مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-048-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٥

بلاغة الحديث تستوجب انتخاب موجود ضعيف للتمثيل به ، كيما يتضح ضعف اولئك. في الآية (٧٣) من سورة الحج ، مثلاً يقول سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَايَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).

وما المقصود من (فَمَا فَوْقَهَا)؟ للمفسرين في هذه رأيان :

الأوّل : «فوقها» في الصغر ، لأنّ المقام مقام بيان صغر المثال ، وهذا مستعمل في الحوار اليومي ، نسمع مثلاً رجل يقول لآخر : ألا تستحي أن تبذل كل هذا الجهد من أجل دينار واحد؟ فيجيب الآخر : لا ، بل أكثر من ذلك أنا مستعد لأبذل هذا الجهد من أجل نصف دينار! فالزيادة هنا في الصغر.

الثّاني : «فوقها» في الكبر. أي : إنّ الله يضرب الأمثال بالصغير وبالكبير ، حسب مقتضى الحال.

لكن الرأي الأوّل يبدو أنسب.

ثم تقول الآية : (فَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ). فهؤلاء ، بإيمانهم وتقواهم ، بعيدون عن اللجاجة والعناد والحقد للحقيقة.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِ كَثِيرًا).

فيجيبهم الله بعبارة قصيرة تحسم الموقف وتقول : (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ).

هداية الله وإضلاله : الهداية والضلالة ـ في المفهوم القرآني ـ لا يعنيان الإجبار على انتخاب الطريق الصحيح أو الخاطىء ، بل إنّ الهداية ـ المفهومة من الآيات المتعدّدة ـ تعني توفّر سبل السعادة ، والإضلال : يعني زوال الأرضيّة المساعدة للهداية ، دون أن يكون هناك إجبار في المسألة.

توفّر السبل (الذي نسميه التوفيق) ، وزوال هذه السبل (الذي نسميه سلب التوفيق) ، هما نتيجة أعمال الإنسان نفسه. فلو منح الله فرداً توفيق الهداية ، أو سلب من أحد هذا التوفيق ، فإنّما ذلك نتيجة الأعمال المباشرة لهذا الفرد أو ذاك.

الفاسقون : هم المنحرفون عن طريق العبودية ، لأنّ الفسق في اللغة إخراج النوى من التمر ، ثم انتقل إلى الخروج عن طريق الله.

٤١

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (٢٧)

الخاسرون الحقيقيون : هذه الآية الكريمة توضح مواصفات الفاسقين بعد أن تحدثت الآية السابقة عن ضلال هذه الفئة ، وتذكر لهم ثلاث صفات :

١ ـ إنّهم (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ).

هؤلاء لهم مع الله عهود ومواثيق ، مثل عهد التوحيد ، وعهد الرّبوبية ، وعهد عدم اتّباع الشيطان وهوى النفس. لكنهم نقضوا كل هذه العهود ، وتمرّدوا على أوامر الله ، واتّبعوا أهواءهم وما أراده الشيطان لهم.

طبيعة هذا العهد : ل موهبة يمنحها الله للإنسان يصحبها عهد طبيعي بين الله والإنسان ، موهبة العين يصحبها عهد يفرض على الإنسان أى يرى الحقائق ، وموهبة الاذن تنطوي على عهد مدوّن في ذات الخلقة يفرض الاستماع إلى نداء الحق ... وبهذا يكون الإنسان قد نقض العهد متى ما غفل عن استثمار القوى الفطرية المودعة في نفسه ، أو استخدم الطاقات الموهوبة له في مسير منحرف.

الفاسقون : ينقضون بعض هذه العهود الفطرية الإلهيّة ، أو جميعها.

٢ ـ الصفة الاخرى لهؤلاء الفاسقين هي أنّهم : (يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ).

الآية تتحدث عن قطع الفاسقين لِكلّ إرتباط أمر الله به أن يوصل ، بما في ذلك رابطة الرحم ، رابطة الصداقة ، والروابط الاجتماعية ، والرابطة بهداة البشرية إلى الله ، والإرتباط بالله.

٣ ـ علامة الفاسقين الثالثة هي الفساد : (وَيُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ).

وتؤكد الآية في الخاتمة أنّ (أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

وأيّ خسران أكبر من تبديد كل القوى المادية والمعنوية المودعة في الإنسان الرّاميّة لإسعاده ، وإهدارها على طريق الشقاوة والتعاسة والانحراف؟

أهمية صلة الرحم في الإسلام : الآية المذكورة أعلاه ، وإن تحدثت عن كل إرتباط أمر الله به أن يوصل ، إلّاأنّ الإرتباط الرحمي دون شك أحد مصاديقها البارزة.

لقد أعار الإسلام اهتماماً بالغاً بصلة الرحم وبالتودد إلى الأهل والأقارب ، ونهى بشدة عن قطع الإرتباط بالرحم.

٤٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصور أهمية صلة الرحم بقوله : «صلة الرحم تعمر الديار وتزيد في الأعمار وإن كان أهلها غير أخيار» (١).

الإسلام مارس هذه العملية على النحو الأكمل في بناء المجتمع الإسلامي القوي الشامخ ، وأمر بإصلاح الوحدات الاجتماعية ، والكائن الإنساني لا يأبى عادة أن ينصاع إلى مثل هذه الأوامر اللازمة لتقوية إرتباط أفراد الاسرة ، لاشتراك هؤلاء الأفراد في الرحم والدم.

وواضح أنّ المجتمع يزداد قوّة وعظمة كلما ازداد التماسك والتعاون والتعاضد في الوحدات الاجتماعية الصغيرة المتمثلة بالاسرة ، وإلى هذه الحقيقة قد يشير الحديث الشريف : «صلة الرحم تعمر الديار».

