مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-048-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٥

٢

سورة البقرة

محتوى السورة : هذه السورة تتميز بشمولها لمبادىء العقيدة ولكثير من الأحكام العملية (العبادية ، والاجتماعية ، والسياسية ، والاقتصادية). ففي هذه السورة :

١ ـ موضوعات حول التوحيد ومعرفة الخالق ، عن طريق استنطاق أسرار الكون.

٢ ـ جولات في عالم المعاد والبعث والنشور مقرونة بأمثلة حسيّة ، مثل قصّة إبراهيم عليه‌السلام وإحياء الطير ، وقصّة عُزير عليه‌السلام.

٣ ـ آيات ترتبط بإعجاز القرآن وأهمية كتاب الله العزيز.

٤ ـ سرد مطوّل حول وضع اليهود والمنافقين ومواقفهم المعادية للقرآن والإسلام وشدّة ضررهم في هذا المجال.

٥ ـ استعراض لتاريخ الأنبياء وخاصة إبراهيم وموسى عليهما‌السلام.

٦ ـ بيان لأحكام إسلامية مختلفة مثل : الصلاة ، والصوم ، والجهاد ، والحج ، والقبلة ، والزواج والطلاق ، والتجارة والدّين ، والربا ، والإنفاق ، والقصاص ، وتحريم بعض الأطعمة والأشربة ، والقمار ، وذكر نبذة من أحكام الوصية وأمثالها.

وأمّا تسميتها بالبقرة ، فمأخوذة من قصّة بقرة بني إسرائيل ، التي سيأتي شرحها في الآيات (٧٣ ـ ٦٧) إن شاء الله.

٢١

 فضيلة السورة : في تفسير مجمع البيان : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيّ سور القرآن أفضل؟ قال : «البقرة». قيل : أيّ آية البقرة أفضل؟ قال : «آية الكرسي».

من اللازم هنا أن نعيد التأكيد على هذه الحقيقة ، وهي أنّ ما ذكر من ثواب وفضيلة وجزاء لتلاوة بعض السور والآيات الخاصة ، لا يعني ـ إطلاقاً ـ قراءتها بشكل أوراد ، ولا الإكتفاء بترديد ألفاظها ، بل التلاوة للفهم ، والفهم من أجل التفكير ، والتفكير لغرض العمل.

صحيح أنّ قراءة القرآن عمل مثاب عليه في أي حال من الأحوال ، لكن الثواب الأساس يترتب على التلاوة المقرونة بالتفكير والعمل.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

الم (١) ذلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢)

تحقيق في الحروف المقطعة في القرآن : تسع وعشرون سورة من سور القرآن تبدأ بحروف مقطعة ، وهذه الحروف من أسرار القرآن ، وذكر المفسرون لها تفاسير عديدة.

جدير بالذكر أنّ التاريخ لم يحدثنا أنّ عرب الجاهلية والمشركين عابوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجود هذه الحروف المقطعة في القرآن ، ولم يتخذوا منها وسيلة للطعن والإستهزاء ، وهذا يشير إلى أنّهم لم يكونوا جاهلين تماماً بأسرار وجود الحروف المقطعة.

اخترنا عدداً من التفاسير باعتبار مسنديتها وانسجامها مع آخر الدراسات في هذا المجال ، وسنذكر هذه التفاسير بالتدريج في بداية هذه السّورة ، وسورة آل عمران ، وسورة الأعراف ، إن شاء الله. ونبدأ الآن بأهمّها :

هذه الحروف إشارة إلى أنّ هذا الكتاب السماوي ، بعظمته وأهميته التي حيّرت فصحاء العرب وغير العرب ، وتحدّت الجن والإنس في عصر الرسالة وكل العصور ، يتكون من نفس الحروف المتيسرة في متناول الجميع.

ومع أنّ القرآن يتكون من هذه الحروف الهجائية والكلمات المتداولة ، فإنّ ما فيه من جمال العبارة وعمق المعنى يجعله ينفذ إلى القلب والروح ، ويملأ النفس بالرضا والإعجاب ، ويفرض احترامه على الأفكار والعقول.

وكما أنّ الله تعالى خلق من التراب موجودات ، كالإنسان بما فيه من أجهزة معقّدة محيّرة ، وكأنواع الطيور الجميلة الرائقة ، والأحياء المتنوعة ، والنباتات والزهور المختلفة ، وكما أنّنا

٢٢

ننتج من هذا التراب نفسه ألوان المصنوعات ، كذلك الله سبحانه خلق من هذه الحروف الهجائية المتداولة ، موضوعات ومعان سامية ، في قوالب لفظية جميلة ، وعبارات موزونة ، وأسلوب خاص ، وهذه الحروف الهجائية موجودة تحت تصرف الإنسان ، لكنه عاجز عن صنع جمل وعبارات شبيهة بالقرآن.

الأدب في العصر الجاهلي : من المهم أن نذكر هنا أنّ العصر الجاهلي كان عصراً ذهبياً للأدب العربي. فالوثائق المتوفرة بأيدينا تشير إلى أنّ العرب الحفاة الجفاة الجاهليين ، كانوا يتمتعون بذوق أدبي رفيع. وكان للأدب سوق رائجة تدلّ على اهتمام العرب بلغتهم وآدابهم ، و (سوق عكاظ) وأمثالها من الأسواق الأدبية تعكس هذا الإهتمام بوضوح.

والسوق المذكور كان يشهد ـ إضافة إلى المعاملات الاقتصادية والقضايا الاجتماعية ـ حركة أدبية تعرض خلالها أفضل مقطوعات الشعر والنثر ، ويتم فيها انتخاب أفضل ما قيل من النظم خلال العام ، وكانت القصيدة الفائزة تعدّ فخراً كبيراً للشاعر ولقبيلته.

