مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-048-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٥

تناولت الآيات السابقة الحديث عن الجهاد ، والآيتان الأخيرتان تبيّنان التمايز بين المجاهدين وغيرهم من القاعدين ، فتؤكد عدم التساوي بين من يبذل المال والنفس رخيصين في سبيل الهدف الإلهي السامي ، وبين من يقعده عن هذا البذل سبب آخر غير المرض الذي يحول دونه ودون المشاركة في الجهاد ، (لَّايَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ).

وتكرر الآية من جديد مسألة التفاضل بشكل أوضح وأكثر صراحة ، وتؤكّد في نهاية المقارنة ، أنّ الله وهب المجاهدين أجراً عظيماً : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً).

ولكن ـ كما أسلفنا ـ لما كان في الجانب المقابل لهؤلاء المجاهدين يقف اولئك الذين لم يكن الجهاد بالنسبة لهم واجباً عينياً أو لم يشاركوا في الجهاد بسبب مرض أو عجز أو علة اخرى أعجزتهم عن هذه المشاركة ، فذلك ولأجل أن لا يغفل ما لهؤلاء من نيّة صالحة وإيمان وأعمال صالحة اخرى فقد وعدوا خيراً حيث تقول الآية الكريمة : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى).

وبما أنّ أهمية الجهاد في الإسلام بالغة جداً ، لذلك تتطرق الآية مرّة اخرى للمجاهدين وتؤكّد بأنّ لهم أجراً عظيماً يفوق كثيراً أجر القاعدين عن الجهاد عن عجز ، (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا).

وتشرح الآية التالية ـ وهي الآية (٩٦) من سورة النساء ـ نوع هذا الأجر العظيم فقول أنّه : (دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً).

فلو أنّ أفراداً من بين المجاهدين تورطوا في زلة أثناء أدائهم لواجبهم فندموا على تلك الزّلة ، فقد وعدهم الله بالمغفرة والعفو ، حيث يقول في نهاية الآية : (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا).

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً) (٩٩)

٤٤١

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : قال أبو حمزة الثمالي : بلغنا أنّ المشركين يوم بدر ، لم يخلفوا إذ خرجوا احداً ، إلّاصبياً أو شيخاً كبيراً أو مريضاً. فخرج معهم ناس ممن تكلم بالإسلام فلما التقى المشركون ورسول الله نظر الذين كانوا قد تكلّموا بالإسلام إلى قلّة المسلمين فارتابوا واصيبوا فيمن اصيب من المشركين ، فنزلت فيهم الآية.

التّفسير

تعقيباً للبحوث الخاصة بالجهاد ، تشير الآيات الثلاث الأخيرة إلى المصير الأسود الذي كان من نصيب اولئك الذين ادعوا الإسلام ولكنهم رفضوا أن يطبقوا خطة الإسلام في الهجرة. فالقرآن الكريم يذكر كيف أنّ الملائكة لدى قبضهم لأرواح هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ، يسألونهم عن حالهم في الدنيا وأنّهم لو كانوا حقاً من المسلمين ، فلماذا اشتركوا في صفوف المشركين لقتال المسلمين : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفهُمُ الْمَلِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ). فيجيب هؤلاء بأنّهم تعرضوا في مواطنهم للضغط وأنّ ذلك أعجزهم عن تنفيذ الأمر الإلهي (قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الْأَرْضِ).

لكن عذرهم هذا لم يقبل منهم ، إذ يرد الملائكة عليهم قائلين : لماذا لم تتركوا موطن الشرك وتنجوا بأنفسكم من الظلم ، والكبت عن طريق الهجرة إلى أرض غير أرضكم من أرض الله الواسعة ، (قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا).

وفي النهاية تشير الآية إلى مصير هؤلاء ، فتقول بأنّ الذين امتنعوا عن الهجرة لأسباب واهية أو لمصالحهم الشخصية ، وقرروا البقاء في محيط ملوث وفضلوا الكبت والقمع على الهجرة فإنّ مكان هؤلاء سيكون في جهنم ، وإنّ نهايتهم وعاقبتهم هناك ستكون سيئة لا محالة : (فَأُولئِكَ مَأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).

أمّا الآية الاخرى من الآيات الثلاث المذكورة ، فهي تستثني المستضعفين والعاجزين الحقيقيين لا المزيفين ، فتقول : إنّ اولئك الرجال والنساء والأطفال الذين لم يجدوا لأنفسهم مخرجاً للهجرة ، ولم يتمكنوا من إيجاد وسيلة للنجاة من محيطهم الملوث ، فهم مستثنون من حكم العذاب ، لأنّ هؤلاء معذورون في الحقيقة ، وإنّ الله لا يكلف نفساً ما لا تطيق ، (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَايَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً).

والآية الأخيرة من الآيات الثلاث المذكورة تبيّن احتمال أن يشمل الله بعفوه هؤلاء ، إذ

٤٤٢

تقول : (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ للهُ عَفُوًّا غَفُورًا).

إنّ الإتيان بكلمة «توفّى» في الآية الشريفة المارة الذكر بدلاً من ذكر كلمة «الموت» إنّما هو إشارة إلى أنّ الموت ليس هو الفناء التام ، بل هو حالة تتلقى فيها الملائكة روح الإنسان ، أي أنّ الملائكة يقبضون من الإنسان روحه التي هي جوهر وجوده ، فتؤخذ هذه الروح إلى العالم الآخر.

(وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٠٠)

الهجرة حكم اسلامي بنّاء : بعد أن بحثت الآيات السابقة حول الأفراد الذين يقعون فريسة الذل والمسكنة بسبب عدم إيفائهم بواجب الهجرة ، تشرح الآية الأخيرة بشكل صريح وحاسم أهمّية الهجرة في قسمين :

في القسم الأوّل : تشير هذه الآية إلى نعم وبركات الهجرة في الحياة الدنيا ، فتقول إنّ الذي يهاجر في سبيل الله إلى أي نقطة من نقاط هذه الأرض الواسعة ، سيجد الكثير من النقاط الآمنة الواسعة ليستقر فيها ، ويعمل هناك بالحقّ ويرغم أنف المعارضين (وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِى الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً).

بعد ذلك تشير الآية في القسم الثاني منها إلى الجانب المعنوي الاخروي للهجرة : (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا). وعلى هذا الأساس فإنّ المهاجرين في كل الأحوال سينالهم نصر كبير ، سواء وصلوا إلى المكان الذي يستهدفونه ليتمتعوا فيه بحرية العمل بواجباتهم ، أو لم يصلوا إليه فيفقدوا حياتهم في هذا الطريق.

(وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً) (١٠١)

صلاة المسافر : بعد الآيات التي تحدثت سابقاً عن الجهاد والهجرة ، تتطرق الآية (١٠١) من سورة النساء ـ التي هي موضوع بحثنا الآن ـ إلى صلاة المسافر ، فتبين أن لا مانع للمسلم من أن يقصر صلاته لدى السفر إذا خاف من خطر الكافرين الذين هم الأعداء البارزون

٤٤٣

للمسلمين ، وقد عبّرت هذه الآية عن السفر بالضرب في الأرض ، لأنّ المسافر يضرب الأرض برجليه لدى السفر.

وعلى أي حال ، فليس هناك من شك أنّ صلاة القصر للمسافر ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار الروايات المفسرة لهذه الآية ـ لا تقتصر على حالة الخوف ، ولهذا السبب فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في أسفاره حتى في موسم الحج (في أرض منى) يقصر صلاته.

(وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً) (١٠٢)

سبب النّزول

في تفسير القمي : نزلت ـ يعني آية صلاة الخوف ـ لما خرج رسول الله إلى الحديبية يريد مكة فلما وقع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كميناً ليستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الجبال ، فلما كان في بعض الطريق وحضرت صلاة الظهر فأذن بلال فصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالناس ، فقال خالد بن الوليد : لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم فإنّهم لا يقطعون صلاتهم ولكن يجيء لهم الآن صلاة أخرى هى أحبّ إليهم من ضياء أبصارهم فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم فنزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بصلاة الخوف بهذه الآية.

التّفسير

بعد آيات الجهاد السابقة تبيّن هذه الآية للمسلمين طريقة صلاة الخوف التي تؤدّى في ساحة الحرب ، فتخاطب الآية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلة : (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ). فإذا سجدت جماعة وانقضت الركعة الاولى من

٤٤٤

الصلاة ، على النّبي أن يقف في مكانه فتؤدّي الجماعة ـ سريعاً ـ الركعة الثانية وتعود إلى ساحة القتال لمواجهة العدو. وتأتي بعد ذلك الجماعة الثانية التي لم تصل بعد ، وتأخذ مكان الجماعة الاولى فتصلّي مع النبي : (فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ). وعلى الجماعة الثانية أن لا تضع أرضاً لامة حربها ، بل تحتفظ بها معها : (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ).

وتشير الآية إلى أنّ أداء الصلاة بهذا الاسلوب من أجل أن يبقى المسلمون في مأمن من أي هجوم مباغت قد يقوم به العدو عليهم ، لأنّه يتحين الفرص دائماً لتنفيذ هذا الهجوم ، ويتمنى لو تخلى المسلمون وغفلوا عن أسلحتهم وأمتعتهم ليشنّ عليهم حملته الغادرة : (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً).

ولمّا كان حمل السلاح والوسائل الدفاعية الاخرى صعباً أثناء أداء الصلاة في بعض الأحيان ، تأمر الآية في الختام قائلة : (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ).

وهذا مشروط بأن يحتفظ المسلمون بما يقيهم من وسائل الدفاع كالدروع ، وأمثالها حتى في حالة وجود العذر كالضعف أو المرض ، وذلك لحماية أنفسهم إذا باغتهم العدو بهجومه إلى أن تصلهم الإمدادات حيث تقول الآية : (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ).

(فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (١٠٣)

أهمية فريضة الصلاة : بعد أن ذكرت الآية السابقة صلاة الخوف ، وأكدت ضرورة إقامتها حتى في جبهات الحرب ، تحث الآية (١٠٣) المسلمين على أن لا ينسوا ذكر الله بعد أداء الصلاة ، وليذكروا الله حين قيامهم وقعودهم وأثناء نومهم على جنوبهم وليسألوه العون والنصر ، والقصد من ذكر الله في حالة القيام والقعود والنوم على الجنبين ، يحتمل أن تكون في الحالات المختلفة للقتال ، أي أثناء وقوف المقاتل أو جلوسه أو استلقائه على أحد جنبيه وهو يقاتل بأحد أنواع الأسلحة الحربية كالقوس والسهم مثلاً.

إنّ هذه الآية تشير إلى أمر إسلامي مهم ، يدل على أنّ أداء الصلاة في أوقات معينة ليس معناه أن ينسى الإنسان ذكر الله في الحالات الاخرى. وتؤكد هذه الآية أنّ حكم صلاة

٤٤٥

الخوف هم حكم استثنائي طارىء ، وعلى المسلمين إذا ارتفعت عنهم حالة الخوف أن يؤدّوا صلاتهم بالطريقة المعتادة (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ).

وتوضح الآية في النهاية سرّ التأكيد على الصلاة بقولها إنّ الصلاة فريضة ثابتة للمؤمنين وأنّها غير قابلة للتغيير : (إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا).

