مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-048-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٥

وحبسه. وتطلق على الحمل الثقيل الذي يمنع المرء من الحركة.

وفي هذا المقطع من الآية يطلب المؤمنون من الله تعالى طلبين : الأوّل أن يرفع عنهم الفروض الثقيلة التي قد تمنع الإنسان من إطاعة الله ، وهذا هو ما ورد (في الكافي) على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بشأن التعاليم الإسلامية ، إذ قال : «بعثني (الله تعالى) بالحنيفيّة السّهلة السّمحة».

وفي الطلب الثاني يريدون منه أن يعفيهم من الإمتحانات الصعبة والعقوبات التي لا تطاق (وَلَا تُحَمّلْنَا مَا لَاطَاقَةَ لَنَا بِهِ).

إنّ المؤمنين طلبوا من الله أن يزيل الآثار التكوينية والطبيعية لزللهم عن أرواحهم ونفوسهم. وفي المرحلة الثالثة يطلبون «رحمته الواسعة» التي تشمل كل شيء.

(أَنتَ مَوْلنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).

وفي آخر دعواهم يخاطبون الله على أنّه مولاهم الذي يتعهّدهم بالرعاية والتربية ويطلبون منه أنّ يمنحهم الفوز والانتصار على الأعداء.

نهاية تفسير سورة البقرة

* * *

٢٤١
٢٤٢

٣

سورة آل عمران

محتوى السورة :

١ ـ إنّ قسماً مهمّاً من هذه السورة يرتبط بمسألة التوحيد وصفات الله والمعاد والمعارف الإسلامية الاخرى.

٢ ـ وقسم آخر منها يتعلق بمسألة الجهاد وأحكامه المهمة والدقيقة ، وكذلك الدروس المستفادة من غزوتي بدر واحد.

٣ ـ وفي قسم من هذه السورة يدور الحديث حول سلسلة من الأحكام الإسلامية في ضرورة وحدة صفوف المسلمين وفريضة الحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتولي والتبري ومسألة الأمانة والإنفاق في سبيل الله وترك الكذب وضرورة الاستقامة والصبر في مقابل الأعداء والمشكلات والامتحانات الإلهية المختلفة وذكر الله على كل حال.

٤ ـ وتطرّقت هذه السورة إلى تكملة للأبحاث التي تتحدث عن تاريخ الأنبياء عليهم‌السلام وقصة مريم وكرامتها ومنزلتها عند الله وكذلك المؤامرات التي كان يحوكها أتباع الديانة اليهودية والمسيحية ضدّ الإسلام والمسلمين.

فضيلة تلاوة هذه السورة : روى في تفسير مجمع البيان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من قرأ سورة آل عمران اعطى بكلّ آية منها أماناً على جِسر جهنّم».

٢٤٣

وفي تفسير نور الثقلين عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من قرأ البقرة وآل عمران جائا يوم القيامة يظلّانه على رأسه مثل الغمامتين أو مثل الغيابتين».

بسم الله الرحمن الرحيم

(الم (١) اللهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (٤)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : نزلت أوائل السورة إلى نيف وثمانين آية في وفد نجران (١) ، وكانوا ستين راكباً ، قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم : العاقب أمير القوم ، وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلّاعن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم ، وصاحب رحلهم ، واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم. وكان قد شرف فيهم ، ودرس كتبهم ، وكانت ملوك الروم قد شرّفوه ومَوّلوه وبنو له الكنائس ، لعلمه واجتهاده.

فقدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة ودخلوا مسجده حين صلّى العصر ، عليهم ثياب الحِبَرات ، جُبَبٌ وأردية في جمال رجال بَلحَرِث بن كعب ، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما رأينا وفداً مثلهم وقد حانت صلاتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس وقاموا فصلّوا في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت الصحابة : يا رسول الله! هذا في مسجدك؟ فقال رسول الله : «دعوهم فصلوا إلى المشرق». فتكلم السيد والعاقب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «أسلما». قالا : قد أسلمنا قبلك. قال : «كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً ، وعبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير». قالا : إن لم يكن ولد الله فمن أبوه؟ وخاصموه جميعاً في عيسى. فقال لهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألستم تعلمون أنّه لا يكون ولد إلّا ويشبه أباه»؟ قالوا : بلى. قال : «ألستم تعلمون أنّ ربّنا حيّ لا يموت ، وأنّ عيسى يأتي عليه

__________________

(١) «نجران» : منطقة في جبال اليمن الشمالية على بعد نحو عشرة منازل من صنعاء ، وتسكنها قبائل همدان التي كان لها في الجاهلية صنم باسم «يعوق».

٢٤٤

الفناء»؟ قالوا : بلى. قال : «ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كل شيء ويحفظه ويرزقه»؟ قالوا : بلى. قال : «فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً»؟ قالوا : لا. قال : «ألستم تعلمون أنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء»؟ قالوا : بلى. قال : «فهل يعلم عيسى من ذلك إلّاما علم»؟ قالوا : لا. قال : «فإنّ ربّنا صَوّر عيسى في الرحم كيف شاء وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يُحدث». قالوا : بلى. قال : «ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته امّه كما تحمل المرأة ، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثم غُذِي كما يُغذى الصبي ، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث»؟ قالوا : بلى. قال : «فكيف يكون هذا كما زعمتم»؟ فسكتوا ، فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.

