مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-048-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٥

والثبات في مقابل صبر الآخرين وثباتهم واستقامتهم.

فإنّ القرآن يوصي المؤمنين أوّلاً بالصبر والاستقامة (التي تشمل كل ألوان الجهاد ، كجهاد النفس ، والاستقامة في مواجهة مشاكل الحياة) ، ثم يوصي ثانياً بالصبر والثبات والاستقامة أمام الأعداء ، وهذا بنفسه يفيد أنّ الامة ما لم تتغلب وتنتصر في جهادها مع النفس ، وفي إصلاح ما بها من نقاط الضعف الداخلية يستحيل إنتصارها على الأعداء ، وهذا يعني أنّ أكثر هزائمها أمام أعدائها إنّما هي بسبب ما لحق بها من هزائم في جبهة الجهاد مع النفس وما أصابها من إخفاقات في إصلاح نقاط الضعف التي تعاني منها.

٣ ـ (وَرَابِطُوا) : وهذه العبارة مشتقة من مادة «الرباط» وتعني ربط شيء في مكان (كربط الخيل في مكان) و «المرابطة» بمعنى مراقبة الثغور وحراستها لأنّ فيها يربط الجنود أفراسهم.

وهذه العبارة أمر صريح إلى المسلمين بأن يكونوا على استعداد دائم لمواجهة الأعداء ، وأن يكونوا في حالة تحفّز وتيقظ ومراقبة مستمرة لثغور البلاد الإسلامية وحدودها حتى لا يفاجؤا بهجمات العدو المباغتة.

٤ ـ (وَاتَّقُوا اللهَ) : وهذا بمثابة المظلة الواقية لما سبقها من التعاليم أنّه حثّ على التقوى.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وهكذا تختم الآية هذا البرنامح بذكر النتيجة التي تنتظر كل من يطبق هذا البرنامج.

نهاية تفسير سورة آل عمران

* * *

٣٦١
٣٦٢

٤

سورة النساء

هذه السورة تقع من حيث ترتيب النزول بعد سورة الممتحنة ، لأنّ الترتيب الفعلي للسور القرآنية لا يطابق ترتيبها في النزول ، بمعنى أنّ كثيراً من السور التي نزلت في مكة تقع في الترتيب الحاضر في آخر القرآن الكريم وكثيراً من السور التي نزلت في المدينة تقع في أوائل القرآن.

إنّ هذه السورة تعتبر ـ من حيث عدد الكلمات والأحرف ـ أطول السور بعد سورة البقرة وتحتوي على (١٧٦) آية وتسمّى بسورة النساء نظراً لتضمنها أبحاثاً كثيرة وحديثاً مفصلاً حول أحكام «المرأة» وحقوقها.

محتوى السورة : هذه السورة نزلت في المدينة ، بمعنى أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما كان مقبلاً على تأسيس حكومة إسلامية وتكوين مجتمع إنساني قويم ، نزلت هذه السورة وهي تحمل جملة من القوانين التي لها أثر كبير في إصلاح المجتمع ، وإيجاد البيئة الاجتماعية الصالحة النقية. إنّ المواضيع المختلفة التي تحدثت عنها هذه السّورة هي عبارة عن :

١ ـ الدعوة إلى الإيمان والعدالة ، وقطع العلاقات الودّية بالأعداء الألداء ، والخصوم المعاندين.

٢ ـ ذكر بعض قصص الأمم الماضية لأجل التعرف على عواقب المجتمعات غير الصالحة.

٣٦٣

٣ ـ العناية بالمحتاجين إلى الحماية مثل الأيتام ، وبيان التعاليم اللازمة لصيانة حقوقهم.

٤ ـ قانون الإرث والتوارث بنحو طبيعي وعادل.

٥ ـ القوانين المتعلقة بالزواج والبرامج التي تصون العفاف العام.

٦ ـ القوانين العامة لحفظ الأموال العامة.

٧ ـ التعريف بأعداء المجتمع الإسلامي وتحذير المسلمين منهم.

٨ ـ الحكومة الإسلامية ووجوب طاعة قائد هذه الحكومة.

٩ ـ أهمية الهجرة ووجوبها.

فضيلة تلاوة هذه السورة : روي في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من قرأها فكأنّما تصدّق على كل مؤمن ورث ميراثاً ، واعطي من الأجر كمن اشترى محرّراً».

ومن البيّن أنّ المقصود في هذه الرواية وأمثالها ليس هو القراءة المجردة ، بل تلك القراءة التي تكون مقدمة للفهم والإدراك الذي هو بدوره مقدمة لتطبيق تعاليم هذه السورة في الحياة الفردية والاجتماعية.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١)

مكافحة التمييزات والإستثناءات : الخطاب في الآية الاولى من هذه السورة موجّه إلى كافة أفراد البشر ، لأنّ محتويات هذه السورة نفس الامور التي يحتاج إليها كل أفراد البشر في حياتهم : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ).

ثم إنّ الآية تدعو إلى التقوى باعتبارها أساساً لأيّ برنامج إصلاحي للمجتمع ، فاداء الحقوق والتقسيم العادل للثروة ، وحماية الأيتام ، ورعاية الحقوق العائلية ، وما شابه ذلك كلها من الامور التي لا تتحقق بدون التقوى ، ولهذا تفتتح هذه السورة ـ التي تحتوي على جميع هذه الامور ـ بالدعوة إلى التزام التقوى : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ).