إنّ عبارة «موقوت» من المصدر «وقت» وعلى هذا الأساس فإنّ الآية تبيّن أنّه حتى في ساحة الحرب يجب على المسلمين أداء هذه الفريضة الإسلامية ، لأنّ للصلاة أوقات محددة لا يمكن تخطيها.

(وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١٠٤)

سبب النّزول

قرع السلاح بسلاح يشابهه : في تفسير مجمع البيان : قال ابن عباس : لمّا أصاب المسلمين ما أصابهم يوم أحد وصعد النبي الجبل ، قال أبو سفيان : يا محمّد لنا يوم ولكم يوم ، فقال : «أجيبوه». فقال المسلمون لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار! فقال أبو سفيان : لنا عُزّى ولا عزّى لكم. فقال النبي ، قولوا : «الله مولانا ولا مولى لكم!» فقال أبو سفيان : اعل هُبل.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قولوا : «الله أعلى وأجل».

فقال أبو سفيان : موعدنا وموعدكم يوم بدر الصغرى. ونام المسلمون وبهم الكلوم (١) وفيهم نزلت (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ) وفيهم نزلت (إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ) الآية لأنّ الله أمرهم على ما بهم من الجراح أن يتبعوهم ، وأراد بذلك إرهاب المشركين وخرجوا إلى حمراء الأسد وبلغ المشركين ذلك ، فأسرعوا حتى دخلوا مكة.

إنّ سبب النزول هذا يعلّمنا أنّ المسلمين يجب أن لا يغيب عن بالهم أنواع التكتيك الذي يستخدمه العدو ، وأن يواجهوا كل أسلوب حربي يتبعه العدو ، ويقابلوا سلاحهم بسلاح أمضى ، وحتى شعارات الأعداء يجب أن تقابل بشعارات إسلامية ضاربة ، وبغير ذلك فإنّ الرياح ستجري بما يشتهيه الأعداء.

__________________

(١) الكلوم : الجروح.

٤٤٦

التّفسير

أعقبت الآية ـ موضوع البحث هذه ـ الآيات السابقة التي تحدثت عن الجهاد والهجرة واستهدفت إحياء روح التضحية والفداء لدى المسلمين بقولها : (وَلَا تَهِنُوا فِى ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ). وهذا تأكيد على ضرورة أن لا يواجه المسلمون عدوهم اللدود باسلوب دفاعي ، بل عليهم أن يقابلوا هذا العدو بروح هجومية دائماً.

بعد ذلك تأتي الآية باستدلال حي وواضح للحكم الذي جاءت به ، فتسأل المسلمين لماذا الوهن؟ فأنتم حين يصيبكم ضرر في ساحة الجهاد فإنّ عدوكم سيصيبه هو الآخر سهم من هذا الضرر ، مع فارق هو أنّ المسلمين يأملون أن يعينهم الله ويشملهم برحمته الواسعة ، بينما الكافرون لا يرجون ولا يتوقعون ذلك ، حيث تقول الآية : (إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَايَرْجُونَ).

وفي الختام ـ ومن أجل إعادة التأكيد ـ تطلب الآية من المسلمين أن لا ينسوا علم الله بجميع الامور ، فهو يعلم معاناة المسلمين ومشاكلهم وآلامهم ومساعيهم وجهودهم ، ويعلم أنّهم أحياناً يصابون بالتهاون والفتور ، فتقول الآية : (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) وسيرى المسلمون نتيجة كل الحالات تلك.

(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) (١٠٦)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : نزلت في بني الابيرق وكانوا ثلاثة اخوه : بشر ، وبشير ، ومبشّر.

وكان بشير يكنى أبا طعمة ، وكان يقول الشعر ، يهجو به أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم يقول : قاله فلان. وكانوا أهل حاجة في الجاهلية والإسلام ، فنقب أبو طعمة على عِليّة رفاعة بن زيد. وأخذ له طعاماً وسيفاً ودرعاً فشكا ذلك إلى أخيه قتادة بن النعمان ، وكان قتادة بدرياً فتجسسا في الدار ، وسألا أهل الدار في ذلك ، فقال بنو أبيرق : والله ما صاحبكم إلّا لبيد بن سهل ، رجل ذو حسب ونسب. فأصلَتَ عليهم لبيد بن سهل سيفه ، وخرج إليهم وقال : يا بني أبيرق أترمونني بالسّرَق ، وأنتم أولى به مني ، وأنتم منافقون تهجون رسول الله ، وتنسبون ذلك إلى قريش! لتبيننّ ذلك ، أو لأضعنّ سيفي فيكم! فداروه وأتى قتادة رسول

٤٤٧

الله ، فقال : يا رسول الله! إنّ أهل بيت منا ، أهل بيت سوء عدوا على عمي ، فخرقوا عِليّة له من ظهرها ، وأصابوا له طعاماً وسلاحاً. فقال رسول الله : «انظروا في شأنكم». فلمّا سمع بذلك رجل من بطنهم الذي هم منه ، يقال له أسير بن عروة ، جمع رجالاً من أهل الدار ، ثم انطلق إلى رسول الله ، فقال : إنّ قتادة بن النعمان ، وعمّه ، عمدا إلى أهل بيت منا ، لهم حسب ، ونسب ، وصلاح ، وأبنوهم بالقبيح ، وقالوا لهم ما لا ينبغي ، وانصرف ، فلما أتى قتادة رسول الله بعد ذلك ، ليكمله ، جبهه رسول الله جبهاً شديداً ، وقال : عمدت إلى أهل بيت حسب ونسب ، تأتيهم بالقبيح ، وتقول لهم ما لا ينبغي؟!