التّفسير

فيما يتعلق بالحروف المقطعة في القرآن ، سبق الحديث عنها في بداية سورة البقرة فلا موجب لتكرار ذلك. في الآية الثانية يقول تعالى : (اللهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ).

سبق أنّ شرحنا هذه الآية في الآية (٢٥٥) من سورة البقرة.

الآية التي تليها تخاطب نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقول : إنّ الله تعالى قد أنزل عليك القرآن الذي فيه دلائل الحق والحقيقة ، وهو يتطابق تماماً مع ما جاء به الأنبياء والكتب السابقة (التوراة والإنجيل) التي بشّرت به وقد أنزلها الله تعالى أيضاً لهداية البشر : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَيةَ وَالْإِنجِيلَ) (١).

ثم تضيف الآية : (مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ).

وبعد إتمام الحجة بنزول الآيات الكريمة من الله تعالى وشهادة الفطرة والعقل على صدق دعوة الأنبياء ، فلا سبيل للمخالفين سوى العقوبة ، ولذلك تقول الآية محل البحث بعد ذكر حقانية الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن المجيد : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ).

ومن أجل أن لا يتوهّم أحد أو يشك في قدرة الله تعالى على تنفيذ تهديداته تضيف الآية : (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ).

«عزيز» : في اللغة بمعنى كل شيء صعب وغير قابل للنفوذ ، ولذلك يقال للأرض الصعبة العبور (عزاز) وكذلك يطلق على كل أمر يصعب الحصول عليه لقلّته وندرته (عزيز) وكذلك تطلق هذه الكلمة على الشخص القوي والمقتدر الذي يصعب التغلّب عليه أو

__________________

(١) «الحق» : هو الموضوع الثابت المكين الذي لا باطل فيه.

٢٤٥

يستحيل التغلّب عليه ، وكلما أطلقت كلمة (عزيز) على الله تعالى يراد بها هذا المعنى ، أي أنّه لا أحد يقدر على التغلّب عليه ، وأنّ كل المخلوقات خاضعة لمشيئته وإرادته.

(إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦)

علم الله وقدرته المطلقة : هاتان الآيتان تكمّلان الآيات السابقة. في البداية تقول الآية الشريفة : (إِنَّ اللهَ لَايَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ).

فكيف يمكن أن يختفي عن أنظاره شيء من الأشياء في حين أنّه حاضر وناظر في كل مكان ، فلا يخلو منه مكان؟! وبما أنّ وجوده غيرمحدود ، فلا يخلو منه مكان معين ، ولهذا فهو أقرب إلينا من كل شيء حتى من أنفسنا ، وفي نفس الوقت الذي يتنزّه فيه الله تعالى عن المكان والمحل ، فإنّه محيط بكلّ شيء.

ثم تبين الآية التالية واحدة من علم وقدرة الله تعالى الرائعة ، بل هي إحدى روائع عالم الخلقة ومظهر بارز لعلم الله وقدرته المطلقة حيث تقول الآية : (هُوَ الَّذِى يُصَوّرُكُمْ فِى الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ). ثم تضيف : (لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

إنّه لأمر عجيب ومحيّر حقّاً أن يصوّر الله الإنسان وهو في رحم امّه صوراً جميلة ومتنوعة في أشكالها ومواهبها وصفاتها وغرائزها.

وهذه الآية تؤكد أنّ المعبود الحقيقي ليس سوى الله القادر الحكيم الذي يستحق العبادة ، فلماذا إذن يختارون مخلوقات كالمسيح عليه‌السلام ويعبدونها؟!

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (٧)

سبب النّزول

جاء في تفسير نور الثقلين نقلاً عن كتاب «معاني الأخبار» حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام ما مضمونه : أنّ نفراً من اليهود ومعهم «حيي بن أخطب» وأخوه ، جاءوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

٢٤٦

واحتجّوا بالحروف المقطعة «الم» وقالوا : بموجب حساب الحروف الأبجدية ، فإنّ الألف في الحساب الأبجدي تساوي الواحد ، واللّام تساوي ٣٠ ، والميم تساوي ٤٠ ، وبهذه فإنّ فترة بقاء امّتك لا تزيد على إحدى وسبعين سنة! ومن أجل أن يلجمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تساءل وقال ما معناه : لماذا حسبتم «ألم» وحدها؟ ألم تروا أنّ في القرآن «المص» و «الر» ونظائرها من الحروف المقطعة ، فإذا كانت هذه الحروف تدلّ على مدة بقاء امتي ، فلماذا لا تحسبونها كلها؟ (مع أنّ القصد من هذه الحروف أمر آخر) وعندئذ نزلت هذه الآية.

