مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-048-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٥

وَفِيكُمْ رَسُولُهُ). أي : كيف يمكن أن تسلكوا سبيل الكفر ، وترجعوا كفاراً والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بين ظهرانيكم ، وآيات الله البينات تقرأ على أسماعكم ، وتشع أنوار الوحي على قلوبكم وتهطل عليكم أمطاره المثيرة للحياة؟

إنّ هذه العبارة ما هي إلّاالإشارة إلى أنّه لا عجب إذا ضل الآخرون وانحرفوا ، ولكن العجب ممّن يلازمون الرسول ويرونه فيما بينهم ، ولهم مع عالم الوحي إتصال دائم ... ومع آياته صحبة دائمة ، إنّ العجب إنّما هو من هؤلاء كيف يضلون وكيف ينحرفون؟

ثم في ختام هذه الآيات يوصي القرآن الكريم المسلمين ـ إن أرادوا الخلاص من وساوس الأعداء وأرادوا الإهتداء إلى الصراط المستقيم ـ أن يعتصموا بالله ويلوذوا بلطفه ويتمسكوا بهداياته وآياته ، ويقول لهم بصراحة تامة : (وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٠٣)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : افتخر رجلان من الأوس والخزرج : ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج فقال الأوسي : منّا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، ومنّا حنظلة غسيل الملائكة ومنّا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين ، ومنّا سعد بن معاذ الذي اهتزّ عرش الرحمن له ، ورضي الله بحكمه في بني قريظة. وقال الخزرجي : منّا أربعة أحكموا القرآن : ابي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ومنّا سعد بن عبادة ، خطيب الأنصار ورئيسهم. فجرى الحديث بينهما فغضبا وتفاخرا وناديا. فجاء الأوس إلى الأوسي ، والخزرج إلى الخزرجي ومعهم السلاح. فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فركب حماراً وأتاهم. فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات فقرأها عليهم فاصطلحوا.

التّفسير

الدعوة إلى التقوى : في الآية الاولى من هاتين الآيتين دعوة إلى التقوى لتكون التقوى

٣٠١

مقدمة للإتحاد والتآخي. وفي الحقيقة أنّ الدعوة إلى الإتحاد دون أن تستعين هذه الدعوة وتنبع من الجذور الخلقية والاعتقادية ، دعوة قليلة الأثر ، إن لم تكن عديمة الأثر بالمرّة ، ولهذا يركز الاهتمام في هذه الآية على معالجة جذور الاختلاف ، وإضعاف العوامل المسببة للتنازع في ضوء الإيمان والتقوى ولهذا توجه القرآن بالخطاب إلى المؤمنين فقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)».

إنّ «حق التقوى» يعد من أسمى درجات التقوى وأفضلها لأنّه يشمل اجتناب كل إثم ومعصية ، وكل تجاوز وعدوان ، وإنحراف عن الحقّ.

ثم إنّه بعد أن أوصى جميع المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى إنتهت الآية بما يعتبر تحذيراً ـ في حقيقته ـ للأوس والخزرج وغيرهم من المسلمين في العالم ، تحذيراً مفاده : أنّ مجرد إعتناق الإسلام والانضمام إلى هذا الدين لا يكفي ، إنّما المهم أن يحافظ المرء على إسلامه وإيمانه واعتقاده إلى اللحظة الأخيرة من عمره وحياته ، ولهذا قال سبحانه : (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ).

الدعوة إلى الإتحاد : بعد أن أوصت الآية السابقة كل المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى ومهدت بذلك النفوس وهيّأتها ، جاءت الآية الثانية تدعوهم بصراحة إلى مسألة الإتحاد ، والوقوف في وجه كل ممارسات التجزئة وإيجاد الفرقة ، فقال سبحانه في هذه الآية : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا).

إنّ المقصود من «حبل الله» هو كل وسيلة للإرتباط بالله تعالى سواء كانت هذه الوسيلة هي الإسلام ، أم القرآن الكريم ، أم النبي وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام.

ثم إنّ القرآن بعد كل هذا يعطي مثالاً حيّاً من واقع الامة الإسلامية لأثر الإرتباط بالله وهو يذكر ـ في نفس الوقت ـ بنعمة الإتحاد والاخوة ـ تلك النعمة الكبرى ـ ويدعو المسلمين إلى مراجعة الماضي المؤسف ، ومقارنة ذلك الاختلاف والتمزق بهذه الوحدة القوية الصلبة ويقول : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا).