في مثل هذا العصر من الإنتعاش الأدبي ، يتحدى القرآن الناس أن يأتوا بمثله ، ولكنهم عجزوا.

الشاهد الناطق على هذا المنحى من تفسير الحروف المقطعة ، حديث في تفسير البرهان عن الإمام علىّ بن الحسين عليه‌السلام حيث يقول : «كذّبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا هذا سحر مبين ، تقوّله ، فقال الله : (الم* ذلِكَ الْكِتَابُ) أي يا محمّد ، هذا الكتاب الّذي أنزلته عليك هو الحروف المقطّعة التي منها الف ولام وميم ، وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم».

بعد البسملة وذكر الآية الاولى من سورة البقرة يقول تعالى : (ذلِكَ الْكِتَابُ لَارَيْبَ فِيهِ).

وقوله : (لَارَيْبَ فِيهِ) ليس إدعاء ، بل تقرير لحقيقة قرآنية مشهودة ، وهي أنّ القرآن يشهد بذاته على حقانيته.

ومن المشهود أنّ مرّ العصور وكرّ الدهور لم يقلل من طراوة القرآن ، بل إنّ حقائق القرآن ، ازدادت وضوحاً بتطور العلوم وبانكشاف أسرار الكائنات ، وكلما إزداد العلم تكاملاً إزدادت آيات القرآن جلاء وسطوعاً.

٢٣

بحثان

١ ـ ما هي الهداية؟ كلمة «الهداية» لها عدّة معاني في القرآن الكريم ، وكلها تعود أساساً إلى معنيين :

أ) الهداية التكوينية : وهي قيادة ربّ العالمين لموجودات الكون ، وتتجلى هذه الهداية في نظام الخليقة والقوانين الطبيعية المتحكمة في الوجود.

ب) الهداية التشريعية : وهي التي تتم عن طريق الأنبياء والكتب السماوية ، وعن طريقها يرتفع الإنسان في مدارج الكمال.

٢ ـ لماذا اختصت هداية القرآن بالمتقين؟ واضح أنّ القرآن هداية للبشرية جمعاء ، فلماذا خصّت الآية الكريمة المتقين بهذه الهداية؟

السبب هو أنّ الإنسان لا يتقبل هداية الكتب السماوية ودعوة الأنبياء ، ما لم يصل إلى مرحلة معينة من التقوى (مرحلة التسليم أمام الحق وقبول ما ينطبق مع العقل والفطرة).

الأرض السبخة لا تثمر وإن هطل عليها المطر آلاف المرات ، وساحة الوجود الإنساني لا تتقبل بذر الهداية ما لم يتم تطهيرها من اللجاج والتعصب والعناد ، ولذلك قال سبحانه في كتابه العزيز أنّه : (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ).

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)

آثار التقوى في روح الإنسان وبدنه : في بداية هذه السورة قسم القرآن الناس حسب إرتباطهم بخط الإسلام على ثلاثة أقسام :

١ ـ المتقون : وهم الذين تقبلوا الإسلام في جميع أبعاده.

٢ ـ الكافرون : ويقعون في النقطة المقابلة للمتقين ، ويعترفون بكفرهم ، ولا يأبون أن يظهروا عداءهم للإسلام في القول والعمل.

٣ ـ المنافقون : ولهم وجهان ، فهم مسلمون ظاهراً أمام المسلمين ، وكفار أمام أعداء الدين ، وشخصيتهم الأصلية هي الكفر طبعاً وإن تظاهروا بالإسلام.

٢٤

المجموعة الثالثة تضر بالإسلام ـ دون شك ـ أكثر من المجموعة الثانية ، ولذلك فإنّ القرآن يقابلهم بشدة أكثر كما سنرى.

الآيات المذكورة تدور حول المجموعة الاولى ، وتطرح خصائصهم في خمسة عناوين هي :

١ ـ الإيمان بالغيب : «الغيب والشهود» نقطتان متقابلتان ، عالم الشهود هو عالم المحسوسات ، وعالم الغيب هو ما وراء الحس. لأنّ «الغيب» في الأصل يعني ما بطن وخفي ، وقيل عن عالم ماوراء المحسوسات «غيب» لخفائه عن حواسنا.

الإيمان بالغيب هو بالضبط النقطة الفاصلة الاولى بين المؤمنين بالأديان السماوية ، وبين منكري الخالق والوحي والقيامة ، ومن هنا كان الإيمان بالغيب أوّل سمة ذكرت للمتقين.

«المؤمنين بالغيب» يعتقدون أنّ خالق عالم الوجود غير متناه في العلم والقدرة والإدراك ، وأنّه أزلي وأبدي.

وأنّ الموت ليس بمعنى العدم والفناء ، بل هو نافذة تطل على عالم أوسع وأكبر.

بينما الإنسان المادي يعتقد أنّ عالم الوجود محدود بما نلمسه ونراه ، وأنّ العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعية العمياء الخالية من أي هدف أو تخطيط أو عقل أو شعور ، والإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته.

ما أكبر الهوّة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين للكون والحياة.

الرؤية الاولى تربّي صاحبها على أن ينشد الحق والعدل والخير ومساعدة الآخرين ، والثانية ، لا تقدم لصاحبها أي مبرر على ممارسة الامور.

من هنا يسود في حياة المؤمنين الحقيقيين التفاهم والإخاء والطهر والتعاون ، بينما تهيمن على حياة الماديين روح الاستعمار والاستغلال وسفك الدماء والنهب والسلب ، وهذه الرؤية المادية تقمصت في عصرنا الصفات العلمية والتقدمية والتطورية. ولهذا السبب نرى القرآن يتخذ من «الإيمان بالغيب» نقطة البداية في التقوى.

٢ ـ الإرتباط بالله : الصفة الاخرى للمتقين هي أنّهم : (يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ).