التّفسير

المحكم والمتشابه في القرآن : تقدم في الآيات السابقة الحديث عن نزول القرآن بعنوان أحد الدلائل الواضحة والمعجزات البيّنة لنبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ففي هذه الآية تذكر أحد مختصّات القرآن وكيفية بيان هذا الكتاب السماوي العظيم للمواضيع والمطالب فيقول في البداية : (هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ). أي : آيات صريحة وواضحة والتي تعتبر الأساس والأصل لهذا الكتاب السماوي (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ). ثم إنّ هناك آيات اخرى غامضة بسبب علوّ مفاهيمها وعمق معارفها أو لجهات اخرى (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ).

هذه الآيات المتشابهة إنّما ذكرت لاختبار العلماء الحقيقيين وتميزهم عن الأشخاص المعاندين اللجوجين الذين يطلبون الفتنة ، فلذلك تضيف الآية : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) (١). فيفسّرون هذه الآيات المتشابهة وفقاً لأهواءهم كيما يضلّوا الناس ويشبّهوا عليهم.

(وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ).

ثم تضيف الآية : أنّ هؤلاء أي الراسخون في العلم بسبب دركهم الصحيح لمعنى المحكمات والمتشابهات (يَقُولُونَءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبّنَا). أجل (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ).

من هذه الآية نستنتج أنّ آيات القرآن قسمان : قسم معانيها واضحة جدّاً بحيث لا يمكن إنكارها ولا إساءة تأويلها وتفسيرها ، وهذه هي الآيات «المحكمات» وقسم آخر مواضيعها رفيعة المستوى ، أو أنّها تدور حول عوالم بعيدة عن متناول أيدينا ، كعلم الغيب ، وعالم يوم القيامة ، وصفات الله ، بحيث إنّ معرفة معانيها النهائية وإدراك كنه أسرارها

__________________

(١) «زيغ» : في الأصل بمعنى الانحراف عن الخط المستقيم والتمايل إلى جهة ، والزيغ في القلب بمعنى الانحراف العقائدي عن صراط المستقيم.

٢٤٧

يستلزم مستوىً عالياً من العلم ، وهذه هي الآيات «المتشابهات».

المنحرفون والشواذ من الناس يسعون لاستخدام إبهام هذه الآيات لتفسيرها بحسب أهوائهم وبخلاف الحق ، لكي يثيروا الفتنة بين الناس ويضلّوهم عن الطريق المستقيم ، بيدَ أنّ الله والراسخين في العلم يعرفون أسرار هذه الآيات ويشرحونها للناس.

(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (٩)

النجاة من الزيغ : بالنظر لاحتمال أن تكون الآيات المتشابهات وأسرارها موضع زلل الناس ، فإنّ الراسخين في العلم المؤمنين يلجأون إلى ربّهم إضافة إلى استعمال رأسمالهم العلمي في إدراك حقيقة الآيات. وهذا ما تبيّنه هاتان الآيتان على لسان الراسخين في العلم ، وتقولان إنّ الراسخين في العلم والمفكّرين من ذوي البصيرة لا يفتأون يراقبون أرواحهم وقلوبهم لئلّا ينحرفوا نحو الطرق الملتوية ، فيطلبون لذلك العون من الله ، فالغرور العلمي يخرج بعض العلماء عن مسيرهم إلى متاهات الضلال ، لأنّهم لا يلتفتون إلى عظمة الخلق والخالق وتفاهة ما عندهم من علم ، فيحرمون من هداية الله ، أمّا العلماء المؤمنون فيقولون : (رَبَّنَا لَاتُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ).

وليس أشدّ تأثيراً في السيطرة على الميول والأفكار من الاعتقاد بيوم القيامة والمعاد ، إنّ الراسخين في العلم يصحّحون أفكارهم عن طريق الإعتقاد بالمبدأ والمعاد ، ويحولون دون التأثّر بالميول والأحاسيس المتطرّفة التي تؤدّي إلى الزلل ، ونتيجة لذلك يستقيمون على الصراط المستقيم بأفكار سليمة ودون عائق ، نعم هؤلاء هم القادرون على الاستفادة من آيات الله كل الاستفادة. (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّارَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لَايُخْلِفُ الْمِيعَادَ).

في الحقيقة تشير الآية الاولى إلى إيمان هؤلاء الكامل «بالمبدأ» ، وتشير الآية الثانية إلى إيمانهم الراسخ «بالمعاد».

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (١١)

٢٤٨

بعد بيان مواقف الكفار والمنافقين والمؤمنين من الآيات «المحكمات» و «المتشابهات» في الآيات السابقة ، تقول هذه الآية : إذا كان الكفار المعاندون يحسبون أنّهم بثرواتهم وأبنائهم قادرون على الدفاع عن أنفسهم في الآخرة فهم على خطأ كبير ، فهذه الوسائل قد يكون لها تأثيرها المؤقت في هذه الدنيا ، ولكنها عند الله لن يكون لها أي تأثير ، لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة ، لذلك ينبغي ألّا يغترّ الإنسان بهذه الامور فتحمله على إرتكاب الإثم ، وإلّا فإنّه يصلى ناراً سيكون هو حطبها. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلدُهُم مّنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ).

يفيد هذا التعبير أنّ نار الجحيم مستعرة بوجود المذنبين ، وهؤلاء المذنبون هم الذين يديمون أوارها ولهيبها.