وللتعريف بالله الذي يراقب كل أعمال الإنسان وتصرفاته اشير في الآية إلى واحدة من صفاته التي تعتبر أساساً للوحدة الاجتماعية في عالم البشر : (الَّذِى خَلَقَكُم مّن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ). والمراد من «نفس واحدة» هو أوّل إنسان قد سمّاه القرآن الكريم ب «آدم» ويعتبره أبا البشر.

٣٦٤

ثم إنّ قوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا). والمراد منها هو أنّ الله سبحانه خلق زوجة آدم من جنسه (أي جنس البشر).

ووفقاً لرواية منقولة عن الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام أنّه كذّب بشدة فكرة خلق حواء من ضلع آدم ، وصرح بأنّه خلقت من فضل الطينة التي خلق منها آدم.

قال سبحانه : (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً). هذه العبارة يستفاد منها أنّ انتشار نسل آدم ، وتكاثره قد تمّ عن طريق آدم وحواء فقط ، أي بدون أن يكون للموجود الثالث أي دخالة في ذلك.

إنّ أهمية التقوى ، ودورها في بناء قاعدة المجتمع الصالح سببت في أن تذكر مجدداً في نهاية الآية الحاضرة ، وأن يدعو سبحانه الناس إلى التزام التقوى ، غاية الأمر أنّه تعالى أضاف إليها جملة اخرى إذ قال : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ). أي اتقوا الله الذي هو عندكم عظيم ، وتذكرون اسمه عندما تطلبون حقوقكم وحوائجكم فيما بينكم.

ثم إنّه يقول : (وَالْأَرْحَامَ). ومعناها : واتقوا الأرحام ولا تقطعوا صلاتكم بهم.

إنّ ذكر هذا الموضوع هنا يدلّ على الأهمية الفائقة التي يعطيها القرآن الكريم لمسألة الرحم.

ثم يختم الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا). أي إنّه يحصي عليكم نيّاتكم وأعمالكم ، ويعلم بها ويراها جميعاً ، كما أنّه هو الذي يحفظكم أمام الحوادث.

والرقيب أصله من الترقب وهو الإنتظار من مكان مرتفع ، ثم استعمل بمعنى الحافظ والحارس لأنّ الحراسة من لوازم الترقب والنظارة.

(وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً) (٢)

سبب النّزول

في الدر المنثور : إنّ رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلمّا بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه فخاصمه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت الآية : (وَءَاتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ).

التّفسير

لا ... للخيانة في أموال اليتامى : كثيراً ما يحدث في المجتمعات البشرية أن يفقد أطفال

٣٦٥

صغار أباءهم بسبب الحوادث والنكبات والكوارث. وفي هذه الآية ثلاثة تعاليم بشأن أموال اليتامى :

١ ـ (وَءَاتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ). أي يجب أن تعطوا اليتامى عند رشدهم أموالهم المودعة عندكم ، ويكون تصرفكم في هذه الأموال على نحو تصرف الأمين والناظر والوكيل لا على نحو تصرف المالك.

٢ ـ (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيّبِ). أي لا تأخذوا أموالهم الطيبة وثرواتهم الجيدة وتضعوا بدلها من أموالكم الخبيثة والمغشوشة ، وهذا التعليم يهدف إلى المنع مما قد يرتكبه بعض القيّمين على أموال اليتامى من أخذ الجيد من مال اليتيم والرفيع منه وجعل الخسيس والردىء مكانه ، بحجة أنّ هذا التبديل يضمن مصلحة اليتيم ، أو لأنّه لا تفاوت بين ماله والبديل ، أو لأنّ بقاء مال اليتيم يؤول إلى التلف والضياع وغير ذلك من الحجج والمعاذير.

٣ ـ (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ). يعني لا تخلطوا أموال اليتامى مع أموالكم بحيث تكون نتيجتها تملّك الجميع ، أو أنّ المراد لا تخلطوا الجيد من أموالهم بالردىء من أموالكم بحيث تكون نتيجتها الإضرار باليتامى وضياع حقوقهم.

ثم إنّه سبحانه ، لبيان أهمية هذا الموضوع والتأكيد عليه يختم الآية بقوله : (إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا). «الحوبة» : حقيقتها هي الحاجة التي تحمل صاحبها على إرتكاب الإثم وحيث إنّ العدوان على أموال اليتامى ينشأ ـ في الأغلب ـ من الحاجة ، أو بحجة الحاجة استعمل القرآن الكريم مكان لفظة الإثم في هذه الآية لفظة «الحوب» للإشارة إلى هذه الحقيقة.

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلِكَ أَدْنَى أَنْ تَعُولُوا) (٣)

سبب النّزول

لقد نقل لهذه الآية ـ في تفسير القرطبي ـ سبب نزول خاص. قيل : هي اليتيمة تكون في حجر وليّها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليّها أن يتزوّجها من غير أن يُسقِط في صداقها فيُعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهنّ إلّاأن يُسقطوا لهنّ ويبلُغوا أعلى سنّتهنّ من الصّداق وامروا أن ينكحوا ما طاب من النساء سِواهنّ.

