مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-048-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٥

أنّ الأحقاد والعداوات القبلية والثارات الشخصية ، يجب أن لا تحول دون تحقيق العدل ، ويجب أن لا تكون سبباً للإعتداء على حقوق الآخرين ، لأنّ العدالة أرفع وأسمى من كل شيء ، فتقول الآية الكريمة : (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا). وتكرر الآية التأكيد لبيان ما للعدل من أهمية قصوى فتقول : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى). وبما أنّ العدالة تعتبر أهم أركان التقوى تؤكد الآية مرّة ثالثة قائلة : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

بعد التأكيد الشديد الذي حملته الآية الكريمة حول قضية العدالة وضرورة تطبيقها بادرت الآية التالية وتمشياً مع الاسلوب القرآني ، فأعادت إلى الأذهان ما أعده الله للمؤمنين العاملين بالخير من غفرانه ونعمه العظيمة ، حيث تقول الآية : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).

كما ذكرت الآية في المقابل جزاء الكافرين الذين يكذبون بآيات الله ، فقالت : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ).

وممّا يلفت النظر أنّ الآية جعلت المغفرة والأجر العظيم في إطار «وعد الله» بينما ذكرت عقاب جهنم بأنّه نتيجة للكفر وللتكذيب بآيات الله ، وما هذا إلّاإشارة إلى فضل الله ورحمته لعباده فيما يخص نعم وهبات الآخرة التي لا يمكن لأعمال الإنسان مهما كبرت وعظمت أن تباريها أو تعادلها مطلقاً ، كما أنّها إشارة ـ أيضاً ـ إلى أنّ عقاب الآخرة ليس فيه طابع انتقامي أبداً ، بل هو نتيجة عادلة لما إرتكبه الإنسان من أعمال سيئة في حياته.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١١)

لقد ذكرت الآيات السابقة بعضاً من النعم الإلهية ، وجاءت الآية الأخيرة تخاطب المسلمين وتذكر لهم أنواعاً من النعم التي أنعم الله بها عليهم ، لكي يؤدّوا شكرها عن طريق طاعة الله والسعي لتحقيق مبادىء العدالة ، فتقول الآية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ).

والآية تلفت إنتباه المسلمين إلى الأخطار التي تعرضوا لها ، وكان يحتمل أن تدفع

٥٠١

بالوجود الإسلامي إلى الفناء والزوال وإلى الأبد ، ولكن فضل الله ونعمته شملتهم وأنقذت الإسلام والمسلمين من تلك الأخطار. كما تحذر الآية المسلمين وتنبههم إلى ضرورة التزام التقوى والإعتماد على الله كدليل على شكر ذلك الفضل وتلك النعمة ، وليعلموا بأنّهم بتقواهم سيضمنون لأنفسهم الدعم والسند والحماية من الله في حياتهم الدنيوية هذه ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة : (وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (١٢)

لقد أشارت هذه الآية أوّلاً إلى قضية الوفاء بالعهد ، وقد تكررت هذه الإشارة في مناسبات مختلفة في آيات قرآنية عديدة ، وربّما كانت إحدى فلسفات هذا التأكيد المتكرر على أهمية الوفاء بالعهد وذم نقضه ، هي إعطاء أهميّة قصوى لقضية ميثاق الغدير الذي سيرد في الآية (٦٧) من هذه السورة. والآية في بدايتها تشير إلى العهد الذي أخذه الله من بني إسرائيل على أن يعملوا بأحكامه وإرساله إليهم بعد هذا العهد اثني عشر زعيماً وقائداً ليكون كل واحد منهم زعيماً لطائفة واحدة من طوائف بني إسرائيل الإثنتي عشر ـ حيث تقول الآية الكريمة : (وَلَقَد أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيبًا).

والأصل في كلمة «نقيب» إنّها تعني الثقب الكبير الواسع ، وتطلق بالأخص على الطرق المحفورة تحت الأرض ، وسبب استخدام كلمة نقيب للدلالة على الزعامة ، لأنّ زعيم كل جماعة يكون عليماً بأسرار قومه ، وكأنّه قد صنع ثقباً كبيراً يطلع من خلاله على أسرارهم.

وتشير الآية بعد ذلك إلى وعد الله لبني إسرائيل حيث تقول : (وَقَالَ اللهُ إِنّى مَعَكُمْ).

وإنّ هذا الوعد سيتحقق إذا التزم بنو إسرائيل بالشروط التالية :

١ ـ أن يلتزموا بإقامة الصلاة كما تقول الآية : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوةَ).

٢ ـ وأن يدفعوا زكاة أموالهم : (وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَوةَ).

٥٠٢

٣ ـ أن يؤمنوا بالرسل الذين بعثهم الله ويحترموا وينصروا هؤلاء الرسل ، حيث تقول الآية : (وَءَامَنتُم بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) (١).

٤ ـ وبالإضافة إلى الشروط الثلاثة المذكورة أعلاه ، أن لا يمتنع بنو إسرائيل عن القيام ببعض أعمال الإنفاق المستحب التي تعتبر نوعاً من معاملات القرض الحسن مع الله سبحانه وتعالى حيث تقول الآية : (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا).

ثم أردفت الآية الكريمة ببيان نتائج الوفاء بالشروط المذكورة بقوله تعالى : (لَّأُكَفّرَنَّ عَنكُمْ سَيَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).

كما بيّنت الآية مصير الذين يكفرون ولا يلتزمون بما أمر الله حيث تقول : (فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).

(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٣)

إنّ هذه الآية الكريمة جاءت تشير إلى نقض بني إسرائيل للعهد الذي أخذه الله عليهم والذي ذكرته الآية السابقة. كما ذكرت هذه الآية نتائج وعواقب هذا النقض حيث تقول : (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) (٢).