ثم تشير الآية إلى نموذج من الامم السالفة التي كانت قد اوتيت الثروة الإنسانية والمادية الكثيرة ، ولم تستطيع هذه الثروة أن تكون مانع من هلاكهم. (كَدَأْبِءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

هذا في الواقع إنذار للكافرين المعاندين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لكي يعتبروا بمصير الفراعنة والأقوام السالفة ، ويصحّحوا أعمالهم.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (١٢)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : نزلت في اليهود لما قتل الكفار ببدر وهزموا ، قالت اليهود : إنّه النبي الامي الذي بشرنا به موسى ، ونجده في كتابنا بنعته وصفته ، وأنّه لا تُردّ له راية. ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة اخرى.

فلما كان يوم احد ونكّب أصحاب رسول الله ، شكوا وقالوا : لا والله ما هو به. فغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا. وقد كان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة لم تنقض ، فنقضوا ذلك العهد قبل أجله ، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة في ستين راكباً ، فوافقوهم وأجمعوا أمرهم على رسول الله لتكونن كلمتنا واحدة ، ثم رجعوا إلى المدينة. فأنزل الله فيهم هذه الآية.

٢٤٩

التّفسير

مع ما تقدم في سبب النزول يتضح أنّ الكفار المغرورين بأموالهم وأولادهم ، وعددهم وعدّتهم يتوقعون هزيمة الإسلام ، ولكن القرآن الكريم يصرح في هذه الآية بأنّهم سيُغلبون ، ويخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يخبرهم بذلك وأنّ عاقبتهم في الدنيا والآخرة ليست سوى الهزيمة والذلّ والعذاب الأليم : (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (١).

هناك أخبار غيبية كثيرة في القرآن الكريم تعتبر من أدلة عظمته وإعجازه والآية أعلاه واحدة من هذه الأخبار الغيبية.

وفي هذه الآية يبشّر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالانتصار على جميع الأعداء.

ولم تمض فترة طويلة حتى تحققت نبوءة الآية وهُزم يهود المدينة «بنو قريضة وبنو النضير» وفي خيبر ـ أهم معقل من معاقلهم ـ اندحروا وتلاشت قواهم كما هُزم المشركون في فتح مكة هزيمة نكراء.

(قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) (١٣)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : نزلت هذه الآية في قصّة بدر ، وكان المسلمون ٣١٣ رجلاً على عدّة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ؛ ٧٧ رجلاً من المهاجرين و ٢٣٦ رجلاً من الأنصار ، وكان صاحب لواء رسول الله والمهاجرين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة. وكانت الإبل في جيش رسول الله ٧٠ بعيراً ، والخيل فرسين : فرس للمقداد بن أسود وفرس لمرثد بن أبي مرثد وكان معهم من السلاح ستة أدرع ، وثمانية سيوف ، خاضوا بها تلك الحرب الكبيرة ، في وجه عدوّ يزيد عدده على الألف ، وكانت خيلهم مائة فرس ، وجميع من استشهد يومئذ ١٤ رجلاً من المهاجرين و ٨ من الأنصار في مقابل ٧٠ قتيلاً و ٧٠ أسيراً من الأعداء وعادوا إلى المدينة تزيّنهم أكاليل النصر.

__________________

(١) «مهاد» : بمعنى المكان المهيأ ، كما يقول الراغب ، وهي في الأصل من مادة (مَهْد) وهو محل استراحة الطفل.

٢٥٠

التّفسير

تعقيباً على الآيات السابقة التي حذّر القرآن فيها الكافرين من الإغترار بالمال والأبناء والأتباع ، جاءت هذه الآية شاهداً حيّاً على هذا الأمر ، فتدعوهم إلى الاعتبار بما جرى في معركة بدر التاريخية. (قَدْ كَانَ لَكُمْءَايَةٌ فِى فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا). كيف لا تكون لهم عبرة وهم يرون أنّ جيشاً صغيراً لا يملك شيئاً من العدّة سوى الإيمان الراسخ ينتصر على جيش يفوقه أضعافاً في العدد والعدّة.

(يَرَوْنَهُم مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ). تقول الآية : إنّ الكفار كانوا يرون جند المسلمين ضعف عددهم ، أي أنّهم إذا كانوا ٣١٣ شخصاً كان الكفار يرونهم أكثر من ٦٠٠ شخص ، ليزيد من خوفهم ، وكان هذا أحد أسباب هزيمة الكفار.

(وَاللهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ). تشير الآية إلى حقيقة أنّ الله ينصر من يشاء.

(إِنَّ فِى ذلِكَ لَعِبْرَةً لّاُولِى الْأَبْصَارِ) (١). في ختام الآية يؤكّد سبحانه أنّ الذين وهبوا البصيرة بحيث يرون الحقائق كما هي ، يعتبرون بهذا الانتصار الذي أحرزه اناس مؤمنون ، ويدركون أنّ أساس هذا الانتصار هو الإيمان ... الإيمان وحده.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (١٤)

تعقيباً على الآيات السابقة التي اعتبرت الإيمان رأس المال الحقيقي للإنسان ـ لا المال والبنين والأنصار ـ تشير هذه الآية إلى حقيقة أنّ الزوجة والأبناء والأموال إنّما هي ثروات تنفع في الحياة المادية هذه ، ولكنها لا يمكن أن تشكّل هدف الإنسان الأصيل ، صحيح أنّه بغير هذه الوسائل لا يمكن السير في طريق السعادة والتكامل المعنوي ، إلّاأنّ الاستفادة منها في هذا السبيل شيء وحبّها وعبادتها ـ بغير أن تكون مجرد وسيلة يستفاد منها ـ شيء آخر.