٣٦٦

التّفسير

يقول سبحانه في هذه الآية : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النّسَاءِ مَثْنَى وَثُلثَ وَرُبعَ). وقد جاء هذه الآية بعد ما جاء في الآية السابقة من الحث على حفظ أموال اليتامى من التلف وعدم التفريط فيها ، فجاءت هذه الآية لتنوه بحق آخر من حقوقهم ، وهو هذه المرّة يتعلق باليتيمات خاصة.

يعنى إنّ عليكم أن تنصرفوا عن الزواج باليتيمات تجنباً من الجور عليهن ، وأن تتزوجوا بالنساء اللاتي لا تسمح مكانتهنّ الاجتماعية والعائلية بأن تجوروا عليهن ، وتظلموهن ، ويجوز لكم أن تتزوجوا منهنّ بإثنتين أو ثلاث أو أربع ، غاية ما في الأمر حيث إنّ الخطاب هنا موجّه إلى عامة المسلمين ، عبر بالمثنى ، والثلاث ، والرباع فلا شك في أنّ تعدد الزوجات ـ بالشروط الخاصة ـ لا يشمل أكثر من أربع نساء.

ثم إنّه سبحانه عقّب على ذلك بقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً). أي التزوج بأكثر من زوجة إنّما يجوز إذا أمكن مراعاة العدالة الكاملة بينهن ، أمّا إذا خفتم أن لا تعدلوا بينهن ، فاكتفوا بالزوجة الواحدة لكي لا تجوروا على أحد.

ثم يقول : (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ). أي : يجوز أن تقتصروا على الإماء اللّاتي تملكونهن بدل الزوجة الثانية لأنهنّ أخفّ شروطاً.

ويقول : (ذلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا). أي : أنّ هذا العمل أحرى بأن يمنع من الظلم والجور ، ويحفظكم من العدوان على الآخرين.

(وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (٤)

«النّحلة» : في اللغة تعني العطية ؛ و «صدقاتهن» : جمع الصداق وهي بمعنى المهر. والآية الحاضرة التي جاءت بعد البحث المطروح في الآية السابقة حول انتخاب الزوجة تتضمن إشارة إلى إحدى حقوق النساء المسلّمة وتؤكد قائلة : (وَءَاتُوا النّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً). أي : أعطوا النساء كامل مهرهن الذي هو عطية من الله لهنّ لأجل أن يكون للنساء حقوق أكثر في المجتمع وينجبر بهذا الأمر ما فيهن من ضعف جسمي نِسبي.

ثم بعد أن يأمر الله سبحانه في مطلع الآية بأن تعطى للنساء مهورهن كاملة ودون نقصان حفظاً لحقوقهن ، يعمد في ذيل هذه الآية إلى بيان ما من شأنه إحترام مشاعر كلا الطرفين ،

٣٦٧

ومن شأنه تقوية أواصر الودّ والمحبة والعلاقة القلبية وكسب العواطف إذ يقول : (فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيًا مَّرِيًا). أي : لو تنازلت الزوجة عن شيء من المهر ووهبته للزوج عن طيب نفسها جاز للزوج أكل الموهوب له ، وإنّما أقرّ الإسلام هذا المبدأ لكيلا تكون البيئة العائلية والحياة الزوجية ميداناً لسلسلة من القوانين والمقررات الجافة ، بل يكون مسرحاً للتلاقي العاطفي الإنساني ، وتسود في هذه الحياة المحبة جنباً إلى جنب مع المقررات والأحكام الحقوقية المذكورة.

الصّداق دعامة إجتماعية للمرأة : لما كانت المرأة ـ في العصر الجاهلي ـ لم تحظ بأية قيمة أو مكانة كان الرجل إذا تزوج امرأة ترك أمر صداقها ـ الذي هو حقها المسلم ـ إلى أوليائها ، فكان أولياؤها يأخذون صداقها ، ويعتبرونه حقّاً مسلماً لهم لا لها ، وربّما جعلوا التزوج بامرأة صداقاً لإمرأة اخرى ، مثل أن يزوج الرجل أخته بشخص على أن يزوج ذلك الشخص أخته بذلك الرجل ، وكان هذا هو صداق الزوجتين.

ولقد أبطل الإسلام كل هذه التقاليد والأعراف الظالمة ، واعتبر الصداق حقّاً مسلماً خاصاً بالمرأة ، وأوصى الرجال مرّات عديدة وفي آيات الكتاب العزيز برعاية هذا الحق للمرأة.

وأمّا تفسير البعض لمسألة المهر بنحو خاطىء ، واعتبار الصداق أنّه من قبيل ثمن المرأة فلا يرتبط بالقوانين الإسلامية ، لأنّ الإسلام لا يعطي للصداق الذي يقدمه الرجل إلى المرأة صفة الثمن كما لا يعطي المرأة صفة البضاعة القابلة للبيع والشراء ، وأفضل دليل على ذلك هو صيغة عقد الزواج الذي يعتبر فيه الرجل والمرأة كركنين أساسيين في الرابطة الزوجية ، في حين يقع الصداق والمهر على هامش هذا العقد ، ويعتبر أمراً إضافياً ، بدليل صحّة العقد إذا لم يرد اسم المهر فيه ، وليس كذلك في صيغة البيع والشراء وغير ذلك من المعاملات المالية إذ بدون ذكر الثمن تبطل هذه المعاملات.