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٩)

نعمة الحياة : القرآن في الآيتين يكمل الأدلة التي أوردها في الآيتين (٢١ و ٢٢) من هذه السورة حول معرفة الله. القرآن يبدأ في أدلته من نقطة لا تقبل الإنكار ، ويركز على مسألة (الحياة) بكل ما فيها من تعقيد وغموض ، ويقول : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ).

وفي هذه العبارة تذكير للإنسان بما كان عليه قبل الحياة ... لقد كان ميتاً تماماً مثل الأحجار والأخشاب ولم يكن فيه أي أثر للحياة ، لكنه الآن يتمتع بنعمة الحياة ، وبنعمة الشعور والإدراك.

إنّ لغز الحياة لم ينحل حتى اليوم على الرغم من كل ما حققه البشر من تقدم هائل في حقل العلم والمعرفة. لكن السؤال يبقى قائماً بحاله : كيف يكفر الإنسان بالله وينسب هذه الحياة بتعقيداتها وغموضها وأسرارها إلى صنع الطبيعة العمياء الصّماء الفاقدة لكل شعور وإدراك؟

من هنا نقول إنّ ظاهرة الحياة في عالم الطبيعة أعظم سند لإثبات وجود الله تعالى ،

__________________

(١) بحار الأنوار ٧١ / ٩٤.

٤٣

والقرآن يركّز في الآية المذكورة على هذه المسألة بالذات.

بعد التذكير بهذه النعمة ، تؤكد الآية على دليل واضح آخر وهو «الموت» (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ).

نعم ... إنّ خالق الحياة هو خالق الموت أيضاً ، وإلى ذلك تشير الآية (٢) من سورة الملك : (الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

بعد أن ذكرت الآية هذين الدليلين الواضحين على وجود الله ، تناولت المعاد والحياة بعد الموت : (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ).

وفي نهاية الآية يقول تعالى : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرجَعُونَ). والمقصود بالرجوع هو الرجوع إلى نعم الله تعالى يوم القيامة.

بعد ذكر نعمة الحياة والإشارة إلى مسألة المبدأ والمعاد ، تشير الآية إلى واحدة اخرى من النعمّ الإلهيّة السابقة وتقول : (هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا).

وبهذا تعين الآية قيمة الإنسان في هذه الأرض ، وسيادته على ما فيها من موجودات. وفي القرآن آيات اخرى تؤكد على مكانة الإنسان السامية ، وتوضح أنّ هذا الكائن هو الهدف النهائي من خلق كل موجودات الكون.

وتعود الآية إلى ذكر أدلة التوحيد وتقول : (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّيهُنَّ سَبْعَ سَموَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمٌ).

الفعل «استوى» : من «الإستواء» وهو التسلط والإحاطة الكاملة والقدرة على الخلق والتدبير.

السماوات السبع : الأصح في رأينا أنّ المقصود بالسماوات السبع ، هو وجود سبع سماوات بهذا العدد. ويستفاد من آيات اخرى أنّ كل الكرات والسيارات المشهودة هي جزء من السماء الاولى ، وثمة ستة عوالم اخرى خارجة عن نطاق رؤيتنا ووسائلنا العلمية اليوم ، وهذه العوالم السبعة هي التي عبّر عنها القرآن بالسماوات السبع.

في الآية (١٢) من سورة فصّلت ، يقول تعالى : (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ).

وفي الآية (٦) من سورة الصّافات ، يقول أيضاً : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ).

ويتضح من هاتين الآيتين أنّ ما نراه وما يتكون منه عالم الأفلاك هو جزء من السماء الاولى ، وما وراء هذه السماء ست سماوات اخرى ليس لدينا اليوم معلومات عن تفاصيلها.

٤٤

(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣١) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٣٣)

الإنسان خليفة الله في الأرض : الآيات السابقة ذكرت أنّ الله سبحانه خلق ما في الأرض جميعاً للإنسان ، وفي الآيات (٣٠ ـ ٣٩) تركيز على ثلاث مسائل أساسية هي :

١ ـ إخبار الله ملائكته بشأن خلافة الإنسان في الأرض.

٢ ـ أمر الله تعالى ملائكته بإكرام وتعظيم الإنسان الأول.

٣ ـ شرح وضع آدم وحياته في الجنة ، والحوادث التي أدّت إلى خروجه من الفردوس ، ثم توبة آدم ، وحياته هو وذريته في الأرض.

الآيات المذكورة تتحدث عن المرحلة الاولى ، حين شاء الله أن يخلق على ظهر الأرض موجوداً ، يكون فيها خليفته ، ويحمل أشعة من صفاته ، وتسمو مكانته على مكانة الملائكة. وبهذه المناسبة تقول الآية الاولى : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلِكَةِ إِنّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً). والخليفة : هو النائب عن الغير ، أمّا هذا الغير الذي ينوب الإنسان عنه هو خليفة الله ونائبه على ظهر الأرض ، كما ذهب إلى ذلك كثير من المحققين. لأنّ سؤال الملائكة بشأن هذا الموجود الذي قد يفسد في الأرض ويسفك الدماء يتناسب مع هذا المعنى ، لأنّ نيابة الله في الأرض لا تتناسب مع الفساد وسفك الدماء.

ثم تذكر الآية سؤال الملائكة الذي وجّهوه لرب العالمين مستفسرين لا معترضين : (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ).

الله سبحانه أجاب الملائكة جواباً مغلقاً اتضح في المراحل التالية : (قَالَ إِنّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).

٤٥

الملائكة يعلمون أنّ الهدف من الخلقة هو العبودية والطاعة ، وكانوا يرون في أنفسهم مصداقاً كاملاً لذلك ، فهم في العبادة غارقون. ولذلك فهم ـ أكثر من غيرهم ـ للخلافة لائقون ، غير عالمين أنّ بين عبادة الإنسان المليء بألوان الشهوات ، والمحاط بأشكال الوساوس الشيطانية ، والمغريات الدنيوية وبين عبادتهم ـ وهم خالون من كل هذه المؤثرات ـ بون شاسع. فأين عبادة هذا الموجود الغارق وسط الأمواج العاتية ، من عبادة تلك الموجودات التي تعيش على ساحل آمن؟!