«الصّلاة» باعتبارها رمز الإرتباط بالله ، تجعل المؤمنين المنفتحين على عالم ماوراء الطبيعة على إرتباط دائم بالخالق العظيم ، فهم لا يحنون رؤوسهم إلّاأمام الله ، ولا يستسلمون إلّالربّ السماوات والأرض.

٢٥

مثل هذا الإنسان يشعر أنّه أسمى من جميع المخلوقات الاخرى ، إذ أنّه منح لياقة الحديث مع ربّ العالمين ، وهذا الإحساس الوجداني أكبر عامل في تربية الموجود البشري.

٣ ـ الإرتباط بالناس : المتقون ـ إضافة إلى إرتباطهم الدائم بالخالق ـ لهم إرتباط وثيق ومستمر بالمخلوقين ، ومن هنا كانت الصفة الثالثة التي يبيّنها لهم القرآن أنّهم (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).

يلاحظ أنّ القرآن لا يقول : ومن أموالهم ينفقون ، بل يقول : (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) وبذلك وسّع نطاق الإنفاق ليشمل المواهب المادية والمعنوية.

فالمتقون لا ينفقون أموالهم فحسب ، بل ينفقون من علمهم ومواهبهم العقلية وطاقاتهم الجسميّة ومكانتهم الاجتماعية ، وبعبارة اخرى ينفقون من جميع إمكاناتهم لمن له حاجة إلى ذلك دون توقع الجزاء منه.

٤ ـ الإيمان بالأنبياء عليهم‌السلام : الخاصة الرابعة للمتقين الإيمان بجميع الأنبياء وبرسالاتهم الإلهيّة ، (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ). وفي هذا التعبير القرآني إشارة إلى أنّ المتقين يؤمنون بأنّ الأديان الإلهيّة ليست وسيلة للتفرقة والنفاق ، بل على العكس وسيلة للإرتباط وعامل للشدّ بين أبناء البشر.

٥ ـ الإيمان بيوم القيامة : آخر صفة في هذه السلسلة من الصفات التي قررها القرآن للمتقين : (وَبِالْأَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).

إنّهم يوقنون بأنّ الإنسان لم يخلق هملاً وعبثاً. فالخليقة عيّنت للكائن البشري مسيرة تكاملية لا تنتهي إطلاقاً بموته.

المتقون يقرّون بأنّ عدالة الله المطلقة تنتظر الجميع ، ولا شيء من أعمال البشر في هذه الدنيا يبقى بدون جزاء.

الإيمان بيوم القيامة له أثر عميق في تربية الإنسان ، يهبه الشجاعة والشهامة ، لأنّ أسمى وسام يتقلده الإنسان في هذا العالم هو وسام «الشهادة» على طريق هدف مقدس إلهي ، والشهادة أحبّ شيء للإنسان المؤمن ، وبداية لسعادته الأبدية.

الإيمان بيوم القيامة يصون الإنسان من ارتكاب الذنوب. فكلما قوي الإيمان قلت الذنوب.

آخر آية في هذا البحث تشير إلى النتيجة التي يتلقاها المؤمنون المتصفون بالصفات

٢٦

الخمس المذكورة. تقول : (أُوْلئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وقد ضمن ربّ العالمين لهؤلاء هدايتهم وفلاحهم.

واستعمال حرف (على) في عبارة (عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) يوحي بأنّ الهداية الإلهيّة مثل سفينة يركبها هؤلاء المتّقون لتوصلهم إلى السعادة والفلاح.

واستعمال كلمة «هدًى» في حالة نكرة يشير إلى عظمة الهداية التي شملهم الله بها.

وجملة (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يفيد الإنحصار كما يذكر علماء البلاغة ، أي إنّ الطريق الوحيد للفلاح هو طريق هؤلاء المفلحين.

ما هي حقيقة التقوى؟ التقوى من الوقاية ، أي الحفظ والصيانة ، وهي بعبارة اخرى جهاز الكبح الداخلي الذي يصون الإنسان أمام طغيان الشهوات.

إنّ حالة التقوى والضبط المعنوي من أوضح آثار الإيمان بالله واليوم الآخر ، ومعيار فضيلة الإنسان وافتخاره ، ومقياس شخصيته في الإسلام ، حتى أضحت الآية الكريمة : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَيكُمْ) (١) شعاراً إسلامياً خالداً.

جدير بالذكر أنّ التقوى ذات شعب وفروع ، منها التقوى المالية والاقتصادية ، والتقوى الاجتماعية والسياسية والتقوى الجنسية ....

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧)

المجموعة الثانية : الكفار المعاندون : هذه المجموعة تقف في النقطة المقابلة تماماً للمتقين ، والآيتان المذكورتان بيّنتا باختصار صفات هؤلاء. الآية الاولى تقول : إنّ الإنذار لا يجدي نفعاً مع هؤلاء ، فهم متعنّتون في كفرهم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ). بعكس الطائفة الاولى المستعدّة لقبول الحق لدى أوّل ومضة.

هذه المجموعة غارقة في ضلالها وترفض الإنصياع للحق حتى لو اتضح لديها ، لأنّهم يفتقدون الأرضية اللازمة لقبول الحق والاستسلام له.

الآية الثانية تشير إلى سبب هذا اللجاج والتعصب وتقول : (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى

__________________

(١) سورة الحجرات / ١٣.

٢٧

سَمْعِهِمْ وَعَلَى أبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) ولذلك استحقوا أن يكون (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

الإنسان قابل للهداية طبعاً ـ إن لم يصل إلى هذه المرحلة ـ مهما بلغ به الضلال ، أمّا حينما يبلغ في درجة يفقد معها حسّ التشخيص «فلات حين نجاة» لأنّه افتقد أدوات الوعي والفهم ، ومن الطبيعي أن يكون في إنتظاره عذاب عظيم.

