مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-048-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٥

لابد أن تتميز الصفوف : تنوه الآيتان الحاضرتان بحقيقة هامة هي أنّ أيّة مصيبة (كتلك التي وقعت في احد) مضافاً إلى أنّها لم تكن دون سبب وعلة ، فإنّها خير وسيلة لتمييز صفوف المجاهدين الحقيقيين عن المنافقين أو ضعفاء الإيمان ، ولذلك جاء في القسم الأوّل من الآية الاولى : (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذنِ اللهِ). أي : أنّ ما أصابكم يوم تقاتل المسلمون والمشركون فهو بإذن الله ومشيئته وإرادته لأنّ لكل ظاهرة في عالم الكون المخلوق لله سبحانه سبباً خاصاً وعلة معينة.

ثم يقول سبحانه في المقطع التالي من الآية : (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا).

ثم إنّ القرآن الكريم يستعرض حواراً قد وقع بين بعض المسلمين ، والمنافقين قبل المعركة بالشكل التالي : (وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا). فإنّ بعض المسلمين (وهو عبد الله بن عمر بن حزام على ما نقل عن ابن عباس) عندما رأى إنسحاب عبد الله بن أبي سلول وانفصالهم عن الجيش الإسلامي ، وإعتزامهم العودة إلى المدينة قال : تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا عن حريمكم وأنفسكم إن لم تقاتلوا في سبيل الله.

ولكنهم تعللوا ، واعتذروا بأعذار واهية إذ قالوا : (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَّاتَّبَعْنَاكُمْ). أي إنّنا نظن أنّ الأمر ينتهي بلا قتال فلا حاجة لوجودنا معكم.

فإنّ هذه كانت مجرد إعتذارات وتعللات ، لأنّ الحرب كانت حتمية الوقوع ، ولأنّ المسلمين إنتصروا في بداية المعركة ، وأمّا ما لحق بهم من الهزيمة والإنكسار فلم يكن إلّا بسبب أخطاء ومخالفات إرتكبوها هم أنفسهم بحيث لولاها لما وقعت بهم هزيمة ، ولذا يقول الله سبحانه : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ). أي إنّهم يكذبون.

ثم علل سبحانه ما ذكره عنهم بقوله : (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ). أي إنّهم يظهرون خلاف ما يضمرون ، ويبدون من القول خلاف ما يكتمون من الاعتقاد والنية ، فإنّهم لإصرارهم على إقتراحهم بالقتال داخل أسوار المدينة ، أو رهبة من ضربات العدو ، أو لعدم حبّهم للإسلام أحجموا عن الإسهام في تلك المعركة ، وامتنعوا عن المضي إلى احد في صحبة المسلمين ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ). فإنّ الله يعلم جيداً ما يخفونه ويضمرونه من النوايا.

(الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (١٦٨)

٣٤١

مزاعم المنافقين الباطلة : لم يكتف المنافقون بانصرافهم عن الإسهام مع المؤمنين في القتال ، والسعي في إضعاف الروح المعنوية للآخرين ، بل عمدوا إلى لوم المقاتلين المجاهدين بعد عودتهم من المعركة وبعد ما لحق بهم ما لحق قائلين : (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا).

فيرد عليهم القرآن الكريم في الآية الحاضرة قائلاً : (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).

لقد عبّر القرآن عن المؤمنين في هذه الآية بأنّهم إخوان للمنافقين في حين لم يكن المؤمنون إخواناً للمنافقين إطلاقاً ، فما هذه الأنواع من الملامة والتوبيخ للمنافقين؟ فيكون المعنى هو : إنّكم أيّها المنافقون كنتم تعتبرون المؤمنين إخواناً لكم فكيف تركتم نصرتهم في هذه اللحظات الخطيرة؟ ولهذا أردف سبحانه هذه الكلمة «لِإِخْوَانِهِمْ» بكلمة «قَعَدُوا» أي تقاعسوا عن المشاركة في المعركة.

(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَنْ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٧١)

الحياة الخالدة : إنّ الآيات الحاضرة نزلت في شهداء «احد» وإن كان محتواها ومضمونها يعم حتى شهداء «بدر». فجاءت الآيات الحاضرة لتفند كل هذه التصورات ، وتذكر بمكانة الشهداء السامية ومقامهم الرفيع وتقول : (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا).

والخطاب ـ هنا ـ متوجه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة حتى يحسب الآخرون حسابهم.

ثم يقول سبحانه معقباً على العبارة السابقة : (بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ).

والمقصود من الحياة في الآية هي «الحياة البرزخية» في عالم ما بعد الموت ، وإن لم تختص الحياة البرزخية بالشهداء فللكثير من الناس حياة برزخية أيضاً ولكن إنّ حياة الشهداء محفوفة بالنعم والمواهب المعنوية العظيمة وكأنّ حياة الآخرين من البرزخيين بما فيها لا تكاد تكون شيئاً يذكر بالنسبة إليها.

ثم إنّ الآية التالية تشير إلى بعض مزايا حياة الشهداء البرزخية ، وما يكتنفها ويلازمها من عظيم البركات من خلال الإشارة إلى عظيم إبتهاجهم بما أوتوا هناك فتقول : (فَرِحِينَ

٣٤٢

بِمَاءَاتَيهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ).

ثم إنّ السبب الآخر لإبتهاجهم ومسرتهم هو ما يجدونه ويلقونه من عظيم الثواب ورفيع الدرجات الذي ينتظر إخوانهم المجاهدين الذين لم ينالوا شرف الشهادة في المعركة إذ يقول القرآن : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ).

ثم يردف هذا بقوله : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). يعني أنّ الشهداء يحسّون هناك وفي ضوء ما يرونه أنّ إخوانهم المجاهدين لن يكون عليهم أي حزن على ما تركوه في الدنيا ولا أي خوف من الآخرة ووقائعها الرهيبة.