ماذا تعرف الملائكة من ابناء آدم أمثال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وابراهيم ونوح وموسى وعيسى والأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام وعباد الله الصالحين والشهداء والمضحون من الرجال والنساء الذين قدموا وجودهم على مذبح العشق الإلهي ، والذين تساوي ساعة من تفكرهم سنوات متمادية من عبادة الملائكة؟

الملائكة في بودقة الإختبار : كان آدم يملك ـ بفضل الله ـ قابلية خارقة لفهم الحقائق. وشاء الله أن ينقل هذه القابلية من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل ، وهذا ما عبر عنه القرآن بقوله : (وَعَلَّمَءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا).

هذا العلم بالكون وبأسرار الموجودات وخواصها ، كان مفخرة كبيرة لآدم طبعاً.

في تفسير العياشي عن أبي العباس عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله «وعلّم آدم الأسماء كلّها» ماذا علّمه؟ قال : «الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال : وهذا البساط ممّا علّمه».

كما منح الله آدم قابلية التسمية ، ليستطيع أن يضع للأشياء أسماء ، وبذلك يتحدث عن هذه الأشياء بذكر اسمها لا بإحضار عينها ، وهذه نعمة كبرى.

(ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلِكَةِ فَقَالَ أَنْبُونِى بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). وأمام هذا الاختبار تراجع الملائكة لأنّهم لم يملكوا هذه القدرة العلمية التي منحها الله لآدم ، (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

وحان الدور لآدم كي يشرح أسماء الموجودات وأسرارها أمام الملائكة : (قَالَ يَاءَادَمُ أَنْبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ).

وهنا اتضح للملائكة أنّ هذا الموجود هو وحده اللائق لاستخلاف الأرض.

٤٦

جواب على سؤالين : ويبقى سؤالان في هذا المجال ، الأوّل يدور حول تعليم الله لآدم ، كيف تم ذلك؟ ولو قُدر أن يكون هذا التعليم من نصيب الملائكة لنالوا نفس فضيلة آدم ، فهل هناك مفخرة يمتلكها آدم ولا تمتلكها الملائكة؟

أمّا بشأن كيفية التعليم فالجواب هو أنّ هذا التعليم تكويني ، أي إنّ الله أودع هذا العلم في وجود آدم بالقوة ، ودفعه خلال مدة قصيرة إلى المرحلة الفعلية.

إطلاق كلمة «تعليم» في القرآن على «التعليم التكويني» ورد في موضع آخر من القرآن ، كقوله تعالى : (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (١). وواضح أنّ الله سبحانه علّم الإنسان البيان في مدرسة الخلقة ، أي منحه الكفاءة والخصائص الفطرية اللازمة للبيان والكلام.

أما الشطر الآخر من هذا السؤال فيتبين جوابه لو علمنا أنّ الملائكة كانت لهم خلقة خاصة ، ما كانت تؤهلهم لتلقي كل هذه العلوم. إنّهم مخلوقون لهدف آخر ، لا لهذا الهدف ، وهذه الحقيقة فهمها الملائكة وتقبلوها بعد أن مروا بتلك التجربة المذكورة في الآية. ولعلهم اعتقدوا في البداية أنّهم يحملون الكفاءة اللازمة لهذا الهدف ، لكن الله بيّن لهم الفرق بين كفاءتهم وكفاءة آدم بتجربة تعليم الأسماء.

(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (٣٦)

آدم عليه‌السلام في الجنة : ينتقل القرآن إلى فصل آخر من موضوع عظمة الإنسان ويقول : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلِكَةِ اسْجُدُوا لِأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).

لو أمعنّا النظر في آيات القرآن الكريم لألفينا أنّ موضوع السجود لآدم جاء بعد اكتمال خلقة الإنسان مباشرة ، وقبل امتحان الملائكة.

إنّ الآية المذكورة تقرير قرآني واضح صريح لشرف الإنسان وعظمة مكانته ، فكل الملائكة يؤمرون بالسجود له بعد اكتمال خلقته.

__________________

(١) سورة الرّحمن / ٤.

٤٧

حقاً ، إنّ هذا الموجود ، اللائق لخلافة الله على الأرض ، والمؤهل لهذا الشوط الكبير من التكامل وتربية أبناء عظام كالأنبياء وخاصة النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله يستحق كل احترام.

نحن نشعر بالتعظيم والتكريم لمن حوى بعض العلوم وعلم شيئاً من القوانين والمعادلات العلمية ، فكيف حال الانسان الأوّل مع كل تلك العلوم والمعارف الزاخرة عن عالم الوجود؟

بحثان

١ ـ لماذا أبى إبليس؟ «الشيطان» اسم جنس شامل للشيطان الأوّل ولجميع الشياطين. أما «إبليس» فاسم علم للشيطان الذي وسوس لآدم. وإبليس ـ كما صرح القرآن ـ ما كان من جنس الملائكة وإن كان في صفوفهم ، بل كان من طائفة الجن ، وهي مخلوقات مادية.

باعثه على الإمتناع عن السجود كبر وغرور وتعصب خاص استولى عليه حيث اعتقد أنّه أفضل من آدم ، ولا ينبغي أن يصدر له أمر بالسجود لآدم.

كفر إبليس كان يعود إلى نفس السبب أيضاً ، فقد اعتقد بعدم صواب الأمر الإلهي ، وبذلك لم يعص فحسب ، بل انحرف عقائدياً. وهكذا ذهبت أدراج الرياح كل عباداته وطاعاته نتيجة كبره وغروره. وهكذا تكون دوماً نتيجة الكبر والغرور.

