مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-048-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٥

أبداً ، لأنّ الله يملك كل ما في السماوات وما في الأرض ، فهو بهذا لا يحتاج إلى أي شيء من الآخرين ، تقول الآية في هذا الصدد : (وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ).

وتبيّن الآية في النهاية أنّ أحكام الله وأوامره كلها لمصلحة البشر ، لأنّها نابعة من حكمة الله وعلمه وهي قائمة على أساس تحقيق مصالح الناس ، ومنافعهم الخيّرة ، فتقول الآية : (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).

(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٧١)

اسطورة التثليث الوهمية : تتطرق هذه الآية والآية التي تليها إلى واحد من أهم انحرافات الطائفة المسيحية ، وهذا الانحراف هو اعتقاد المسيحيين بالتثليث ، أي وجود آلهة ثلاثة ويأتي التطرق إلى هذا البحث في سياق البحوث القرآنية التي وردت في الآيات السابقة عن أهل الكتاب والكفار. فهذه الآية تحذر في البداية أهل الكتاب من المغالاة والتطرف في دينهم ، وتدعوهم أن لا يقولوا على الله غير الحق ، حيث تقول : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَاتَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ).

لقد كانت قضية الغلوّ في حق القادة السابقين إحدى أخطر منابع الانحراف في الأديان السماوية ، ولهذا السبب فقد عامل الإسلام الغلاة أو المغالين بعنف وشدّة ، إذ عرفت كتب الفقه والعقائد هذه الفئة من الناس بأنّهم أشد كفراً من الآخرين.

بعد ذلك تشير الآية الكريمة إلى عدة نقاط ، يعتبر كل واحد منها في حدّ ذاته دليلاً على بطلان قضية التثليث وعدم صحة الوهية المسيح عليه‌السلام وهذه النقاط هي :

١ ـ لقد حصرت الآية بنوة السيد المسيح عليه‌السلام بمريم عليها‌السلام : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ). وإشارة البنوة ـ هذه الواردة في ستة عشر مكاناً من القرآن الكريم ـ إنّما تؤكد أنّ المسيح عليه‌السلام هو إنسان كسائر الناس ، خلق في بطن امّه ، ومرّ بدور الجنين في ذلك الرحم ،

٤٨١

وفتح عينيه على الدنيا حين ولد من بطن مريم عليها‌السلام كما يولد أفراد البشر من بطون امهاتهم ومرّ بفترة الرضاعة وتربى في حجر امّه ، ممّا يثبت بأنّه امتلك كل صفات البشر فكيف يمكن ـ وحالة المسيح عليه‌السلام هذه ـ أن يكون إلهاً أزلياً أبدياً ، وهو في وجوده محكوم بالظواهر والقوانين المادية الطبيعية ويتأثر بالتحولات الجارية في عالم الوجود؟!

٢ ـ تؤكد الآية الكريمة أنّ المسيح عليه‌السلام هو رسول الله ومبعوث إلى البشر من قبله سبحانه وتعالى وإنّ هذه المنزلة ـ أي منزلة النبوة ـ لا تتناسب ومقام الألوهية.

٣ ـ تبيّن الآية أنّ عيسى المسيح عليه‌السلام هو كلمة الله التي ألقاها إلى مريم عليها‌السلام حيث تقول : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقهَا إِلَى مَرْيَمَ).

٤ ـ تشير الآية إلى أنّ عيسى المسيح عليه‌السلام هو روح مخلوقة من قبل الله ، حيث تقول : (وَرُوحٌ مِّنْهُ). وهذه العبارة التي وردت في شأن خلق آدم ـ أو بعبارة اخرى خلق البشر أجمعين ـ في القرآن الكريم ، إنّما تدل على عظمة تلك الروح التي خلقها الله تعالى وأودعها في أفراد البشر بصورة عامة ، وفي المسيح عليه‌السلام وسائر الأنبياء بصورة خاصة.

بعد ذلك تؤكد الآية على ضرورة الإيمان بالله الواحد الأحد وبأنبيائه ، ونبذ عقيدة التثليث ، مبشرة المؤمنين بأنّهم إن نبذوا هذه العقيدة فسيكون ذلك خيراً لهم حيث قالت الآية : (فَامِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ).

وتعيد الآية التأكيد على وحدانية الله قائلة : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ وَاحِدٌ). وهي تخاطب المسيحيين لأنّهم حين يدعون التثليث يقبلون ـ أيضاً ـ بوحدانية الله ، فلو كان لله ولد لوجب أن يكون شبيهه ، وهذه حالة تناقض أساس الوحدانية.

فكيف ـ إذن ـ يمكن أن يكون لله ولد ، وهو منزه من نقص الحاجة إلى زوجة أو ولد ، كما هو منزه من نقائص التجسيم وأعراضه. تقول الآية : (سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ). والله هو مالك كل ما في السماوات وما في الأرض والموجودات كلها مخلوقاته وهو خالقها جميعاً ، والمسيح عليه‌السلام ـ أيضاً ـ واحد من خلق الله ، فكيف يمكن الإدعاء بهذا الاستثناء فيه. وهل يمكن المملوك والمخلوق أن يكون ابناً للمالك والخالق ، حيث تؤكد الآية : (لَّهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ). والله هو المدبر والحافظ والرازق والراعي لمخلوقاته ، تقول الآية : (وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً).

والحقيقة هي أنّ الله الأزلي الأبدي الذي يرعى جميع الموجودات منذ الأزل إلى الأبد لا

٤٨٢

يحتاج مطلقاً إلى ولد ، فهل هو كسائر الناس لكي يحتاج إلى ولد يخلفه من بعد الموت.