والحقيقة هي أنّ هؤلاء عوقبوا بهذين الجزاءين بسبب نقضهم لميثاقهم ، فقد حرموا من رحمة الله ، وتحجرت أفكارهم وقلوبهم فلم تعد تبدي أي مرونة أمام الحقائق.

وتشرح الآية آثار هذا التحجّر فتقول : (يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) و (وَنَسُوا حَظًّا مّمَّا ذُكّرُوا بِهِ).

__________________

(١) «عزّرتموهم» : مشتقة من مادة «تعزير» أي المنع أو العون ، أمّا حين تسمّى بعض العقوبات الإسلامية بالتعزير فذلك لأنّ هذه العقوبات تكون عوناً للمذنب لكي يرتدع عن مواصلة الذنب وهذا دليل على أنّ العقوبات الإسلامية لا تتسم بطابع الإنتقام بل تحمل طابعاً تربوياً لذلك سمّيت بالتعزير.

(٢) «لعن» : تعني في اللغة «الطرد والإبعاد» وحين ينسب اللعن إلى الله فإنّه يعني الحرمان من رحمته ، أمّا كلمة «قاسية» : فهي في الأصل مشتقة من المصدر «قساوة» وتطلق على الأخص على الحجر الصلد ، ولذلك أطلقت على الذين لا يبدون أي مرونة من جانبهم أمام الحقائق التي تتكشف لهم.

٥٠٣

ولا يستبعد أن تكون علامات وآثار نبي الأكرم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والتي اشير إليها في آيات قرآنية اخرى ، جزءاً من الامور التي نسيها بنو إسرائيل ـ كما يحتمل أن تكون هذه الجملة القرآنية إشارة إلى ما حرفه أو نسيه جمع من علماء اليهود أثناء تدوينهم للتوراة من جديد بعد أن فقدت التوراة الأصلية ، وإنّ ما وصل إلى هؤلاء من كتاب موسى الحقيقي كان جزءاً من ذلك الكتاب وقد اختلط بالكثير من الخرافات ، وقد نسي هؤلاء حتى هذا الجزء الباقي من كتاب موسى عليه‌السلام.

ثم تتطرق الآية إلى ظاهرة خبيثة طالما برزت لدى اليهود ـ بصورة عامّة ـ إلّاما ندر منهم ، وهي الخيانة التي كانت تتكشف للمسلمين بين فترة واخرى. تقول الآية الكريمة في هذا المجال : (وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِّنْهُمْ).

وفي الختام تطلب الآية من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعفو عن هؤلاء ويصفح عنهم ، مؤكّدة أنّ الله يحب المحسنين ، وذلك في قوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

إنّ العفو والصفح المطلوبان في الآية يشملان ـ فقط ـ تلك الحالات التي كان اليهود يوجهون فيها أذاهم وتحرشاتهم واستفزازاتهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يشملان أخطاء اليهود وجرائمهم بحق الأهداف والمبادىء الإسلامية ، حيث لا معنى للعفو في هذا المجال.

(وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (١٤)

العداء الأبدي : لقد تناولت الآية السابقة ظاهرة نقض بني إسرائيل للعهد الذي أخذه الله منهم ، أمّا الآية الأخيرة ـ هذه ـ فهي تتحدث عن نقض العهد عند النصارى الذين نسوا قسماً من أوامر الله التي كلّفوا بها ـ فتقول الآية في هذا المجال : (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مّمَّا ذُكّرُوا بِهِ). فهذه الآية تدل بوضوح على أنّ النصارى ـ أيضاً ـ كانوا قد عقدوا مع الله عهداً على أن لا ينحرفوا عن حقيقة التوحيد ، وأن لا ينسوا أوامر وأحكام الله ، وأن لا يكتموا علائم خاتم النبيين لكنهم تورطوا بنفس ما تورط به اليهود.

أمّا كلمة «نصارى» التي وردت في الآية فهي صيغة جمع نصراني ، ويحتمل أن يكون وجه التسمية ناشئاً عن قول المسيح عليه‌السلام كما تحكيه الآية (١٤) من سورة الصّف عنه إذ تقول :

٥٠٤

(كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلحَوَارِيّينَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ).

فسمّي المسيحيون لذلك بالنصارى.

ولما كان جمع من النصارى يقولون ما لا يفعلون ، ويزعمون أنّهم من أنصار المسيح عليه‌السلام يقول القرآن في هذه الآية : (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى). وهم لم يكونوا صادقين في دعواهم هذه ، لذلك تستطرد الآية الكريمة فتبيّن نتيجة هذا الإدعاء الكاذب ، وهو انتشار عداء أبدي فيما بينهم حتى يوم القيامة ، كما تقول الآية : (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ).

كما ذكرت الآية نوعاً آخر من الجزاء والعقاب لهذه الطائفة النصرانية ، وهو أنّهم سوف يعلمون نتيجة أعمالهم وسيرونها بأعينهم حيث تقول الآية : (وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).

(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٦)

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن نقض اليهود والنصارى لميثاقهم ، جاءت الآية الأخيرة لتخاطب أهل الكتاب بصورة عامة وتدعوهم إلى الإسلام. وتبين الآية ـ في البداية ـ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المبعوث إليهم جاء ليظهر الكثير من الحقائق الخاصة بالكتب السماوية التي أخفوها هم (أهل الكتاب) وكتموها عن الناس ، وأنّ هذا الرسول يتغاضى عن كثير من تلك الحقائق التي انتفت الحاجة إليها وزال تأثيرها بزوال العصور التي نزلت لها ، فتقول الآية في هذا المجال : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ).

وتشير الآية الكريمة ـ أيضاً ـ إلى أهمّية وعظمة القرآن المجيد وآثاره العميقة في هداية وإرشاد وتربية البشرية ، فتقول : (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ). النور الذي يهدي به الله كل من يبتغي كسب مرضاته إلى سبل السلام ، كما تقول الآية الاخرى : (يَهْدِى بِهِ

٥٠٥

اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلمِ) وينقذهم من أنواع الظلمات (كظلمة الشرك وظلمة الجهل وظلمة التفرقة والنفاق وغيرها ...) ويهديهم إلى نور التوحيد والعلم والإتحاد ، حيث تقول الآية : (وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ).