وعبارة (كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) تشير إلى أنّ إبليس كان قبل صدور الأمر الإلهى إليه بالسجود ، قد انفصل عن مسير الملائكة وطاعة الله ، وأسرّ في نفسه الإستكبار والجحود.

٢ ـ هل كان السّجود لله أم لآدم؟ لا شك أنّ السجود يعني «العبادة» لله ، إذ لا معبود غير الله ، وتوحيد العبادة يعني أن لا نعبد إلّاالله. من هنا فإنّ الملائكة لم يؤدوا لآدم يعني «سجدة عبادة» قطعاً ، بل كان السجود لله من أجل خلق هذا الموجود العجيب. أو كان سجود الملائكة لآدم سجود «خضوع» لا عبادة.

جاء في عيون الأخبار عن الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه‌السلام حديث طويل وفيه : «إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لنا وإكراماً وكان سجودهم لله تعالى عبودية ، ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه».

بعد هذا المشهد ومشهد اختبار الملائكة ، امر آدم وزوجه أن يسكنا الجنة ، كما جاء في قوله تعالى : (وَقُلْنَا يَاءَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا

٤٨

هذِهِ الشَّجَرَةَ) (١).

يستفاد من آيات القرآن أنّ آدم خُلق للعيش على هذه الأرض ، لكن الله شاء أن يسكنه قبل ذلك الجنة ، وهي روضة خضراء موفورة النعمة في هذا العالم.

لعل مرحلة مكوث آدم في الجنة كانت مرحلة تحضيرية لعدم ممارسة آدم للحياة على الأرض وصعوبة تحمل المشاكل الدنيوية بدون مقدمة ، ومن أجل تأهيل آدم لتحمل مسؤوليات المستقبل ، ولتفهيمه أهمية حمل هذه المسؤوليات والتكاليف الإلهيّة في تحقيق سعادته ، ولإعطائه صورة عن الشقاء الذي يستتبع اهمال هذه التكاليف ، ولتنبيهه بالمحظورات التي سيواجهها على ظهر الأرض.

ينبغي أن ينضج آدم عليه‌السلام في هذا الجو إلى حد معين ، وأن يعرف أصدقاءه وأعداءه ، ويتعلم كيف يعيش على ظهر الأرض ، نعم ، كانت هذه مجموعة من التعاليم الضرورية التي تؤهله للحياة على ظهر الأرض.

وهنا رأى «آدم» نفسه أمام أمر إلهي يقضي بعدم الاقتراب من الشجرة ، لكن الشيطان أبى إلّاأن ينفذ بقسمه في إغواء آدم وذريته. تقول الآية بعد ذلك : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ).

نعم. اخرجا من الجنة حيث الراحة والهدوء وعدم الألم والتعب والعناء ، على أثر وسوسة الشيطان.

وصدر لهما الأمر الإلهي بالهبوط : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوُّ وَلَكُمْ فِى الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ).

وهنا ، فهم آدم أنّه ظلم نفسه ، وأخرج من الجوّ الهادي الملي بنعم الجنة بسبب استسلامه لوسوسة الشيطان ، وهبط في جوّ مفعم بالتعب والمشقة والعناء ، مع أنّ آدم كان نبياً ومعصوماً ، فإنّ الله يؤاخذ الأنبياء بترك الأولى ـ كما سنرى ـ كما يؤاخذ باقي الأفراد على ذنوبهم ، وهو عقاب شديد تلقاه آدم جرّاء عصيانه.

بحوث

١ ـ ما هي جنة آدم؟ يبدو أنّ الجنة التي مكث فيها آدم قبل هبوطه إلى الأرض ، لم تكن

__________________

(١) «الرغد» : على وزن الصمد يعني الكثير والواسع والهنيء ؛ وعبارة «حيث شئتما» تعني : من أي مكان شئتما في الجنة ، أو من أي نوع شئتم من فاكهة الجنة.

٤٩

الجنة التي وعد بها المتقون ، بل كانت من جنان الدنيا ، وصقعاً منعّماً خلّاباً من أصقاع الأرض. ودليلنا على ذلك :

أوّلاً : الجنة الموعودة في القيامة نعمة خالدة ، والقرآن ذكر مراراً خلودها ، فلا يمكن إذن الخروج منها.

ثانياً : إبليس الملعون ليس له طريق للجنة ، وليس لوسوسته مكان هناك.

ثالثاً : وردت عن أهل البيت عليهم‌السلام روايات تصرح بذلك.

في الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن جنة آدم ، فقال : «جنة من جنات الدنيا ، يطلع فيها الشمس والقمر ، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبداً».

من هذا يتضح أنّ هبوط آدم ونزوله إلى الأرض لم يكن مكانياً بل مقامياً ، أي أنّه هبط من مكانته السامية ومن تلك الجنة المزدانة.

٢ ـ المقصود من الشيطان في القرآن :كلمة الشيطان من مادة «شطن» و «الشاطن» هو الخبيث والوضيع ، والشيطان تطلق على الموجود المتمرد العاصي ، إنساناً كان أو غير إنسان ، وتعني أيضاً الروح الشريرة البعيدة عن الحق. وبين كل هذه المعاني قدر مشترك.

والشيطان اسم جنس عام ، وإبليس اسم علم خاص ، وبعبارة اخرى ، الشيطان كل موجود مؤذٍ مغوٍ طاغ متمرد ، إنساناً كان أم غير إنسان ، وإبليس اسم الشيطان الذي أغوى آدم ويتربّص هو وجنده الدوائر بأبناء آدم دوماً.

من مواضع استعمال هذه الكلمة في القرآن يفهم أنّ كلمة الشيطان تطلق على الموجود المؤذي المضر المنحرف الذي يسعى إلى بثّ الفرقة والفساد والاختلاف ، مثل قوله تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ) (١).