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً) (١٧٣)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : روي أنّ وفد نجران ، قالوا لنبينا : يا محمّد لِمَ تعيب صاحبنا؟ قال : «ومن صاحبكم»؟ قالوا : عيسى عليه‌السلام. قال : «وأىّ شيء أقول فيه»؟ قالوا : تقول : إنّه عبد الله ورسوله. فنزلت الآية.

التّفسير

المسيح هو عبد الله : على الرغم من أنّ هاتين الآيتين لهما سبب نزول خاص بهما ، إلّا أنّهما جاءتا في سياق الآيات السابقة التي تحدثت في نفي الالوهية عن المسيح عليه‌السلام وعلاقتهما بالآيات السابقة في دحض قضية التثليث واضحة وجلية.

في البداية تشير الآية الاولى إلى دليل آخر لدحض دعوى الوهية المسيح ، فتقول مخاطبة المسيحيين : كيف تعتقدون بالوهية عيسى عليه‌السلام في حين أنّ المسيح لم يستنكف عن عبادة الله والخضوع بالعبودية له سبحانه ، كما لم يستنكف الملائكة المقربون من هذه العبادة. حيث قالت الآية : (لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ).

وبديهي أنّ من يكون عبداً لا يمكن أن يصبح معبوداً في آن واحد.

بعد ذلك تشير الآية إلى أنّ الذين يمتنعون عن عبادة الله والخضوع له بالعبودية ، يكون امتناعهم هذا ناشئاً عن التكبر والأنانية وإنّ الله سيحضر هؤلاء الناس في يوم القيامة ويجازي كل واحد منهم بالعقاب الذي يناسبه ، فتقول الآية : (وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا).

وإنّ الله العزيز القدير سيكافىء في يوم القيامة اولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات

٤٨٣

وقاموا بالأعمال الخيرة ، ويعطيهم ثوابهم كاملاً غير منقوص ويجزل لهم الثواب والنعم ، أمّا الذين تكبروا وامتنعوا عن عبادة الله ، فإنهم سينالون منه عذاباً أليماً شديداً ، ولن يجدوا في يوم القيامة لأنفسهم وليّاً أو حامياً من دون الله ، حيث تقول الآية : (فَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) (١٧٥)

النور المبين : بعد أن تناولت الآيات السابقة بعضاً من انحرافات أهل الكتاب بالنسبة لمبدأ التوحيد ومبادىء وتعاليم الأنبياء ، جاءت الآيتان الأخيرتان لتختما القول في بيان سبيل النجاة والخلاص من تلك الانحرافات. لقد توجّه الخطاب أوّلاً إلى عامة الناس ، مبيناً أنّ الله قد بعث من جانبه نبياً يحمل معه الدلائل والبراهين الواضحة ، وبعث معه النور المبين المتجسد في القرآن الكريم الذي يهدي الناس إلى طريق السعادة الأبدية ، حيث تقول الآية الاولى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا).

والمقصود بالبرهان هو شخص نبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ المقصود بالنور هو القرآن المجيد الذي عبّرت عنه آيات اخرى بالنور أيضاً.

وتوضح الآية الثانية عاقبة اتّباع هذا البرهان وهذا النور ، فتؤكّد على أنّ الذين آمنوا بالله وتمسكوا بهذا الكتاب السماوي ، سيدخلهم الله عاجلاً في رحمته الواسعة ، ويجزل لهم الثواب من فضله ورحمته ، ويهديهم إلى الطريق المستقيم. تقول الآية : (فَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا).

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٧٦)

٤٨٤

سبب النّزول

روي ـ في تفسير مجمع البيان ـ عن جابر بن عبد الله ، أنّه قال : اشتكيت وعندي تسع أخوات لي ـ أو سبع ـ فدخل عليّ النبي فنفخ في وجهي ، فأفقت ، فقلت : يا رسول الله! ألا أوصي لأخواتي بثلثين؟ قال : «أحسن». قلت الشطر. قال : «أحسن». ثم خرج وتركني ، ورجع إليّ ، فقال : «يا جابر! إنّي لا أراك ميتاً من وجعك هذا ، وإنّ الله تعالى قد أنزل في الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين». قالوا : وكان جابر يقول انزلت هذه الآية في.

التّفسير

تبيّن الآية الواردة أعلاه والتي تسمّى ـ أيضاً ـ ب «آية الفرائض» ، كمية الإرث للُاخوة والأخوات ، وقد بيّنا عند تفسير الآية (١٢) من سورة النساء إنّ القرآن اشتمل على آيتين توضحان مسألة الإرث للُاخوة والأخوات وإنّ إحدى هاتين الآيتين هي الآية (١٢) من سورة النساء والثانية هي الآية الأخيرة موضوع بحثنا هذا وهي آخر آية من سورة النساء.

فالآية الاولى تخصّ الاخوة والأخوات غير الأشقاء ، أي الذين هم من ام واحدة وآباء متعددين. أمّا الآية الثانية أي الأخيرة ، فهي تتناول الإرث بالنسبة للأخوة الأشقاء ، أي الذين هم من ام واحدة وأب واحد ، أو من امهات متعددات وأب واحد.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الآية جاءت لتفصل إرث الكلالة أي إرث الأخوة والأخوات فتقول الآية : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَللَةِ). أي يسألونك فخبرهم بأنّ الله هو الذي يعين حكم «الكلالة» (أي الأخوة والأخوات).

بعد ذلك تشير الآية إلى عدد من الأحكام ، وهي :

١ ـ إذا مات رجل ولم يكن له ولد وكانت له أخت واحدة ، فإنّ هذه الاخت ترث نصف ميراثه تقول الآية الكريمة : (إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ).