بحوث

١ ـ سلب قدرة التشخيص ومسألة الجبر : أوّل سؤال يطرح في هذا المجال يدور حول مسألة الجبر ، التي قد تتبادر إلى الأذهان من قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ). فهذا الختم يفيد بقاء هؤلاء في الكفر إجباراً ، دون أن يكون لهم اختيار في الخروج من حالتهم هذه ، أليس هذا بجبر؟

القرآن الكريم يجيب على هذه التساؤل ويقول : إنّ هذا الختم وهذا الحجاب هما نتيجة إصرار هؤلاء ولجاجهم وتعنّتهم أمام الحق ، واستمرارهم في الظلم والطغيان والكفر ، يقول تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) (١).

هذه الحالة التي تصيب الإنسان ، هي ردّ فعل لأعمال الإنسان نفسه.

من المظاهر الطبيعية في الموجود البشري ، أنّ الإنسان لو تعوّد على انحراف واستأنس به ، يتخذ في المرحلة الاولى ماهية ال «حالة» ثم يتحول إلى «عادة» وبعدها يصبح «ملكة» وجزء من تكوين الإنسان حتى يبلغ أحياناً درجة لا يستطيع الإنسان أن يتخلّى عنها أبداً. لكن الإنسان إختار طريق الانحراف هذا عن علم ووعي ، ومن هنا كان هو المسؤول عن عواقب أعماله ، دون أن يكون في المسألة جبر ، تماماً مثل شخص فقأ عينيه وسدّ أذنيه عمداً ، كى لا يسمع ولا يرى.

ولو رأينا أنّ الآيات تنسب الختم وإسدال الغشاوة إلى الله ، فذلك لأنّ الله هو الذي منح الانحراف مثل هذه الخاصية. (تأمّل بدقّة).

٢ ـ الختم على القلوب : في الآيات المذكورة وآيات اخرى عبّر القرآن عن عملية سلب حسّ التشخيص والإدراك الواقعي للأفراد بالفعل «ختم» وأحياناً بالفعل «طبع» و «ران».

في اللغة «خَتَمَ» الإناء بمعنى سدّه بالطين أو غيره ، وأصلها من وضع الختم على الكتب

__________________

(١) سورة النّساء / ١٥٥.

٢٨

والأبواب كي لا تُفتح ، والختم اليوم مستعمل في الإستيثاق من الشّيء والمنع منه كختم سندات الأملاك والرسائل السرّية الهامة. و «طبع» بمعنى ختم أيضاً.

أمّا «ران» فمن «الرين» وهو صدأ يعلو الشيء الجليّ ، واستعمل القرآن هذه الكلمة في حديثه عن قلوب الغارقين في أوحال الفساد والرّذيلة : (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (١).

المهم أنّ الإنسان ينبغي أن يكون حذراً لدى صدور الذنب منه ، فيسارع إلى غسله بماء التوبة والعمل الصالح ، كي لا يتحول إلى صفة ثابتة مختوم عليها في القلب.

٣ ـ المقصود من «القلب» في القرآن : لماذا نسب إدراك الحقائق في القرآن إلى القلب ، بينما القلب ليس بمركز للإدراك بل مضخة لدفع الدم إلى البدن؟

أنّ القلب في القرآن له معان متعددة منها :

١ ـ بمعنى العقل والإدراك كقوله تعالى : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) (٢).

٢ ـ بمعنى الروح والنفس كقوله سبحانه : (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) (٣).

٣ ـ بمعنى مركز العواطف كقوله : (سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) (٤).

لمزيد من التوضيح نقول : في وجود الإنسان مركزان قويان هما :

أ) مركز الإدراك ، ويتكون من الدماغ وجهاز الأعصاب.

ب) مركز العواطف ، وهو عبارة عن هذا القلب الصنوبري الواقع في الجانب الأيسر من الصدر ، والمسائل العاطفية تؤثر أوّل ما تؤثر على هذا المركز.

حينما نواجه مصيبة فإنّنا نحسّ بثقلها على هذا القلب الصنوبري ، وحينما يغمرنا الفرح فإنّنا نحسّ بالسرور والإنشراح في هذا المركز (لاحظ بدقّة).

صحيح أنّ المركز الأصلى للإدراك والعواطف هو الروح والنفس الإنسانية ، لكن المظاهر

__________________

(١) سورة المطفّفين / ١٤.

(٢) سورة ق / ٣٧.

(٣) سورة الأحزاب / ١٠.

(٤) سورة الأنفال / ١٢.

٢٩

وردود الفعل الجسمية لها مختلفة. ردود فعل الفهم والإدراك تظهر أوّلاً في جهاز الدماغ ، بينما ردود فعل القضايا العاطفية كالحب والبغض والخوف والسكينة والفرح والهمّ تظهر في القلب بشكل واضح ، ويحسّها الإنسان في هذا الموضوع من الجسم.

ممّا تقدم نفهم سبب إرتباط المسائل العاطفية في القرآن بالقلب (العضو الصنوبري المخصوص) ، وإرتباط المسائل العقلية بالقلب (أي : العقل أو الدماغ).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) (١٦)

المجموعة الثالثة : المنافقون : الإسلام واجه في عصر انبثاق الرسالة مجموعة لم تكن تملك الإخلاص اللازم للإيمان ، ولا القدرة اللازمة للمعارضة. هذه المجموعة المذبذبة المصابة بازدواج الشخصية كان تشخيصهم صعباً لأنّهم متظاهرون بالإسلام ، غير أنّ القرآن بيّن بدقّة مواصفاتهم وأعطى للمسلمين في كل القرون والأعصار معايير حيّة لمعرفتهم. الآيات المذكورة قبلها بينت في مطلعها الخط العام للنفاق والمنافقين (١) : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُءَامَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).

__________________

(١) «المنافق» : مشتقة من «النفق» وهو الطريق النافذ فى الأرض المحفور فيها للإستتار أو الفرار.