والاستعمال القرآني لكلمة شيطان يشمل حتى أفراد البشر المفسدين المعادين للدعوة الإلهيّة ، كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنّ) (٢).

كلمة الشيطان اطلقت على إبليس أيضاً بسبب فساده وإنحرافه.

٣ ـ لماذا خُلق الشيطان؟ يثار أحياناً سؤال عن سبب خلق هذا الموجود المضل المغوي ، وفي الجواب نقول :

__________________

(١) سورة المائدة / ٩١.

(٢) سورة الأنعام / ١١٢.

٥٠

أوّلاً : لم يخلق الله الشيطان ، شيطاناً ، والدليل على ذلك وجوده بين ملائكة الله وعلى الفطرة الطاهرة ، لكنه بعد تحرره أساء التصرف ، وعزم على الطغيان والتمرد ، إنّه إذن خلق طاهراً ، وسلك طريق الانحراف مختاراً.

ثانياً : وجود الشيطان لا يسبب ضرراً للأفراد المؤمنين ، ولطلاب طريق الحق ، في منظار نظام الخليقة ، بل إنّه وسيلة لتقدمهم وتكاملهم ، إذ إنّ التطور والتقدم يتم من خلال صراع الأضداد.

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (٣٩)

عودة آدم عليه‌السلام إلى الله : بعد حادثة وسوسة إبليس ، وصدور الأمر الإلهي لآدم بالخروج من الجنة ، فهم آدم أنّه ظلم نفسه ، وهنا أخذ آدم يفكر في تلافي خطئه ، فاتجه بكل وجوده إلى بارئه وهو نادم أشد الندم ، وأدركته رحمة الله في هذه اللحظات كما تقول الآية : (فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

«التوبة» في اللغة بمعنى «العودة» وهي في التعبير القرآني ، بمعنى العودة عن الذنب ، إن نُسبت إلى المذنب ، وإن نسبت كلمة التوبة إلى الله فتعني عودته سبحانه إلى الرحمة التي كانت مسلوبة عن العبد المذنب. ولذلك فهو تعالى «توّاب» في التعبير القرآني.

على أي حال ، لقد حدث ما لا ينبغي أن يحدث ـ أو ما ينبغي أن يحدث ـ وقُبلت توبة آدم. لكن الأثر الوضعي للهبوط في الأرض لم يتغير ، كما يذكر القرآن : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

الكلمات التي تلقاها آدم : تعددت الآراء في تفسير «الكلمات» التي تلقاها آدم عليه‌السلام من ربّه. المعروف أنّها الكلمات المذكورة في الآية (٢٣) من سورة الأعراف : (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّم تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

وقال آخرون أنّ المقصود من الكلمات هذا الدعاء :

٥١

«اللهمّ لا إله إلّاأنت سبحانك وبحمدك ، ربّ إنّي ظلمت نفسي ، فاغفر لي إنّك خير الغافرين».

«اللهمّ لا إله إلّاأنت سبحانك وبحمدك ، ربّ إنّي ظلمت نفسي ، فارحمني إنّك خير الراحمين».

«اللهمّ لا إله إلّاأنت سبحانك وبحمدك ، ربّ إنّي ظلمت نفسي ، فَتُب عليّ إنّك أنت التّوّاب الرّحيم».

وفي روايات وردت عن طرق أهل البيت عليهم‌السلام أنّ المقصود من «الكلمات» أسماء أفضل مخلوقات الله وهم : محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم أفضل الصلاة والسّلام ـ وآدم توسّل بهذه الكلمات ليطلب العفو من ربّ العالمين فعفا عنه.

هذه التفاسير الثلاثة لا تتعارض مع بعضها.

(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٤٠)

ذكر النِعم الإلهيّة : لما كانت قصّة بني إسرائيل ابتداء من تحررهم من السيطرة الفرعونية واستخلافهم في الأرض ، ومروراً بنسيان العهد الإلهي ، وانتهاء بسقوطهم في حضيض الانحراف والعذاب والمشقة ، تشبه إلى حدّ كبير قصّة آدم. يوجه القرآن خطابه إلى بني إسرائيل ويقول : (يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيىَ فَارْهَبُونِ).

الأوامر الثلاثة التي تذكرها الآية الكريمة وهي : تذكّر النعم الإلهية ، والوفاء بالعهد ، والخوف من الله ، تشكل المنهج الإلهى الكامل للبشرية.

ميثاق بني إسرائيل : ميثاق بني إسرائيل الإلهي يتكون من اثني عشر بنداً ، عشر منها ذكرت في آيتى (٨٣ و ٨٤) من هذه السورة ، وبندان ذكرا في الآية الكريمة : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَى عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوةَ وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَوةَ وَءَامَنْتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) (١).

وهما : الإيمان بالأنبياء ومؤازرتهم.

__________________

(١) سورة المائدة / ١٢.

٥٢

جملة (إِيىَ فَارْهَبُونِ) تأكيد على كسر كل حواجز الخوف القائمة في طريق الوفاء بالعهد الإلهى ، وعلى الخوف من الله وحده دون سواه ، وهذا الحصر يتضح من تقديم ضمير النصب المنفصل «إيّاى» على جملة «فارهبون».

(وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «كان حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وآخرون من اليهود ، لهم مأكلة على اليهود في كل سنة ، فكرهوا بطلانها بأمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فحرّفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته وذكره فذلك الثّمن الّذي اريد في الآية».

التّفسير

جشع اليهود : الآيات المذكورة أعلاه تتطرق إلى تسعة من بنود العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل. يقول تعالى : (وَءَامِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لِمَا مَعَكُم). فالقرآن مصدق لما مع اليهود من كتاب ، أي أنّ البشائر التي زفّتها التوراة والكتب السماوية الاخرى بشأن النبي الخاتم ، والأوصاف التي ذكرتها لهذا النبي والكتاب السماوي تنطبق على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى القرآن المنزل عليه. فلماذا لا تؤمنون به؟!