٢ ـ وإذا ماتت امرأة ولم يكن لها ولد ، وكان لها أخ واحد ـ شقيق من أبيها وحده أو من أبيها وامّها معاً ـ فإنّ أخاها الوحيد يرثها ، تقول الآية : (وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ).

٣ ـ وإذا مات شخص وكانت له أختان فقط ، فإنّهما ترثان ثلثي ما تركه من الميراث ، تقول الآية الكريمة : (فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ).

٤ ـ وإذا كان ورثة الشخص المتوفى عدداً من الاخوة والأخوات أكثر من اثنين ، فإنّ ميراثه يقسم جميعه بينهم ، بحيث تكون حصّة الأخ من الميراث ضعف حصّة الاخت

٤٨٥

الواحدة منه. تقول الآية الكريمة : (وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الْأُنثَيَيْنِ).

وفي الختام تؤكد الآية أنّ الله يبين للناس هذه الحقائق لكي يصونهم من الانحراف والضلالة ، ويدلهم على طريق الصواب والسعادة (وحقيق أن يكون الطريق الذي يرسمه الله للناس ويهديهم إليه هو الطريق الصحيح) والله هو العالم العارف بكلّ شيء ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة : (يُبَيّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمٌ).

إنّ الآية إنّما تبين إرث الأخوة والأخوات في حالة عدم وجود ولد الشخص المتوفى ، ولكن بناء على الآيات الواردة في بداية سورة النساء ـ فإنّ الأب والام يأتون في مصاف الأبناء في الطبقة الاولى من الوارثين ولذلك يتوضح أنّ المقصود من الآية الأخيرة هي حالة عدم وجود أبناء وعدم وجود أبوين للشخص المتوفى.

نهاية تفسير سورة النساء

* * *

٤٨٦

٥

سورة المائدة

محتوى السورة : تشتمل هذه السورة على مجموعة من المعارف والعقائد الإسلامية بالإضافة إلى سلسلة من الأحكام والواجبات الدينية.

وقد وردت في القسم الأول منها الإشارة إلى قضية الخلاف بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقضايا اخرى مثل : عقيدة التثليث المسيحية ومواضيع خاصة بيوم القيامة والحشر واستجواب الأنبياء حول اممهم.

أمّا القسم الثاني فقد اشتمل على قضية الوفاء بالعهود والمواثيق ، وقضايا العدالة الاجتماعية ، والشهادة العادلة ، وتحريم قتل النفس (من خلال ذكر قضية إبني آدم ، وقتل قابيل لأخيه هابيل) بالإضافة إلى بيان أقسام من الأغذية المحرمة والمحللة وأقسام من أحكام الوضوء والتيمم.

أمّا وجه تسمية السورة ب «سورة المائدة» فهو لورود قصة نزول المائدة السماوية على حواري المسيح عليه‌السلام في الآية (١١٤) منها.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) (١)

٤٨٧

الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق : تدل الروايات الإسلامية وأقوال المفسرين على أنّ هذه السورة هي آخر سورة أو من السور الأخيرة التي نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. لقد تمّ التأكيد في هذه السورة ـ لما تمتاز به من موقع خاص ـ على مجموعة من المفاهيم الإسلامية ، وعلى آخر البرامج والمشاريع الدينية ، وقضية قيادة الامّة وخلافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد يكون هذا هو السبب في استهلال سورة المائدة بقضية الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق ، حيث تقول الآية في أوّل جملة لها : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). وذلك لكي تلزم المؤمنين بالوفاء بعهودهم التي عقدوها في الماضي مع الله أو تلك التي أشارت إليها هذه السورة. فإنّ الآية تعتبر دليلاً على وجوب الوفاء بجميع العهود التي تعقد بين أفراد البشر بعضهم مع البعض الآخر ، أو تلك العهود التي تعقد مع الله سبحانه وتعالى عقداً محكماً.

إنّ مفهوم هذه الآية ـ لسعته ـ يشمل حتى تلك العقود والعهود التي يقيمها المسلمون مع غير المسلمين.

وبعد أن تطرقت الآية إلى حكم الوفاء بالعهد والميثاق ـ سواء كان إلهياً أو إنسانياً محضاً ـ أردفت ببيان مجموعة اخرى من الأحكام الإسلامية ، كان الأوّل منها حلية لحوم بعض الحيوانات ، فبيّنت أنّ المواشي واجنّتها تحل لحومهما على المسلمين ، حيث تقول الآية : (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ).

«الأنعام» : صيغة جمع من «نِعم» وتعني الإبل والبقر والأغنام.

«بهيمة» : مشتقة من المصدر «بهمة» وتعني في الأصل الحجر الصلب ، ويقال لكل ما يعسر دركه «مبهماً» وجميع الحيوانات التي لا تمتلك القدرة على النطق تسمى «بهيمة» لأنّ أصواتها تكون مبهمة للبشر ، وقد جرت العادة على إطلاق كلمة «بهيمة» على المواشي من الحيوانات فقط ، فأصبحت لا تشمل الحيوانات الوحشية والطيور.

والظاهر من الآية أنّها تشمل معنىً واسعاً ، أي تبين حلية هذه الحيوانات بالإضافة إلى حلية لحوم أجنتها أيضاً.

ويتبيّن لنا ممّا تقدم أنّ علاقة الجملة الأخيرة وحكمها بالأصل الكلي ـ الذي هو لزوم الوفاء بالعهد ـ هي التأكيد على كون الأحكام الإلهية نوعاً من العهد بين الله وعباده ـ حيث تعتبر حلية لحوم بعض الحيوانات وحرمة لحوم البعض الآخر منها قسماً من تلك الأحكام.