٣٠

هؤلاء يعتبرون عملهم المذبذب هذا نوعاً من الشطارة والدهاء (يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَءَامَنُوا). بينما لا يشعر هؤلاء أنّهم يسيئون بعملهم هذا إلى أنفسهم ، ويبدّدون بانحرافهم هذا طاقاتهم ، ولا يجنون من ذلك إلّاالخسران والعذاب الإلهي. (وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّاأَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ).

في الآية التالية يبيّن القرآن أنّ النفاق في حقيقته نوع من المرض ، فإنّ الإنسان السالم له وجه واحد فقط ، وفي ذاته انسجام تام بين الروح والجسد ، لأنّ الظاهر والباطن ، والروح والجسم ، يكمل أحدهما الآخر. إذا كان الفرد مؤمناً فالإيمان يتجلّى في كل وجوده ، وإذا كان منحرفاً فظاهره وباطنه يدلان على انحرافه.

وازدواجية الجسم والروح مرض آخر وعلّة إضافية. إنّه نوع من التضاد والانفصال في الشخصية الإنسانية : (فِى قُلُوبِهِم مَرَضٌ).

وبما أنّ سنّة الله في الكون اقتضت أن يتيسّر الطريق لكل سالك ، وأن تتوفر سبل التقدم لكل من يجهد في وضع قدمه على الطريق. فقد أضاف القرآن قوله : (فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا).

وبما أنّ الكذب رأس مال المنافقين ، يبررون به ما في حياتهم من متناقضات ، ولهذا أشار القرآن في ختام الآية إلى هذه الحقيقة : (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ).

ثم تستعرض الآيات خصائص المنافقين ، وتذكر أوّلاً أنّهم يتشدّقون بالإصلاح ، بينما هم يتحركون على خط التخريب والفساد : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَاتُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِن لَّايَشْعُرُونَ).

ذكرنا سابقاً أنّ الإنسان ، لو تمادى في الغيّ والضلال ، يفقد قدرة التشخيص ، بل تنقلب لديه الموازين ، ويصبح الذنب والإثم جزءً من طبيعته. والمنافقون أيضاً بإصرارهم على انحرافهم يتطبّعون بخط النفاق ، وتتراءى لهم أعمالهم بالتدريج وكأنّهم أعمال إصلاحية ، وتغدو بصورة طبيعة ثانية لهم.

علامتهم الاخرى : إعتدادهم بأنفسهم واعتقادهم أنّهم ذووا عقل وتدبير ، وأنّ المؤمنين سفهاء وبسطاء : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْءَامِنُوا كَمَاءَامَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَاءَامَنَ السُّفَهَاءُ).

وهكذا تنقلب المعايير لدى هؤلاء المنحرفين ، فيرون الإنصياع للحق وإتّباع الدعوة الإلهيّة سفاهة ، بينما يرون شيطنتهم وتذبذبهم تعقلاً ودراية! غير أنّ الحقيقة عكس ما يرون : (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلكِن لَّايَعْلَمُونَ). أليس من السفاهة أن يضيّع الإنسان

٣١

وحدة شخصيته ، ويتّجه نحو إزدواجية الشخصية وتعدد الشخصيات في ذاته ، ويهدر بذلك طاقاته على طريق التذبذب والتآمر والتخريب ، وهو مع ذلك يعتقد برجاحة عقله؟!

العلامة الثالثة لهؤلاء ، هي تلونهم بألوان معينة تبعاً لما تفرضه عليهم مصالحهم ، فهم انتهازيون يظهرون الولاء للمؤمنين ولأعدائهم من الشياطين : (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَءَامَنُوا قَالُواءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهزِءُونَ).

وبلهجة قوية حاسمة يرد القرآن الكريم على هؤلاء ويقول : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١).

الآية الأخيرة توضّح المصير الأسود المظلم لهؤلاء المنافقين ، وخسارتهم في سيرتهم الحياتية الضّالة : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّللَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ).

إنّ إزدواجية الشخصية ، والتضاد بين المحتوى الداخلي والسلوك الخارجي في وجود المنافقين ، يفرز ظواهر عديدة بارزة مشهودة في أعمالهم وأقوالهم وسلوكهم الفردي والاجتماعي.

سعة معنى النفاق : النفاق في مفهومه الخاص صفة اولئك الذين يظهرون الإسلام ، ويبطنون الكفر ، لكن النفاق له معنىً عام واسع يشمل كل ازدواجية بين الظاهر والباطن ، وكل افتراق بين القول والعمل ، من هنا قد يوجد في قلب المؤمن بعض ما نسميه «خيوط النفاق».

ففي الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ثلاث من كنّ فيه كان منافقاً وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم : من إذا ائتمن خان ، وإذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف» (٢).

الحديث لا يدور هنا طبعاً عن المنافق بالمعنى الخاص ، بل عن الذي في قلبه خيوط من النفاق ، تظهر على سلوكه بأشكال مختلفة ، وخاصة بشكل رياء ، كما جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «الرّياء شجرة لا تُثمر إلّاالشّرك الخفيّ وأصلها النّفاق» (٣).

__________________

(١) «يعمهون» : من «العَمَه» أي التردّد في الأمر ، وأيضاً بمعنى عمى القلب والبصيرة بسبب التحيّر.

(٢) بحار الأنوار ٦٩ / ١٠٨ / ٨.

(٣) بحار الأنوار ٦٩ / ٣٠٠ / ٣٧.

٣٢

خداع الضمير : الآية المذكورة تشير بوضوح إلى حقيقة خداع الضمير والوجدان ، وأنّ الإنسان المنحرف الملوّث كثيراً ما يعمد إلى خداع نفسه ووجدانه للتخلص من تأنيب الضمير ، ويصبح بالتدريج مقتنعاً بأنّ قبائحه ليست عملاً انحرافياً ، بل هي أعمال إصلاحية «إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ». وبذلك يخدعون أنفسهم ويستمرون في غيّهم.