قال : فقام قتادة من عند رسول الله ، ورجع إلى عمه ، وقال : يا ليتني متّ ، ولم أكن كلمت رسول الله ، فقد قال لي ما كرهت! فقال عمّه رفاعة : الله المستعان ، فنزلت الآيات (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ) إلى قوله (إِنَّ اللهَ لَايَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ) فبلغ بشيراً ما نزل فيه من القرآن ، فهرب إلى مكة ، وارتدّ كافراً.

التّفسير

منع الدفاع عن الخائنين : يعرف الله سبحانه وتعالى ـ في بداية الآية (١٠٥) من سورة النساء ـ نبيّه محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ الهدف من إنزال الكتاب السماوي هو تحقيق مبادىء الحق والعدالة بين الناس ، إذ تقول الآية : (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَيكَ اللهُ).

ثم يحذّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من حماية الخائنين أبدأ بقوله : (وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا).

ومع أنّ الآية خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن ممّا لا شك فيه هو أنّ هذا الحكم حكم عام لجميع القضاة والمحكمين.

أمّا الآية الاخرى فهي تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بطلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى ، إذ تقول : (وَاسْتَغْفِرُ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا).

(وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) هَا أَنْتُمْ هؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) (١٠٩)

٤٤٨

بعد الآيات التي جاءت بتحريم الدفاع عن الخائنين ، تستطرد الآيات الثلاث الأخيرة في التشديد على حرمة الدفاع عن الخائنين ، بالأخص اولئك الذين يخونون أنفسهم (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لَايُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا).

لقد تعرض الخائنون في الآية الاخرى إلى التوبيخ ، حيث قالت إنّ هؤلاء يخجلون أن تظهر بواطن أعمالهم وسرائرهم وتنكشف إلى الناس ، لكنهم لا يخجلون لذلك من الله سبحانه وتعالى ، إذ تقول الآية : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ). فلا يتورع هؤلاء من تدبير الخطط الخيانية في ظلام الليل ، والتحدث بما لا يرضى الله الذي يراهم ويراقب أعمالهم ، أينما كانوا : (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لَايَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا).

بعد ذلك تتوجه الآية (١٠٩) من سورة النساء بالحديث عن شخص السارق الذي تمّ الدفاع عنه ، وتقول بأنّه على فرض أن يتمّ الدفاع عن هؤلاء في الدنيا فمن يستطيع الدفاع عنهم يوم القيامة ، أنّ من يقدر أن يكون لهؤلاء وكيلاً ليرتب أعمالهم ويحل مشاكلهم؟! حيث تقول الآية : (هَا أَنتُمْ هؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً). ولذلك فإنّ الدفاع عن هؤلاء الخونة في الدنيا ليس له أثر إلّاالقليل ، لأنّهم سوف لا يجدون أبداً من يدافع عنهم أمام الله في الحياة الآخرة الخالدة.

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (١١٢)

لقد بيّنت هذه الآيات الثلاث ، ثلاثة أحكام كلّية بعد أن تطرقت الآيات السابقة إلى مسائل خاصة بالخيانة والتهمة. الآية الاولى تشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ باب التوبة مفتوح أمام المسيئين على كل حال ، فإذا ارتكب أحد ظلماً بحق نفسه أو غيره ، وندم حقيقة على فعلته ، أو استغفر الله لذنبه ، وكفّر عن خطيئته فيجد الله غفوراً رحيماً ، حيث تقول الآية : (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرَ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا).

إنّ الآية الثانية من الآيات الثلاث الأخيرة ، تحكي نفس الحقيقة التي وردت بصورة

٤٤٩

إجمالية في الآيات السابقة ، حيث تؤكد أنّ أي ذنب يقترفه الإنسان ستكون نتيجته في النهاية على المذنب نفسه ، ويكون قد أضرّ بنفسه بذنبه ، إذ تقول الآية : (وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ).

وفي آخر الآية تأكيد على أنّ الله عالم بأعمال العباد ، وهو حكيم يجازي كل إنسان بما يستحقه : (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).

وبالصورة المارة الذكر فإنّ الذنوب مهما اختلفت في الظاهر ، فإنّ اضرارها ستلحق أحياناً بالغير وتلحق أحياناً اخرى بمرتكبها ، ولكن بالتحليل النهائي ، فإنّ الذنب تعود نتيجته كلها إلى الإنسان المذنب نفسه ، وإنّ الآثار السيئة للذنب تظهر قبل كل شيء في روح ونفس الشخص المذنب.

أمّا الآية الثالثة من الآيات الأخيرة ، فهي تشير إلى خطورة خطيئة إتهام الناس الأبرياء ، إذ تقول : (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا).

جريمة البهتان : إنّ اتهام إنسان بريء يعتبر من أقبح الأعمال التي أدانها الإسلام بعنف. في عيون الأخبار قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من بهت مؤمناً أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه أقامه الله تعالى يوم القيامة على تلّ من نار حتى يخرج ممّا قاله فيه».

وحقيقة الأمر أنّ إشاعة مثل هذا العمل الجبان ـ في أي محيط إنساني كان ـ يؤدي في النهاية إلى إنهيار نظام العدالة الاجتماعية ، واختلاط الحق بالباطل ، وتورط البريء وتبرئة المذنب ، وزوال الثقة من بين الناس.

(وَلَوْ لَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (١١٣)

في هذه الآية الكريمة إشارة اخرى إلى حادثة «بني الابَيرِق» التي تحدثنا عنها لدى تطرقنا إلى سبب النزول في آيات سابقة ، وهذه تؤكد أنّ الله قد صان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بفضله ورحمته ـ سبحانه وتعالى ـ من كيد بعض المنافقين الذين كانوا يأتمرون به صلى‌الله‌عليه‌وآله ليحرفوه عن

٤٥٠

طريق الحق والعدل ، فكانت رحمة الله أقرب إلى نبيّه فصانته من كيد المنافقين ، حيث تقول الآية : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ).