وفي الختام تبين الآية موردين تستثنيهما من حكم حلية لحوم المواشي ، وأحد هذين

٤٨٨

الموردين هو اللحوم التي سيتم بيان حرمتها فيما بعد ، حيث تقول الآية : (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ). والمورد الثاني هو أن يكون الإنسان في حالة إحرام للحج أو العمرة ، حيث يحرم عليه الصيد في هذه الحالة ، فتقول الآية : (غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ).

وفي آخر الآية يأتي التأكيد على أنّ الله إذا أراد شيئاً أو حكماً انجزه أو أصدره ، لأنّه عالم بكل شيء ، وهو مالك الأشياء كلها ، وإذا رأى أنّ صدور حكم تكون فيه مصلحة عباده وتقتضي الحكمة صدوره ، أصدر هذا الحكم وشرعه ، حيث تقول الآية في هذا المجال : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (٢)

ثمانية احكام في آية واحدة : لقد بيّنت هذه الآية عدداً من الأحكام الإلهية الإسلامية المهمة ، وهي من الأحكام الأواخر التي نزلت على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّها أو أغلبها تتعلق بحج بيت الله ، وهي على الوجه التالي :

١ ـ الطلب من المؤمنين بعدم انتهاك شعائر الله ، ونهيهم عن المساس بحرمة هذه الشعائر المقدسة ، كما تقول الآية الكريمة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَاتُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ). والمراد بكلمة «الشعائر» : هي مناسك الحج التي كلّف المسلمون باحترامها كلها.

٢ ـ دعت الآية إلى احترام الأشهر الحرم وهي شهور من السنة القمرية ، كما نهت عن الدخول في حرب في هذه الشهور ، حيث قالت : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ).

٣ ـ حرمت الآية المساس بالقرابين المخصصة للذبح في شعائر الحج سواء ما كان منها ذا علامة وهو المسمّى ب «الهدي» أو تلك الخالية من العاملات والتي تسمّى ب «القلائد» أي نهت عن ذبحها وأكل لحومها حتى تصل إلى محل القربان للحج وتذبح فيه ، فقالت الآية :

٤٨٩

(وَلَا الْهَدْىَ وَلَا الْقَلِدَ) (١).

٤ ـ أوجبت الآية توفير الحرية التامة لحجاج بيت الله الحرام أثناء موسم الحج ، الذي تزول خلاله كل الفوارق القبلية والعرقية واللغوية والطبقية ، ونهت عن مضايقة المتوجهين إلى زيارة بيت الله الحرام ابتغاء لمرضاته ، أو حتى الذين توجهوا إلى هذه الزيارة وهم يحملون معهم أهدافاً اخرى كالتجارة والكسب الحلال لا فرق فيهم بين صديق أو غريم ، فما داموا كلهم مسلمين وقصدهم زيارة بيت الله ، فهم يتمتعون بالحصانة كما تقول الآية الكريمة : (وَلَاءَامّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبّهِمْ وَرِضْوَانًا).

٥ ـ لقد خصصت هذه الآية حكم حرمة الصيد بوقت الإحرام فقط ، وأعلنت أنّ الخروج من حالة الإحرام إيذان بجواز الصيد للمسلمين ـ حيث تقول الآية الكريمة : (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا).

٦ ـ منعت هذه الآية الكريمة المسلمين من مضايقة اولئك النفر من المسلمين الذين كانوا قبل إسلامهم يضايقون المسلمين الأوائل في زيارة بيت الله الحرام ويمنعونهم من أداء مناسك الحج ، وكان هذا في واقعة الحديبية ، فمنع المسلمون من تجديد الأحقاد ومضايقة اولئك النفر في زمن الحج بعد أن أسلموا وقبلوا الإسلام لهم ديناً ، تقول الآية الكريمة : (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا).

٧ ـ تؤكد الآية ـ جرياً على سياق البحث الذي تناولته وبهدف إكماله ـ على أنّ المسلمين بدلاً من أن يتحدوا للإنتقام من خصومهم السابقين الذين أسلموا ـ وأصبحوا بحكم إسلامهم أصدقاء ـ عليهم جميعاً أن يتحدوا في سبيل فعل الخيرات والتزام التقوى ، وأن لا يتعاونوا ـ في سبيل الشر والعدوان تقول الآية : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانَ).

٨ ـ ولكي تعزز الآية الأحكام السابقة وتؤكدها تدعو المسلمين في الختام إلى اتّباع التقوى وتجنّب معصية الله ، محذرة من عذاب الله الشديد ، فتقول : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

__________________

(١) «الهدى» : جمع «هدية» وهو يعني هنا المواشي التي تهدى لتكون قرابين إلى بيت الله الحرام. و «القلائد» : جمع «قلادة» وهي الشيء الذي يوضع حول رقبة الإنسان أو الحيوان ، وتعني هنا المواشي التي تعلم بالقلائد لذبحها في مراسم الحج.

٤٩٠

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣)

لقد تمّت الإشارة في بداية السورة إلى الحلال من لحوم المواشي ، وورد ـ أيضاً ـ أنّ هناك استثناءات تحرم فيها لحوم المواشي ، حيث ذكرتها الآية الأخيرة ـ موضوع البحث ـ في أحد عشر مورداً تكرر ذكر بعضها في آيات قرآنية اخرى على سبيل التأكيد. والمحرمات التي وردت في هذه الآية ، بحسب الترتيب الذي جاءت عليه كما يلي :

أوّلاً : (الْمَيْتَةُ).

ثانياً : (وَالدَّمُ).