وإضافة إلى ذلك كله يرشدهم إلى الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج ولا انحراف في جانبيه العقائدي والعملي أبداً ، كما تقول الآية : (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٧)

كيف يمكن للمسيح أن يكون هو الله؟ جاءت هذه الآية الكريمة لتكمل بحثاً تطرقت إليه آيات سابقة ، فحملت بعنف على دعوى ربوبية المسيح عليه‌السلام وبيّنت أنّ هذه الدعوى ما هي إلّاالكفر الصريح ، حيث قالت : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ).

ولكي يتّضح لنا مفهوم هذه الجملة ، يجب أن نعرف أنّ للمسيحيين عدّة دعاوي باطلة بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى :

فهم أوّلاً : يعتقدون بالآلهة الثلاث (أي الثالوث) وقد أشارت الآية (١٧١) من سورة النساء إلى هذا الأمر.

وثانياً : إنّهم يقولون : إنّ خالق الكون والوجود هو واحد من هؤلاء الآلهة الثلاث ويسمونه بالإله الأب والقرآن الكريم يبطل هذا الاعتقاد ـ أيضاً ـ في الآية (٧٣) من سورة المائدة حيث يقول : (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلثَةٍ وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ وَاحِدٌ).

وثالثاً : إنّ المسيحيين يقولون : إنّ الآلهة الثلاث مع تعددهم الحقيقي هم واحد ، حيث يعبرون عن ذلك أحياناً ب «الوحدة في التثليث» وهذا الأمر أشارت إليه الآية الأخيرة حيث قالت حكاية عن دعوى المسيحيين : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ). وقالوا : إنّ المسيح ابن مريم هو الله! وإنّ هذين الإثنين يشكّلان مع روح القدس حقيقة واحدة في ثلاثة متعددة!

٥٠٦

بعد ذلك ولكي تبطل الآية الكريمة عقيدة الوهية المسيح عليه‌السلام تقول : (قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا).

وهذه إشارة إلى أنّه لو كان المسيح عليه‌السلام إلهاً لإستحال على خالق الكون أن يهلكه وتكون نتيجة ذلك أن تتحدد قدرة هذا الخالق ومن كانت قدرته محدودة لا يمكن أن يكون إلهاً ، لأنّ قدرة الله كذاته لا تحدّها حدود مطلقاً (تدبّر جيداً).

وفي الختام ترد الآية الكريمة على أقوال اولئك الذين اعتبروا ولادة المسيح من غير أب دليلاً على الوهيته فتقول : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ). فالله قادر على أن يخلق إنساناً من غير أب ومن غير ام كما خلق آدم عليه‌السلام وهو قادر أيضاً على أن يخلق إنساناً من غير أب كما خلق عيسى المسيح عليه‌السلام وقدرة الله هذه كقدرته في خلق البشر من آبائهم وامهاتهم ، وهذا التنوع في الخلق دليل على قدرته ، وليس دليلاً على أيّ شيء آخر سوى هذه القدرة.

(وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(١٨)

استكمالاً للبحوث السابقة التي تناولت بعض إنحرافات اليهود والنصارى ، تشير الآية الأخيرة إلى أحد الدعاوى الباطلة التي تمسك بها هؤلاء ، فتقول : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنؤُا اللهِ وَأَحِبؤُهُ).

إنّ القرآن الكريم حارب كل هذه الإمتيازات والدعاوى الوهمية ، فهو لا يرى للإنسان امتيازاً إلّابالإيمان والعمل الصالح والتقوى ، ولذلك تقول الآية الأخيرة في تفنيد وإبطال الإدّعاء الأخير : (قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم). فهؤلاء ـ بحسب اعترافهم أنفسهم ـ يشملهم العذاب الإلهي حيث قالوا بأنّ العذاب يمسّهم لأيّام معدودة ، فكيف يتلاءم ذلك الإدعاء وهذا الإعتراف؟ وكيف يمكن أن يشمل عذاب الله أبناءه وأحباءه؟! ومن هنا يثبت أن لا أساس ولا صحة لهذا الإدعاء ، وقد شهد تاريخ هؤلاء على أنّهم حتى في هذه الدنيا ابتلوا بسلسلة من العقوبات الإلهية ، ويعتبر هذا دليلاً آخر على زيف وبطلان دعواهم تلك.

٥٠٧

ولكي تؤكد الآية الكريمة زيف وبطلان الدعوى المذكورة استطردت تقول : (بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مّمَّنْ خَلَقَ). والقانون الإلهي عام ، فإن الله (يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ).

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ كل البشر هم من خلق الله ، وهم عباده وأرقاؤه ، وعلى هذا الأساس ليس من المنطق إطلاق اسم «ابن الله» على أي منهم ، حيث تقول الآية : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا).

وفي النهاية تعود المخلوقات كلها إلى الله ، حيث تؤكد الآية هنا بقولها : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ).

(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٩)

تكرر هذه الآية الخطاب إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فتبيّن لهم أنّ النبي المرسل إليهم مرسل من عند الله ، أرسله في عصر ظلت البشرية قبله فترة دون أن يكون لها نبيّ ، فبيّن لهم هذا النّبي الحقائق ، لكي لا يقولوا بعد هذا إنّ الله لم يرسل إليهم من يهديهم إلى الصراط السوي ويبشرهم بلطف الله ورحمته ويحذّرهم من الانحراف والإعوجاج ، وينذرهم بعذاب الله ، حيث تقول الآية : (يَا أَهلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ).