لقد سعى اولئك المنافقون ـ من خلال اتهامهم لشخص بريء وجرّ النبي وتوريطه في هذه الحادثة ـ إلى إلحاق ضربة بشخصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الاجتماعية والمعنوية أوّلاً ، وتحقيق مآربهم الدنيئة بحق إنسان مسلم بريء ثانياً ، ولكن الله العزيز العليم كان لهم بالمرصاد ، فصان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله من تلك المؤامرة وأحبط عمل المنافقين.

بعد ذلك تذكر الآية أنّ هؤلاء القوم إنّما يرمون بأنفسهم في الضلالة ولا يضرّون بعملهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً ، إذ تقول : (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍ).

وأخيراً توضح الآية سبب عصمة النبي عن الخطأ والزلل والذنب ، فتذكر أنّ الله أنزل على نبيّه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم من قبل : (وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ). ثم تردف الآية ذلك بجملة : (وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا).

وقد ورد في آخر الآية دليل من الأدلة الأساسية لقضية العصمة بشكل مجمل ، وهذا الدليل هو قوله تعالى أنّه علم نبيّه من العلوم والمعارف التي يكون النبي في ظلها مصوناً من الوقوع في أي خطأ أو زلل ، ولأنّ العلم والمعرفة تكون نتيجتهما في المرحلة النهائية حفظ الإنسان من ارتكاب الخطأ.

(لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١١٤)

النجوى أو الهمس : لقد أشارت الآيات السابقة إلى اجتماعات سرية شيطانية كان يعقدها بعض المنافقين أو أشباههم ، وقد تطرقت الآية الأخيرة إلى هذا الأمر بشيء من التفصيل ، وكلمة «النجوى» لا تعني الهمس فقط ، بل تطلق على كل اجتماع سري أيضاً. والآية هنا تذكر أنّ أغلب الاجتماعات السرّية التي يعقدها اولئك تهدف إلى غايات شيطانية شريرة لا خير فيها ولا فائدة ، إذ تقول : (لَّاخَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَيهُمْ).

ولكي لا يحصل وهم من أنّ كل نجوى أو همس أو اجتماع سرّي يعتبر عملاً مذموماً أو

٤٥١

حراماً جاءت الآية بأمثال كمقدمة لبيان قانون كلي ، وأوضحت الموارد التي تجوز فيها النجوى ، مثل أن يوصي الإنسان بصدقة أو بمعونة للآخرين أو بالقيام بعمل صالح أو أن يصلح بين الناس ، فتقول الآية في هذا المجال : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلحٍ بَيْنَ النَّاسِ).

فإذا كان هذا النوع من النجوى أو الهمس أو الاجتماعات السرّية لا يشوبه الرياء والتظاهر ، بل كان مخصصاً لنيل مرضاة الله ، فإنّ الله سيخصص لمثل هذه الأعمال ثواباً وأجراً عظيماً ، حيث تقول الآية : (وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).

وقد عرف القرآن النجوى والهمس والاجتماعات السرّية ـ من حيث المبدأ ـ بأنّها من الأعمال الشّيطانية ، في قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطنِ).

والنجوى إذا حصلت إبتداءً في جمع من الناس ، أثارت لديهم سوء الظّن حيالها ، حتى أنّ سوء الظن قد يبدر من الأصدقاء حيال النجوى التي تحصل بينهم ، وعلى هذا الأساس فإنّ الأفضل أن لا يبادر الإنسان إلى النجوى إلّاإذا اقتضت الضرورة ذلك ، وهذه هي فلسفة هذا الحكم الوارد في القرآن.

(وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (١١٥)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : قيل : نزلت في شأن ابن أبي ابَيْرِق ، سارق الدرع ولما أنزل الله في تقريعه وتقريع قومه الآيات ، كفر وارتدّ ، ولحق بالمشركين من أهل مكة ، ثم نقب حائطاً للسرقة ، فوقع عليه الحائط فقتله.

التّفسير

حين يرتكب الإنسان خطأ ويدرك هذا الخطأ ، فليس أمامه سوى طريقين :

أحدهما : طريق العودة والتوبة التي أشارت الآيات السابقة.

٤٥٢

والطريق الثاني : هو أن يسلك الإنسان سبيل العناد ، وقد أشارت الآية الأخيرة إلى الآثار والعواقب السيئة لهذا الطريق ، حيث أعلنت أنّ من يواجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعناد والمخالفة بعد وضوح الحق له ، ويسير في طريق غير طريق المؤمنين فإنّ الله سوف لن يهديه إلى غير هذا الطريق ، وسيرسله الله في يوم القيامة إلى جهنم ، وما أسوأ هذا المكان الذي ينتظره! فتقول الآية : (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).

إنّ عبارة «يُشَاقِقِ» مأخوذة من مادة «شقاق» بمعنى المخالفة الصريحة المقرونة بالحقد والضغينة.

وجملة «نُوَلّهِ مَا تَوَلّى» فهو إشارة إلى حرمان هؤلاء من التوفيق المعنوي ، لتمييز الحقّ ، ومواصلتهم السير في طريق الضلالة.

وجملة «نُصْلِهِ جَهَنَّمَ» فهي تشير إلى مصير هؤلاء يوم القيامة.

(إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً) (١١٦)

الشرك ذنب لا يغتفر : تشير هذه الآية مرة اخرى إلى خطورة جريمة الشرك الذي يعتبر ذنباً لا يغتفر ولا يتصور وجود ذنب أعظم منه ، ويأتي هذا البحث بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن المنافقين والمرتدين الذين ينساقون بعد إسلامهم إلى الكفر. ولقد مرّ ما يشابه مضمون هذه الآية في نفس سورة النساء في الآية (٤٨) ولكن تتمة الآيتين تختلف في إحداهما عن الأخرى اختلافاً طفيفاً ، حيث تقول الآية الأخيرة : (وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَللاً بَعِيدًا) بينما يقول في مورد سابق (وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا).

إنّ الآية السابقة تشير إلى الفساد العظيم الذي ينطوي عليه الشرك فيما يخص الجانب الإلهي ومعرفة الله ، أمّا الآية الأخيرة فقد بيّنت الأضرار التي يلحقها الشرك بنفس الإنسان والتي لا يمكن تلافيها.

* * *

٤٥٣

(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً) (١٢١)

مكائد الشيطان : إنّ الآية الاولى تشرح أوضاع المشركين الذين أشارت إليهم الآية السابقة لهذه الأخيرة وهذه الآية إنّما تبيّن سبب ضلال المشركين ، فتذكر أنّهم يعانون من ضيق شديد في أفق تفكيرهم ، إذ يتركون عبادة الله خالق ومنشىء عالم الوجود الوسيع ، ويخضعون أمام المخلوقات التي لا تملك أقل أثر إيجابي في الوجود ، بل هي ـ أحياناً ـ مضللة كالشيطان : (إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا).

إنّ هذه الآية تحصر أصنام المشركين بنوعين من المخلوقات هما «إناث» و «شيطان مريد».

«إناث» : تعني المخلوق الرقيق اللطيف والمرن. أي أنّ المشركين يعبدون مخلوقات ضعيفة ومطاوعة بين يدي الإنسان ، وأنّ وجود هذه المخلوقات بكاملها قابل للتأثر والانحناء أمام الأحداث ، وبعبارة أوضح : أنّها موجودات لا تملك الإرادة والاختيار ولا تنفع ولا تضرّ شيئاً أبداً.

و «مريد» : مأخوذة من مادة «مرد» بمعنى سقوط أوراق وأغصان الشجر ولهذا سمّي الشاب اليافع الذي لم ينبت الشعر في وجهه بالأمرد ، وعلى هذا فإنّ الشيطان المريد يعني ذلك الشيطان الذي سقطت منه جميع صفات الفضيلة ولم يبق في وجوده شيء من مصادر القوّة.

إنّ القرآن قسم أصنام هؤلاء المشركين إلى نوعين : بعضها ضعيف الإرادة مطلقاً والبعض الآخر طاغ متكبر متجبر ، لكي يبيّن أنّ الذي يسلم قياده ويخضع لمثل هذه الأصنام إنّما يعيش في ضلال واضح مبين.

٤٥٤

بعد ذلك كله تشير الآية إلى صفات الشيطان وأهدافه وعدائه الخاص لأبناء آدم وتتناول بالشرح بعضاً من خططه الدنيئة ، وقبل كل شيء تؤكد أنّ الله قد أبعد الشيطان عن رحمته «لَعَنَهُ اللهُ».

وفي الحقيقة فإنّ أساس شقاء وتعاسة الشيطان هو البع د عن رحمة الله ، التي أصابته بسبب غروره وتكبره المفرطين.

ثم تذكر الآية التالية أنّ الشيطان قد أقسم على أن ينفذ بعضاً من خططه :

أوّلها : أن يأخذ من عباد الله نصيباً معيناً ، حيث تقول الآية حاكية قول الشيطان : (وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا). فالشيطان يعلم بعجزه عن اغواء جميع عباد الله ، لأنّ من يستسلم لإرادة الشيطان ويخضع له هم فقط اولئك المنجرفون وراء الأهواء والنزوات والذين لا إيمان لهم ، أو ضعاف الإيمان.

والثانية : خطط الشيطان تلخصها الآية بعبارة : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ).

والثالثة : اشغلهم بالامنيات العريضة وطول الأمل : (وَلَأُمَنّيَنَّهُمْ) (١).

أمّا الخطة الرابعة : ففيها يدعو الشيطان أتباعه إلى القيام بأعمال خرافية ، مثل قطع أو خرق أذان الحيوانات كما جاء في الآية : (وَلَأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّءَاذَانَ الْأَنْعَامِ).

وهذه إشارة لواحد من أقبح الأعمال التي كان يرتكبها الجاهليون المشركون ، حيث كانوا يقطعون أو يخرقون أذان بعض المواشي ، وكانوا يحرمون على أنفسهم ركوبها بل يحرمون أي نوع من أنواع الإنتفاع بهذه الحيوانات.

وخامس : الخطط التي أقسم الشيطان أن ينفذها ضد الإنسان ، هي ما ورد على لسانه في الآية إذ تقول : (وَلَأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ اللهِ).

وهذه الجملة تشير إلى أنّ الله قد أوجد في فطرة الإنسان منذ خلقة إياه ـ النزعة إلى التوحيد وعبادة الواحد الأحد ، بالإضافة إلى بقية الصفات والخصال الحميدة الأخرى.

وهذا الضرر الذي لا يمكن التعويض عنه ، يلحقه الشيطان بأساس سعادة الإنسان ، لأنّه يعكس له الحقائق والوقائع ويستبدلها بمجموعة من الأوهام والخرافات والوساوس التي

__________________

(١) إنّ عبارة «ولُامنينّهم» : تعود إلى المصدر «منى» على وزن «منع» وتعني قياس الشيء أو تقييمه ، ولكنّها ترد في أغلب الأحيان لتعني القياس والتقييم والآمال الوهمية والخيالية أمّا النطفة التي تسمّى ب «مني» فمعناها أنّ قياس تركيب أولى الموجودات الحسية قد تمّ فيها.