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠)

مثالان رائعان لوصف حالة المنافقين : بعد أن بيّن القرآن صفات المنافقين وخصائصهم ، يقدّم مثالين متحركين لتجسيم وضعهم :

١ ـ (مَثَلُهُمْ) المنافقين (كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا) في ليلة مظلمة ، كي يهتدي بها في الطريق ويبلغ مقصده ، (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ).

لقد ظن هؤلاء أنّهم قادرون على أن يحققوا أهدافهم بما لديهم من إمكانات إنارة محدودة ، ولكن نارهم سرعان ما انطفأت بسبب عوامل جوّية ، أو بسبب نفاد الوقود ، وظلوا حائرين لا يهتدون سبيلاً.

ثم تضيف الآية الكريمة أنّ هؤلاء فقدوا كل وسيلة لدرك الحقائق : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ).

هذا النور الضعيف المؤقّت ، إمّا أن يكون إشارة إلى الضمير والفطرة التوحيدية ، أو إشارة إلى الإيمان الأوّلي لهؤلاء المنافقين حيث اسدلت عليه ستائر مظلمة على أثر التقليد الأعمى والتعصب المقيت واللجاج والعداء ، فتحولت ساحة حياتهم لا إلى ظلمة ، بل إلى «ظلمات» في التعبير القرآني.

٣٣

هذا التشبيه يوضّح واحدة من حقائق النفاق ، وهي أنّ عمر النفاق والتذبذب لا يدوم طويلاً ، قد يستطيع المنافقون لمدّة قصيرة أن يتمتعوا بمصونية الإسلام والإيمان ، وبصداقة الكفار سرّاً ، لكن هذه الحالة مثل شعلة ضعيفة معرضة لألوان العواصف ، سرعان ما تنطفى ، ويظهر الوجه الحقيقي للمنافقين.

٢ ـ في المثال الثاني صوّر القرآن حياة المنافقين بشكل ليلة ظلماء مخوفة خطرة ، يهطل فيها مطر غزير ، وينطلق من كل ناحية منها نور يكاد يخطف الأبصار ، ويملأ الجوّ صوت مهيب مرعب يكاد يمزّق الآذان ، وفي هذا المناخ القلق ضلّ مسافرٌ طريقه ، وبقي في بلقع فسيح لا ملجأ فيه ولا ملاذ ، لا يستطيع أن يحتمي من المطر الغزير ، ولا من الرعد والبرق ، ولا يهتدي إلى طريق لشدّة الظلام. هذه الصورة يرسمها القرآن على النحو التالي : (أوْ كَصَيّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِىءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ* يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا).

هؤلاء يحسّون كل لحظة بخطر ، لأنّهم يطؤون صحراء لا جبال فيها ولا أشجار تحميهم من خطر الرعد والبرق والصواعق.

نعم ، هؤلاء حيارى مضطربون ، لا يجدون طريقاً يسلكونه ، ولا دليلاً يهتدون به ، خطر صوت الرعد يهدّد أسماعهم ، ونور البرق يكاد يذهب بأبصارهم (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).

هذه الآيات ـ وإن كانت تتحدث عن المنافقين في عصر نزول الوحي ـ تمتد لتشمل كل المنافقين في التاريخ ، لأنّ خطّ النفاق يقف دوماً بوجه الخط الثوري الصادق الصحيح ، ونحن نرى بأعيننا اليوم مدى انطباق ما يقوله القرآن على منافقي عصرنا بدقّة. نرى حيرتهم وخوفهم واضطرابهم ، ونرى تعاستهم وبؤسهم وانفضاحهم تماماً مثل تلك المجموعة المسافرة الهائمة في صحراء مقفرة وفي ليلة ظلماء موحشة.

أمّا بشأن الفرق بين المثالين : إنّ قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى ...) يصور حالة المنافقين الذين انخرطوا في صفوف المؤمنين عن اعتقاد حقيقي ، ثم تزعزعوا واتّجهوا نحو النفاق. أمّا قوله : (كَصَيّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ ...) فيمثل حالة المنافقين الذين كانوا منذ البداية في صف النفاق ، ولم يؤمنوا بالله قط.

٣٤

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٢)

فيما سبق من آيات كتاب الله سبحانه تبيّن ثلاث مجموعات هي : مجموعة المتّقين ، ومجموعة الكافرين ، ومجموعة المنافقين. أمّا الآيات المذكورة فدعت الناس إلى انتخاب طريق المجموعة الاولى ، وإلى عبادة الله الواحد الأحد. يقول الله تعالى : (يَا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

١ ـ قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) تكرر في القرآن عشرين مرّة تقريباً ، وهو نداء عام شامل يشير إلى أنّ القرآن لا يختص بعنصر أو قبيلة أو طائفة أو فئة خاصة ، بل يوجّه دعوته إلى البشرية عامة لعبادة الله ، وللثورة على كل ألوان الشرك والانحراف عن طريق التوحيد.

٢ ـ يركّز القرآن ، في دعوته إلى عبادة الله وإلى شكر الله ، على نعمة خلق البشر ، وهى نعمة تتجلى فيها قدرة الله كما يتجلى فيها علم الله وحكمته.

٣ ـ نتيجة هذه العبادة هي التقوى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فعباداتنا لا تزيد الله عظمة وجلالاً ، كما أنّ إعراضنا عن العبادة لا ينقص من عظمة الله شيئاً ، هذه العبادات مدرسة لتعليم التقوى.

٤ ـ عبارة (الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) لعلّها ردّ على استدلال المشركين الذين برروا عبادتهم للأصنام بتمسكهم بسنة آبائهم والآية الكريمة تشير بهذه العبارة إلى أنّ الله الواحد الأحد ، خالق البشر وخالق آبائهم ، وكل شرك يعتري المسيرة البشرية في حاضرها وسالفها هو انحراف عن الخط الصحيح.