«فترة» : تعني في الأصل الهدوء والسكينة كما تطلق على الفاصلة الزمنية بين حركتين أو جهدين أو نهضتين أو ثورتين.

وقد شهدت الفاصلة الزمنية بين موسى وعيسى عليهما‌السلام عدداً من الأنبياء والرسل ، بينما لم يكن الأمر كذلك في الفاصلة الزمنية بين عيسى عليه‌السلام والنّبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولذلك أطلق القرآن الكريم على هذه الفاصلة الأخيرة اصطلاح (فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ). والمعروف أنّ هذه الفترة دامت ستمائة عام تقريباً.

وفي الختام تؤكد الآية على شمولية قدرة الله عزوجل فتقول : (وَاللهُ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ). وهذا بيان بأنّ إرسال الأنبياء والرسل وتعيين أوصيائهم أمر يسير بالنسبة لقدرة الله العزيز المطلقة.

٥٠٨

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٠) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (٢١) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (٢٢) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (٢٤) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٥) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (٢٦)

بنو إسرائيل والأرض المقدسة : جاءت هذه الآيات لتثير لدى اليهود دافع التوجه إلى الحق والسعي لمعرفته أوّلاً ، وإيقاظ ضمائرهم حيال الأخطاء والآثام التي إرتكبوها ثانياً ، ولكي تحفزهم إلى السعي لتلافي اخطائهم والتعويض عنها ، ويذكرهم القرآن في الآية الاولى بما قاله النبي موسى عليه‌السلام لأصحابه حيث تقول : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ).

وفي ظل هذه النعمة (نعمة وجود الأنبياء) نجا اليهود من هاوية الشرك والوثنية وعبادة العجل وتخلصوا من مختلف أنواع الخرافات والأوهام والقبائح والخبائث.

بعد هذا تشير الآية إلى أكبر نعمة مادية وهبها الله لليهود فتقول : (وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا) وتعتبر هذه النعمة ـ أيضاً ـ مقدمة للنعم المعنوية ، فقد عانى بنو إسرائيل لسنين طويلة من ذل العبودية في ظل الحكم الفرعوني ، فلم يكونوا ليمتلكوا في تلك الفترة أي نوع من حرية الإرادة.

٥٠٩

وتشير هذه الآية في آخرها إلى أنّ الله قد وهب بني إسرائيل في ذلك الزمان نعماً لم ينعم بها على أحد من أفراد البشر في ذلك الحين فتقول : (وَءَاتكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ). وكانت هذه النعم الوافرة كثيرة الأنواع ، فمنها نجاة بني إسرائيل من مخالب الفراعنة الطغاة وإنفلاق البحر لهم ونزول غذاء خاص عليهم مثل «المنّ والسلوى».

والآية التالية تبيّن واقعة دخول بني إسرائيل إلى الأرض المقدّسة نقلاً عن لسان نبيّهم موسى عليه‌السلام فتقول : (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ).

والمراد بعبارة (الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) الواردة في الآية ، كل أرض الشام التي تشمل جميع الاحتمالات الواردة ، لأنّ هذه الأرض ـ كما يشهد التاريخ ـ تعتبر مهداً للأنبياء ، ومهبطاً للوحي ، ومحلاً لظهور الأديان السماوية الكبرى ، كما أنّها كانت لفترت طوال من التاريخ مركزاً للتوحيد وعبادة الله الواحد الأحد ونشر تعاليم الأنبياء.

وقد واجه بنو إسرائيل دعوة موسى عليه‌السلام للدخول إلى الأرض المقدسة مواجهة الضعفاء الجبناء الجهلاء ، الذين يتمنون أن تتحقق لهم الانتصارات في ظل الصدف والمعاجز دون أن يبادروا بأنفسهم إلى بذل جهد في هذا المجال ، وردّ هؤلاء على طلب موسى عليه‌السلام بقولهم كما تنقله الآية : (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) (١).

ويدل جواب بني إسرائيل هذا على الأثر المشؤوم الذي خلّفه الحكم الفرعوني على نفوس هؤلاء.

والمراد من عبارة «قَوْمًا جَبَّارِينَ» فهم كما تدل عليه التواريخ قوم «العمالقة» (٢) الذين

__________________

(١) «جبّار» : مأخوذةً أو مشتقة من الأصل «جبر» أي إصلاح الشيء بالقسر والإرغام ، ولذلك سمّي إصلاح العظم المكسور «تجبيراً» فهذه الكلمة تطلق من جهة على كل نوع من التجبير والإصلاح ، ومن جهة اخرى تطلق على كل أنواع التسلط القسري ، وحين تطلق كلمة «جبّار» على الله سبحانه وتعالى فذلك إمّا لتسلطه على كل شيء ، أو لأنّه هو المصلح لكل موجود محتاج إلى الإصلاح.

(٢) «العمالقة» : قوم من العنصر السامي يعيشون في شمال شبه جزيرة العرب بالقرب من صحراء سيناء ، وقدهاجموا مصر واستولوا عليها لفترات طويلة ودامت حكومتهم حوالي ٥٠٠ عام منذ عام ٢٢١٣ قبل الميلاد حتى عام ١٧٠٣ قبل الميلاد (دائرة المعارف لفريد وجدي ٦٠ / ٢٣٢).

٥١٠

كانوا يمتلكون أجساماً ضخمة ، وكانت لهم أطوال خارقة.

بعد هذا الحديث يشير القرآن الكريم إلى رجلين أنعم الله عليهما بالإيمان والتقوى والورع وشملهما بنعمه الكبيرة ، فجمعا صفات الشجاعة والشهامة والمقاومة مع الدرك الاجتماعي والعسكري ممّا دفعهما إلى الدفاع عن اقتراح النبي موسى عليه‌السلام فواجها بني إسرائيل بقولهما : ادخلوا عليهم من باب المدينة ، وحين تدخلون عليهم سيواجهون الأمر الواقع فتكونون أنتم المنتصرون ، تقول الآية الكريمة في هذا المجال : (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ).