والملفت للنظر هو أنّ الله نسب تأليف قلوب المؤمنين إلى نفسه فقال : (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ). أي إنّ الله ألف بين قلوبكم ، وبهذا التعبير يشير القرآن الكريم إلى معجزة اجتماعية عظيمة للإسلام ، لأنّنا لو لاحظنا ما كان عليه العرب والمجتمع الجاهلي من عداوات

٣٠٢

واختلافات وما كان يكمن في القلوب من أحقاد طويلة عميقة وما تراكم فيها من ضغائن مستحكمة ، وكيف أن أقل شرارة صغيرة أو مسألة جزئية كانت تكفي لتفجير الحروب ، وإندلاع القتال في ذلك المجتمع المشحون بالأحقاد.

تلك المعجزة التي أثبتت أنّ تحقيق مثل هذه الوحدة وتأليف تلك القلوب المتنافرة المتباغضة ، وإيجاد امة واحدة متآخية من ذلك الشعب الممزق الجاهل ما كان ليتيسر في سنوات قليلة بالطرق والوسائل العادية.

لقد كان وضع العرب سيئاً إلى أبعد الحدود حتى أنّ القرآن يصف تلك الحالة بأنّهم كانوا على حافة الإنهيار والسقوط إذ يقول : (وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا).

«شفا» : في اللغة حافة الهاوية وطرف الحفرة أو الخندق وما شابه ذلك ، ومن ذلك «الشفة» كما وتستعمل لفظة «شفا» هذه في البُرء من المرض لأنّ الإنسان بسببه يكون على حافة السلامة والعافية.

ويريد سبحانه من قوله هذا : أنّكم كنتم على حافة السقوط والإنهيار في الهاوية ، ولكن الله نجاكم من ذلك السقوط المرتقب ، وأبدلكم بعد الخوف أمناً.

والنار في هذه الآية كناية عن نيران الحروب والمنازعات التي كانت تتأجج كل لحظة بين العرب في العهد الجاهلي بحجج واهية ، ولأسباب طفيفة.

ولمزيد من التأكيد على ضرورة الإعتصام بحبل الله مع الاعتبار بالماضي والحاضر ، يختم سبحانه الآية بقوله : (كَذلِكَ يُبَيّنُ اللهُ لَكُمْءَايَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهْتَدُونَ).

إذن فالهدف الأساسي هو خلاصكم ونجاتكم وهدايتكم إلى سبل الأمن والسلام ، وحيث إنّ في ذلك مصلحتكم فإنّ عليكم أن تعيروا ما بيّناه لكم مزيداً من الاهتمام ، ومزيداً من العناية.

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (١٠٥)

الدعوة إلى الحق ومكافحة الفساد : بعد الآيات السابقة التي حثّت على الاخوة والإتحاد

٣٠٣

جاءت الإشارة ـ في الآية الاولى من الآيتين الحاضرتين ـ إلى مسألة «الأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر» اللذين هما بمثابة غطاء وقائي اجتماعي لحماية الجماعة وصيانتها ، إذ تقول : (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

وهذه الآية تتضمن دستوراً أكيداً للُامة الإسلامية بأن تقوم بهاتين الفريضتين دائماً ، وأن تكون امة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر أبداً لأنّ فلاحها رهن بذلك : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

في مسند عبد الله ابن المبارك عن نعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «إنّ قوماً ركبوا البحر في سفينة فاقتسموها فأصاب كل رجل مكاناً فأخذ رجل منهم الفاس فبقر مكانه فقالوا ما يصنع قال هو إنّي أصنع فيه ما شئت فإن أخذوا على يديه نجوا ونجا وإن تركوه غرق وغرقوا فخذوا على أيدي سفهائكم قبل أن يهلكوا».

ولقد جسد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بهذا المثال الرائع ـ موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنطقية هاتين الفريضتين بغض النظر عن أمر الشارع بهما ، وبذلك قرر حق الفرد في النظارة على المجتمع على أساس أنّه حق طبيعي ناشىء من اتحاد المصائر في المجتمع وارتباط بعضها ببعض.

تقتضي أهمية الوحدة أن يركز القرآن الكريم ويؤكد عليها مرة بعد اخرى ولذا يذّكر بأهمية الإتحاد ، ويحذر من تبعات الفرقة والنفاق وآثارها المشؤومة ، بقوله : (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيّنَاتُ).

إنّ هذه الآية تحذر المسلمين من أن يتبعوا ـ كالأقوام السابقة مثل اليهود والنصارى ـ سبيل الفرقة والاختلاف بعد أن جاءتهم البينات وتوحدت صفوفهم عليها ، فيكسبوا بذلك العذاب الأليم.

(وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

إنّه ليس من شك في أنّ نتيجة الاختلاف والفرقة لن تكون سوى الذلة والإنكسار ، فذلك هو سر سقوط الامم وذلتها ، إنّه الاختلاف والتشتت والنفاق والتدابر.