نِعَم الأرض والسماء : الآية التالية استعرضت قسماً آخر من النعم الإلهيّة التي تستحق الشكر ، ذكرت أوّلاً خلق الأرض : (الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا).

إنّ تعبير «فراش» يصوّر بشكل رائع مفهوم الاستقرار والاستراحة.

في تفسير نور الثقلين هذه الحقيقة يعبّر عنها الإمام علىّ بن الحسين عليه‌السلام مفسراً هذه

٣٥

الآية إذ يقول : «جعلها ملائمةً بطبائعكم ، موافقةً لِأجسادكم ولم يجعلها شديدة الحماء والحرارة فتحرقكم ولا شديدة البرودة فتجمدكم ولا شديد طيب الريح فتصدع هاماتكم ولا شديد النّتن فتعطبكم ولا شديدة اللّين كالماء فتغرقكم ولا شديدة الصّلّابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم ... فلذلك جعل الأرض فراشاً لكم».

ثم تتعرض الآية إلى نعمة السماء فتقول : (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً).

كلمة «سماء» وردت في القرآن بمعان مختلفة ، وكلها تشير إلى العلو ، وأحد معاني السماء «جوّ الأرض» وهو المقصود في الآية الكريمة ، وجوّ الأرض هو الطبقة الهوائية الكثيفة المحيطة بالكرة الأرضية ، ويبلغ سمكها عدّة مئات من الكيلومترات.

هذه الطبقة الهوائية مثل سقف شفاف يحيط بكرتنا الأرضية من كل جانب ، ولو لم يكن هذا السقف لتعرضت الأرض دوماً إلى رشق الشهب والنيازك السماوية المتناثرة ، ولما كان للبشر أمان ولا استقرار على ظهر هذا الكوكب.

بعد ذلك تطرقت الآية إلى نعمة المطر : (وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً). ماءً يحي الأرض ويخرج منها الثمرات.

ثم تشير الآية إلى نعمة الثمرات التي تخرج من بركة الأمطار لتكون رزقاً لبني البشر (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ).

وإخراج الثمرات مدعاة للشكر على رحمة ربّ العالمين لعباده ، ومدعاة للإذعان بقدرة ربّ العالمين في إخراج ثمر مختلف ألوانه ، من ماء عديم اللون ، ليكون قوتاً للإنسان والحيوان ، لذلك عطف عليها قوله تعالى : (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ).

«الأنداد» : جمع «نِد» على وزن ضدّ ، وهو الشبيه والشريك. وبعبارة أدق : ندّ الشيء ونديده مشاركة في جوهره ، وذلك ضرب من المماثلة ، أي المماثلة في جوهر الذات.

الشّرك في أشكال مختلفة : إنّ الشّرك بالله لا ينحصر باتّخاذ الأوثان الحجرية والخشبية آلهة من دون الله كما يفعل الوثنيون ، بل إنّ للشرك معنى أوسع ، وبشكل عام كل اعتقاد بوجود أشياء لها نفس تأثير الله في الحياة هو نوع من الشرك. وهذا ما يعبّر عنه ابن عبّاس إذ يقول : «الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل ، وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان وحياتي. ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ، ولولا

٣٦

البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت! وقول الرجل : لولا الله وفلان ... هذا كله به شرك» (١).

مثل هذه التعابير التي يشمّ منها رائحة الشرك رائجة ـ مع الأسف ـ بين سواد المسلمين وغير لائقة بالشخص الموحّد ، كقولهم : اعتمادي على الله وعليك!

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (٢٤)

القرآن معجزة خالدة : ظاهرة الكفر والنفاق ، تنشأ أحياناً عن عدم فهم محتوى النبوّة ومعجزة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والآيات التي نحن بصددها تعالج هذه المسألة ، وتركز على المعجزة القرآنية الخالدة كي تزيل كل شك وترديد في رسالة نبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله. تقول الآية : (وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ).

وبهذا الشكل تحدى القرآن كل المنكرين أن يأتوا بسورة من مثله ، كي يكون عجزهم دليلاً واضحاً على أصالة هذا الوحي السماوي وعلى الجانب الإلهي للرسالة والدعوة.

ولأجل أن يؤكد هذا التحدي دعاهم أن لا يقوموا بهذا العمل منفردين ، بل (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).

كلمة «شهداء» تشير إلى الفئة التي كانت تساعدهم في رفض رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعبارة «مِّن دُونِ اللهِ» إشارة إلى عجز جميع البشر عن الإتيان بسورة قرآنية ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ، وإلى قدرة الله وحده على ذلك.

وعبارة (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) تستهدف حثّهم على قبول هذا التحدي ، ومفهومها : لو عجزتم عن هذا العمل فذلك دليل كذبكم ، فانهضوا إذن لإثبات ادعائكم.

من هنا فسياق الآيات التالية ، يركز على عنصر الإثارة ويقول : (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ). وهذه النار ليست حديث مستقبل ، بل هي واقع قائم : (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ).

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ١ / ٥٣.

٣٧

جمع من المفسرين قالوا : إنّ المقصود بالحجارة : الأصنام الحجرية ، واستشهدوا لذلك بالآية (٩٨) من سورة الأنبياء : (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ).

ويبدو من ظاهر الآيات المذكورة ، أنّ نار جهنم تستعر من داخل الناس والحجارة ، ولا يصعب فهم هذه المسألة لو علمنا أنّ العلم الحديث أثبت أنّ كل أجسام العالم تنطوي في أعماقها على نار عظيمة.

وفي الآيتي (٦ و ٧) من سورة الهمزة يقول تعالى : (نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفِدَةِ). خلافاً لنيران هذا العالم التي تنفذ من الخارج إلى الداخل.