من كل ما قيل نستنتج أنّ المهر بمثابة جبران للخسارة اللاحقة بالمرأة ، وبمثابة الدعامة القوية التي تساعد على احترام حقوق المرأة ، لا أنّه ثمن المرأة ، ولعل التعبير بالنّحلة التي هي بمعنى العطية في الآية إشارة إلى هذه النقطة.

٣٦٨

(وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً) (٦)

الآيات الحاضرة تكملة للأبحاث المرتبطة باليتامى ، التي مرّت في الآيات السابقة. يقول الله سبحانه : (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ). بل انتظروا رشدهم ونضجهم في المسائل الاقتصادية لكي لا تتعرض أموالكم للتلف والفناء.

والمراد من السّفه في الآية الحاضرة هو عدم الرشد اللازم في الامور الإقتصادية بحيث لا يستطيع الشخص من تدبير شؤونه الاقتصادية وإصلاح ماله على الوجه الصحيح ، ولا يتمكن من ضمان منافعه في المبادلات والمعاملات المالية ، ويدل على هذا المعنى ما جاء في الآية الثانية إذ يقول سبحانه : (فَإِنءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ).

إنّ الآية الحاضرة وإن كانت تبحث حول اليتامى ، لكنها تتضمن حكماً كلياً وقانوناً عاماً لجميع الموارد ، وهو أنّه لا يجوز لأحد مطلقاً أن يعطي أموال من يتولى أمره ، أو ترتبط به حياته بنوع من الإرتباط ، إليه إذا كان سفيهاً غير رشيد.

ثم إنّ القرآن الكريم يصف الأموال المذكورة في مطلع الآية الحاضرة بقوله : (الَّتِى جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا). هو تعبير جميل ورائع جدّاً عن الأموال والثروات ، فهي قوام حياة الناس والمجتمع ، وبدونها لا يمكن للمجتمع الوقوف على قدميه ، فلا يصحّ إعطاؤها إلى السفهاء والمسرفين الذين لا يعرفون إصلاحها.

ومن هذا التعبير نعرف جيداً ما يوليه الإسلام من الاهتمام بالامور والشؤون الاقتصادية والمالية ، وعلى العكس نقرأ في الإنجيل الحاضر : «فقال يسوع لتلاميذه : الحق أقول لكم أنّه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات» (١).

__________________

(١) إنجيل متى الإصحاح / ١٩ ـ ٢٣.

٣٦٩

في حين يرى الإسلام أنّ الامة الفقيرة لا تستطيع أبداً الوقوف على قدميها. وأنّه لعجيب أن نرى تلك الطائفة بلغت إلى ما بلغت من المراتب في عالمنا الراهن في حقول التقدم الاقتصادي مع ما هم عليه من التعاليم الخاطئة ، في حين نعاني من هذا الوضع المأسوي مع ما نملك من التعاليم الحيوية العظيمة.

غير أنّه لا داعي للعجب ، فهم تركوا تلك الخرافات والأضاليل فوصلوا إلى ما وصلوا ، بينما تركنا نحن هذه التعاليم الراقية فوقعنا في هذه الحيرة ، والتخلف.

ثم إنّ الله سبحانه يأمر ـ في شأن اليتامى ـ بأمرين مهمين هما :

أوّلاً : رزق اليتامى وإكسائهم من أموالهم حتى يبلغوا سنّ الرشد إذ يقول : (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ).

ثانياً : مخاطبة اليتامى والتكلم معهم بقول طيب ورقيق إذ قال سبحانه : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا». وذلك لإزالة ما يشعر به اليتامى من نقصان روحي وعُقد نفسية ، ويساعدوا بذلك على ترشيدهم وبلوغهم حد الرشد العقلي ، وبهذا يكون بناء شخصية اليتيم وترشيده عقلياً من وظائف الأولياء ومسؤولياتهم أيضاً.

ها هنا تعليم آخر في شأن اليتامى وأموالهم ، إذ يقول سبحانه : (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النّكَاحَ). فإذا بلغوا سنّ الرشد الذي آنستم فيه قدرتهم على إدارة أموالهم والتصرف فيها بنحو معقول فأعطوهم أموالهم : (فَإِنءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (١).

ثم إنّه سبحانه قال : (وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا). وهو تأكيد آخر للأولياء بأن لا يسلموا الأموال إلى اليتامى قبل أن يكبروا بأن يحافظوا على أموال اليتامى ولا يتلفوها أبداً.

ثم إنّه تعالى يردف هذا التأكيد بقوله : (وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ). وبهذا أذن الله تعالى للأولياء بأن يأخذوا لأنفسهم من أموال اليتامى لقاء ما يتحملون من أتعاب في حفظها ، وحراستها ، على أن يراعوا جانب العدل والإنصاف فيما يأخذونه بعنوان الاجرة ، هذا إذا كان الولي فقيراً ، أما إذا كان غنياً فلا يأخذ من مال اليتيم شيئاً أبداً.