ثم إنّه سبحانه يقول : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ) (١).

وهذه الآية مزيد تأكيد وتوضيح حول البشائر التي يتلقاها الشهداء بعد قتلهم واستشهادهم ، فهم فرحون ومسرورون من ناحيتين :

الاولى : من جهة النعم والمواهب الإلهية التي يتلقونها.

والثانية : من جهة أنّهم يرون أنّ الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المؤمنين ... لا أجر الشهداء الذين نالوا شرف الشهادة ، ولا أجر المجاهدين الصادقين الذين لم ينالوا ذلك الشرف رغم اشتراكهم في المعركة : (وَأَنَّ اللهَ لَايُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).

(الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (١٧٤)

غزوة حمراء الأسد : قلنا إنّ جيش أبي سفيان المنتصر أسرع بعد إنتصاره في معركة «احد» على الجيش الإسلامي يحثّ السير في طريق العودة إلى مكة حتى إذا بلغ أرض «الروحاء» ندم على فعله ، وعزم على العودة إلى المدينة للإجهاز على ما تبقى من فلول المسلمين ، واستئصال جذور الإسلام حتى لا تبقى له ولهم باقية.

ولما بلغ هذا الخبر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر مقاتلي احد أن يستعدوا للخروج إلى معركة اخرى مع المشركين.

__________________

(١) «الاستبشار» يعني الإبتهاج والسرور الحاصل بسبب تلقي بشارة أو مشاهدة نعمة للنفس أو للغير من الأحبّة ؛ وليست بمعنى التبشير والإبشار.

٣٤٣

فلما بلغ هذا الخبر أبا سفيان وأدرك صمود المسلمين ، خاف وارعب. هذا وقد حدثت في هذا الموضع حادثة زادت من إضعاف معنوية المشركين ، وهي أنّه : مرّ برسول الله «معبد الخزاعي» وهو يومئذ مشرك ، فلما شاهد النبي وما عليه هو وأصحابه من الحالة تحركت عواطفه وجاشت ، فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا محمّد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في قومك وأصحابك ، ثم خرج من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وأجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما رأى أبو سفيان معبداً قال : ما وراك يا معبد؟ قال : محمّد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قطّ يتحرقون عليكم تحرقاً. وقد اجتمع عليه من كان تخلّف عنه في يومكم ، وندموا على صنيعهم ، وفيه من الحنق عليكم ما لم أر مثله قط. فاهتزّ لذلك أبو سفيان ومن معه وقفل راجعاً ومنسحباً إلى مكّة بسرعة ، وحتى يتوقف المسلمون عن طلبه وملاحقته ويجد فرصة كافية للإنسحاب قال لجماعة من بني عبد قيس كانوا يمرون من هناك قاصدين المدينة لشراء القمح : «اخبروا محمّداً إنّا قد أجمعنا الكرّة عليه وعلى أصحابه لنستأصل بقيتهم» ثم انصرف إلى مكة.

ولما مرّت هذه الجماعة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو بحمراء الأسد أخبروه بقول أبي سفيان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حسبنا الله ونعم الوكيل». وبقي هناك ينتظر المشركين ثلاثة أيام ، فلم ير لهم أثراً فانصرف إلى المدينة بعد الثالثة ، والآيات الحاضرة تشير إلى هذه الحادثة وملابساتها (١). يقول سبحانه : (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أجْرٌ عَظِيمٌ).

ثم إنّ القرآن الكريم يبين إحدى العلائم الحيّة لِاستقامتهم وثباتهم إذ يقول : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).

ثم بعد ذكر هذه الإستقامة الواضحة وهذا الإيمان البارز يذكر القرآن الكريم نتيجة عملهم إذ يقول : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مّنَ اللهِ وَفَضْلٍ).

وتأكيداً لهذا الأمر يقول القرآن : (لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ). مضافاً إلى أنّهم (اتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ). إنّه فضل عظيم ينتظر المؤمنين الحقيقيين ، والمجاهدين الصادقين.

(إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (١٧٥)

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث.

٣٤٤

هذه الآية تعقيب على الآيات التي نزلت حول غزوة «حمراء الأسد». ويكون معنى هذه الآية هو : إنّ عمل نعيم بن مسعود ، أو ركب عبد القيس من عمل الشيطان لكي يخوفوا به أولياء الشيطان. يعني أنّ هذه الوساوس إنّما تؤثر في أتباع الشيطان وأوليائه خاصة.

إنّ التعبير عن نعيم بن مسعود أو ركب عبد القيس ووصفهم ب «الشيطان» إمّا لكون عملهم ذلك من عمل الشيطان ، وإمّا أنّ المقصود من الشيطان هم نفس هؤلاء الأشخاص ، فيكون «هذا المورد» من الموارد التي يطلق فيها اسم الشيطان على المصداق الإنساني له.

ثم إنّه سبحانه يقول في ختام الآية : (وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). يعني أنّ الإيمان بالله والخوف من غيره لا يجتمعان.

وعلى هذا الإساس فإن وجد في أحد الخوف من غير الله كان ذلك دليلاً على نقصان إيمانه وتأثيره بالوساوس الشيطانية لأننا نعلم أنّه لا ملجأ ولا مؤثر بالذات في هذا الكون العريض سوى الله الذي ليس لأحد قدرة في مقابل قدرته.

(وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (١٧٧)

مواساة القرآن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : الآية الأولى موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فالله تعالى يعزّي نبيه في أعقاب أحداث «احد» المؤلمة قائلاً له : أيّها الرسول : (وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ). وكأنّهم يتسابقون إليه (إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيًا) بل يضرّون بذلك أنفسهم.