__________________

(١) «عبرة» : فى الأصل من مادة «عبور» بمعنى الإنتقال من مرحلة إلى اخرى أو من مكان إلى آخر ، ويقال لدمع العين «عبرة» على وزن «حسرة» لانه يعبر من العين ، ويقال للكلمات التى تمر من خلال اللسان والاذن «عبارات» أيضاً ، وكذلك يقال للحوادث «عبرة» لأجل أن الإنسان عند ما يراها يعلم بمخلفاتها من الحقائق.

٢٥١

(زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ...) (١). إنّ التفسير الذي يبدو صحيحاً هو أنّ الله هو الذي زيّن للناس ذلك عن طريق الخلق والفطرة والطبيعة الإنسانية.

إنّ الله هو الذي جعل حبّ الأبناء والثروة في جبلّة الإنسان لكي يختبره ويسير به في طريق التربية والتكامل كما ـ في الآية (٧) من سورة الكهف ـ يقول القرآن : (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) (١٧)

هذه الآية توضّح الخط البياني الصاعد لتكامل الحياة الإنسانية الذي اشير إليه في الآية السابقة ، تقول الآية : هل اخبركم بحياة أرفع وأسمى من هذه الحياة المادية المحدودة في الدنيا ، تلك الحياة فيها كل ما في هذه الحياة من النِعم لكنها صورتها الكاملة الخالية من أيّ نقص وعيب خاصة بالمتقين. (قُلْ أَؤُنَبّئُكُم بِخَيْرٍ مّن ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتٌ). بساتينها ، لا كبساتين الدنيا ، لا ينقطع الماء عن الجريان بجوار أشجارها : (تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).

ونِعمها دائمة أبدية ، لا كنِعم الدنيا السريعة الزوال : (خَالِدِينَ فِيهَا).

نساؤها خلافاً لكثير من غواني هذه الدنيا ، ليس في أجسامهن ولا أرواحهن نقطة ظلام وخبث : (وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ).

كل هذا بإنتظار المتقين. وأسمى من ذلك كله ، النِعم المعنوية التي تفوق كل تصور وهي : (رِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ).

وتخبر الآية المؤمنين أنّهم إذا امتنعوا عن اللذائذ غير المشروعة والأهواء الطاغية

__________________

(١) «الشهوات» : جمع شهوة ، أي حبّ شيء من الأشياء حبّاً شديداً ، ولكنّها في هذه الآية بمعنى المشتهيات.

٢٥٢

الممزوجة بالمعصية ، فإنّهم سيفوزون في الآخرة بلذائذ مشابهة ولكن بمستوى أرفع وخالية من كل نقص وعيب إلّاأنّ هذا لا يعني حرمان النفس من لذائذ الحياة الدنيا التي لهم أن يتمتعوا بها بصورة مشروعة.

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَاءَامَنَّا).

في هذه الآية والآية التي بعدها نتعرّف على المتقين الذين كانوا في الآية السابقة مشمولين بنِعم الله العظيمة في العالم الآخر ، فتعددان ستّ صفات من صفاتهم الممتازة :

١ ـ إنّهم يتوجّهون إلى الله بكل جوارحهم والإيمان يضيء قلوبهم ولذلك يحسّون بمسؤولية كبيرة في كل أعمالهم ويخشون عقاب أعمالهم خشية شديدة فيطلبون مغفرته والنجاة من النار : (فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

٢ ـ مثابرون صابرون ذوو همّة ، ومقاومون عند مواجهتهم الحوادث في مسيرة إطاعتهم لله وتجنّبهم المعاصي ، وعند ابتلائهم بالشدائد الفردية والاجتماعية (الصَّابِرِينَ).

٣ ـ صادقون ومستقيمون وما يعتقدون به في الباطن يعملون به في الظاهر ويتجنّبون النفاق والكذب والخيانة والتلوّث (وَالصَّادِقِينَ).

٤ ـ في طريق العبودية لله خاضعون ومتواضعون ومواظبون على ذلك (وَالْقَانِتِينَ) (١).

٥ ـ لا ينفقون من أموالهم فحسب ، بل ينفقون من جميع ما لديهم من النِعم المادّية والمعنوية في سبيل الله ، فيعالجون بذلك أدواء المجتمع (وَالْمُنْفِقِينَ).

٦ ـ في أواخر الليل وعند السحر ، أي عندما يسود الهدوء والصفاء وحين يغطّ الغافلون في نوم عميق وتهدأ ضوضاء العالم المادّي ، يقوم ذوو القلوب الحيّة اليقظة ، ويذكرون الله ويطلبون المغفرة منه وهم ذائبون في نور الله وجلاله ، وتلهج كل ذرّة من وجودهم بتوحيده سبحانه (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ).