__________________

(١) «الإيناس» : بمعنى المشاهدة والرؤية.

٣٧٠

ثم يقول سبحانه : (فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ). لكي لا يبقى أي مجال للإتهام والتنازع ، وهذا هو آخر حكم في شأن الأولياء واليتامى جاء ذكره في هذه الآية.

واعلموا أنّ الحسيب الواقعي هو الله تعالى ، والأهم من ذلك هو أنّ حسابكم جميعاً عنده ولا يخفى عليه شيء أبداً ولا يفوته صغير ولا كبير فإذا بدرت منكم خيانة خفيت على الشهود فإنّه سبحانه سيحصيها عليكم ، وسوف يحاسبكم عليها ويؤاخذكم بها : (وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا).

(لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (٧)

سبب النّزول

في الدر المنثور عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن ثابت وترك ابنتين وابنا صغيراً فجاء ابنا عمّه وهما عصبته فأخذا ميراثه كله فقالت امرأته لهما تزوجا بهما وكان بهما دمامة فأبيا فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت يا رسول الله توفى أوس وترك ابنا صغيراً وابنتين فجاء ابنا عمه خالد وعرفطة فأخذا ميراثه فقلت لهما تزوجا ابنتيه فأبيا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أدري ما أقول ، فنزلت الآية.

التّفسير

خطوة اخرى لحفظ حقوق المرأة : هذه الآية مكملة للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة ، لأنّ العرب الجاهليين كانوا ـ حسب تقاليدهم وأعرافهم الظالمة ـ يمنعون النساء والصغار من حق الإرث ، ولا يسهمون لهم من المواريث ، فأبطلت هذه الآية هذا التقليد الخاطىء الظالم إذ قال سبحانه : (لِلرّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ).

ثم قال سبحانه في ختام هذه الآية بغية التأكيد على الموضوع : (نَصِيبًا مَّفْرُوضًا). حتى يقطع الطريق على كل تشكيك أو ترديد في هذا المجال.

(وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)(٨)

٣٧١

حكم أخلاقي : نزلت الآية الحاضرة بعد قانون تقسيم الإرث ويتضمن محتوى هذه الآية حكماً أخلاقياً إستحبابياً في شأن طبقات محجوبة عن الإرث بسبب وجود طبقات أقرب منها إلى المورث.

إنّ كلمتي «اليتامى» و «المساكين» وإن ذكرتا بنحو مطلق في هذه الآية ، غير أنّ الظاهر هو أنّ المراد منهما هم اليتامى والمساكين من قربى الميت.

ثم إنّه سبحانه يختم هذه الآية بدستور أخلاقي إذ يقول : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا). يعني أنّه مضافاً إلى تقديم مساعدة مادية إلى هؤلاء اشفعوا ذلك بموقف أخلاقي واستفيدوا من المعين الإنساني لكسب مودتهم ، وحتى لا يبقى في قلوبهم أي شعور عدائي تجاهكم ، وهذا الدستور علامة اخرى ودليل آخر على أنّ الأمر بإعطاء شيء من الميراث إلى اليتامى والمساكين إنّما هو على نحو الندب لا الوجوب.

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٩)

دعوة إلى العطف على اليتامى : يشير القرآن الكريم ـ بهدف إثارة مشاعر العطف والإشفاق لدى الناس بالنسبة إلى اليتامى ـ إلى حقيقة يغفل عنها الناس أحياناً ، وتلك الحقيقة هي : إنّ على الإنسان أن يعامل يتامى الآخرين كما يحبّ أن يعامل الناس يتاماه. وعلى هذا يكون مفهوم قوله سبحانه : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ). هو أنّ الذين يخافون على مستقبل أولادهم الصغار عليهم أن يخافوا مغبة الخيانة في شؤون اليتامى ويخافوا مغبة إيذائهم.

وأساساً : إنّ القضايا الإجتماعية تنتقل في شكل سنّة من السنن ـ من اليوم إلى الغد ، ومن الغد إلى المستقبل البعيد ، فالذين يُروّجون في المجامع سنّة ظالمة مثل إيذاء اليتامى فإنّ ذلك سيكون سبباً لسريان هذه السنّة على أولادهم وأبنائهم أيضاً ، وعلى هذا لا يكون مثل هذا الشخص قد آذى يتامى الآخرين وورثتهم فقط ، بل فتح باب الظلم على أولاده ويتاماه أيضاً. لهذا وجب أن يتجنّب أولياء اليتامى مخالفة الأحكام الإلهية ، ويتقوا الله في اليتامى ويقولوا لهم قولاً عدلاً موافقاً للشرع والحق ، قولاً ممزوجاً بالعواطف الإنسانية والمشاعر

٣٧٢

الأخوية ، لكي يندمل بذلك ما في قلوب اولئك من الجراح ، وينجبر ما في أفئدتهم من الكسر ، وإلى هذا يشير قوله سبحانه : (فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا).