هذا مضافاً إلى أنّ الله سوف لن ينسى مواقفهم المشينة ولن تفوته مخالفاتهم ، وسيصيبهم جزاء ما يعملونه يوم القيامة : (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِى الْأَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

فإنّ الآية تقول : إذا كان هؤلاء يتسابقون في الكفر فليس ذلك لأنّ الله لا يقدر على كبح جماحهم ، بل لأنّ الله أراد أن يكونوا أحراراً في اتخاذ المواقف وسلوك الطريق الذي يريدون ، ولا شك أنّ نتيجة ذلك هو الحرمان الكامل من المواهب الربانية في العالم الآخر.

ثم يقرر القرآن هذه الحقائق في الآية الثانية بشكل أكثر تفصيلاً إذ يقول : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيًا). يعني ليس الذين يتسابقون في طريق الكفر ويسارعون إليه هم وحدهم على هذا الحال ، بل كل الذين يسلكون طريق الكفر بشكل من

٣٤٥

الأشكال ويشترون الكفر بالإيمان ، كل هؤلاء لن يضرّوا الله شيئاً ، وإنّما يضرّون أنفسهم.

ويختم سبحانه الآية بقوله : (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (١٧٨)

بعد تسلية خاطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الآيات السابقة توجّه سبحانه إلى الأعداء في هذه الآية بالخطاب ، وأخذ يحدّثهم عن المصير المشؤوم الذي ينتظرهم. يقول فيها سبحانه : (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لِّانفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (١). تحذّر المشركين بأنّ عليهم أن لا يعتبروا ما أتيح لهم من إمكانات في العدة والعدد ، وما يكسبونه من انتصارات في بعض الأحيان ، وما يمتلكونه من حرية التصرف ، دليلاً على صلاحهم ، أو علامة على رضا الله عنهم.

(مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٧٩)

المسلمون في بوتقة الاختبار والفرز : لم تكن قضية «المنافقين» مطروحة بقوة قبل حادثة معركة «احد» ولهذا لم يكن المسلمون يعرفون عدواً لهم غير الكفار ، ولكن الهزيمة التي أفرزتها «احد» وما دبّ في المسلمين على أثرها من الضعف المؤقت مهّد الأرضية لنشاط المنافقين المندسين في صفوف المسلمين ، وعلى أثر ذلك عرف المسلمون وأدركوا بأنّ لهم عدواً آخر أخطر يجب أن يراقبوا تحركاته ونشاطاته وهو «المنافقون» وكان هذا إحدى أهم معطيات حادثة «احد» ونتائجها الإيجابية. والآية الحاضرة التي هي آخر الآيات التي تتحدث ـ هنا ـ عن معركة «احد» وأحداثها ، تبين وتستعرض هذه الحقيقة في صورة قانون عام إذ تقول : (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ).

__________________

(١) «نملي» : مشتقة من الإملاء ، وتعني المساعدة والإعانة وتستعمل في أكثر الموارد في إطالة المدّة والإمهال الذي هو نوع من المساعدة ، وقد جاءت في الآية الحاضرة بالمعنى الثاني.

٣٤٦

فلابد أن تتميز الصفوف ، وتتم عملية الفرز بين الطيب الطاهر ، والخبيث الرجس ، وهذا قانون عام وسنّة إلهيّة ، فليس كل من يدعي الإيمان ، ويجد مكاناً في صفوف المسلمين يترك لشأنه ، بل ستبلى سرائره وتنكشف حقيقته في الآخرة بعد الاختبارات الإلهية المتتابعة له.

وهنا يمكن أن يطرح سؤال وهو : إذا كان الله عالماً بسريرة كل إنسان وأسراره فلماذا لا يخبر بها الناس ـ عن طريق العلم بالغيب ـ ويعرفهم بالمؤمن والمنافق؟

إنّ المقطع الثاني من الآية وهو قوله : (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ). يجيب على هذا السؤال ، أي إنّ الله سبحانه لن يوقفكم على الأسرار ، لأنّ الوقوف على الأسرار لا يحلّ مشكلة ، بل سيؤدي إلى الهرج والمرج وإلى تمزق العلاقات الاجتماعية.

والأهم من كل ذلك هو أنّه لابد أن تتضح قيمة الأشخاص من خلال المواقف العملية والسلوكية ، ومسألة الاختبار الإلهي لاتعني سوى هذا الأمر.

ثم إنّ الله سبحانه يستثني الأنبياء من هذا الحكم إذ يقول : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ). أي إنّه يختار في كل عصر من بين أنبيائه من يطلعهم على شيء من تلك الغيوب ويوقفهم على بعض الأسرار بحكم احتياج القيادة الرسالية إلى ذلك.

إنّ المراد من المشيئة الإلهيّة هو «الإرادة المقرونة بالحكمة» أي إنّ الله سبحانه يطلع على الغيب كل من يراه صالحاً لذلك ، وتقتضي حكمته سبحانه ذلك.

ثم أنهّ تعالى يذكرهم ـ في ختام الآية ـ أن يجتهدوا لينجحوا في هذا الامتحان ويخرجوا مرفوعي الرؤوس من هذا الاختبار العظيم ، إذ يقول : (فَامِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٨٠)

طوق الأسر الثقيل : تبين الآية الحاضرة مصير البخلاء في يوم القيامة ، اولئك الذين يبذلون غاية الجهد في جمع الثروة ثم يمتنعون عن الإنفاق في سبيل الله ، ولصالح عباده. والآية هذه وإن لم تتعرض صراحة لذكر الزكاة وغيرها من الحقوق والفرائض المالية ، إلّاأنّ الأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام خصصت هذه الآية وما وعد به فيها من الوعيد

٣٤٧

بمانعي الزكاة. تقول الآية أوّلاً : (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَاءَاتَيهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ). ثم تصف مصير هؤلاء في يوم القيامة هكذا : (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيمَةِ). أي ستكون تلك الأموال التي بخلوا بها طوقاً في أعناقهم في ذلك اليوم الرهيب.