ثالثاً : (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ).

رابعاً : الحيوانات التي تذبح باسم الأصنام ، أو باسم غير اسم الله ، كما كان يفعل الجاهليّون : (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ).

خامساً : الحيوانات المخنوقة ، سواء كان الخنق بسبب الفخ الذي تقع فيه أو بواسطة الإنسان أو بنفسها ، وكان الجاهليون يخنقون الحيوانات أحياناً للإنتفاع بلحومها وقد أشارت الآية إلى هذا النوع باسم (الْمُنْخَنِقَةُ).

سادساً : الحيوانات التي تموت نتيجة تعرضها للضرب والتعذيب ، أو التي تموت عن مرض وسمّيت في الآية ب (الْمَوْقُوذَةُ) (١).

سابعاً : الحيوان الذي يموت نتيجة السقوط من مكان مرتفع ، وقد سمي هذا النوع في الآية ب (الْمُتَرَدّيَةُ).

__________________

(١) «الموقوذة» : من مادة «وقذ» يعني المضروبة بعنف حتّى الموت.

٤٩١

ثامناً : الحيوان الذي يموت جراء نطحه من قبل حيوان آخر ، وقد سمت الآية هذا النوع من الحيوانات بـ (النَّطِيحَةُ).

تاسعاً : الحيوان الذي يقتل نتيجة هجوم حيوان متوحش عليه ، وسمي هذا النوع في الآية ب (مَا أَكَلَ السَّبُعُ).

لقد ذكرت الآية شرطاً واحداً لو تحقق لأصبحت لحوم الحيوانات المذكورة حلالاً ، وهذا الشرط هو أن يذبح الحيوان قبل موته وفق الآداب والتقاليد الإسلامية ، ليخرج الدم منه بالقدر الكافي فيحل بذلك لحمه ، ولذلك جاءت عبارة (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) بعد موارد التحريم مباشرة.

عاشراً : كان الوثنيون في العصر الجاهلي ينصبون صخوراً حول الكعبة ليست على أشكال أو هيئات معينة ، وكانوا يسمون هذه الصخور ب «النصب» حيث كانوا يذبحون قرابينهم أمامها ويمسحون الصخور تلك بدم القربان.

والفرق بين النصب والأصنام هو أنّ النصب ليست لها أشكال وصور بخلاف الأصنام ، وقد حرّم الإسلام لحوم القرابين التي كانت تذبح على تلك النصب ، فجاء حكم التحريم في الآية بقوله تعالى : (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ).

وواضح أنّ تحريم هذا النوع من اللحوم إنّما يحمل طابعاً معنوياً وليس مادياً.

أحد عشر : وهناك نوع آخر من اللحوم المحرمة ، وهو اللحوم التي تذبح وتوزع بطريقة القمار ، وتوضيح ذلك هو أنّ عشرة من الأشخاص يتراهنون فيما بينهم فيشترون حيواناً ويذبحونه ، ثم يأتون بعشرة سهام كتب على سبعة منها عبارة «فائز» وعلى الثلاثة الاخرى كتبت عبارة «خاسر» فتوضع في كيس وتسحب واحدة واحدة باسم كل من الأشخاص العشرة على طريقة الإقتراع ، فالأشخاص الذين تخرج النبال السبعة الفائزة بأسمائهم يأخذون قسماً من اللحم دون أن يدفعوا ثمناً لما أخذوه من اللحم ، أمّا الأشخاص الثلاثة الآخرون الذين تخرج النبال الخاسرة بأسمائهم فيتحملون ثمن الحيوان بالتساوي ، فيدفع كل واحد منهم ثلث قيمة الحيوان دون أن يناله شيء من لحمه.

وقد سمى الجاهليون هذه النبال ب «الأزلام» وهي صيغة جمع من «زلم» وقد حرم الإسلام هذا النوع من اللحوم ، لا بمعنى وجود تأصل الحرمة في اللحم ، بل لأنّ الحيوان كان يذبح في عمل هو أشبه بالقمار ، ويجب القول هنا أنّ تحريم القمار وأمثاله لا ينحصر في اللحوم فقط ، بل إنّ القمار محرم في كل شيء وبأيّ صورة كان.

٤٩٢

ولكي تؤكد الآية موضوع التحريم وتشدد على حرمة تلك الأنواع من اللحوم تقول في الختام : (ذلِكُمْ فِسْقٌ).

الإعتدال في تناول اللحوم : إنّ الذي نستنتجه من البحث المار الذكر ومن المصادر الإسلامية الاخرى ، هو أنّ الإسلام اتّبع في قضية تناول اللحوم اسلوباً معتدلاً تمام الإعتدال جرياً على طريقته الخاصّة في أحكامه الاخرى.

ويختلف اسلوبه هذا اختلافاً كبيراً مع ما سار عليه الجاهليون في أكل لحم النصب والميتة والدم وأشباه ذلك ، وما يسير عليه الكثير من الغربيين في الوقت الحاضر في أكل حتى الديدان والسلاحف والضفادع وغيرها.

ويختلف مع الطريقة التي سار عليها الهنود في تحريم كل أنواع اللحوم على أنفسهم.

فقد أباح الإسلام لحوم الحيوانات التي تتغذى على الأشياء الطاهرة التي لا تعافها النفس البشرية ، وألغى الأساليب التي فيها طابع الإفراط أو التفريط.

وقد عيّن الإسلام شروطاً أبان من خلالها أنواع اللحوم التي يحلّ للإنسان الإستفادة منها.

بعد أنّ بيّنت الآية الأحكام التي مرّ ذكرها أوردت جملتين تحتويان معنى عميقاً ، الاولى منهما تقول : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ).