ثم يقول سبحانه : (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ). أي : ـ لا عجب أن يكون المشركون والوثنيون في مكّة ـ كفّاراً بالرسالة ، بل العجب في كفركم ، لأنّكم أهل الكتاب ، وكتابكم يحمل بشائر ظهور هذا النبي ، وكنتم لذلك تترقبون ظهوره.

المقطع الثالث من الآية يقول : (وَلَا تَشْتَرُوا بَايَاتِى ثَمَنًا قَلِيلاً).

في المقطع الرابع تقول الآية : (وَإِيىَ فَاتَّقُونِ). والخطاب موجّه إلى زعماء اليهود الّذين يخشون أن ينقطع رزقهم ، وأن يثور المتعصبون اليهود ضدّهم ، وتطلب منهم أن يخشوا الله وحده ، أي أن يخشوا عصيان أوامره سبحانه.

في البند الخامس من هذه الأوامر ينهى الله سبحانه عن خلط الحق بالباطل : (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ).

٥٣

وفي البند السادس ينهى عن كتمان الحق : (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ).

البند السابع والثامن والتاسع من هذه الأوامر يبيّنه قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ).

إنّ الآية لم تقل «أدّوا الصلاة» بل قالت : (أَقِيمُوا الصَّلَوةَ). وهذا الحث يحمّل الفرد مسؤولية خلق المجتمع المصلي ومسؤولية جذب الآخرين نحو الصلاة.

إنّ تعبير «أقيموا» إشارة إلى إقامة الصلاة كاملة ، وعدم الاكتفاء بالأذكار والأوراد ، وأهم أركان كمال الصلاة حضور القلب والفكر لدى الله سبحانه ، وتأثير الصلاة على المحتوى الداخلى للإنسان.

هذه الأوامر الأخيرة تتضمن : أوّلاً بيان إرتباط الفرد بخالقه (الصلاة) ، ثم إرتباطه بالمخلوق (الزكاة) ، وبعد ذلك إرتباط المجموعة البشرية مع بعضها على طريق الله.

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (٤٦)

الآية الاولى من الآيات التي يدور حولها بحثنا خطاب لعلماء اليهود ، وبّخهم الله تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر الناس بالإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وترك أنفسهم في ذلك. لذلك كانت الآية تحمل توبيخاً لهذا العمل : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ).

منهج الدعاة إلى الله يقوم على أساس العمل أوّلاً ثم القول ، فالداعية إلى الله يبلّغ بعمله قبل قوله ، كما جاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام : «كونوا دعاة الناس بأعمالكم ولا تكونوا دعاةً بألسنتكم» (١).

علماء اليهود كانوا يخشون من انهيار مراكز قدرتهم وتفرق عامة الناس عنهم ، إن اعترفوا برسالة خاتم الأنبياء ولذلك حرفوا ما ورد بشأن صفات نبي الخاتم في التوراة.

والقرآن يحث على الاستعانة بالصبر والصلاة للتغلب على الأهواء الشخصية والميول

__________________

(١) بحار الأنوار ٥ / ١٩٨.

٥٤

النفسية ، فيقول في الآية التالية : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ). ثم يؤكد أنّ هذه الاستعانة ثقيلة لا ينهض بعبئها إلّاالخاشعون : (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ).

وفي الآية الأخيرة من هذه المجموعة وصف للخاشعين : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلقُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

«يظنّون» : من مادة «ظنّ» وقد تأتى بمعنى اليقين. وفي هذا الموضع تعني الإيمان واليقين القطعي. لأنّ الإيمان بلقاء الله والرجوع إليه ، يحيى في قلب الإنسان حالة الخشوع والخشية والإحساس بالمسؤولية ، وهذا أحد آثار تربية الإنسان على الإيمان بالمعاد ، حيث تجعل هذه التربية الفرد ماثلاً دوماً أمام مشهد المحكمة الكبرى ، وتدفعه إلى النهوض بالمسؤولية وإلى الحق والعدل.

بحثان

١ ـ ما هو لقاء الله؟ عبارة «لقاء الله» وردت مراراً في القرآن الكريم ، وتعني بأجمعها الحضور على مسرح القيامة ، من البديهي أنّ المقصود بلقاء الله ليس هو اللقاء الحسي ، كلقاء أفراد البشر مع بعضهم ، لأنّ الله ليس بجسم ، ولا يحده مكان ، ولا يُرى بالعين ، بل المقصود مشاهدة آثار قدرة الله وجزائه وعقابه ونعمه وعذابه على ساحة القيامة.

أو إنّ المقصود الشهود الباطني والقلبي ، لأنّ الإنسان يصل درجة كأنّه يرى الله ببصيرته أمامه ، بحيث لا يبقى في نفسه أي شك وترديد.

هذه الحالة قد تحصل للأفراد نتيجة الطّهر والتقوى والعبادة وتهذيب النفس في هذه الدنيا.

هذا الشهود الباطني ينجلي للجميع يوم القيامة ، ولا يبقى أحد إلّاوقد آمن إيماناً قاطعاً ، لوضوح آثار عظمة الله وقدرته في ذلك اليوم.

٢ ـ سبيل التغلب على الصعاب : ثمة منطلقان أساسيان للتغلب على الصعاب والمشاكل ، أحدهما داخلي ، والآخر خارجي.

أشارت الآية إلى هذين المنطلقين بعبارة «الصبر» و «الصلاة». فالصبر هو حالة الصمود والاستقامة والثبات في مواجهة المشاكل ، والصلاة هي وسيلة الإرتباط بالله حيث السند القوي المكين.