ومن هذه الجملة يستفاد أنّ الأموال التي لم يدفع صاحبها الحقوق الواجبة فيها ، ولم ينتفع بها المجتمع ، بل صرفت فقط في سبيل الأهواء الشخصية ، وربما صرفت في ذلك السبيل بشكل جنوني ، أو كدّست دون أي مبرر ولم يستفد منها أحد سيكون مصيرها مصير أعمال الإنسان ، أي أنّها ـ طبقاً لقانون تجسّم الأعمال البشرية ـ ستتجسم يوم القيامة وتتمثل في شكل عذاب مؤلم يؤذي صاحبها ويخزيه.

ففي تفسير العياشي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «الذي يمنع الزكاة يُحوّل الله ماله يوم القيامة شجاعاً من نار ... فيطوّقه إيّاه ، ثم يقال له : الزمه كما لزمك في الدنيا. وهو قول الله : (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ) الآية».

ثم إنّ الآية تشير إلى نقطة اخرى إذ تقول : (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ).

يعني أنّ الأموال سواء أنفقت في سبيل الله أو لم تنفق فإنّها ستنفصل في النهاية عن أصحابها ، ويرث الله الأرض والسماء وما فيهما ، فالأجدر بهم ـ والحال هذه ـ أن ينتفعوا من آثارها المعنوية ، لا أن يتحملوا وزرها وعناءها ، وحسرتها وتبعتها.

ثم تختم الآية بقوله تعالى : (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). أي إنّه عليم بأعمالكم ، يعلم إذا بخلتم ، كما يعلم إذا انفقتم ما اوتيتموه من المال في سبيل الصالح العام وخدمة المجتمع الإنساني ، ويجازى كلاً على عمله بما يليق.

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(١٨٢)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال : كتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يهود بني قينقاع يدعوهم

٣٤٨

إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا لله قرضاً حسناً (والمراد منه الإنفاق في سبيل الله وإنّما عبّر عنه بالإقراض لتحريك المشاعر وإثارتها لدى الناس قدراً أكبر) فدخل رسول النبي إلى بيت مدارستهم (حيث يتلقى اليهود دروساً في دينهم) فوجد ناساً كثيراً منهم اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازورا فدعاهم إلى الإسلام والصلاة والزكاة ، فقال فنحاص : إن كان ما تقول حقّاً فإنّ الله إذن لفقير ونحن أغنياء ، ولو كان غنياً لما استقرضنا أموالنا! وهو يشير إلى قوله تعالى : (مَن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا) (١). هذا مضافاً إلى أنّ «محمّداً» يعتقد أنّ الله نهاكم عن أكل الربا ، وهو يعدكم أن يضاعف لكم إذا انفقتم أضعافاً مضاعفة ، وهو يشير إلى قوله تعالى : (يُرْبِى الصَّدَقَاتِ) (٢). ولكن فنحاص أنكر أنّه قال شيئاً من هذه في ما بعد فنزلت الآيتان المذكورتان أعلاه.

التّفسير

تقول الآية الاولى : (لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ). أي لو أنّ هؤلاء استطاعوا أن يخفوا عن الناس مقالتهم هذه فإنّ الله قد سمعها ويسمعها حرفاً بحرف فلا مجال لإنكارها ، فهو يسمع ويدرك حتى ما عجزت أسماع الناس عن سماعها من الأصوات الخفية جدّاً أو الأصوات العالية جداً.

ثم يقول سبحانه : (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا). أي إنّ ما قالوه لم نسمعه فحسب ، بل سنكتبه جميعه.

إنّ المراد من الكتابة ليس هو ما تعارف بيننا من الكتابة والتدوين ، بل المراد هو حفظ آثار العمل التي تبقى خالدة في العالم حسب قانون بقاء «الطاقة ـ المادة».

ثم يقول : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ). أي إنّنا لا نكتفي بكتابة مقالاتهم الكافرة الباطلة فحسب ، بل سنكتب موقفهم المشين جداً وهو قتلهم للأنبياء.

وأمّا تسجيل وكتابة أعمالهم فلم يكن أمراً اعتباطياً غير هادف ، بل كان لأجل أن نعرضها عليهم يوم القيامة ، ونقول لهم : ها هي نتيجة أعمالكم قد تجسدت في صورة عذاب محرق ونقول : (ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ).

__________________

(١) سورة الحديد / ١١.

(٢) سورة البقرة / ٢٧٦.

٣٤٩

إنّ هذا العذاب الأليم الذي تذوقونه ليس سوى نتيجة أعمالكم ، فأنتم ـ أنفسكم ـ قد ظلمتم أنفسكم (ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ).

ولقد نقل عن الإمام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة أنّه قال : «وأيم الله ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلّابذنوب اجترحوها لأنّ الله ليس بظلّام للعبيد».

(الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) (١٨٤)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : نزلت الآية في جماعة من اليهود قالوا : يا محمّد إنّ الله عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن زعمت أنّ الله بعثك إلينا فجئنا به نصدقك. فأنزل الله تعالى هذه الآية.

التّفسير

مغالطات اليهود وتعللاتهم : كانت اليهود تتحجج وتجادل كثيراً بهدف التملّص من الإنضواء تحت راية الإسلام. ومن مغالطاتهم ما جاء ذكره في هذه الآية الحاضرة التي تقول : (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ).

يقول القرآن في مقام الردّ عليهم : (قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). وفي ذلك إشارة إلى زكريا ويحيى وطائفة من الأنبياء الذين قتلوا على أيدي بني اسرائيل.