إنّ هذا التعليم الإسلامي إشارة إلى ناحية نفسية في مجال تربية اليتامى وهي : إنّ حاجة الطفل اليتيم لا تنحصر في الطعام والكساء ، بل ـ مضافاً إلى الرعاية الجسدية ـ أن يحظى بالرعاية الروحية والعناية العاطفية ، وإلّا نشأ قاسياً مهزوماً ، عديم الشخصية ، بل وحاقداً خطيراً.

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١٠)

الوجه الحقيقي لأفعال البشر : ابتدأت هذه السورة بعبارات شديدة النكير على من يتصرف في أموال اليتامى تصرفاً غير مشروع وغير صحيح ، والآية الحاضرة هي أوضح هذه العبارات. تقول هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا).

ثم إنّه سبحانه يقول في بيان نتيجة أكل أموال اليتامى : (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا).

ويستفاد من هذه الآية أنّ لأعمالنا مضافاً إلى وجهها الظاهري وجهاً واقعياً أيضاً ، وجهاً مستوراً عنّا في هذه الدنيا ، لا نراه بعيوننا هنا ، ولكنه يظهر في العالم الآخر ، وهذا الأمر هو ما يشكل مسألة تجسم الأعمال المطروحة في المعتقدات الإسلامية.

إنّ القرآن يصرح في هذه الآية بأنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً وجوراً ، وإن كان الوجه الظاهري لفعلهم هذا هو الأكل من الأطعمة اللذيذة الملونة ، ولكن الوجه الواقعي لهذه الأغذية هو النار المحرقة الملتهبة ، وهذا الوجه هو الذي يظهر ويتجلّى على حقيقته في عالم الآخرة.

* * *

٣٧٣

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) (١٢)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنّه قال : مرضت فعادني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاغمي عليّ ، فدعا بماء فتوضأ ثم صبّه عليّ فأفقت ، فقلت : يا رسول الله! كيف أصنع في مالي؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت آية المواريث فيّ.

التّفسير

قال الله تعالى في الآية الاولى من هذه الآيات : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِى أَوْلدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ). وهو بذلك يشير إلى حكم الطبقة الاولى من الورثة (وهم الأولاد والآباء والامهات).

٣٧٤

وهذا نوع التأكيد على توريث النساء ومكافحة للعادة الجاهلية المعتدية القاضية بحرمانهن من الإرث والميراث ، حرماناً كاملاً.

ثم يقول سبحانه وتعالى : (فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ). أي لو زادت بنات الميت على اثنتين فلهنّ الثلثان أي قسّم الثلثان بينهن.

ثم قال : (وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ). أي لو كانت البنت واحدة ورثت النصف من التركة.

لماذا يرث الرجل ضعف المرأة؟ إذا راجعنا التراث الإسلامي حيث إنّ هذا السؤال نفسه قد طرح منذ بداية الإسلام وخالج بعض الأذهان.

في الكافي : علي بن إبراهيم عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : قلت له : جعلت فداك كيف صار الرجل إذا مات وولده من القرابة سواء ترث النساء نصف ميراث الرجال وهنّ أضعف من الرجال وأقلّ حيلة؟ فقال : «لأنّ الله عزوجل فضّل الرجال على النساء بدرجة ولأنّ النساء يرجعن عيالاً على الرجال».

وأمّا ميراث الآباء والامهات الذين هم من الطبقة الاولى ، وفي مصاف الأبناء أيضاً ، فإنّ له كما ذكرت الآية الحاضرة ثلاث حالات هي :

الحالة الاولى : إنّ الشخص المتوفى إن كان له ولد أو أولاد ، ورث كل من الأب والام السدس : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ).

الحالة الثانية : إن لم يكن للمتوفى ولد ، وانحصر ورثته في الأب والام ، ورثت الام ثلث ما ترك ، يقول سبحانه : (فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمّهِ الثُّلُثُ).

الحالة الثالثة : إذا ترك الميت أباً وامّاً واخوة من أبويه أو من أبيه فقط ، ولم يترك أولاداً ، ففي مثل هذه الحالة ينزل سهم الام إلى السدس ، وذلك لأنّ الأخوة يحجبون الام عن إرث المقدار الزائد عن السدس وإن كانوا لا يرثون ، ولهذا يسمى أخوة الميت بالحاجب ، وهذا ما يعنيه قول الله سبحانه : (فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمّهِ السُّدُسُ).

ثم إنّ الله سبحانه يقول : (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ). فلابد من تنفيذ ما أوصى به الميت من تركته ، أو أداء ما عليه من دين أوّلاً ، ثم تقسيم البقية بين الورثة.

(وقد ذكرنا في باب الوصية أنّ لكل أحد أن يوصي بامور في مجال الثلث الخاص به فقط ، فلا يصح أن يوصي بما زاد عن ذلك إلّاأن يأذن الورثة بذلك).

٣٧٥

ثم قال سبحانه : (ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَاتَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا). وهذه العبارة تفيد أنّ قانون الإرث المذكور قد ارسي على أساس متين من المصالح الواقعية ، وأنّ تشخيص هذه المصالح بيد الله.