والثانية هي : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلمَ دِينًا).

متى أكمل الله الدين للمسلمين؟ إنّ أهمّ بحث تطرحه هاتان الفقرتان القرآنيتان يتركز في كنهه وحقيقته كلمة «اليوم» الواردة فيهما.

إنّ ما ذكره جميع مفسّري الشيعة في تفاسيرهم وأيدوه كما دعمته روايات كثيرة ، وهذا الاحتمال يتناسب تماماً مع محتوى الآية حيث يعتبر «يوم عذير خم» أي اليوم الذي نصب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً أمير المؤمنين عليه‌السلام بصورة رسمية وعلنية خليفة له ، حيث غشى الكفار في هذا اليوم سيل من اليأس ، وقد كانوا يتوهمون أنّ دين الإسلام سينتهي بوفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ الأوضاع ستعود إلى سابق عهد الجاهلية ، لكنهم حين شاهدوا أنّ النبي أوصى بالخلافة بعده لرجل كان فريداً بين المسلمين في علمه وتقواه وقوته وعدالته ، وهو علي بن أبي طالب عليه‌السلام ورأوا النبي وهو يأخذ البيعة لعليّ عليه‌السلام أحاط بهم اليأس من كل جانب وفقدوا الأمل فيما توقعوه من شرّ لمستقبل الإسلام وأدركوا أنّ هذا الدين باق راسخ.

٤٩٣

ففي يوم غدير خم أصبح الدين كاملاً ، إذ لو لم يتمّ تعيين خليفة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولو لم يتمّ تعيين وضع مستقبل الامة الإسلامية ، لم تكن لتكتمل الشريعة بدون ذلك ولم يكن ليكتمل الدين.

وقد وردت في الآية (٥٥) من سورة النور نقطة مهمة جديرة بالإنتباه ـ فالآية تقول : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَءَامَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا).

والله سبحانه وتعالى يقطع في هذه الآية وعداً على نفسه بأن يرسخ دعائم الدين ، الذي ارتضاه للمؤمنين في الأرض.

ولمّا كان نزول سورة النور قبل نزول سورة المائدة ، ونظراً إلى جملة (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلمَ دِينًا) الواردة في الآية الأخيرة ـ موضوع البحث ـ والتي نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه‌السلام لذلك كلّه نستنتج أنّ حكم الإسلام يتعزز ويترسخ في الأرض إذا اقترن بالولاية ، لأنّ الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله ووعد بترسيخ دعائمه وتعزيزه ، وبعبارة أوضح أنّ الإسلام إذا اريد له أن يعم العالم كله يجب عدم فصله عن ولاية أهل البيت عليهم‌السلام.

أمّا الأمر الثاني الذي نستنتجه من ضمن الآية الواردة في سورة النور إلى الآية التي هي موضوع بحثنا الآن ، فهو أنّ الآية الاولى قد أعطت للمؤمنين وعودا ثلاثة :

أوّلها : الخلافة على الأرض.

والثاني : تحقق الأمن والإستقرار لكي تكون العبادة لله وحده.

والثالث : استقرار الدين الذي يرضاه الله في الأرض.

ولقد تحققت هذه الوعود الثلاثة في «يوم غدير خم» بنزول آية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فمثال الإنسان المؤمن الصالح هو علي عليه‌السلام الذي نصب وصيّاً للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ودلّت عبارة (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ) على أنّ الأمن قد تحقق بصورة نسبية لدى المؤمنين ، كما بيّنت عبارة : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلمَ دِينًا) إنّ الله قد اختار الدين الذي يرتضيه ، وأقرّه بين عباده المسلمين.

لقد أعادت الآية ـ في نهايتها ـ الكرة في التحدث عن اللحوم المحرمة فبيّنت حكم الاضطرار في حالة المعاناة من الجوع إذ أجازت تناول اللحم المحرم بشرط أن لا يكون هدف الشخص ارتكاب المعصية من تناول ذلك ، مشيرة إلى غفران الله ورحمته في عدم

٤٩٤

إلجاء عباده عند الاضطرار إلى تحمل المعاناة والمشقة ، وعدم معاقبتهم في مثل هذه الحالات. قالت الآية الكريمة : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). والمراد بالمخمصة هنا الجوع الشديد الذي يؤدّي إلى انخماص البطن ، سواء كان بسبب حالة المجاعة العامّة ، أو كان ناتجاً عن الحرمان الخاص.

(يَسْأَلُونَكَ مَا ذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (٤)

سبب النّزول

في تفسير القرطبي : نزلت بسبب عديّ بن حاتم وزيد بن مهلهل وهو زيد الخيل الذي سمّاه رسول الله زيد الخير ؛ قالا : يا رسول الله! إنّا قوم نصيد بالكلاب والبُزاة وإنّ الكلاب تأخذ البقر والحُمُر والظّباء فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما تقتله فلا نُدرك ذكاته ، وقد حرّم الله الميتة فماذا يَحلّ لنا؟ فنزلت الآية.

التّفسير

الحلال من الصيد : أعقبت الآية الأخيرة آيتين سبق وأن تناولتا أحكاماً عن الحلال والحرام عن اللحوم وقد بيّنت هذه الآية نوعاً آخر من اللحوم أو الحيوانات التي يحل للإنسان تناولها وجاءت على صيغة جواب لسؤال ذكرته الآية نفسها بقولها : (يَسَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ).

فتأمر الآية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أوّلاً ـ بأن يخبرهم إنّ كل ما كان طيباً وطاهراً فهو حلال لهم ، حيث تقول : (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ) دالة على أنّ كل ما حرمه الإسلام يعتبر من الخبائث غير الطاهرة ، وإنّ القوانين الإلهية لا تحرم ـ مطلقاً ـ الموجودات الطاهرة التي خلقها الله لينتفع بها البشر.