روي في تفسير البرهان عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «من قال في آخر الوتر في السحر : استغفر الله وأتوب إليه ، سبعين مرّة ، ودام على ذلك سنة كتبه الله من المستغفرين بالأسحار».

__________________

(١) «قانتين» : من مادة «قنوت» بمعنى الخضوع أمام الله وأيضاً بمعنى المداومة على الطاعة والعبودية.

٢٥٣

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨)

تعقيباً على البحث في الآيات السابقة حول المؤمنين الحقيقيين ، تشير هذه الآية إلى بعض أدلة التوحيد ومعرفة الله فتقول بأنّ الله تعالى يشهد بوحدانيته (من خلال إيجاد النظام الكوني العجيب) ، كما تشهد الملائكة ، ويشهد بعد ذلك العلماء والذين ينظرون إلى حقائق العالم بنور العلم والمعرفة : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ).

هذه الآية من الآيات التي كانت موضع اهتمام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دائماً وكان يردّدها في مواضع مختلفة.

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (١٩)

«الدين» : في الأصل بمعنى الجزاء والثواب ، ويطلق على «الطاعة» والإنقياد للأوامر ، و «الدين» في الاصطلاح : مجموعة العقائد والقواعد والآداب التي يستطيع الإنسان بها بلوغ السعادة في الدنيا ، وأن يخطو في المسير الصحيح من حيث التربية والأخلاق الفردية والجماعية.

«الإسلام» : يعني التسليم وهو هنا التسليم لله وعلى ذلك ، فإنّ معنى (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلمُ) : إنّ الدين الحقيقي عند الله هو التسليم لأوامره وللحقيقة ، في الواقع لم تكن روح الدين في كل الأزمنة سوى الخضوع والتسليم للحقيقة.

وإنّما أطلق اسم الإسلام على الدين الذي جاء به الرسول الأكرم لأنّه أرفع الأديان.

ثم إنّ الآية تذكر علة الاختلاف الديني على الرغم من الوحدة الحقيقية للدين الإلهي وتقول : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ).

فعلى هذا إنّ الاختلاف ظهر أوّلاً : بعد العلم والإطلاع على الحقائق ، وثانياً : كانت الدوافع لذلك هي الظلم والطغيان والحسد.

٢٥٤

فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مثلاً ـ بالإضافة إلى أنّ المعجزات والدلائل الواضحة في نصوص دينه تؤكد صدقه ـ وردت أوصافه وعلاماته في الكتب السماوية السابقة التي بقي قسم منها في أيدي اليهود والنصارى ، ولذلك بشّر علماؤهم بظهوره قبل ظهوره ، ولكنهم بعد أن بُعث رأوا مصالحهم في خطر ، فأنكروا كل ذلك ، يحدوهم الظلم والحسد والطغيان.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بَايَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).

هذا بيان لمصير أمثال هؤلاء الذين لا يعترفون بآيات الله ، إنّهم سوف يتلقّون نتائج عملهم هذا ، فالله سريع في تدقيق حساباتهم.

المراد من «آيات الله» في هذه الآية ما يشمل جميع آياته وبراهينه وكتبه السماوية ، ولعلها تشمل أيضاً الآيات التكوينية في عالم الوجود.

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٢٠)

«المحاجّة» : أن يسعى كل واحد في ردّ الآخر عن حجّته ومحجّته دفاعاً عن عقيدته.

من الطبيعي أن يقوم أتباع كل دين بالدفاع عن دينهم ، ويرون أنّ الحق بجانبهم ، لذلك يخاطب القرآن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً : قد يحاورك أهل الكتاب (اليهود والنصارى ...) فيقولون إنّهم قد أسلموا بمعنى أنّهم قد استسلموا للحق ، وربّما هم يصرّون على ذلك ، كما فعل مسيحيّو نجران مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فالآية لا تطلب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتجنّب محاورتهم ومحاججتهم ، بل تأمره أن يسلك سبيلاً آخر وذلك عندما يبلغ الحوار منتهاه فعليه لكي يهديهم ويقطع الجدل والخصام أن يقول لهم : إنّني وأتباعي قد أسلمنا لله واتّبعنا الحق (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ).

ثم يسأل أهل الكتاب والمشركين إن كانوا هم أيضاً قد أسلموا لله واتّبعوا الحق فعليهم أن يخضعوا للمنطق : (وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمّيّينَءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا). فإذا لم يستسلموا للحقيقة المعروضة أمامهم ، فإنّهم لا يكونون قد أسلموا لله. عندئذ لا تمضي

٢٥٥

في مجادلتهم ، لأنّ الكلام في هذه الحالة لا تأثير له وما عليك إلّاأن تبلّغ الرسالة لا غير : «وَّإِن (تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلغُ). ومن الواضح أنّ المراد ليس هو التسليم اللّساني والادعائي ، بل التسليم الحقيقي والعملي في مقابل الحق.

وفي الختام يقول : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ). فهو سبحانه يعلم المدعي من الصادق وكذلك اغراض ودوافع المتحاجّين ، ويرى أعمالهم الحسنة والقبيحة ويجازي كل شخص بعمله.