إنّ المجتمع الذي تحطمت وحدته بسبب الفرقة ، وتفتّت تماسكه بسبب الاختلاف سيتعرض ـ لا محالة ـ لغزو الطامعين وستكون حياته عرضة لأطماع المستعمرين ، بل

٣٠٤

ومسرحاً لتجاوزاتهم ، وما أشد هذا العذاب ، وما أقسى هذه العاقبة؟ أجل تلك هي عاقبة النفاق والاختلاف في الدنيا.

وأمّا عذاب الآخرة فهو ـ كما وصفه الله تعالى في القرآن الكريم ـ أشد وأخزى.

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (١٠٧)

الوجوه المبيضّة والوجوه المسودّة : في تعقيب التحذيرات القوية التي تضمنتها الآيات السابقة بشأن التفرقة والنفاق والعودة إلى عادات الكفر ونعرات الجاهلية ، جاءت الآيتان الحاضرتان تشيران إلى النتائج النهائية لهذا الإرتداد المشؤوم إلى خُلُق الجاهلية وعاداتها ، وتصرّحان بأنّ الكفر والنفاق والتنازع والعودة إلى الجاهلية توجب سواد الوجه ، فيما يوجب الثبات على طريق الإيمان والإتحاد ، والمحبة والتآلف ، بياض الوجوه فتقول : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ). ففي يوم القيامة تجد بعض الناس وجوههم مظلمة سوداء والبعض الآخر وجوههم نقية بيضاء ونورانية : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ). فلماذا اخترتم طريق النفاق والفرقة والجاهلية على الإتحاد في ظل الإسلام ، فذوقوا جزاءكم العادل ، وأمّا المؤمنون فغارقون في رحمة الله : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

إنّ هاتين الآيتين تصرّحان بأنّ المنافقين والمتفرقين بعد ما جاءتهم البينات هم المسودة وجوههم الذائقون للعذاب الأليم بسبب كفرهم ، وأمّا المؤمنون المتآلفون المتحابون المتحدون فهم في رحمة الله ورضوانه مبيضة وجوههم.

(تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (١٠٩)

هذه الآية إشارة إلى ما تعرضت الآيات السابقة له حول الإيمان والكفر والإتحاد والاختلاف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآثارها وعواقبها ، إذ تقول : (تِلْكَءَايَاتُ

٣٠٥

اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ). فكل هذه الآيات تحذيرات عن تلك العواقب السيئة التي تترتب على أفعال الناس أنفسهم (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ) وإنّما هي آثار سيئة يجنيها الناس بأيديهم.

ويدلّ على ذلك أنّ الله لا يحتاج إلى ظلم أحد ، كيف وهو القوي المالك لكل شيء وإنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف ، وإلى هذا يشير قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

فالآية تشتمل على دليلين على عدم صدور الظلم منه سبحانه :

الأوّل : إنّ الله مالك الوجود كله فله ما في السماوات وما في الأرض ، فلا معنى للظلم ولا موجب له عنده ، وإنّما يظلم الآخرين ويعتدي عليهم من يفقد شيئاً ، وإلى هذا يشير المقطع الأوّل من الآية وهو قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ).

الثاني : إنّ الظلم يمكن صدوره ممن تقع الامور دون إرادته ورضاه ، أمّا من ترجع إليه الامور جميعاً ، وليس لأحد أن يعمل شيئاً بدون إذنه فلا يمكن صدور الظلم منه ، وإلى هذا يشير قوله سبحانه : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (١١٠)

مكافحة الفساد والدعوة إلى الحق أيضاً : في هذه الآية تطرح مرّة اخرى مسألة «الأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر». فالآية السابقة تشير إلى القسم الخاصّ ، وهذه الآية تشير إلى القسم العام من هاتين الفريضتين. (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ).

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم يصف المسلمين ـ في هذه الآية ـ بأنّهم خير امة هُيئت وعُبئت لخدمة المجتمع الإنساني ، والدليل على أنّ هذه الامة خير امة رشحت لهذه المهمة الكبرى هو «قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيمانها بالله» وهذا يفيد أنّ إصلاح المجتمع البشري لا يمكن بدون الإيمان بالله والدعوة إلى الحق ، ومكافحة الفساد.

أمّا هذه الامة خير الأمم ، لأنّها تختص بآخر الأديان الإلهية والشرائع السماوية ، ولا

٣٠٦

شك أنّ هذا يقتضي أن يكون أكمل الشرائع وأتمها في سلّم الأديان.