ثم تبيّن الآية أنواع الصيد الحلال ، فتشير إلى الصيد الذي تجلبه أو تصيده الحيوانات المدربة على الصيد ، فتؤكد بأنّه حلال ، بقولها : (وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ).

٤٩٥

«جوارح» : مشتقة من المصدر «جرح» الذي يعني أحياناً «الكسب» وتارة يعني «الجرح» الذي يصاب به البدن ولذلك يطلق على الحيوانات المدرّبة على الصيد ، سواء كانت من الطيور أو من غيرها ، اسم «جارحة» وجمعها «جوارح» أي الحيوان الذي يجرح صيده ، أو بالمعنى الآخر الحيوان الذي يكسب لصاحبه.

وبديهي أنّ الصيد الذي تجلبه حيوانات مدرّبة اخرى ، يعتبر حلالاً في حالة جلبه حيّاً وذبحه وفق الطريقة الشرعية.

وبديهي أنّ الحيوان الذي تصيده كلاب الصيد ، يجب أن يذبح وفق الطريقة الشرعية إن جلب حيّاً ، وإن مات الحيوان قبل دركه فلحمه حلال وإن لم يذبح.

وأخيراً أشارت الآية الكريمة إلى شرطين آخرين من شروط تحليل مثل هذا النوع من الصيد :

أوّلهما : أن لا يأكل كلب الصيد من صيده شيئاً ، حيث قالت الآية : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ). وعلى هذا الأساس فإنّ الكلاب لو أكلت من الصيد شيئاً قبل إيصاله إلى صاحبها ، وتركت قسماً آخر منه ، فلا يحل لحم مثل هذا الصيد ومثل هذا الكلب الذي يأكل الصيد لا يعتبر كلباً مدرباً ، كما لا يعتبر ما تركه من الصيد مصداقاً لعبارة (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) لأنّه في هذه الحالة يكون (أي الكلب) قد صاد لنفسه.

والأمر الثاني : هو ضرورة ذكر اسم الله على الصيد بعد أن يتركه الكلب ، حيث قالت الآية : (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ).

ولكي تضمن الآية رعاية الأحكام الإلهية ـ هذه ـ كلها ، أكّدت في الختام قائلة : «وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ). داعية إلى الخوف من الله العزيز القدير ومن حسابه السريع.

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (٥)

٤٩٦

حكم طعام أهل الكتاب وحكم الزواج معهم : تناولت هذه الآية ، التي جاءت مكملة للآيات السابقة ، نوعاً آخر من الغذاء الحلال ، فبيّنت أنّ كل غذاء طاهر حلال ، وإنّ غذاء أهل الكتاب حلال للمسلمين ، وغذاء المسلمين حلال لأهل الكتاب ، وحيث قالت الآية : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ).

والمقصود ب «طعام أهل الكتاب» هو غير اللحوم المذبوحة بأيدي أهل الكتاب. فقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال في هذه الآية : «عني بطعامهم الحبوب والفاكهة غير الذبائح التي يذبحونها ، فإنّهم لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم».

حكم الزواج بغير المسلمات : بعد أن بيّنت هذه الآية حلية طعام أهل الكتاب تحدثت عن الزواج بالنساء المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب ، فقالت بأنّ المسلمين يستطيعون الزواج بالنساء المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب ، شرط أن يدفعوا لهن مهورهن ، حيث تقول الآية : (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَاءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ). على أن يكون التواصل بوسيلة الزّواج المشروع وليس عن طريق الزنا الصريح ، ولا عن طريق المعاشرة الخفية ، حيث تقول الآية : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ).

وهذا الجزء من الآية الكريمة يقلل الحدود التي كانت مفروضة على الزواج بين المسلمين وغيرهم ، ويبيّن جواز زواج المسلم بالمرأة الكتابية ضمن شروط خاصة.

ولا يخفى علينا ما شاع في عالم اليوم من تقاليد الجاهلية بصورة مختلفة ، ومن ذلك إنتخاب الرجل أو المرأة خليلاً من الجنس الآخر وبصورة علنية ، وقد تمادى إنسان عالم اليوم أكثر من نظيره الجاهلي في التحلل والخلاعة والمجون الجنسي ، ففي حين كان الإنسان الجاهلي ينتخب الأَخلاء سرّاً وفي الخفاء ، أصبح إنسان اليوم لا يرى بأساً من إعلان هذا الأمر والتباهي به بكل صلف ووقاحة ، ويعتبر هذا التقليد المشين نوعاً صريحاً ومفضوحاً من الفحشاء وهدية مشؤومة انتقلت من الغرب إلى الشرق وأصبحت مصدراً للكثير من النكبات والكوارث.

ولكي تسد الآية طريق إساءة استغلال موضوع التقارب والمعاشرة مع أهل الكتاب والزواج من المرأة الكتابية على البعض من ضعاف النفوس ، وتحول دون الانحراف إلى هذا

٤٩٧

الأمر بعلم أو بدون علم ، حذّرت المسلمين في جزئها الأخير فقالت :(وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الْأَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

وهذه إشارة إلى أنّ التسهيلات الواردة في الآية بالإضافة إلى كونها تؤدّي إلى السعة ورفع الحرج عن حياة المسلمين ، يجب أن تكون ـ أيضاً ـ سبباً لتغلغل الإسلام إلى نفوس الأجانب ، لا أن يقع المسلمون تحت نفوذ وتأثير الغير فيتركوا دينهم ، وحيث سيؤدّي بهم هذا الأمر إلى نيل العقاب الإلهي الصارم الشديد.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٦)

تطهير الجسم والروح : لقد تناولت الآيات السابقة بحوثاً متعددة عن الطيبات الجسمانية والنعم المادية ، أمّا الآية الأخيرة فهي تتحدث عن الطيبات الروحية وما يكون سبباً لطهارة الروح والنفس الإنسانية ، فقد بيّنت هذه الآية أحكاماً مثل الوضوء والغسل والتيمم ، التي تكون سبباً في صفاء وطهارة الروح الإنسانية ـ فخاطبت المؤمنين في البداية موضحة أحكام الوضوء بقولها : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).