٤٥٥

تؤدّي إلى تغيير السعادة بالشقاء للناس ، وقد أكّدت الآية في آخرها مبدأ كلياً ، وهو أنّ أي إنسان يعبد الشيطان ويجعله لنفسه ولياً من دون الله ، فقد ارتكب إثماً وذنباً واضحاً إذ تقول الآية : (وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا).

والآية التي تلت هذه الآية جاءت ببعض النقاط بمثابة الدليل على ما جاءت به الآية السابقة حيث ذكرت أنّ الشيطان يستمر في إعطائه الوعود الكاذبة لأولئك ويمنيهم الأمنيات الطوال العراض ، ولكنّه لا يفعل شيئاً بالنسبة لهؤلاء غير الإغواء والخداع : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطنُ إِلَّا غُرُورًا) (١).

وبيّنت آخر آية من الآيات الخمس الأخيرة مصير أتباع الشيطان ، بأنّهم ستكون نتيجتهم السكنى في جهنم التي لا يجدون منها مفراً أبداً ، فتقول الآية : (أُولئِكَ مَأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا) (٢).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (١٢٢)

لقد بيّنت الآيات السابقة أنّ الذين يتخذون الشيطان وليّاً لهم ، إنّما ينالهم ضرر واضح ومبين ، وأنّ الشيطان يعدهم زيفاً وخداعاً ويلهيهم بالامنيات الواهية الخيالية الطويلة العريضة ، وإن وعد الشيطان مكر وخداع لا غير. أمّا في هذه الآية الأخيرة ـ التي هي موضوع بحثنا الآن ـ فقد بيّنت مقابل اولئك في النهاية أعمال المؤمنين والثواب الذي سينالونه يوم القيامة ، من جنّات وبساتين وأنهار تجري فيها ، حيث تقول الآية : (وَالَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).

وإنّ هذه النعمة العظيمة دائمة أبداً ، وليست كنعم الدنيا الزائلة ، فالمؤمنون في الجنة يتمتعون بما اوتوه من خير دائماً أبداً ، تؤكد هذه بعبارة (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا).

__________________

(١) «الغرور» : يعني في الأصل الأثر الواضح للشيء ، ولكنّه يطلق في الغالب على الآثار التي لها ظاهر خادع وباطن كريه ، ويطلق على كل شيء يخدع الإنسان مثل المال والجاه والسلطان التي تبعد الإنسان عن الحق وعن جادة الصواب على أنّه مادة للغرور.

(٢) «المحيص» : من «المحص» ويعني العدول والانصراف عن الشيء ، وعلى هذا الأساس فإنّ المحيص هو وسيلة الانصراف والفرار.

٤٥٦

وإنّ هذا الوعد وعد صادق وليس كوعود الشيطان الزّائفة ، حيت تقول الآية : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا).

وبديهي أنّ أي فرد لا يستطيع ـ أبداً ـ أن يكون أصدق قولاً من الله العزيز القدير في وعوده وفي كلامه ، كما تقول الآية : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً). وطبيعي أنّ عدم الوفاء بالوعد ناتج إمّا عن العجز وإمّا الجهل والحاجة ، والله سبحانه منزّه عن هذه الصفات.

(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (١٢٤)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : قيل : تفاخر المسلمون وأهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : نبيّنا قبل نبيّكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم! فقال المسلمون : نبيّنا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب وديننا الإسلام. فنزلت الآية ، فقال أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء. فأنزل الله الآية التي بعدها (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) الآية.

التّفسير

امتيازات حقيقية واخرى زائفة : لقد بيّنت هذه الآية واحداً من أهم أعمدة أو أركان الإسلام ، هو أنّ القيمة الوجودية لأي إنسان وما يناله من ثواب أو عقاب ، لا تمت بصلة إلى دعاوى وامنيات هذا الإنسان مطلقاً ، بل إنّ تلك القيمة ترتبط بشكل وثيق بعمل الإنسان وإيمانه وإنّ هذا مبدأ ثابت ، وسنّة غير قابلة للتغيير ، وقانون تتساوى الامم جميعها أمامه ، ولذلك تقول الآية في بدايتها : (لَيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلَا أَمَانِىّ أَهْلَ الْكِتَابِ). وتستطرد فتقول : (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا).

وكذلك الذين يعملون الخير ويتمتعون بالإيمان ـ سواء أكانوا من الرجال أو النساء ـ فإنّهم يدخلون الجنة ولا يصيبهم أقل ظلم أبداً ، حيث تقول الآية : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا).

٤٥٧

وبهذه الصورة يعمد القرآن إلى نبذ كل العصبيات بكل بساطة ، معتبراً الاعتبارات والإرتباطات المصطنعة الخيالية والاجتماعية والعرقية وأمثالها خاوية من كل قيمة إذا قيست برسالة دينية ، ويعتبر الإيمان بمباديء الرسالة والعمل بأحكامها هو الأساس.

(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) (١٢٦)

لقد تحدثت الآيات السابقة عن أثر الإيمان والعمل ، كما بيّنت أنّ إتّباع أي مذهب أو شريعة غير شرع الله لا يغني عن الإنسان شيئاً ، والآية الحاضرة تداركت كل وهم قد يطرأ على الذهن من سياق الآيات السابقة ، فأوضحت أفضيلة شريعة الإسلام وتفوقها على سائر الشرائع الموجودة ، حيث قالت : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا).

لقد بيّنت الآية ـ موضوع البحث ـ اموراً ثلاثة تكون مقياساً للتفاضل بين الشرائع وبياناً لخيرها :

١ ـ الإستسلام والخضوع المطلق لله العزيز القدير ، حيث تقول الآية : (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ).