ولأجل أن يتأكد كل ما ذكر من الامور ويتخذ صفة القانون الذي لا يحتمل الترديد ، ولا يكون فيه للناس أي مجال نقاش ، يقول سبحانه : (فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا). وبذلك يقطع الطريق على أي نقاش في مجال القوانين المتعلقة بالأسهم في الإرث.

سهم الأزواج بعضهم من بعض : في الآية السابقة أشير إلى سهم الأولاد والآباء والامهات وفي الآية التي تليها يقول الله سبحانه : (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ). ويشير سبحانه إلى كيفية إرث الزوجين بعضهما من بعض ، فإنّ الزوج يرث نصف ما تتركه الزوجة هذا إذا لم يكن للزوجة ولد ، فإن كان لها ولد أو أولاد (ولو من زوج آخر) ورث الزوج ربع ما تتركه فقط ، وإلى هذا يشير تعالى في نفس الآية : (فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ).

على أنّ هذا التقسيم يجب أن يتمّ بعد تنفيذ وصايا المتوفاة ، أو تسديد ما عليها من ديون كما يقول سبحانه : (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ).

ويكون لها الربع إن لم يكن للزوج الميت ولد لقوله سبحانه : (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ).

وأمّا إرث الزوجة مما يتركه الزوج ، فإذا كان للزوج أولاد (وإن كانوا من زوجة اخرى) ورثت الزوجة الثمن لقوله سبحانه : (فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم).

على أنّ هذا التقسيم يجب أن يتمّ أيضاً من بعد تنفيذ وصايا الميت أو تسديد ديونه من أصل التركة : (مّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ).

ثم إنّه سبحانه بعد أن يذكر سهم الأزواج بعضهم من بعض ، يعمد إلى ذكر أسهم اخوة الميت وأخواته فيقول : (وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَللَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السُّدُسُ). أي إن مات رجل ولم يترك إلّاأخاً أو اختاً ، أو ماتت امرأة ولم تترك سوى أخ أو اخت ، يورث كل منهما السدس من التركة ، هذا إذا كان الوارث أخاً واحداً واختاً واحدة.

أمّا إذا كانوا أكثر من واحد ورث الجميع ثلثاً واحداً ، أي قسم مجموع الثلث بينهم : (فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِى الثُّلُثِ).

٣٧٦

ثم أضاف القرآن : (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ). أي : تكون قسمة الميراث هكذا بعد أن ينفذ الورثة من التركة ما أوصى به المتوفى ، أو يسددوا ما عليه من ديون ، ثم قال : (غَيْرَ مُضَارٍّ). أي : فيما إذا لم يكن ما أوصى الميت بصرفه من الميراث وكذا الدين مضرّاً بالورثة.

ثم إنّه سبحانه للتأكيد على هذا الحكم يقول : (وَصِيَّةً مّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ). أي إنّ هذا المطلب وصية من الله يجب أن تحترموها ، لأنّه العالم بمصلحتكم وخيركم ، فهو أمركم بهذا عن حكمة ، كما أنّه تعالى عالم بنيات الأوصياء ، هذا مع أنّه تعالى حليم لا يعاقب العصاة فوراً ، ولا يأخذهم بظلمهم بسرعة.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (١٤)

قد بدأت الآية الاولى من هاتين الآيتين بالإشارة إلى قوانين الإرث التي مرّت في الآيات السابقة بلفظة «تلك» إذ قال سبحانه : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ). أي تلك حدود الله التي لا يجوز تجاوزها وتجاهلها لأحد ، فإنّ من تعدى هذه الحدود كان عاصياً مذنباً.

ثم بعد الإشارة إلى هذا القسم من حدود الله يقول سبحانه : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا). وهو بذلك يشير إلى النتيجة الاخروية للالتزام بحدود الله واحترامها. ثم يصف هذه النتيجة الاخروية بقوله : (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). ثم يذكر سبحانه ما يقابل هذا المصير في صورة المعصية ، وتجاوز الحدود الإلهية إذ يقول : (وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا).

(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً) (١٦)

٣٧٧

الآية الاولى ـ من هاتين الآيتين ـ تشير إلى جزاء المرأة المحصنة التي تزني. فتقول : (وَالتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مّنْكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ). وعلى هذا يكون جزاء المحصنة التي ترتكب الزنا في هذه الآية هو الحبس الأبدي.

ولكنه تعالى أردف هذا الحكم بقوله : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً). فإذن لابدّ أن يستمر هذا الحبس في حقهن إلى الأبد حتى يأتي أجلهن ، أو يعين لهن قانون جديد من جانب الله سبحانه.

ويستفاد من هذه العبارة أنّ هذا الحكم (أي : الحبس الأبدي للمحصنة الزانية) حكم مؤقت ، وحكم آخر في المستقبل (وبعد أن تتهيأ الظروف والأفكار لمثل ذلك).

ثم إنّ الله سبحانه يذكر بعد ذلك حكم الزنا عن غير إحصان إذ يقول : (وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَاذُوهُمَا). ويقصد أنّ الرجل غير المحصن أو المرأة غير المحصنة إن أتيا بفاحشة الزنا فجزاؤهما أن يؤذيا.