بحثان

١ ـ لماذا يحتاج الأنبياء إلى المعجزة؟ «المعجزة» ـ كما هو واضح من لفظها ـ عمل خارق يأتي به النبي ويعجز عن الإتيان به الآخرون.

على النبي صاحب المعجزة أن يتحدى الناس بمعجزته ، وأن يعلن لهم أنّ معجزته دليل على صدق دعواه.

٢ ـ القرآن معجزة نبيّ الأكرم الخالدة : القرآن كتاب يسمو على أفكار البشر ، هذا الكتاب الكريم يعتبر ـ بين معاجز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أقوى سند حي على نبوّة الرسول الخاتم ، لأنّه معجزة «ناطقة» و «خالدة» و «عالمية» و «معنوية».

أما أنّه معجزة «ناطقة» فإنّ معاجز الأنبياء السابقين لم تكن كذلك ، أي أنّها كانت بحاجة إلى وجود النبي لكي يتحدث للناس عن معجزته ويتحداهم بها ، ومعاجز النبي الخاتم ـ عدا القرآن ـ هي من هذا اللون ، أمّا القرآن فمعجزة ناطقة ، لا يحتاج إلى تعريف ، يدعو لنفسه بنفسه ، يتحدى بنفسه المعارضين ويدينهم ويخرج منتصراً من ساحة التحدي ، وهو يتحدى اليوم جميع البشر كما كان يتحداهم في عصر الرسالة ، أنّه دين ومعجزة ، أنّه قانون ، ووثيقة تثبت إلهيّة القانون.

أمّا الخلود والعالمية : فإنّ القرآن حطّم سدود «الزمان والمكان» فهو يطلع علينا اليوم كما طلع على عرب الجاهلية قبل قرون ، وما لا يرتبط بزمان أو مكان فإنّه يحوي عناصر الدوام والخلود وسعة دائرته العالمية ، وبديهي أنّ الدين العالمي الخالد بحاجة إلى مثل هذه الوثيقة العالمية الخالدة.

أمّا الصّفة «المعنوية» للقرآن فنفهمها حين ننظر إلى معاجز الأنبياء السابقين ، ونرى أنّها

٣٨

كانت غالباً «جسمية» مثل : شفاء الأمراض الجسمية المستعصية ، وتحدث الطفل في المهد ... وكانت تتجه نحو تسخير الأعضاء البدنية. أمّا القرآن ، فيسخر القلوب والنفوس ، ويبعث فيها الإعجاب والإكبار ، إنّه يتعامل مع الأرواح والأفكار والعقول البشرية ، وواضح امتياز مثل هذه المعجزة على المعاجز الجسمية.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (٢٥)

خصائص نِعَم الجنة : آخر آية في بحثنا السابق تحدثت عن مصير الكافرين ، وهذه الآية تتحدث عن مصير المؤمنين ، كي تتضح الحقيقة أكثر بالمقارنة بين الصورتين ، على الطريقة القرآنية في التوضيح. في المقطع الأوّل تقول الآية : (وَبَشّرِ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).

نعلم أنّ البساتين التي تفتقد الماء الدائم ، وتسقى بين حين وحين ليس لها حظ كبير من النظارة ، فالنظارة تطفح على البساتين التي تمتلك ماء سقي دائم مستمر لا ينقطع أبداً ، ومثل هذه البساتين لا يعتريها جفاف ولا تهددها شحة ماء. وهذه هي بساتين الجنة.

وبعد الإشارة إلى ثمار الجنة المتنوعة تقول الآية : (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ).

ثم تقول الآية : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا). أي متشابهاً في الجودة والجمال ، فهذه الثمار بأجمعها فاخرة بحيث لا يمكن ترجيح إحداها على الاخرى.

وآخر نعمة تذكرها الآية هي : (أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ) من كل أدران الروح والقلب والجسد.

أحد منغّصات نعم الدنيا زوالها ، ومن هنا فلا تكون هذه النعم عادة باعثة على السعادة والإطمئنان ، أمّا نِعم الجنة ففيها السعادة والطمأنينة لأنّها خالدة لا يعتريها الزوال والفناء ، وإلى هذه الحقيقة تشير الآية في خاتمتها وتقول : (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

بحثان

١ ـ الأزواج المطهرة : مما يلفت النظر في هذه الآية أنّ الوصف الوحيد الذي استعمله

٣٩

القرآن لمدح الأزواج في جنات النعيم هو أنّها «مطهرة» ، وهي إشارة إلى أول شرط في الزوجة هو «الطهر» ، وكل ما سواه من الشروط والأوصاف ثانوي.

في حديث عن الإمام الصادق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «قال للناس : إياكم وخضراء الدّمن. قيل : يا رسول الله! وما خضراء الدّمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء» (١).

٢ ـ النعم المادية والمعنوية في الجنة : ذكر القرآن الكريم أنواع النعم المادية في الجنة ، ولكنه ذكر إلى جانب هذه النعم المادية نعماً أهم منها هي النعم المعنوية كقوله تعالى في الآية (٧٢) من سورة التوبة : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ العَظِيمُ).

(إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَا ذَا أَرَادَ اللهُ بِهذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) (٢٦)

سبب النّزول

ذكر الطبرسي في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنّ الله لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين ، يعني قوله (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا) وقوله (أَوْ كَصَيّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال. فأنزل الله تعالى هذه الآية.

قال آخرون : عند نزول الآيات التي تضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت ، بدأ المشركون ينتقدون ويسخرون ، فقال الله تعالى : يا محمّد إنّ الله لا يستحى أن يضرب مثلاً.

التّفسير

هل الله يضرب المثل؟ الفقرة الاولى من الآية تقول : (إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا).

المثال وسيلة لتجسيد الحقيقة حين يقصد المتحدث بيان ضعف المدعي وتحقيره فإنّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٤ / ١٩.

٤٠