وقد شرحت الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام اسلوب الغسل وفق سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو غسل اليدين من المرفق حتى أطراف الأصابع.

بعد ذلك كله بيّنت الآية حكم الغسل عن جنابة حيث قالت : (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا). والواضح أنّ المراد من جملة «فاطّهروا» هو غسل جميع الجسم ، لأنّه لو كان المراد جزءاً خاصاً منه لأقتضى ذكر ذلك الجزء.

٤٩٨

إنّ كلمة «جُنُباً» ـ وكما أوضحنا لدى تفسير الآية (٤٣) من سورة النساء ـ تعني في الأصل «المتباعد» أو «البعيد» وسبب إطلاق هذا اللفظ على الإنسان المجنب لأنّ هذا الإنسان يجب عليه أن يبتعد عن الصلاة والتوقف في المساجد وأمثالها.

ويمكن أن يستدل من الآية التي تدعو المجنب إلى الإغتسال قبل الصلاة على أنّ غسل الجنابة يجزيء ، وينوب عن الوضوء أيضاً.

ومن ثم بادرت الآية إلى بيان حكم التيمم حيث قالت : (وَإِن كُنتُم مَّرضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيّبًا).

لقد بيّنت الآية ـ بعد ذلك ـ اسلوب التيمم بصورة إجمالية فقالت : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ).

وقد أوضحت الآية ـ في آخرها ـ أنّ الأوامر الإلهية ليس فيها ما يحرج الإنسان أو يوجد العسر له ، بل إنّها أوامر شرعت لتحقق فوائد ومنافع معينة للناس ، فقالت الآية (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

وتؤكد هذه العبارات القرآنية الأخيرة أنّ جميع الأحكام والأوامر الشرعية الإلهية والضوابط الإسلامية هي لمصلحة الناس ولحماية منافعهم ، وليس فيها أيّ هدف آخر ، وإنّ الله يريد بالأحكام الأخيرة الواردة في الآية ـ موضوع البحث ـ أن يحقق للإنسان طهارته الجسمانية والروحية معاً.

إنّ جملة (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ) تبيّن قانوناً عامّاً معناه أنّ أحكام الله ليست تكاليف شاقّة أبداً ، ولو كان في أيّ حكم شرعي العسر والحرج لأي فرد لسقط التكليف عن هذا الفرد بناء على الاستثناء الوارد في الجملة القرآنية الأخيرة من الآية موضوع البحث ، ولهذا لو كان الصوم يشكل مشقة وعناء على أيّ فرد بسبب مرض أو شيخوخة أمّا ما شابه ذلك ، لسقط أداؤه عن هذا الفرد وارتفع التكليف عنه ، بناء على هذا الدليل نفسه.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (٧)

٤٩٩

العهود الربانية : تناولت الآية السابقة مجموعة من الأحكام الإسلامية بالإضافة إلى موضوع إكمال النعمة الإلهية على المسلمين ، وجاءت الآية الأخيرة لتكمل السياق الموضوعي لما سبق من آيات ، فاستقطبت انتباه المسلمين إلى أهمية وعظمة النعم الإلهية التي أعظمها وأهمّها نعمة الإيمان والهداية والإسلام ، تقول الآية : (وَاذْكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ). فأيّ نعمة أعظم من أن ينال الإنسان ـ في ظل الإسلام ـ كل الهبات الإلهية والمفاخر والإمكانيات الدنيوية ، بعد أن كان الناس يعانون في الجاهلية من التشتت والجهل والضلال ويسود بينهم قانون الغاب ، وكان الفساد والظلم يعم مجتمعهم آنذاك ، وقد تحولوا بفضل الإسلام إلى مجتمع يسوده الإتحاد والتماسك والعلم ، ويرفل بالنعم والإمكانيات المادية والمعنوية الزّاخرة.

بعد هذا تعيد الآية إلى الأذهان ذلك العهد الذي بين البشر وبين الله ، فتقول : (وَمِيثَاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا).

والمراد بلفظة «العهد» في هذه الآية إشارة إلى جميع العهود والمواثيق التكوينية والتشريعية التي أخذها الله أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من المسلمين بمقتضى فطرتهم في مراحل مختلفة.

وفي النهاية تؤكد الآية على ضرورة التزام التقوى ، محذّرة أنّ الله محيط بأسرار البشر ، وعالم بما يختلج في صدورهم ، بقولها : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (١٠)

دعوة مؤكّدة إلى العدالة : إنّ الآية الاولى من الآيات الثلاث أعلاه تدعو إلى تحقيق العدالة ، وهي شبيهة بتلك الدعوة الواردة في الآية (١٣٥) من سورة النساء ، التي مضى ذكرها مع اختلاف طفيف ، فتخاطب هذه الآية أوّلاً المؤمنين قائلة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ).

ثم تشير إلى أحد أسباب الانحراف عن العدالة وتحذّر المسلمين من هذا الانحراف مؤكّدة

٥٠٠