ثم يعقب سبحانه على الآية السابقة بقوله : (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ).

وفي هذه الآية يسلي الله سبحانه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول : إن كذبتك هذه الجماعة فلا تقلق لذلك ولا تحزن ، فذلك هو دأبهم مع أنبياء سبقوك حيث كذبوهم ، وعارضوا دعوتهم بصلابة وعناد.

٣٥٠

ولم يكن هؤلاء الأنبياء غير مزوّدين بما يبرهن على صدقهم ، بل (جَاءُو بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ).

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (١٨٥)

الموت وقانونه العام : تعقيباً على البحث حول عناد المعارضين وغير المؤمنين تشير هذه الآية ـ أوّلاً ـ إلى قانون عام يشمل جميع الأحياء في هذا الكون وتقول : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ).

إنّ لهذه الحياة نهاية لا محالة ، ولابد أن يأتي ذلك اليوم الذي يزور فيه الموت كل أحد ، ولا يكون أمامه ـ حينئذ ـ إلّاأن يفارق هذه الحياة.

إنّ المراد من «النفس» في هذه الآية هو مجموعة الجسم والروح ، وإن كانت النفس في القرآن تطلق أحياناً على خصوص «الروح» أيضاً.

والتعبير بالتذوق إشارة إلى الإحساس الكامل.

ثم تقول الآية بعد ذلك : (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ). أي إنّه ستكون بعد هذه الحياة مرحلة اخرى هي مرحلة الثواب والعقاب ، وبالتالي الجزاء على الأعمال ، فهنا عمل ولا حساب وهناك حساب ولا عمل.

وعبارة «تُوفَّون» التي تعني إعطاء الجزاء بالكامل تكشف عن إعطاء الإنسان أجر عمله ـ يوم القيامة ـ وافياً وبدون نقيصة.

ثم قال سبحانه : (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ).

«زحزح» : تعني محاولة الإنسان لإخراج نفسه من تحت تأثير شيء ، وتخليصها من جاذبيته تدريجاً ؛ و «فاز» : تعني في أصل اللغة النجاة من الهلكة ونيل المحبوب والمطلوب. والجملة بمجموعها تعني أنّ الذين استطاعوا أن يحرروا أنفسهم من جاذبية النار ودخلوا الجنة فقد نجوا من الهلكة ولقوا ما يحبونه وكأنّ النار تحاول بكل طاقتها أن تجذب الأدميين نحو نفسها ... حقّاً أنّ هناك عوامل عديدة تحاول أن تجذب الإنسان إلى نفسها ، وهي على درجة كبيرة من الجاذبية.

٣٥١

أليس للشهوات العابرة ، واللذات الجنسية الغير المشروعة ، والمناصب ، والثروات الغير المباحة مثل هذه الجاذبية القوية؟

ثم يقول سبحانه في نهاية هذه الآية : (وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).

وهذه الجملة تكمل البحث السابق وكأنّها تقول : إنّ هذه الحياة مجرد لهو ومتاع تخدع الإنسان من بعيد ، فإذا بلغ إليها الإنسان ونال منها ولمسها عن كثب وجدها ـ على الأغلب ـ فراغاً في فراغ وخواء في خواء ، وما متاع الغرور إلّاهذا.

إنّ هذه التعابير قد تكررت في القرآن والأحاديث كثيراً ، والهدف منها جميعاً شيء واحد هو أن لا يجعل الإنسان هذه الحياة المادية ولذاتها العابرة الفانية الزائلة هدفه الأخير ، وأمّا الإنتفاع بالحياة المادية ومواهبها كوسيلة للوصول إلى التكامل الإنساني والمعنوي فليس غير مذموم فقط ، بل هو ضروري وواجب.

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٨٦)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : عندما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة وابتعدوا عن دورهم وديارهم ، راحت أيدي المشركين تطال أموالهم وتمتدّ إلى ممتلكاتهم ، وتنالها بالتصرف والسيطرة عليها ، وإيذاء كل من وقعت عليه أيديهم والإيقاع فيه بالهجاء والاستهزاء. وعندما جاءوا إلى المدينة ، واجهوا أذى اليهود القاطنين في المدينة ، خاصة كعب بن الأشرف الذي كان شاعراً سليط اللسان ، وكان يهجو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين ويحرّض المشركين عليهم ويشبب بنساء المسلمين.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من لي بابن الأشرف»؟ فقال محمد بن سلمة : أنا يا رسول الله. فخرج هو وأبو نائلة مع جماعة فقتلوه غيلة ، وأتوا برأسه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله آخر الليل ، وهو قائم يصلي.

التّفسير

لا تتعبكم المقاومة : (لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ). أجل إنّ هذه الحياة ساحة اختبار

٣٥٢

ودار امتحان ، فلابد أن يتهيأ الإنسان لمواجهة كل الحوادث والمفاجئات الصعبة العسيرة ، وهذا تحذير لجميع المسلمين بأن لا يظنوا بأنّ الحوادث العسيرة في حياتهم قد انتهت ، أو أنّهم قد تخلصوا من أذى الأعداء ، وسلاطة لسانهم بمجرد قتلهم لكعب بن الأشرف الشاعر السليط اللسان الذي كان يؤذي المسلمين بلسانه وشعره. ولهذا قال سبحانه : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا).

ثم إنّه سبحانه عقب على هذا الإنذار والتنبيه بقوله : (وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

وبهذا يبين القرآن وظيفة المسلمين وواجبهم في أمثال هذه الحوادث الصعبة والظروف العسيرة ، ويدعوهم إلى الصبر والاستقامة والصمود والتزام التقوى في مثل هذه الحوادث معلناً بأنّ هذه الامور من الامور الواضحة النتائج ، ولذلك يتعين على كل عاقل أن يتخذ موقفه منها.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (١٨٧)

بعد ذكر جملة من أعمال أهل الكتاب المشينة ومخالفاتهم تشير الآية الحاضرة إلى واحدة اخرى من تلك الأعمال والمخالفات ، ألا وهو كتمان الحقائق فتقول : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابِ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَاتَكْتُمُونَهُ). أي اذكروا إذ أخذالله مثل هذا الميثاق منكم.