يتّضح من هذه الآية بكل جلاء أنّ اسلوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن اسلوب فرض الفكرة والعقيدة ، بل كان اسلوبه السعي إلى توضيح الحقائق أمام الناس ثم يتركهم وشأنهم لكي يتخذوا قرارهم في اتّباع الحق بأنفسهم.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (٢٢)

تعقيباً للآية السابقة التي تضمّنت أنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا يجادلون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يستسلمون للحق ، ففي الآية الاولى إشارة إلى بعض علامات هذا الأمر حيث تقول الآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بَايَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ).

وتشير هذه الآية في البداية إلى ثلاث ذنوب كبيرة وهي الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء بغير الحق وقتل الذين يدعون إلى العدالة ويدافعون عن أهداف الأنبياء ، وكل واحد من هذه الذنوب يكفي لوحده لجعل الإنسان معانداً ومتصلّباً بكفره وعدم تسليمه للحق ، بل يسعى لخنق كل صوت يدعو إلى الحق.

ثم إنّ الآية تشير إلى ثلاثة عقوبات مترتّبة على إرتكاب هذه الذنوب ، ففي البداية تشير الآية : (فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

ثم تقول : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ) فلو فرض أنّهم عملوا بعض الأعمال الصالحة فإنّها ستمحى وتزول بسبب الذنوب الكبيرة التي يرتكبونها.

٢٥٦

والثالث أنّ الآية تقول : (وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ) فلا أحد يحميهم من العقوبات الإلهيّة التي تنتظرهم ولا أحد يشفع لهم في ذلك اليوم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (٢٥)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنّ رجلاً وامرأة من أهل خيبر زنيا وكانا ذوي شرف فيهم ، وكان في كتابهم الرجم ، فكرهوا رجمهما لشرفهما ، ورجوا أن يكون عند رسول الله رخصة في أمرهما ، فعرفوا أمرهما إلى رسول الله ، فحكم عليهما بالرجم ، فقال له النعمان بن أوفى ، وبحرّي بن عمرو : جُرْتَ عليهما يا محمّد ، ليس عليهما الرجم فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «بيني وبينكم التوراة». قالوا : أنصفتنا. قال : «فمن أعلمكم بالتوراة»؟ قالوا : رجل أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا. فأرسلوا إليه فقدم المدينة ، وكان جبرائيل قد وصفه لرسول الله ، فقال له رسول الله : «أنت ابن صوريا»؟ قال : نعم. قال : «أنت أعلم اليهود»؟ قال : كذلك يزعمون. قال : فدعا رسول الله بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب ، فقال له : «إقرأ». فلما أتى على آية الرجم ، وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها. فقال ابن سلام : يا رسول الله! قد جاوزها. وقام إلى ابن صوريا ، ورفع كفه عنها ، ثم قرأ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى اليهود ، بأنّ المحصن والمحصنة إذا زنيا ، وقامت عليهما البيّنة رجما ، وإن كانت المرأة حبلى ، انتظر بها حتى تضع ما في بطنها. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله باليهودين فرجما. فغضب اليهود لذلك. فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

__________________

(١) في التوراة الموجودة حاليّاً ، في سفر اللاويّين في الفصل العشرين ، الجملة العاشرة ، نقرأ ما يلي : «إذا زنا ـ

٢٥٧

التّفسير

هذه الآيات تصرّح ببعض تحريفات أهل الكتاب الذين كانوا يتوسّلون بالتبريرات والأسباب الواهية لتفادي إجراء حدود الله ، مع أنّ كتابهم كان صريحاً في بيان حكم الله بغير إبهام ، وقد دُعوا للخضوع للحكم الموجود في كتابهم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ).

ولكن عصيانهم كان ظاهراً ومصحوباً بالإعراض والطغيان واتخاذ موقف المعارض لأحكام الله : (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ).

يمكن الاستنتاج من (أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ) أنّ ما كان بين أيدي اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل لم يكن كاملاً ، بل كان قسم منهما بين أيديهم ، بينما كان القسم الأعظم من هذين الكتابين السماويين قد ضاع أو حُرّف.

وفي الآية الثانية شرح سبب عصيانهم وتمرّدهم ، وهو أنّهم كانوا يحملون فكرة خاطئة عن كونهم من عنصر ممتاز ، وهم اليوم أيضاً يحملون هذه الفكرة الباطلة الواضحة في كتاباتهم الدالة على الاستعلاء العنصري.

كانوا يظنّون أنّ لهم علاقة خاصة بالله سبحانه ، حتى أنّهم سمّوا أنفسهم «أبناء الله» كما ينقل القرآن ذلك على لسان اليهود والنصارى في الآية (١٨) من سورة المائدة قولهم : (نَحْنُ أَبْنؤُا اللهِ وَأَحِبؤُهُ). وبناءاً على ذلك كانوا يرون لأنفسهم حصانة تجاه العقوبات الربانية ، وكانوا ينسبون ذلك إلى الله نفسه. لذلك كانوا يعتقدون أنّهم لن يعاقَبوا على ذنوبهم يوم القيامة إلّالأيّام معدودات : (قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ).

