوعّد المخالفين بالعقاب ، وأنّ مهمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هي الإبلاغ : (فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلغُ الْمُبِينُ).

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٩٣)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس : لما نزل تحريم الخمر والميسر ، قالت الصحابة : يا رسول الله! ما تقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربون الخمر ، ويأكلون الميسر؟ فأنزل الله هذه الآية.

التّفسير

تجيب هذه الآية الذين يتساءلون عن الماضين قبل نزول آية تحريم الخمر والميسر ، أو

٥٥٩

الذين لم يسمعوا بعد تلك الآية لبعد مناطقهم التي يعيشون فيها ، فتقول : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا). ولكنها تشترط لتلك التقوى والإيمان والعمل الصالح : (إِذَا مَا اتَّقَوا وَّءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). ثم تكرر ذلك : (ثُمَّ اتَّقَوا وَّءَامَنُوا). وللمرّة الثالثة تكرر الآية بقليل من الاختلاف : (ثُمَّ اتَّقَوا وَأَحْسَنُوا). وتنتهي بالتوكيد : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

إنّ المقصود بالتقوى في المرّة الاولى هو ذلك الإحساس الداخلي بالمسؤولية والذي يسوق الإنسان نحو البحث والتدقيق في الدين ومطالعة معجزة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والبحث عن الله ، فتكون نتيجة ذلك الإيمان والعمل الصالح.

وتكرار التقوى للمرّة الثانية إشارة إلى التقوى التي تنفذ إلى أعماق الإنسان فيزداد تأثيرها ، وتكون نتيجتها الإيمان الثابت الوطيد الذي يؤدّي إلى العمل الصالح.

وفي المرحلة الثالثة يدور الكلام على التقوى التي بلغت حدّها الأعلى بحيث إنّها فضلاً عن دفعها إلى القيام بالواجبات ، تدفع إلى الإحسان أيضاً ، أي إلى الأعمال الصالحة التي ليست من الواجبات.

وعليه فإنّ هذه الضروب الثلاثة من التقوى تشير إلى ثلاث مراحل من الإحساس بالمسؤولية وكأنّها تمثّل المرحلة (الابتدائية) والمرحلة (المتوسطة) والمرحلة (النهائية) ، ولكل مرحلة قرينة تدل عليها الآية.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٩٦)

٥٦٠