من هذه التعابير يستفاد أنّ الله سبحانه قد أخذ بوساطة الأنبياء السابقين آكد المواثيق والعهود من أهل الكتاب ولكن خانوا تلك العهود وتجاهلوا تلك المواثيق وأخفوا ما أرادوا إخفاءه من حقائق الكتب السماوية ، ولهذا قال سبحانه عنهم : (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ).

ثم إنّه سبحانه أشار إلى حرص اليهود وجشعهم وحبّهم المفرط للدنيا إذ يقول : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ).

إنّ الآية الحاضرة وإن كانت قد وردت بحق أهل الكتاب (من اليهود والنصارى) إلّاأنّها في الحقيقة تحذير وإنذار لكل علماء الدين ورجاله بأنّ عليهم أن يجتهدوا في تبليغ الحقائق وبيان الأحكام الإلهية ، وتوضيحها وإظهارها بجلاء ، وإنّ ذلك مما كتبه الله عليهم ، وأخذ منهم ميثاقاً مؤكداً وغليظاً.

٣٥٣

(لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٨٩)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال : نزلت في اليهود حيث كانوا يفرحون بإجلال الناس لهم ونسبتهم إيّاهم إلى العلم.

وقيل : نزلت في أهل النفاق لأنّهم كانوا يجمعون على التخلف عن الجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا رجعوا اعتذروا وأحبّوا أن يقبل منهم العذر ويحمدوا بما ليسوا عليه من الإيمان.

التّفسير

إنّ الآية الحاضرة في شأن علماء اليهود الذين يحرفون آيات الكتب السماوية تقول : (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ). أي لا تحسبن أنّ هؤلاء يعذرون على موقفهم هذا وينجون من العذاب ، إنّما النجاة لمن يستحون ـ على الأقل ـ من أعمالهم القبيحة ، ويندمون على أنّهم لم يفعلوا شيئاً من الأعمال الصالحة.

إنّ هؤلاء المعجبين بأنفسهم ليسوا فقط ضلّوا طريق النجاة وحُرموا من الخلاص ، بل «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» ينتظرهم.

ثم إنّ الله سبحانه يقول في آية لاحقة : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ). وهذا الكلام يتضمن بشرى للمؤمنين وتهديداً للكافرين.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (١٩٢) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا

٣٥٤

وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (١٩٣) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (١٩٤)

أوضح السبل لمعرفة الله : آيات القرآن الكريم ليست للقراءة والتلاوة فقط ، بل نزلت لكي يفهم الناس مقاصدها ويدركوا معانيها ، وما التلاوة والقراءة إلّامقدمة لتحقيق هذا الهدف ، أي التفكر والتدبر والفهم ، ولهذا جاء القرآن في الآية الاولى من الآيات الحاضرة يشير إلى عظمة خلق السماوات والأرض ، ويقول : (إِنَّ فِى خَلْقِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلفِ الَّيلِ وَالنَّهَارِ لَأَيَاتٍ لِأُولِى الْأَلْبَابِ).

إنّ هذا النقش الساحر الآسر للقلوب ، المبثوث في كل ناحية من نواحي هذا الكون العريض يشدّ إلى نفسه فؤاد كل لبيب وعقله شدّاً ـ يجعله يتذكر خالقه ، في جميع الحالات ، قائماً أو قاعداً ، وحين يكون في فراشه نائماً على جنبه ، ولهذا يقول سبحانه : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ). أي إنّهم مستغرقون كامل الإستغراق في التفكير الحيوي حول هذا الكون الرائع ونظامه البديع ومبدعه ، ومبديه.

ولقد اشير ـ في هذه الآية ـ إلى الذكر أوّلاً ، ثم إلى الفكر ثانياً ، ويعني ذلك أنّ ذكر الله وحده لا يكفي ، إنّ الذكر إنّما يعطي ثماره القيّمة إذا كان مقترناً بالفكر ، كما أنّ التفكر في خلق السماء والأرض هو الآخر لا يُجدي ولا يوصل إلى النتيجة المتوخاة ما لم تقترن عملية التفكر بعملية التذكر.

إنّ العقلاء يواجهون هذه الحقيقة الساطعة إلّاأن يقولوا بخشوع هذه الجملة : (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ).

إنّ أصحاب العقول السليمة الواعية بعد أن يعترفوا بالهدفية في الخليقة يتذكرون أنفسهم فوراً ويسألون الله التوفيق للقيام بها حتى يتجنّبوا عقابه ولهذا يقول : (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). ثم يقول : (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ).

ويستفاد من هذه العبارات أنّ العقلاء يخافون من الخزي قبل أن يخافوا من نار جهنم ، وهذا هو حال كل من يمتلك شخصية ، فإنّ أشدّ عقوبات الآخرة على هؤلاء هو الخزي في محضر الله وعند عباده.

على أنّ النقطة الجديرة بالاهتمام التي تنطوي عليها جملة (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) هي

٣٥٥

أنّ العقلاء بعد التعرف على الأهداف التربوية المطلوبة للإنسان يقفون على هذه الحقيقة وهي أنّ الوسيلة الوحيدة لنجاح الإنسان ونجاته هي أعماله وممارساته ، ولهذا لا يمكن أن يكون للظالمين أي أنصار.