وتؤكد الآية ـ بعد ذلك على ضرورة الإعتماد على الله في كل خطوة من الخطوات والاستمداد من روح الإيمان بقوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).

وما ذكره أغلب المفسّرين حول هوية هذين الرجلين هو أنّهما «يوشع بن نون» و «كالب بن يوحنا» وهما من النقباء الإثني عشر في بني إسرائيل.

والذي حصل حقيقة هو أنّ بني إسرائيل لم يقتنعوا بأي من الإقتراحات المذكورة ، فهم بسبب الضعف والجبن المتأصلين في نفوسهم خاطبوا موسى عليه‌السلام وأخبروه صراحة بأنّهم لن يدخلوا تلك الأرض مادام العمالقة موجودين فيها ، وطالبوا موسى أن يذهب هو وربه لمحاربة العمالقة وسألوه أن يخبرهم عن إنتصاره حيث هم قاعدون ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة : (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا ههُنَا قَاعِدُونَ).

ثم نقرأ في الآية التالية أنّ موسى أصابه اليأس والقنوط من القوم ، ورفع يديه للدعاء مناجياً ربّه قائلاً : إنّه لا يملك حرية التصرف إلّاعلى نفسه وأخيه ، وطلب من الله أن يفصل بينهما وبين القوم الفاسقين العصاة ، لكي يلقى هؤلاء جزاء أعمالهم ويبادروا إلى إصلاح أنفسهم ، حيث تقول الآية الكريمة في هذا المجال : (قَالَ رَبّ إِنّى لَاأَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).

وبديهي إنّ رفض بني إسرائيل القاطع لأمر نبيهم كان بمثابة الكفر.

وكانت نتيجة صلف وعناد بني إسرائيل أنّهم لاقوا عقابهم ، إذ استجاب الله دعاء نبيه موسى عليه‌السلام فحرم عليهم دخول الأرض المقدسة ، المليئة بالخيرات مدّة أربعين عاماً ، وفي هذا المجال تقول الآية القرآنية الكريمة : (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً).

وزادهم عذاباً إذ كتب عليهم التيه والضياع في البراري والقفار طيلة تلك الفترة ، حيث تقول الآية في ذلك : (يَتِيهُونَ فِى الْأَرْضِ).

٥١١

بعد ذلك تذكر الآية أنّ ما نال بني إسرائيل من عذاب في تلك المدّة ، كان مناسباً لما فعلوه ، وتطلب من موسى عليه‌السلام أن لا يحزن على المصير الذي لا قوه حيث تقول الآية الكريمة : (فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) (٢٩)

أوّل حادثة قتل على الأرض : لقد تناولت هذه الآيات الثلاث الأخيرة قصة ولدي آدم عليه‌السلام وكيف قتل أحدهما أخاه ، ولعل وجه الصلة بين هذه الآيات والآيات التي سبقتها في شأن بني إسرائيل ، هو غريزة «الحسد» التي كانت دائماً أساساً للكثير من مخالفات وانتهاكات بني إسرائيل حيث يحذرهم الله في هذه الآيات من مغبة وعاقبة الحسد الوخيمة القاتلة ، التي تؤدّي أحياناً إلى أن يعمد أخ إلى قتل أخيه! والآية تقول في هذا المجال لنبيّ الله أن يتلو على قومه قصّة ولدي آدم : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَىْءَادَمَ بِالْحَقّ).

ولعلّ استخدام كلمة «بالحقّ» في هذه الآية جاء للإشارة إلى أنّ القصّة المذكورة قد أضيفت لها خرافات مختلفة ، ولبيان أنّ القرآن الكريم جاء بالقصة الحقيقية التي حصلت بين ولدي آدم عليه‌السلام.

وتواصل الآية سرد القصّة فتقول : (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأَخِرِ). وقد أدت هذه الواقعة إلى أن يهدد الأخ ـ الذي لم يتقبل الله القربان منه ـ أخاه بالقتل ويقسم أنّه قاتله لا محالة ، كما جاء في قوله تعالى في الآية : (قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ).

أمّا الأخ الآخر فقد نصح أخاه مشيراً إلى أنّ عدم قبول القربان منه إنّما نتج عن علّة في عمله ، وأنّه ليس لأخيه أي ذنب في رفض القربان ، مؤكّداً أنّ الله يقبل أعمال المتقين فقط حيث تقول الآية : (قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

وأكد له أنّه لو نفذ تهديده وعمد إلى قتله ، فإنّه ـ أي الأخ الذي تقبل الله منه القربان ـ لن

٥١٢

يمد يده لقتل أخيه ، فهو يخاف الله ويخشاه ، ولن يرتكب أو يلوث يده بمثل هذا الإثم ، حيث تقول الآية : (لَئِنْ بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدَىَّ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).

وأضاف هذا الأخ الصالح ـ مخاطباً أخاه الذي أراد أن يقتله ـ أنّه لا يريد أن يتحمل آثام الآخرين ، قائلاً له : (إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ) (١). (أي لأنّك إن نفذت تهديدك فستتحمل ذنوبي السابقة أيضاً ، لأنّك سلبت مني حق الحياة وعليك التعويض عن ذلك ، ولما كنت لا تمتلك عملاً صالحاً لتعوض به ، فما عليك إلّاأن تتحمل إثمي أيضاً ، وبديهي أنّك لو قبلت هذه المسؤولية الخطيرة فستكون حتماً من أهل النار ، لأنّ النار هي جزاء الظالمين) كما تقول الآية : (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزَاؤُا الظَّالِمِينَ).

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (٣١)

التّستر على الجريمة : تواصل هاتان الآيتان بقية الواقعة التي حصلت بين إبني آدم عليه‌السلام فتبيّن الآية الاولى منهما أنّ نفس قابيل هي التي دفعته إلى قتل أخيه فقتله ، حيث تقول : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ).