ثم إنّ الآية تشير إلى أنّ ديناً بمثل هذا الوضوح ، وتشريعاً بمثل هذه العظمة ، وتعاليم تنطوي على مثل هذه الفوائد التي لا تنكر ، ينبغي أن يؤمن به أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأنّ في ذلك صلاحهم ، وخيرهم إذ يقول سبحانه : (وَلَوْءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم).

ولكن ـ وللأسف ـ لم يؤمن به إلّاقلة ممن نبذ التعصب الأعمى ، واعتنق الإسلام برغبة صادقة ، واستقبل هذا الدين برحابة صدر ، فيما أعرض الأكثرون منهم ، وفضلوا البقاء على ما هم عليه من الكفر والعصبية على إتباع هذا الأمر الإلهي ، متجاهلين حتى تلك البشائر التي نطقت بها كتبهم حول هذا الدين وإلى هذا يشير سبحانه بقوله : (مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ). الخارجون عن هذا الأمر الإلهي.

(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (١١٢)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : إنّ رؤوس اليهود مثل كعب وأبي رافع وأبي ياسر وكنانة وابن صوريا ، عمدوا إلى مؤمنيهم كعبد الله بن سلام وأصحابه فأنّبوهم لإسلامهم ، فنزلت الآية.

التّفسير

تبشر الآية الاولى المسلمين الذين يواجهون ضغوطاً شديدة وتهديدات أحياناً من جانب قومهم الكافرين بسبب اعتناق الإسلام ، تبشرهم وتعدهم بأنّهم منصورون ، وأنّ أهل الكتاب لا يقدرون عليهم ولا تنالهم من جهتهم مضرة ، وأنّ ما سيلحقهم من الأذى من جانبهم لن يكون إلّاطفيفاً وعابراً : (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ).

إنّ هاتين الآيتين تحتويان على عدّة أخبار غيبية ، وبشائر مهمة للمسلمين قد تحقق

٣٠٧

جميعها في زمن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وحياته الشريفة وهي :

١ ـ إنّ أهل الكتاب لا يقدرون على إلحاق أي ضرر مهم بالمسلمين ، وأنّ ما يلحقونه بهم لن يكون إلّاأضراراً بسيطة ، وعابرة (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى).

٢ ـ إنّهم لن يثبتوا ـ في القتال ـ أمام المسلمين ، بل ينهزمون ويكون الظفر للمسلمين ، ولا يجدون ناصراً ولا معيناً : (وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَايُنصَرُونَ).

٣ ـ إنّهم لن يستطيعوا الوقوف على أقدامهم ولن يتمكنوا من العيش مستقلين ، بل سيبقون أذلاء دائماً ، إلّاأن يعيدوا النظر في سلوكهم ، ويسلكوا طريق الله ، أو أن يعتمدوا على الآخرين ويستعينوا بقوتهم إلى حين : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ).

ولم يمض على هذه الوعود الإلهية والبشائر السماوية زمن حتى تحققت برمّتها في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وعلى هذا إنّ على اليهود أن يعيدوا النظر في برنامج حياتهم ، ويعودوا إلى الله ، أو أن يستمروا في حياتهم النكدة المزيجة بالنفاق. فأمّا الإيمان بالله والدخول تحت مظلته وفي حصنه الحصين ، وأمّا الاعتماد على معونة الناس الواهية والاستمرار في الحياة التعسة.

لقد كان أمام اليهود طريقان : إمّا أن يعودوا إلى منهج الله ، وإمّا أن يبقوا على سلوكهم فيعيشوا أذلّاء ما داموا ، ولكنهم إختاروا الثاني ولهذا لزمتهم الذلة (وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ).

وعلى هذا أنّ اليهود بسبب إقامتهم على المعاصي وتماديهم في الذنوب اصيبوا بأمرين :

أوّلاً : طردوا من جانب المجتمع وحل عليهم غضب الله سبحانه ، وثانياً : إنّ هذه الحالة «أي الذلة» أصبحت تدريجاً صفة ذاتية لازمة لهم حتى أنّهم رغم كل ما يملكون من إمكانيات وقدرات مالية وسياسية ، يشعرون بحقارة ذاتية ، وصغار باطني.

وهذا هو ما يشير إليه قوله سبحانه إذ يقول : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بَايَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ). وبذلك يشير سبحانه إلى علة هذا المصير الأسود الذي يلازم اليهود ، ولا يفارقهم.

إنّهم لم يصابوا بما أصيبوا به من ذلة ومسكنة ، وحقارة وصغار لأسباب قومية عنصرية أو ما شابه ذلك ، بل لما كانوا يرتكبونه من الأعمال فهم :

٣٠٨

 أوّلاً : كانوا ينكرون آيات الله ويكذبون بها.

ثانياً : يصرون على قتل الأنبياء الهداة الذين ما كانوا يريدون سوى إنقاذ الناس من الجهل والخرافة ، وتخليصهم من الشقاء والعناء.