روى الطبرسي في تفسير مجمع البيان في تفسير هذه الآية : وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا حزنه أمر استعان بالصلاة والصوم.

٥٥

وروى أيضاً عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غمّ من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل المسجد فيركع ركعتين يدعو الله فيها ، أما سمعت الله تعالى يقول : واستعينوا بالصّبر والصّلوة».

(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤٨)

أوهام اليهود : في هذه الآيات خطاب آخر إلى بني إسرائيل فيه تذكير بنعم الله : (يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ). هذه النعم سابغة واسعة النطاق ، ابتداءً من الهداية والإيمان ، وانتهاءً بالنجاة من فرعون ونيل العظمة والاستقلال.

ثم تشير الآية من بين كل هذه النعم إلى نعمة التفضيل على بقية البشر ، وهي نعمة مركبة من نعم مختلفة ، وتقول : (وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ).

الآية التالية ترفض أوهام اليهود ، التي كانوا يتصورون بموجبها أنّ الأنبياء من أسلافها سوف يشفعون لهم ، أو أنّهم قادرون على دفع فدية وبدل عن ذنوبهم ، كدفعهم الرشوة في هذه الحياة الدنيا. القرآن يخاطبهم ويقول : (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّاتَجْزِى نَّفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ).

الحاكم أو القاضي في تلك المحكمة الإلهيّة ، لا يقبل سوى العمل الصالح ، كما في الآيتي (٨٨ و ٨٩) من سورة الشعراء يقول تعالى : (يَوْمَ لَايَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

إنّ الآية المذكورة من سورة البقرة ، تشير في الواقع إلى ما يجري من محاولات في هذه الحياة الدنيا لإنقاذ المذنب من العقاب.

ففي الحياة الدنيا قد يتقدم إنسان لدفع غرامة عن إنسان مذنب لانقاذه من العقاب ، أمّا في الآخرة فإنّه : (لَّاتَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَّفْسٍ).

وربّما يلجأ المذنب في هذه الحياة إلى الشفعاء لينقذوه ممّا ينتظره من الجزاء ويوم القيامة (ـ لَايُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ).

٥٦

وإذا لم توجد الشفاعة ، يتقدم الإنسان في الحياة الدنيا بدفع (العدل) وهوبدل الشيء من جنسه ، أما في الآخرة فـ (لَايُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ).

وإذا لم تنفع الوسائل المذكورة كلها ، يستصرخ أصحابه لينصروه ويخلصوه من الجزاء ، وفي الآخرة لا يقوم بإنقاذهم أحد (وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ).

القرآن الكريم يؤكد أنّ الاصول الحاكمة على قوانين الجزاء يوم القيامة تختلف كلياً عما هو السائد في هذه الحياة ، فالسبيل الوحيد للنجاة يوم القيامة ، هو الإيمان والتقوى والاستعانة بلطف الباري تعالى.

تاريخ الشرك وتاريخ المنحرفين من أهل الكتاب ، مليء بأفكار خرافية تدور حول محور التوسل بمثل الأمور التي ذكرتها الآية الكريمة للفرار من العقاب الاخروي.

ذكر صاحب تفسير المنار بعض العادات المصرية التي لا تزال يعمل بها باسم الدين وهي من إرث قدماء الوثنيين ، كاعطائهم لغاسل الميت شيئاً من النقد يسمونه «اجرة المعدية» أي اجرة نقله إلى الجنة.

ثم ذكر المكفرات التي يعتقدها اليهود كقربان الإثم وقربان الخطيئة وقربان السلامة والمحرقة والإكتفاء ممن لم يجد القربان بحمامتين يكفر بهما عن ذنبه.

القرآن ومسألة الشفاعة : (١) العقاب الإلهي في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة ، لا ينزل بساحة الإنسان دون شك من أجل الانتقام ، بل إنّ العقوبات الإلهيّة تشكل عنصر الضمان في تنفيذ القوانين ، وتؤدي في النتيجة إلى تقدم الإنسان وتكامله ، من هنا يجب الإحتراز عن أي شيء يضعف من قوة عنصر الضمان هذا ، كي لاتنتشر بين الناس الجرأة على ارتكاب المعاصي والذنوب.

من جهة اخرى ، لا يجوز غلق باب العودة والإصلاح بشكل كامل في وجه المذنبين ، بل يجب فسح المجال لإصلاح أنفسهم وللعودة إلى الله وإلى الطهر والتقوى.

«الشفاعة» بمعناها الصحيح تستهدف حفظ هذا التعادل. إنّها وسيلة لعودة المذنبين والملوثين بالخطايا ، وبمعناها الخاطئ تشجع على ارتكاب الذنوب.

اولئك الذين لم يفرقوا بين المعنى الصحيح والخاطيء لمسألة الشفاعة ، أنكروا هذه

__________________

(١) «الشفاعة» : من «الشفع» بمعنى «الزوج» و «ضم الشيء إلى مثله» يقابلها «الوتر» بمعنى «الفرد» ثم اطلقت على انضمام الفرد الأقوى والأشرف إلى الفرد الأضعف لمساعدة هذا الضعيف.

٥٧

المسألة بشكل كامل ، واعتبروها شبيهة بالوساطات التي تقدم إلى السلاطين والحكام الظالمين.

وثمة مجموعة كالوهابيين استندوا إلى الآية الكريمة : (لَايُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ). فأنكروا الشفاعة تماماً ، دون الإلتفات إلى سائر الآيات في هذا المجال.

الشّروط المختلفة للشفاعة : آيات الشفاعة تصرح أنّ مسألة الشفاعة في مفهوم الإسلام مقيدة بشروط ، هذه الشروط تحدد تارة الخطيئة التي يستشفع المذنب لها ، وتحدّد تارة اخرى الشخص المشفوع له ، كما تقيد من جهة اخرى الشفيع ، وهذه الشروط بمجموعها تكشف عن المفهوم الحقيقي للشفاعة وعن فلسفتها.