«طوع» : تأتي في الأصل من «الطاعة» لذلك يستدل من هذه العبارة على أنّ قلب «قابيل» بعد أن تقبل الله قربان أخيه هابيل أخذت تعصف به الأحاسيس والمشاعر المتناقضة ، فمن جانب استعرت فيه نار الحسد وكانت تدفعه إلى الإنتقام من أخيه «هابيل» ومن جانب آخر كانت عواطفه الإنسانية وشعوره الفطري بقبح الذنب والظلم والجور وقتل النفس ، يحولان دون قيامه بارتكاب الجريمة ، لكن نفسه الأمارة بالسوء تغلبت رويداً رويداً على مشاعره الرادعة فطوّعت ضميره الحي وكبلته بقيودها واعدته لقتل أخيه.

وتشير الآية ـ في آخرها ـ إلى نتيجة عمل «قابيل» فتقول : (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

فأيّ ضرر أكبر من أن يشتري الإنسان لنفسه عذاباً سيلازمه إلى يوم القيامة ويشمل

__________________

(١) «تبوء» : مشتقة من المصدر «بواء» أي «العودة».

٥١٣

عذاب الضمير وعقاب الله والعار الأبدي!

وتفيد بعض الروايات المنقولة عن الإمام الصّادق عليه‌السلام أنّ قابيل حين قتل أخاه ترك جثته في العراء حائراً لا يدري ما يفعل بها ، فلم يمض وقت حتّى حملت الوحوش المفترسة على جثة «هابيل» فاضطر «قابيل» (ربّما نتيجة لضغط وجداني شديد) إلى حمل جثة أخيه مدّة من الزمن لإنقاذها من فتك الوحوش ، لكن الطيور الجارحة أحاطت به وهي تنتظر أن يضعها على الأرض للهجوم عليها ثانية وفي تلك الأثناء بعث الله غراباً (كما تصرّح الآية) فأخذ يحفر الأرض ويزيح التراب ليدفن جسد غراب ميت آخر ، أو ليخفي جزءاً من طعامه ـ كما هي عادة الغربان ـ وليدل بذلك «قابيل» كيف يدفن جثة أخيه ، حيث تقول الآية الكريمة : (فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِى الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوءَةَ أَخِيهِ) (١).

ثم تشير الآية الكريمة إلى أنّ قابيل استاء من غفلته وجهله ، فأخذ يؤنّب نفسه كيف أصبح أضعف من الغراب فلا يستطيع دفن أخيه مثله ، فتقول الآية : (قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِىَ سَوْءَةَ أَخِى).

وكانت العاقبة أن ندم قابيل على فعلته الشنيعة كما تقول الآية : (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ).

في تفسير في ظلال القرآن ، ذيل الآية مورد البحث ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا تقتل نفس ظلماً إلّاكان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها لأنّه كان أوّل من سن القتل».

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (٣٢)

وحدة الإنسانية وكرامتها : إنّ هذه الآية تقوم باستخلاص نتيجة إنسانية كلّية بعد الآيات التي تطرقت إلى قصّة ولدي آدم عليه‌السلام. ففي البداية تشير الآية إلى حقيقة اجتماعية

__________________

(١) جاء في تفسير مجمع البيان أنّ كلمة «يبحث» : معناها في الأصل هو البحث عن شىء في التراب ثم استعملت في مختلف أنواع البحوث. أمّا كلمة «سوءة» : فهي تعني كل شيء يستاء الإنسان من رؤيته ولذلك تطلق أحياناً على جسد الميت وعلى عورة الإنسان.

٥١٤

تربوية مهمّة ، وهي أنّ قتل أيّ إنسان ، إن لم يكن قصاصاً لقتل إنسان آخر ، أو لم يكن بسبب جريمة الإفساد في الأرض ، فهو بمثابة قتل الجنس البشري بأجمعه ، كما أنّ إنقاذ أيّ إنسان من الموت ، يعد بمثابة إنقاذ الإنسانية كلّها من الفناء ، حيث تقول الآية الكريمة : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (١).

ويرد هنا سؤال وهو : كيف يكون قتل إنسان واحد مساوياً لقتل الناس جميعاً ، وكيف يكون إنقاذ إنسان من الموت بمثابة إنقاذ الإنسانية جمعاء من الفناء؟

ولقد وردت أجوبة عديدة من قبل المفسّرين على هذا السّؤال ....

وكما قلنا في بداية تفسير هذه الآية ، فإنّها تتحدث عن حقيقة اجتماعية تربوية ، لانّه : أوّلاً : إنّ من يقتل إنساناً بريئاً ويلطخ يده بدم بريء يكون مستعداً لقتل أناس آخرين يساوونه في الإنسانيه والبراءة ، فهو إنسان قاتل ، وضحيته إنسان آخر بريء ، ومعلوم أنّه لا فرق بين الأبرياء من الناس من هذه الزاوية.

كما أنّ أي إنسان يقوم ـ بدافع حب النوع الإنساني ـ بإنقاذ إنسان آخر من الموت ، يكون مستعداً للقيام بعملية الإنقاذ الإنسانية هذه بشأن أيّ إنسان آخر.

ونظراً لكلمة «فكأنّما» التي يستخدمها القرآن في هذا المجال ، فإنّنا نستدل بأنّ موت وحياة إنسان واحد مع أنّه لا يساوي موت وحياة المجتمع إلّاأنّه يكون شبيهاً بذلك.

وثانياً : إنّ المجتمع يشكل كياناً واحداً ، واعضاؤه أشبه بأعضاء الجسد الواحد وأنّ أي ضرر يصيب أحد اعضائه يكون أثره واضحاً ـ بصورة أو بأُخرى ـ في سائر الأعضاء.