هذه الإمتيازات الكاذبة المصطنعة ، التي أسبغوها على أنفسهم ونسبوها إلى الله ، صارت شيئاً فشيئاً جزءاً من معتقداتهم بحيث إنّهم اغترّوا بها وراحوا يخالفون أحكام الله ويخرقون قوانينه مجترئين عليها جرأةً لا مزيد عليها (وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ).

__________________

 ـ أحد بامرأة غيره ، أي بامرأة جاره (مثلاً) يجب قتل الزاني والزانية». على الرغم من أنّ الرجم نفسه لم يرد ، فقد ورد العقاب بالموت ، وربما يكون التصريح بالرجم قد ورد في النسخة التي كانت موجودة على عهد رسول الله.

٢٥٨

وتدحض الآية الثالثة كل هذه الخيالات الباطلة وتقول : لا شك أنّ هؤلاء سوف يلاقون يوماً يجتمع فيه البشر أمام محكمة العدل الإلهي فيتسلّم كل فرد قائمة أعماله ، ويحصدون ناتج ما زرعوه ، ومهما يكن عقابهم فهم لا يُظلمون لأنّ ذلك هو حاصل أعمالهم (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّارَيْبَ فِيهِ وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ).

(قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (٢٧)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس : لمّا فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة ووعد امّته ملك فارس والروم ، قال المنافقون واليهود : هيهات من أين لمحمّد ملك فارس والروم؟ ألم يكفه المدينة ومكة حتى طمع في الروم وفارس؟ ونزلت هذه الآية.

التّفسير

دار الكلام في الآيات السابقة حول المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يخصّون أنفسهم بالعزة وبالملك ، وكيف أنّهم كانوا يرون أنفسهم في غنى عن الإسلام. فنزلت هاتان الآيتان تفنّدان مزاعمهم الباطلة. يقول تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ).

إنّ المالك الحقيقي للأشياء هو خالقها ، وهو الذي يعطي لمن يشاء الملك والسلطان ، أو يسلبهما ممّن يشاء ، فهو الذي يعز ، وهو الذي يذل ، وهو القادر على كل هذه الامور : (وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).

ولا حاجة للقول بأنّ مشيئة الله في هذه الآيات لا تعني أنّه يعطي بدون حساب ولا موجب ، أو يأخذ بدون حساب ولا موجب ، بل إنّ مشيئته مبنية على الحكمة والنظام ومصلحة عالم الخلق وعالم الإنسانية عموماً ، وبناءاً على ذلك فإنّ أي عمل يقوم به إنّما هو خير عمل وأصحّه.

٢٥٩

إنّ مشيئة الله هي نفسها عالم الأسباب ، إنّما الاختلاف في كيفية استفادتنا من عالم الأسباب هذا. في الآية التالية ولتأكيد حاكمية الله المطلقة على جميع الكائنات تضيف الآية :

١ ـ (تُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ).

وبهذا تذكر الآية بعض المصاديق البارزة على قدرة الله تعالى ، ومنها مسألة التغيير التدريجي لليل والنهار ، بمعنى أنّ الليل يقصر مدّته في النصف من السنة وهو ما عُبّر عنه بدخوله في النهار بينما يطول الليل ويقصر النهار في النصف الثاني من السنة وهو دخول وولوج النهار في الليل وكذلك اخراج الموجودات الحية من الميتة وبالعكس وكذلك الرزق الكثير الذي يكون من نصيب بعض الأشخاص دون بعض كلها من علائم قدرته المطلقة.

«الولوج» : بمعنى الدخول والقصد من الآية هو هذا التغيير التدريجي الذي نراه بين الليل والنهار طوال السنة ، هذا التغيير ناشىء عن انحراف محور الأرض عن مدارها بنحو ٢٣ درجة واختلاف زاوية سقوط أشعة الشمس عليها.

إنّ للتدرّج في تغيير الليل والنهار آثاراً مفيدة في حياة الإنسان والكائنات الاخرى على الأرض لأنّ نموّ النباتات وكثير من الحيوانات يتمّ في إطار نور الشمس وحرارتها التدريجية.

٢ ـ (وَتُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَىِّ).

إنّ معنى خروج «الحي» من «الميت» هو ظهور الحياة من كائنات عديمة الحياة ، فنحن نعلم أنّه في اليوم الذي استعدّت فيه الأرض لاستقبال الحياة ، ظهرت كائنات حية من كائنات عديمة الحياة ، أضف إلى ذلك أنّ مواد لا حياة فيها تصبح بإستمرار أجزاءً من خلايانا الحية وخلايا جميع الكائنات الحية في العالم ، وتتبدل إلى مواد حية.

أمّا خروج «الميت» من «الحي» فهو دائم الحدوث أمام أنظارنا.

إنّ الآية ـ في الواقع ـ إشارة إلى قانون التبادل الدائم بين الحياة والموت ، وهو أعمّ القوانين التي تحكمنا وأعقدها ، كما أنّه أروعها في الوقت نفسه.

٣ ـ (وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).

هذه الآية تعتبر من باب ذكر «العام» بعد «الخاص» إذ الآيات السابقة قد ذكرت نماذج

٢٦٠