ثالثاً : إنّهم كانوا يرتكبون كل فعل قبيح ، ويقترفون كل جريمة نكراء ، ويمارسون كل ظلم فظيع ، وتجاوز على حقوق الآخرين ، ولا شك أنّ أي قوم يرتكبون مثل هذه الامور يصابون بمثل ما أصيب به اليهود ، ويستحقون ما استحقوه من العذاب الأليم والمصير الأسود.

(لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (١١٥)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : أنّه لمّا أسلم عبد الله بن سلام وجماعة ، قالت أحبار اليهود : ما آمن بمحمّد إلّاشرارنا. فأنزل الله «لَيْسُوا سَوَاءً» إلى قوله (مِنَ الصَّالِحِينَ).

التّفسير

الإسلام وخصيصة البحث عن الحق : بعد كل ذلك الذم لليهود ، الذي تضمنته الآيات السابقة بسبب مواقفهم المشينة وأفعالهم الذميمة نجد القرآن ـ كما هو شأنه دائماً ـ يراعي جانب العدل والإنصاف ، فيحترم كل من تنزه عن ذلك السلوك الذميم الذي سار عليه اليهود ، ويعلن بصراحة أنّه لا يعمم ذلك الحكم ، وأنّه لا يمكن النظر إلى الجميع بنظرة واحدة دون التفريق بين من أقام على تلك الفعال ، وبين من غادرها وطلب الحق ، ولهذا يقول : (لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَءَايَاتِ اللهِءَانَاءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ).

ثم إنّه سبحانه يقول : (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ).

وبهذا يتورع القرآن الكريم عن إدانة العنصر اليهودي كافة ، بل يركز على أفعالهم وأعمالهم وممارساتهم ، ويحترم ويمدح كل من انفصل عن أكثريتهم الفاسدة ، وخضع للحق

٣٠٩

والإيمان ، وهذا هو اسلوب الإسلام الذي لا يعادي أحداً على أساس اللون والعنصر ، بل يعاديه على أساس اعتقادي محض ، ويكافحه إذا كانت أعماله لا تنطبق مع الحق والعدل والخير.

ثم إنّه سبحانه قال : (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ). معقباً بذلك على العبارات السابقة ومكملاً للآية ويعني بقوله أنّ هؤلاء الذين أسلموا واتخذوا مواقعهم في صفوف المتقين لن يضيع الله لهم عملاً ، وإن كانوا قد إرتكبوا في سابق حالهم ما ارتكبوه من الآثام ، وما إقترفوه من المعاصي ، ذلك لأنّهم قد أعادوا النظر في سلوكهم وأصلحوا مسارهم ، وغيروا موقفهم.

كيف (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) وكأنّ هذه العبارة التي يختم بها سبحانه الآية الحاضرة تشير إلى حقيقة من الحقائق الهامة وهي : أنّ المتقين وإن كانوا قلة قليلة في الأغلب ، وخاصة في جماعة اليهود الذين عاصروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث كان المسلمون المهتدون منهم قلة ضعيفة ، ومن شأن ذلك أن لا تلفت كميتهم النظر ، ولكنهم مع ذلك يعلّمهم الله بعلمه الذي لا يعزب عنه شيء ، فلا موجب للقلق ، ولا داعي للاضطراب ما دام سبحانه يعلم بالمتقين على قلتهم ، ويعلم بأعمالهم ، فلا يضيعها أبداً قليلة كانت أو كثيرة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١١٧)

في مقابل العناصر التي تبحث عن الحقّ ، وتؤمن به من الذين وصفتهم الآية السابقة ، هناك عناصر كافرة ظالمة وصفهم الله سبحانه في هاتين الآيتين بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلدُهُم مِّنَ اللهِ شَيًا) لأنّه لا ينفع في الآخرة سوى العمل الصالح والإيمان الخالص لا الإمتيازات المادية ، في هذه الحياة : (يَوْمَ لَايَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَىَ اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (١).

إنّ القرآن ينادي بصراحة بأنّ الإمتيازات المالية والقدرة البشرية الجماعية لا تعد

__________________

(١) سورة الشعراء / ٨٨ و ٨٩.

٣١٠

إمتيازاً في ميزان الله ، وأنّ الاعتماد عليها وحدها هو الخطأ الجسيم إلّاإذا قرنت بالإيمان والعمل الصالح ، واستخدمت في سبيلهما ، وإلّا فستؤول بأصحابها إلى الجحيم وعذابها الخالد. (أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

ولما كان الكلام عن الثروة والمال كان لابدّ من الإشارة إلى مسألة الإنفاق فيقول سبحانه : (مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِى هذِهِ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ).