ومن جانب آخر فإنّ إحياء فرد من أفراد المجتمع يكون ـ لنفس السبب الذي ذكرناه ـ بمثابة إحياء وإنقاذ جميع أفراد المجتمع.

وتبيّن هذه الآية بجلاء أهمّية حياة وموت الإنسان في نظر القرآن الكريم ، وتتجلى عظمة هذه الآية أكثر حين نعلم أنّها نزلت في محيط لم يكن يعير أي أهمية لدماء أفراد الإنسانية.

جاء في تفسير نور الثقلين : سأل شخص الإمام الصادق عليه‌السلام عن هذه الآية فأجابه قائلاً :

__________________

(١) «أجل» : على وزن «نخل» تعني في الأصل الجريمة ، وقد شاع استعمالها فيما بعد في كل عمل له عاقبة سيئة ، ثم استعملت لكل عمل ذي عاقبة ، وهي الآية تستخدم للتعليل أو بيان علّة الشيء.

٥١٥

«من حرق أو غرق» ـ ثم سكت ـ ثم قال : «تأويلها الأعظم أن دعاها فاستجاب له».

وفحوى قول الإمام الصادق عليه‌السلام في هذه الرواية هو الإنقاذ من الحريق أو الغرق ثم يستطرد الإمام ـ بعد سكوت ـ فيبين أنّ التأويل الأعظم لهذه الآية هو دعوة الغير إلى طريق الحق والخير أو الباطل والشر ، وتحقق القبول من الجانب الآخر المخاطب بهذه الدعوة.

وتشيرالآية ـ في آخرها ـ إلى انتهاكات بني إسرائيل ، فتؤكّد أنّ هذه الطائفة على الرغم من ظهور الأنبياء بينهم يحملون الدلائل الواضحة لإرشادهم ، إلّاأنّ الكثير منهم قد نقضوا وانتهكوا القوانين الإلهيّة واتبعوا سبيل الإسراف في حياتهم ، حيث تقول الآية : (وَلَقَد جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذلِكَ فِى الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ).

إنّ كلمة «إسراف» لها معان واسعة ، تشمل كل تجاوز أو تعدّ عن الحدود ولو أنّها تستخدم في الغالب في مجال الهبات والنفقات.

(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٤)

سبب النّزول

في تفسير القرطبي عن أنس بن مالك : أنّ قوماً من عُكْل (١) ـ أو قال من عُرَينَة ـ قدموا على رسول الله فاجتَوَوا (٢) المدينة ؛ فأمر لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بلِقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحّوا قتلوا راعي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واستاقوا النَّعَم ؛ فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خبرهم من أوّل النهار فأرسل في آثارهم ؛ فما ارتفع النهار حتى جيء بهم ؛ فأمر بهم فقطعت

__________________

(١) عكل (بضم العين المهملة وسكون الكاف) : قبيلة مشهورة.

(٢) أي أصابهم الجوى وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول ، ذلك إذا لم يوافقهم هواؤها واستوخموا.

٥١٦

أيديهم وأرجلهم وسَمَر (١) أعينهم وألقوا في الحرة (٢) يستسقون فلا يُسقَون.

قيل : فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله. وفي رواية : فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم ؛ وفي رواية فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في طلبهم قافة فاتي بهم ؛ قال : فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك الآية.

التّفسير

جزاء مرتكب العدوان : تكمّل الآية الاولى ـ من الآيتين الأخيرتين ـ البحث الذي تناولته الآيات السابقة حول قتل النفس ، وتبيّن جزاء وعقاب من يشهر السلاح بوجه المسلمين ، وينهب أموالهم عن طريق التهديد بالقتل أو بإرتكاب القتل ، فتقول : (إِنَّمَا جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ لْأَرْضِ).

ومعنى قطع الأيدي والأرجل من خلاف هو أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.

والذي يلفت الإنتباه في هذه الآية هو أنّها اعتبرت العدوان الممارس ضد البشر بمثابة إعلان الحرب وممارسة العدوان ضد الله ورسوله ، وهذه النقطة تبيّن بل تثبت مدى اهتمام الإسلام العظيم بحقوق البشر ورعاية أمنهم وسلامتهم.

وفي الختام تشير الآية إلى أنّ هذه العقوبات هي لفضح المجرمين في الدنيا ، وسوف لا يتوقف الأمر على هذه العقوبات ، بل سينالون يوم القيامة عقاباً أشد وأقسى حيث تقول الآية : (ذلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الْأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

ويستدل من هذه الجملة القرآنية على أنّ العقوبات الإسلامية الدنيوية التي تنفذ في المجرمين لن تكون حائلاً دون نيلهم لعقاب الآخرة ، ولكن طريق العودة والتوبة لا يغلق حتى بوجه مجرمين خطيرين كالذين ذكرتهم الآية إن هم عادوا إلى رشدهم وبادروا إلى إصلاح أنفسهم ، ولكي يبقى مجال التعويض عن الأخطاء مفتوحاً تقول الآية الثانية : (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

وبديهي أنّ توبة هؤلاء في مثل هذه الجرائم لها تأثير في ما يخص الله فقط ، أمّا حق الناس فلا يسقط بالتوبة ما لم يرض صاحب الحق.

__________________

(١) سمر عين فلان : سملها (فقأها).

(٢) الحرة (بفتح الحاء وتشديد الراء) : أرض خارج المدينة ذات حجارة سود.

٥١٧

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣٥)

حقيقة التوسل إلى الله : توجه هذه الآية الخطاب إلى الأفراد المؤمنين ، تتضمّن تكاليف ثلاثة يؤدّي الالتزام بها وتطبيقها إلى نيل الفلاح ، وهذه التكاليف هي :

١ ـ إتّباع الحيطة والتقوى ، كما تقول الآية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ).

٢ ـ إختيار وسيلة للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، حيث تقول الآية : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ).