ثمّة ذنوب كالظلم مثلاً خارجة عن دائرة الشفاعة حيث يقول القرآن : (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) (١).

كما أنّ الشفاعة ـ وطبقاً للآية (٢٨) من سورة الأنبياء ـ لا تشمل إلّاأولئك المرتقين إلى درجة «الإرتضاء» وإلى درجة الالتزام بالعهد الإلهي حيث يقول القرآن : (لَايَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمنِ عَهْدًا) (٢).

الإرتضاء ، واتخاذ العهد ، يعنيان على المستوى اللغوي (وكذلك ما ورد من الروايات في تفسير هذه الآيات) : الإيمان بالله والحساب والميزان والثواب والعقاب ، والإعتراف بالحسنات والسيئات ، وبما أنزل الله ، إيماناً عميقاً في الفكر ، ظاهراً في العمل ... إيماناً يبعد صاحبه عن صفات الظالمين الذين لا يؤمنون بأية قيمة إنسانية ، ويدفعه إلى إعادة النظر في منهج حياته.

وبشأن الشفعاء ذكر القرآن لهم شرطاً في قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقّ) (٣). من هنا فالمشفوع له أيضاً ينبغي أن يسلك طريق الحق في القول والعمل ، كي يكون له إرتباط بالشفيع ، وهذا الإرتباط الضروري بين الشفيع والمشفوع له يعتبر بدوره عاملاً بنّاءاً في تعبئة الطاقات على طريق الحق.

__________________

(١) سورة غافر / ١٨.

(٢) سورة مريم / ٨٧.

(٣) سورة الزخرف / ٨٦.

٥٨

(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (٤٩)

نعمة الحرية : في هذه الآية إشارة إلى نعمة كبيرة اخرى ، منّ بها الله سبحانه على بني إسرائيل ، وهي نعمة تحريرهم من براثن الظالمين : (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِى ذلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ).

القرآن عبّر بكلمة «البلاء» عمّا كان ينزل ببني إسرائيل من عذاب يتمثل في قتل الذكور واستخدام الإناث لخدمة آل فرعون.

و «البلاء» : يعني الإمتحان ، فالحوادث والمصائب التي نزلت ببني إسرائيل كانت بمثابة الامتحان لهم ، كما قد يأتي البلاء بمعنى العقاب ، لأنّ بني إسرائيل سبق لهم أن كفروا بنعمة ربّهم ، فكان ما أصابهم من آل فرعون عقاباً على كفرانهم.

من الملفت للنظر أنّ القرآن يسمي ذبح الأبناء واستحياء النساء عذاباً ، ولو عرفنا أنّ استحياء النساء يعني استبقائهن ، وتركهن أحياء ، لاتضح لنا أنّ القرآن يشير إلى أنّ مثل هذا الاستبقاء المذل هو عذاب أيضاً مثل عذاب القتل ، وهذا المعنى يشير إليه الإمام أميرالمؤمنين علي عليه‌السلام إذ يقول : «فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين» (١).

عملية الإماتة كانت شاملة للذكور والإناث مع اختلاف في ممارسة هذه العملية ، وفي عالمنا المعاصر يمارس طواغيت الأرض عملية الإماتة أيضاً بأساليب اخرى ، وذلك عن طريق قتل روح الرجولة في الذكور ، ودفع الإناث إلى مستنقع إشباع الشهوات.

(وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (٥٠)

النجاة من آل فرعون : الآية السابقة أشارت إلى نجاة بني إسرائيل من براثن الفرعونيين ، وهذه الآية توضح طريقة النجاة : (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَاءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ).

قضية غرق آل فرعون في البحر ونجاة بني إسرائيل وردت في سور عديدة مثل سورة الأعراف الآية (١٢٦) ، وسورة الأنفال الآية (٥٤) ، وسورة الإسراء الآية (١٠٣) ، وسورة

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٥١.

٥٩

الشعراء الآية (٦٣ و ٦٦) ، وسورة الزخرف الآية (٥٥) ، والدخان الآية (١٧) وما بعدها.

في هذه السور ذكرت كل تفاصيل الحادث ، أمّا هذه الآية فاكتفت بالإشارة إلى هذه النعمة الإلهية في معرض دعوة بني إسرائيل إلى قبول الرسالة الخاتمة.

الهدف من تذكير بني إسرائيل بهذا الحدث الذي بدأ بخوف شديد وانتهى بانتصار ساحق ، هو دفعهم للشكر وللسير على طريق الرسالة الإلهيّة المتمثلة في دين النبي الخاتم.

كما أنّه تذكير للبشرية بالامداد الإلهي الّذي يشمل كل امّة سائرة بجدٍ وإخلاص على طريق الله.

(وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٥٤)

أكبر إنحرافات بني إسرائيل : في هذه الآيات الأربع ، تأكيد على مقطع آخر من تاريخ بني إسرائيل ، وعلى أكبر انحراف اصيبوا به في تاريخهم الطويل ، وهو الانحراف عن مبدأ التوحيد ، والإتجاه إلى عبادة العجل ، وهذا التأكيد تذكير لهم بما لحقهم من زيغ نتيجة إغواء الغاوين ، وتحذير لهم من تكرر هذه التجربة في مواجهة الدين الخاتم : (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) وهي ليالي افتراق موسى عن قومه ، (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ).

شرح هذا المقطع من تاريخ بني إسرائيل سيأتي في سورة الأعراف الآية (١٤٢) وما بعدها ، وفي سورة طه الآية (٣٦) وما بعدها.

في الآية التالية يقول سبحانه : (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

وبعد إشارة إلى ما جاء بني إسرائيل من هداية تشريعية : (وَإِذْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

ثم يشير القرآن إلى طريقة التوبة المطروحة على بني إسرائيل : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا

٦٠