ثم إنّ أصحاب العقول وذوي الألباب بعد التعرف على هدف الكون والغاية من الخلق ينتبهون إلى هذه النقطة ، وهي أنّ هذا الطريق الوعر يجب أن لا يسلكه أحد بدون قيادة الهداة الإلهيين ، ولهذا فهم يترصدون نداء من يدعوهم إلى الإيمان بصدق وإخلاص ويستجيبون لأوّل دعوة يسمعونها منه ويسرعون إليه ، ولهذا يقولون في محضر ربهم : (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلْإِيمَانِ أَنْءَامِنُوا بِرَبّكُمْ فَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ). أي ربنا الآن وقد آمنّا بكلّ وجودنا وإرادتنا ، ولكننا يحيط بنا طوفان الغرائز المختلفة من كل جانب ، فربّما ننزلق وربّما نزلّ ونرتكب معصية ، ربنا فاغفر لنا زلتنا ، واستر عثرتنا ، وتوفّنا مع الأبرار الصالحين.

ثم إنّ هؤلاء العقلاء يطلبون من ربهم في نهاية المطاف ، وبعد أن يسلكوا طريق الإيمان والتوحيد وإجابة دعوة الأنبياء والقيام بالواجبات الموجهة إليهم ، أن يؤتيهم وعدهم على لسان الرسل فيقولون : (رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ). أي ربنا لقد وفينا بالتزاماتنا ، فأتنا ما وعدتنا عن طريق أنبيائك ورسلك ولا تفضحنا ولا تلحق بنا الخزي يوم القيامة : (وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيمَةِ إِنّكَ لَاتُخْلِفُ الْمِيعَادَ).

هذه الآيات الخمسة التي تعد من القمم القرآنية العظيمة التأثير ، والتي امتزجت فيها مجموعة من معارف الدين بلحن لطيف وساحر من المناجاة والدعاء ، فإذا هي نعمة سماوية تدغدغ المشاعر ، وتثير الشعور ، وتحرك ما غفا من العقل والضمير.

(فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (١٩٥)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : هذه الآية تعقيب على الآيات السابقة حول اولي الألباب

٣٥٦

والعقول النّيرة ونتيجة أعمالهم. روي أنّ ام سلمة (وهي إحدى زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله) قالت : يا رسول الله! ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء؟ فأنزل الله هذه الآية.

ولكن السبب المذكور لنزول الآية لا ينافي الإرتباط الذي أشرنا إليه بين هذه الآية والآيات السابقة.

التّفسير

النتيجة الطيّبة لموقف أولي الألباب : في الآيات الخمس الآنفة استعرض القرآن الكريم موجزاً من إيمان اولي الألباب والعقول النّيرة ، وفي هذه الآية يقول سبحانه : (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ).

ثم يضيف قائلاً : (أَنّى لَاأُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم). دفعاً للإشتباه والتوهّم الذي قد يسبق إلى الذهن بأنّه لا إرتباط بين الفوز والنجاة ، وبين أعمال الإنسان ومواقفه.

ثم إنّه سبحانه يقول : (مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ). وهذا لأجل أن لا يتصور أحد أنّ هذا الوعد الإلهي يختص بطائفة معينة ، لأنّ الجميع يعودون في أصل الخلقة إلى مصدر واحد (بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) أي تولد بعضكم من بعض ، النساء من الرجال ، والرجال من النساء ، فلا تفاوت في هذه المسألة إذن بين الذكر أو الانثى ، فلماذا يكون تفاوت في الجزاء والثواب؟

من هنا يتضح مدى ابتعاد بعض المغفلين عن الحقيقة حيث يتّهمون الإسلام أنّه دين الرجال دون النساء.

ثم إنّه سبحانه يستنتج من ذلك إذ يقول : (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيَاتِهِمْ). أي : إنّ الله سبحانه كتب على نفسه أن يغفر لهؤلاء ذنوبهم ، جاعلاً من هذه المشاق والمتاعب التي نالتهم كفارة لذنوبهم ، ليطهروا من أدرانها تطهيراً.

ثم يقول تعالى : (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ). مضافاً إلى غفران ذنوبهم والتكفير عنهم.

وهذا هو الثواب الإلهي لهم على ما قاموا به من تضحية وفداء (ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللهِ وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ). يعنى أنّ الأجر الإلهي والمثوبات الإلهية ليست قابلة للوصف للناس بشكل كامل في هذه الحياة ، بل يكفي أن يعلموا بأنّه أفضل وأعلى من أي ثواب.

٣٥٧

(لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ) (١٩٨)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : نزلت في مشركي العرب ، وكانوا يتجرون ويتنعمون بها ، فقال بعض المسلمين : إنّ أعداء الله في العيش الرخيّ ، وقد هلكنا من الجوع! فنزلت الآية.

التّفسير

سؤال مزعج : السؤال الذي مرّ ذكره في سبب نزول هذه الآيات والذي كان يطرحه بعض المسلمين في عصر النبي يعتبر سؤالاً عاماً يطرح نفسه على الناس في كل زمان ومكان. فإنّهم يرون كيف يتنعم العصاة والطغاة ، والفراعنة والفساق ، ويرفلون في النعيم ، ويعيشون الحياة الرفاهية ويقيسونه ـ غالباً ـ بحياة الشدة والعسرة التي يعيشها جماعة من المؤمنين ، ويقولون متسائلين : كيف ينعم اولئك العصاة ـ مع ما هم عليه من الإثم والفساد والجريمة ـ بمثل تلك الحياة الرغيدة ، بينما يعيش هؤلاء ـ مع ما هم عليه من الإيمان والتقوى والصلاح ـ في مثل هذه الشدة والعسرة ، وربّما أدى هذا الأمر ببعض ضعفاء الإيمان إلى الشك والتردد؟!