وهذا هو حال غير المؤمن في إنفاقه ، فإنّه لا ينفق ماله بدافع صحيح ، بل ينفقه رياءاً وسمعة وأهواء وأهداف شريرة ، وبذلك يكون كالريح العاتية ، اللّافحة أو الباردة ، تأتي على كل ما أنفقه كما تأتي على الزرع ، فتصيبه بالجفاف والفناء ، والدمار والهلاك.

إنّ مثل هذا الإنفاق لا يعالج أية مشكلة اجتماعية (لأنّه صرف للمال في غير محله في الأغلب) كما لا ينطوي على أي أثر أخلاقي ونفسي للمنفق الباذل.

ثم إنّه سبحانه يعقب على ما قال بشأن إنفاق الكفّار الذي لا يعود عليهم إلّابالوبال والويل بقوله : (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (١٢٠)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنّ هذه الآيات نزلت في رجال من المسلمين ، كانوا يواصلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من الصداقة والقرابة والجوار والحلف والرضاع.

٣١١

التّفسير

لا تتخذوا الأعداء بطانة : هذه الآية التي جاءت بعد الآيات السابقة التي تعرضت لمسألة العلاقات بين المسلمين والكفّار ، تشير إلى قضايا حساسة بالغة الأهمية ، وتحذر المؤمنين ـ ضمن تمثيل لطيف ـ بأن لا يتخذوا من الذين يفارقونهم في الدين والمسلك أصدقاء يسرون إليهم ويخبرونهم بأسرارهم ، وأن لا يطلعوا الأجانب على ما تحتفظ به صدورهم وما خفي من نواياهم وأفكارهم الخاصة بهم ، قال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَاتَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ). وهذا يعني أنّ الكفار لا يصلحون لمواصلة المسلمين ومصادقتهم ، كما لا يصلحون بأن يكونوا أصحاب سر لهم ، وذلك لأنّهم لا يتورعون عن الكيد والإيقاع بهم ما استطاعوا : (لَايَأْلُونَكُمْ خَبَالاً) (١).

فليست الصداقات والعلاقات بقادرة على أن تمنع اولئك الكفار ـ بسبب ما يفارقون به المسلمين في العقيدة والمسلك ـ من إضمار الشر للمسلمين ، وتمني الشقاء والعناء لهم (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ). أي أحبوا في ضمائرهم ودخائل نفوسهم لو أصابكم العنت والعناء.

إنّهم ـ لإخفاء ما يضمرونه تجاهكم ـ يحاولون دائماً أن يراقبوا تصرفاتهم ، وأحاديثهم كيلا يظهر ما يبطنونه من شر وبغض لكم ، بيد أنّ آثار ذلك العداء والبغض تظهر أحياناً في أحاديثهم وكلماتهم ، عندما تقفز منهم كلمة أو اخرى تكشف عن الحقد الدفين والحنق المستكن في صدورهم : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ).

وقد أوضح الله سبحانه في هذه الآية إحدى سبل التعرف على بواطن الأعداء ودخائل نفوسهم ، ثم إنّه سبحانه يقول : (وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ). أي أنّ ما يبدو من أفواههم ما هي إلّاشرارة تحكي عن تلك النار القوية الكامنة في صدورهم.

ثم إنّه تعالى يضيف قائلاً : (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأَيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ). أي أنّ ما ذكرناه من الوسيلة للتعرف على العدو أمر في غاية الأهمية لو كنتم تتدبرون فيه ، فهو يوقفكم على وسيلة جداً فعالة لمعرفة ما يكنّه الآخرون ويضمرونه تجاهكم ، وهو أمر في غاية الخطورة بالنسبة لأمنكم وحياتكم وبرامجكم.

__________________

(١) «الخبال» : في الأصل بمعنى ذهاب شيء وهي تطلق في الأغلب على الأضرار التي تؤثر على عقل الإنسان وتلحق به الضرر.

٣١٢

يحسب بعض المسلمين أنّ في مقدورهم أن يكسبوا حبّ الأعداء والأجانب إذا أعطوهم حبهم وودهم ، وهو خطأ فظيع ، وتصور باطل ، يقول سبحانه : (هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ).

إنّه سبحانه يخاطب هذا الفريق من المسلمين ويقول لهم : إنّكم تحبّون من يفارقكم في الدين لما بينكم من الصداقة أو القرابة أو الجوار ، وتظهرون لهم المودّة والمحبّة ، والحال أنّهم لا يحبّونكم أبداً ، وتؤمنون بكتبهم وكتابكم المنزل من السماء ـ على السواء ـ في حين أنّهم لا يؤمنون بكتابكم ولا يعترفون بأنّه منزل من السماء.