٣ ـ الجهاد في سبيل الله ، إذ تقول الآية : (وَجَاهِدُوا فِى سَبِيلِهِ).

وستكون نتيجة الإلتزام بهذه التكاليف الإلهية وتطبيقها نيل الفلاح ، بشرط تحقق الإسلام والإيمان فتقول الآية الكريمة في هذا المجال : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

«الوسيلة» : في الأصل بمعنى نشدان التقرب وعلى هذا الأساس فإنّ كلمة «الوسيلة» الواردة في هذه الآية لها معان كثيرة واسعة ، فهي تشمل كل عمل أو شيء يؤدّي إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، وأهم الوسائل في هذا المجال ، كما يقول الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام في خطبة (١١٠) في نهج البلاغة منها : «إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى الله سبحانه وتعالى ، الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله فإنّه ذِروة الإسلام وكلمة الإخلاص فإنّها الفطرة ، وإقام الصلاة فإنّها الملّة (١) وإيتاء الزكاة فإنّها فريضة واجبة وصوم شهر رمضان فإنّه جنّة من العقاب وحجّ البيت واعتماره فإنّهما ينفيان الفقر ويرحضان (٢) الذنب وصلة الرحم فإنّها مثراة (٣) في المال ومنسأة (٤) في الأجل وصدقة السّرّ فإنّها تُكفّر الخطيئة وصدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السّوء وصنائع المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان».

كما أنّ شفاعة الأنبياء والأئمة والأولياء الصالحين تقرّب ـ أيضاً ـ إلى الله وفق ما نص عليه القرآن الكريم ، وهي داخلة في المفهوم الواسع لكلمة «الوسيلة».

__________________

(١) الملّة : شريعة الإسلام.

(٢) يرحضان : يطهران أو يغسلان.

(٣) مثراة : مكثرة.

(٤) منساة : مطيلة.

٥١٨

والجدير بالذكر هنا هو أنّ المراد من التوسل لا يعني ـ أبداً ـ طلب شيء من شخص النبي أو الإمام ، بل معناه أن يبادر الإنسان المؤمن ـ عن طريق الأعمال الصالحة والسير على نهج النّبي والإمام ـ بطلب الشفاعة منهم إلى الله ، أو أن يقسم بجاههم وبدينهم (وهذا يعتبر نوعاً من الإحترام لمنزلتهم وهو نوع من العبادة) ويطلب من الله بذلك حاجته ، وليس في هذا المعنى أيّ أثر للشرك ، كما لا يخالف الآيات القرآنية الاخرى ، ولا يخرج عن عموم الآية الأخيرة موضوع البحث «فتدبر».

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) (٣٧)

تعقيباً على الآية السابقة التي كلّفت المؤمنين بالتقوى والجهاد وإعداد الوسيلة ، جاءت الآيتان الأخيرتان وهما تشيران إلى مصير الكافرين وتؤكدان أنّهم مهما بذلوا ـ حتى لو كان كل ما في الأرض أو ضعفه ـ في سبيل إنقاذ أنفسهم من عذاب يوم القيامة ، فلن يقبل منهم ذلك ـ وأنّهم سينالون العذاب الشديد ، فتقول الآية الكريمة في هذا المجال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيمَةِ مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

بعد ذلك تشير الآية التالية إلى استمرار عذاب الله ، وتوضح أنّ الكافرين مهما سعوا للخروج من نار جهنم فلن يقدروا على ذلك ، وأنّ عذابهم ثابت وباق لا يتغير ، كما تقول الآية : (يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ).

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤٠)

٥١٩

عقوبة السرقة : لقد بيّنت آيات سابقة عقاب وحكم المحارب الذي يتعرض لأرواح وأموال ونواميس الناس عن طريق التهديد بالسلاح ، أمّا الآيات الثلاث الأخيرة فهي تبيّن حكم السارق والسارقة أي الفرد الذي يسرق خلسة أموال وممتلكات الناس ، فتقول الآية أوّلاً : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا).

وقد قدمت هذه الآية الرجل السارق على المرأة السارقة ، بينما الآية التي ذكرت حد وعقوبة الزنا قد قدمت المرأة الزانية على الرجل الزاني ، ولعلّ هذا التفاوت ناشىء عن حقيقة أنّ السرقة غالباً ما تصدر عن الرجال ، بينما النساء الخليعات المستهترات يشكّلن في الغالب العامل والعنصر المحفّز للزنا!

بعد ذلك تبيّن الآية أنّ العقوبة المذكورة هي جزاء من الله لجريمة السرقة المرتكبة من قبل الرجل أو المرأة ، حيث تقول : (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكلاً مِّنَ اللهِ).

ولكي لا يتوهم الناس وجود الإجحاف في هذه العقوبة ، تؤكد الآية ـ في آخرها ـ على أنّ الله عزيز ، أي قادر على كل شيء ، فلا حاجة له للإنتقام من الأفراد ، وهو حكيم ـ أيضاً ـ ولا يمكن أن يعاقب الأفراد دون وجود مبرر أو حساب لذلك ، حيث تقول الآية : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

أمّا الآية الثانية فهي تفتح لمن إرتكب هذه المعصية باب العودة والتوبة ، فتقول : (فَمَنْ تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

والسؤال الوارد هنا هو : هل أنّ التوبة وحدها تكفي لغفران الذنب فقط ، أم أنّها تسقط عنه حد أو عقوبة السرقة أيضاً؟

إنّ المعروف لدى فقهاء الشيعة أنّ مرتكب السرقة إن تاب قبل أن تثبت سرقته في محكمة إسلامية يسقط عنه حدّ السرقة أيضاً ، أمّا إذا شهد عادلان على سرقته فإنّ التوبه لا تسقط عنه الحد.

ثم توجّه الآية الاخرى الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتقول : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).

٥٢٠