إنّ الحكم المذكور في هذه الآية (أي الإيذاء) عقوبة كلية ، يمكن أن تكون الآية الثانية من سورة النور التي تذكر أنّ حد الزنا هو (١٠٠) جلدة لكل واحد من الزاني والزانية تفسيراً وتوضيحاً لهذه الآية وتعييناً للحكم الوارد فيها.

ثم إنّ الله سبحانه بعد ذكر هذا الحكم يشير إلى مسألة التوبة والعفو عن مثل هؤلاء العصاة ، فيقول : (فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا).

هذا ويستفاد من هذا الحكم ـ أيضاً ـ أنّه يجب أن لا يعير العصاة الذين رجعوا إلى جادة الصواب وتابوا وأصلحوا على أفعالهم القبيحة السابقة ، وأن لا يلاموا على ذنوبهم الغابرة.

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (١٨)

٣٧٨

في الآية السابقة بيّن الله تعالى بصراحة مسألة سقوط العقوبة عن مرتكبي الفاحشة ومعصية الزنا إذا تابوا وأصلحوا ، وفي هذه الآية يشير سبحانه إلى شرائط قبول التوبة إذ يقول : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ).

والمراد من «الجهالة» في الآية المبحوثة هنا هو طغيان الغرائز ، وسيطرة الأهواء الجامحة وغلبتها على صوت العقل والإيمان ، وفي هذه الصورة وإن لم يفقد المرء العلم بالمعصية ، إلّاأنّه حينما يقع تحت تأثير الغرائز الجامحة ، ينتفي دور العلم ويفقد مفعوله وأثره ، وفقدان العلم لأثره مساو للجهل عملاً.

ثم إنّ الله سبحانه يشير إلى شرط آخر من شروط قبول التوبة إذ يقول : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ).

ثم إنّه سبحانه ـ بعد ذكر شرائط التوبة ـ يقول : (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا). مشيراً بذلك إلى نتيجة التوبة التي توفرت فيها الشروط المذكورة.

ثم يقول تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ النَ). وهو إشارة إلى من لا تقبل توبته.

وأمّا الطائفة الثانية الذين لا تقبل توبتهم فهم الذين يموتون كفاراً ، إذ يقول سبحانه : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ). يعني إنّ الذين يتوبون من ذنوبهم حال العافية والإيمان ولكنهم يموتون وهم كفار لا تقبل توبتهم ولا يكون لها أي أثر.

ثم يقول سبحانه في ختام الآية : (أُولئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (١٩)

سبب النّزول

روي في مجمع البيان عن الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام : «نزلت في الرجل يحبس المرأة عنده ، لا حاجة له إليها وينتظر موتها حتى يرثها». أي فيأخذ أموالها من بعد وفاتها.

٣٧٩

وعن ابن عباس : نزلت في الرجل تكون تحته امرأة ، يكره صحبتها ، ولها عليه مهر ، فيطول عليها ، ويضارّها لتفتدي بالمهر ، فنهوا عن ذلك.

التّفسير

الدفاع عن حقوق المرأة : في هذه الآية بالذات تشير إلى بعض العادات الجاهلية المقيتة وحذّر الله سبحانه فيها المسلمين من التورّط بها ، وتلك هي :

١ ـ لقد كانت إحدى العادات الظالمة في الجاهلية أنّ الرجل كان يتزوج بالنساء الغنيات ذوات الشرف والمقام اللّاتي لم يكن يحظين بالجمال ، ثم كانوا يذرونهن هكذا فلا يطلقونهن ، ولا يعاملونهن كالزوجات ، بانتظار أن يمتن فيرثوا أموالهن. تقول الآية الحاضرة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَايَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النّسَاءَ كَرْهًا). وبهذا استنكر الإسلام هذه العادة السيئة.

٢ ـ فقد كان من عادات الجاهليين المقيتة أيضاً أنّهم كانوا يضغطون على الزوجات بشتى الوسائل والطرق ليتخلين عن مهورهن ، ويقبلن بالطلاق ، وكانت هذه العادة تتبع إذا كان المهر ثقيلاً باهظاً ، فمنعت الآية الحاضرة من هذا العمل بقولها : (وَلَا تَعْضِلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَاءَاتَيْتُمُوهُنَّ). أي : من المهر.

ولكن ثمّة استثناء لهذا الحكم قد اشير إليه في قوله تعالى في نفس الآية : (إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ). و «الفاحشة» : هي أن ترتكب الزوجة الزنا وتخون بذلك زوجها ، ففي هذه الحالة يجوز للرجل أن يضغط على زوجته لتتنازل عن مهرها ، وتهبه له ويطلقها عند ذلك. والمقصود من الفاحشة المبينة كل سلوك ناشز مع الزوج.

٣ ـ عاشروهن بالمعاشرة الحسنة ، وهذا هو الشيء الذي يوصي به سبحانه الأزواج في هذه الآية بقوله : (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ). أي : عاشروهن بالعشرة الإنسانية التي تليق بالزوجة والمرأة ، ثم عقب على ذلك بقوله : (فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا). إنّ للخير الكثير في الآية الذي يبشّر به الأزواج الذين يدارون زوجاتهم مفهوماً واسعاً ، ومن مصاديقه الواضحة الأولاد الصالحون والأبناء الكرام.

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) (٢١)

٣٨٠