٢ ـ فعل الخير ، كما تقول الآية : (وَهُوَ مُحْسِنٌ). والمقصود بفعل الخير ـ هنا ـ كل خير يفعله الإنسان بقلبه أو لسانه أو عمله.

٣ ـ إتّباع شريعة إبراهيم النقية الخالصة ، كما في الآية : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا) (١).

ودليل الإعتماد على شريعة إبراهيم ما ذكرته الآية نفسها في آخرها ، إذ تقول : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرهِيمَ خَلِيلاً).

بعد ذلك تتحدث الآية التالية بملكية الله والمطلقة وإحاطته بجميع الأشياء ، حيث تقول :

__________________

(١) «ملّة» : تعني «الشريعة أو الدين» والفرق بين الملّة والدين أنّ الاولى لا تنسب إلى الله ، أى لا يقال «ملّة الله» ويمكن أن تضاف إلى النّبي بينما كلمة الدين أو الشريعة يمكن أي يضافا إلى لفظ الجلالة فيقال : «دين الله» أو «شريعة الله» كما يمكن إضافتهما إلى النّبي أيضاً. و «حنيف» : تعني الشخص الذي يترك الأديان الباطلة ويتبع دين الحق.

٤٥٨

(وَلِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلّ شَىْءٍ مُّحِيطًا). وهذه إشارة إلى أنّ الله حين انتخب إبراهيم عليه‌السلام خليلاً له ، ليس من أجل الحاجة إلى إبراهيم فالله منزّه عن الاحتياج لأحد ، بل إنّ هذا الاختيار قد تمّ لما لإبراهيم من صفات وخصال وسجايا طيّبة بارزة لم توجد في غيره.

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً) (١٢٧)

عود على حقوق المرأة : تجيب الآية الأخيرة هذه على أسئلة وردت حول النساء من قبل المسلمين (وبالأخص حول اليتامى منهنّ) فتخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتبين له أنّ الله هو الذي يفتي في الأسئلة التي وجهت إليك يا محمّد حول الأحكام الخاصة بحقوق النساء ، فتقول : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ).

وتضيف الآية إنّ ما ورد في القرآن الكريم حول الفتيات اليتامى اللواتي كنتم تتصرفون في أموالهن ، ولم تكونوا لتتزوّجوا بهن ، ولم تدفعوا أموالهن إليهن لكي يتزوجن من آخرين ، فإنّه يجيب على قسم آخر من اسئلتكم ويبيّن لكم قبح ما كنتم تعملون من ظلم بحق هؤلاء النسوة : (وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النّسَاءِ التِى لَاتُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنْكِحُوهُنّ َ).

ثم توصي الآية الكريمة بالأولاد الذكور الصغار الذين كانوا يحرمون من الإرث وفق التقاليد الجاهلية ، فتؤكد ضرورة رعاية حقوقهم ، حيث تقول : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ).

كما تعود الآية فتكرّر التأكيد على حقوق اليتامى ، فتذكّر أنّ الله يوصيكم في أن تراعوا العدالة في تعاملكم مع اليتامى : (وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ).

وفي الختام تجلب الآية الإنتباه إلى أنّ أي عمل خير يصدر منكم وبالأخص إذا كان في حق اليتامى والمستضعفين ـ فإنّه لا يخفى على الله ـ وإنّكم ستنالون أجر ذلك في النهاية ، حيث تقول الآية : (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا).

٤٥٩

إنّ عبارة (يَسْتَفْتُونَكَ» مشتقة من المصدر «فتوى» أو «فتيا» ومعناها الإجابة على كل سؤال معضل.

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٢٨)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : كانت بنت محمد بن سلمة ، عند رافع بن خديج ، وكانت قد دخلت في السن وكانت عنده امرأة شابة سواها فطلّقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسير. قال : إن شئتِ راجعتكِ وصبرتِ على الأثَرة (١) وإن شئتِ تركتكِ! قالت : بل راجعني وأصبر على الأثرة. فراجعها ، فذلك الصلح الذي بلغنا أنّ الله تعالى أنزل فيه هذه الآية.

التّفسير

الصلح خير : وقد بيّنت الآيات السابقة حكم نشوز المرأة ، وفي هذه الآية إشارة لنشوز الرجل فالآية تتحدث عن المرأة إذا أحست من زوجها التكبر والإعراض عنها ، وتبيّن أن لا مانع من أن تتنازل عن بعض حقوقها ، وتتصالح مع زوجها ، من أجل حماية العلاقة الزوجية من التصدع ، فتقول : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا).

بعد ذلك تؤكّد الآية على أنّ الصلح خير وأحسن ، حيث تقول : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ). وهذه الجملة الصغيرة مع أنّها جاءت في مجال الخلافات العائلية ، لكنها تبين قانوناً كلياً ، وتؤكّد أنّ الصلح هو المبدأ الأوّل في كل المجالات ، وأنّ الخلاف والنزاع والصراع والفراق ليس له وجود في الطبع والفطرة الإنسانية السليمة ، ولذلك فلا تسوّغ هذه الفطرة التوسل بالنزاع وما يجري مجراه إلّافي الحالات الاستثنائية الطارئة.

وتشير الآية بعد ذلك مباشرة إلى أنّ الإنسان بسبب غريزة حبّ الذات التي يمتلكها تحيط به أمواج البخل ، بحيث إنّ كل إنسان يسعى إلى نيل حقوقه دون التنازل عن أقل شيء منها ، وهذا هو سبب ومنبع النزاع والصراع ، تقول الآية : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ).

__________________

(١) الأثرة : الإختيار : أي اختياري للمرأة الشابة وتقديمي إيّاها عليك.

٤٦٠