إنّ هذا الفريق من أهل الكتاب ينافقون ويخادعون (وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ).

ولا شكّ أنّ هذا الغيظ لن يضر المسلمين في الواقع ، إذن فقل لهم يا رسول الله : (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ). واستمروا على هذا الحنق فإنّه لن يفارقكم حتى تموتوا.

هذه هي حقيقة الكفّار التي غفلتم عنها ولم يغفل عنها سبحانه : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).

ثم إنّ الله يذكر علامة اخرى من علائم العداوة الكامنة في صدور الكفّار إذ يقول : (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا).

ولكن هل تضر هذه العداوة وما يلحقها من ممارسات ومحاولات شريرة بالمسلمين؟

هذا ما يجيب عنه ذيل الآية الحاضرة حيث يقول سبحانه : (وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٢٢)

من هنا تبدأ الآيات التي نزلت حول واحدة من أهم الأحداث الإسلامية ألا وهي معركة احد. في البدء تشير الآية الاولى إلى خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة لاختيار المحل الذي يعسكر فيه عند «احد» وتقول : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ). أي

٣١٣

واذكر عندما خرجت غدوة من المدينة تهيىء للمؤمنين مواطن للقتال لغزوة احد.

ثم إنّ الآية الثانية تشير إلى زاوية اخرى من هذا الحدث إذ تقول : (وَإِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

والطائفتان كما يذكر المؤرخون هما بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج.

فقد صممت هاتان الطائفتان على التساهل في أمر هذه المعركة والرجوع إلى المدينة ، وهمتا بذلك.

وقد كان سبب هذا الموقف المتخاذل هو أنّهما كانتا ممن يؤيد فكرة البقاء في المدينة ومقاتلة الأعداء داخلها بدل الخروج منها والقتال خارجها ، وقد خالف النّبي هذا الرأي ، مضافاً إلى أنّ عبدالله بن أبي سلول الذي التحق بالمسلمين على رأس ثلاثمائة من اليهود عاد هو وجماعته إلى المدينة ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عارض بقاءهم في عسكر المسلمين ، وقد تسبب هذا في أن تتراجع الطائفتان المذكورتان عن الخروج مع النبي وتعزما على العودة إلى المدينة من منتصف الطريق.

ولكن يستفاد من ذيل الآية أنّ هاتين الطائفتين عدلتا عن هذا القرار ، واستمرتا في التعاون مع بقية المسلمين ، ولهذا قال سبحانه : (وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). يعني أنّ الله ناصرهما فليس لهما أن تفشلا إذا كانتا تتوكلان على الله بالإضافة إلى تأييده سبحانه للمؤمنين.

غزوة احد : يستفاد من الروايات والنصوص التاريخية الإسلامية ، أنّ قريشاً لما رجعت من بدر إلى مكة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر ، لأنّه قُتل منهم سبعون واسر سبعون ، قال أبو سفيان : يا معشر قريش لا تدعوا نساءكم يبكين على قتلاكم فإنّ الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والعداوة لمحمّد. وأخذ أبو سفيان على نفسه العهد على أن لا يقرب فراش زوجته ما لم ينتقم لقتلى بدر.

وفي السنة الثالثة للهجرة عزمت قريش على غزو النبي وخرجوا من مكة في ثلاثة آلاف فارس وألفي راجل ، مجهزين بكل ما يحتاجه القتال الحاسم ، وأخرجوا معهم النساء والأطفال والأصنام ، ليثبتوا في ساحات القتال.

العباس يرفع تقريراً إلى النبي : لم يكن العباس عمّ النبي قد أسلم إلى تلك الساعة ، بل

٣١٤

كان باقياً على دين قريش ، ولكنه كان يحب ابن أخيه غاية الحب ، ولهذا فإنّه عندما عرف بتعبئة قريش وعزمهم الأكيد على غزو المدينة ومقاتلة النبي ، بادر إلى إخبار النبي ، محمّلاً غفارياً (من بني غفار) رسالة عاجلة يذكر فيها الموقف في مكة وعزم قريش ، وكان الغفاري يسرع نحو المدينة ، حتى أبلغ النبي رسالة عمه العباس ، ولما عرف صلى‌الله‌عليه‌وآله بالخبر إلتقى سعد بن أبي وأخبره بما ذكره له عمه ، وطلب منه أن يكتم ذلك بعض الوقت.

النّبي يشاور المسلمين : عمد النبي ـ بعد أن بلغته رسالة عمه العباس ـ إلى بعث رجلين من المسلمين إلى طرق مكة والمدينة للتجسس على قريش ، وتحصيل المعلومات الممكنة عن تحركاتها.