ولو أنّنا درسنا هذا السؤال وحلّلنا عوامل الأمر وأسبابه في كلا الجانبين ، لظهرت أجوبة كثيرة على هذا التساؤل ، وقد أشارت هذه الآيات إلى بعضها ، ويمكننا الوقوف على بعضها الآخر بشيء من التأمل والفحص. تقول الآية الاولى من هذه الآيات : (لَايَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى الْبِلدِ). والمخاطب في هذه الآية وإن كان شخص النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّاأنّ المراد هو عموم المسلمين.

ثم تقول : (مَتَاعٌ قَلِيلٌ). أي إنّ هذه النجاحات المادية التي يحرزها المشركون ، وهذه الثروات الهائلة التي يحصلون عليها من كل سبيل ليست سوى متاع قليل ولذة عابرة.

(ثُمَّ مَأْوَيهُمُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ). فالملذات المادية تستعقب عواقب سيئة ، فإنّ مسؤولية هذه الأموال والثروات ستجرّهم إلى مصير مشؤوم ، ذلك هو الجحيم الذي

٣٥٨

ستكون محطتهم الأخيرة ومآلهم وبئس المآل.

إنّ أكثر مظاهر تفوّق هؤلاء العصاة الطّغاة الظالمين محدودة الأبعاد ، كما أنّ متاعب أكثر المؤمنين ومشاكلهم ومحنهم كذلك مؤقتة ، ومحدودة أيضاً. ولهذا لا يمكن (أو لا تصح) المقارنة والمقايسة بين هؤلاء وهؤلاء لأنّ النجاحات المادية التي يحرزها بعض العصاة والفاسقين إنّما هي لكونهم لا يتقيّدون في جمع الثّروة بأي قيد أو شرط ، فهم يجمعون المال من كل سبيل ، سواء كان مشروعاً أم غير مشروع ، حراماً كان أم حلالاً ، بل إنّهم يجوّزون لأنفسهم اكتناز الثروة ، في حين يتقيّد المؤمنون بمبادىء الحق والعدالة في هذا المجال ، فلا يسوّغون لِأنفسهم بأن يكتسبوا المال من أي طريق كان ، وأي سبيل اتفق.

ثم إنّ الله سبحانه بعد أن بيّن مصير الكفار في الآية السابقة ، بيّن هنا ـ في الآية التي تلت تلك الآية ـ مصير المؤمنين ، إذ قال : (لكِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا). أي إنّ الذين اتبعوا موازين الحق والعدل في الوصول إلى المكاسب المادية ، أو أنّهم بسبب إيمانهم تعرضوا للحصار الاقتصادي والاجتماعي ولكنهم مع ذلك بقوا ملتزمين بالتقوى ، فإنّه تعالى سيعوّضهم عن كل ذلك بجنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها (نُزُلاً مّنْ عِندِ اللهِ وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ).

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (١٩٩)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : اختلفوا في نزولها فقيل : نزلت في النجاشي ملك الحبشة وذلك أنّه لمّا مات نعاه جبرائيل لرسول الله في اليوم الذي مات فيه ، فقال رسول الله : «اخرجوا فصلّوا على أخ لكم مات بغير أرضكم». قالوا : ومن؟ قال : «النجاشي». فخرج رسول الله إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة ، فأبصر سرير النجاشي ، وصلّى عليه. فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلّي على عِلْج نصراني حبشي لم يره قطّ وليس على دينه! فأنزل الله هذه الآية.

٣٥٩

التّفسير

الآية الحاضرة بعد أن وبّخت كثيراً من أهل الكتاب على كتمانهم لآيات الله وطغيانهم وتمردهم في الآيات السابقة ذكرت هذه القلة المؤمنة ، وبيّنت خمساً من صفاتها الممتازة هي :

١ ـ (إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ). أي : إنّهم يؤمنون بالله عن طواعية وصدق.

٢ ـ (وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ). أي : يؤمنون بالقرآن.

٣ ـ (وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ). أي : إيمانهم بنبي الخاتم نابع من إيمانهم بكتبهم السماوية الواقعية التي بشّرت بهذا النبي ودعت إلى الإيمان به إذا ظهر ، فهم يؤمنون بكتبهم.

٤ ـ (خَاشِعِينَ لِلَّهِ). أي : إنّهم مسلمون لأمر الله وخاضعون لإرادته ، وهذا التسليم والخضوع هو السبب الحقيقي لإيمانهم ، وهو الذي فرّق بينهم وبين العصبيات الحمقاء ، وحرّرهم من التعنت والاستكبار تجاه منطق الحق.

٥ ـ (لَايَشْتَرُونَ بَايَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً). أي : إنّهم ليسوا مثل بعض أحبار اليهود الذين يحرّفون آيات الله حفاظاً على مراكزهم وإبقاءاً على حاكميتهم على أقوامهم وجماعاتهم ، وصولاً إلى بعض المكاسب المادية.

وسيكون لهذه الطائفة من أهل الكتاب بسبب هذه الصفات الإنسانية العالية وهذا الموقف الواضح الحي ، أجرهم عند ربّهم (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ).

(إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) فلا يتأخّر عن إعطاء الصالحين المؤمنين أجرهم ، كما لا يبطىء عن مجازاة المنحرفين والظالمين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢٠٠)

هذه الآية هي آخر الآيات من سورة آل عمران وتحتوي على برنامج يتكون من أربع نقاط لعامة المسلمين وهي لذلك تبدأ بتوجيه الخطاب إلى المؤمنين إذ تقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا).

١ ـ (اصْبِرُوا) : إنّ أوّل مادة في هذا البرنامج الذي يكفل عزّة المسلمين وإنتصارهم هو الاستقامة والثبات ، والصبر في وجه الحوادث.

٢ ـ (وَصَابِرُوا) : وهي من المصابرة (من باب المفاعلة) بمعنى الصبر والاستقامة

٣٦٠