ولم يمض وقت طويل حتى عاد الرجلان وأخبرا النبي بما حصلا عليه حول قوات قريش وأنّ هذه القوات الكبيرة يقودها أبو سفيان.

وبعد أيّام استدعى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جميع أصحابه وأهل المدينة لدراسة الموقف ، وما يمكن أو يجب إتخاذه للدفاع ، وبحث معهم في أمر البقاء في المدينة ومحاربة الأعداء الغزاة في داخلها ، أو الخروج منها ومقاتلتهم خارجها ، فاقترح جماعة قائلين : «لا نخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح ، فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودروبنا وما خرجنا إلى عدو لنا قط إلّاكان الظفر لهم علينا». وكان هذا هو ما قاله عبد الله بن أبي.

وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يميل إلى هذا الرأي نظراً لوضع المدينة يومذاك ، فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يرغب في البقاء في المدينة ومقاتلة العدو في داخلها ، إلّاأنّ فريقاً من الشباب الأحداث الذين رغبوا في الشهادة وأحبّوا لقاء العدو ، خالفوا هذا الرأي. فوافقهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ رغم أنّه كان يميل إلى البقاء في المدينة ـ احتراماً لمشورتهم ، ثم خرج مع أحد أصحابه ليرتب مواضع استقرار المقاتلين المسلمين خارج المدينة وإختار الشعب من جبل احد لإستقرار الجيش الإسلامي باعتباره أفضل مكان من الناحية العسكرية والدفاعية.

لقد استشار النبي أصحابه في هذه المسألة يوم الجمعة ، ولذلك فإنّه بعد انتهاء المشاورة قام يخطب لصلاة الجمعة وقال بعد حمد الله والثناء عليه :

«انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه ، امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم».

٣١٥

ثم تولى صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه قيادة المقاتلين وكان يستعرض جيشه طوال الطريق ، ويرتب صفوفهم.

يقول المؤرخ المعروف الحلبي في سيرته : وسار إلى أن وصل «رأس الثنية» وعندها وجد كتيبة كبيرة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما هذا؟» قالوا : هؤلاء خلفاء عبد الله بن أبي اليهودي فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أسلموا؟» فقيل : لا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك». فردهم ، ورجع عبد الله بن ابي اليهودي ومن معه من أهل النفاق وهم ثلاثمائة رجل.

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن أجرى التصفية اللازمة في صفوف جيشه واستغنى عن بعض أهل الريب والشك والنفاق استقر عند الشعب من «احد» في عدوة الوادي إلى الجبل وجعل «احداً» خلف ظهره واستقبل المدينة.

وبعد أن صلّى بالمسلمين الصبح صف صفوفهم وتعبأ للقتال.

فأمّر على الرماة «عبد الله بن جبير» والرماة خمسون رجلاً جعلهم صلى‌الله‌عليه‌وآله على الجبل خلف المسلمين وأوعز إليهم قائلاً :

«إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تبرحوا من هذا المكان ، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا وألزموا مراكزكم».

ومن جانب آخر ، وضع أبو سفيان «خالد بن الوليد» في مأتي فارس كميناً يتحينون الفرصة للتسلل من ذلك الشعب ومباغتة المسلمين من ورائهم وقالوا : «إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم».

ثم اصطف الجيشان للحرب ، ها هي تكبيرات المسلمين ونداءات «الله أكبر ، الله أكبر» تدوي في جنبات ذلك المكان ، وتملأ شعاب «احد» وسهولها ، بينما تحرض هند والنسوة اللاتي معها من نساء قريش وبناتها الرجال ويضربن بالدفوف ويقرأن الأشعار المثيرة.

وبدأ القتال وحمل المسلمون على المشركين حملة شديدة هزمتهم شر هزيمة ، وألجأتهم إلى الفرار وراح المسلمون يتعقبونهم ويلاحقون فلولهم.

هذه الهزيمة النكراء التي لحقت بالمشركين دفعت ببعض المسلمين الجديدي العهد بالإسلام إلى التفكر في جمع الغنائم والانصراف عن الحرب ، بظن أنّ المشركين هزموا هزيمة كاملة ، حتى أنّ بعض الرماة تركوا مواقعهم في الجبل متجاهلين تذكير قائدهم «عبدالله بن

٣١٦

جبير» إيّاهم بما أوصاهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يبق معه إلّاقليل ظلوا يحافظون على تلك الثغرة الخطرة في الجبل محافظة على المسلمين.

فتنبه «خالد بن الوليد» إلى قلة الرماة في ذلك المكان ، فحملوا على الرماة وقتلوهم بأجمعهم ، ثم هجموا على المسلمين من خلفهم.

وفجأة وجد المسلمون أنفسهم وقد أحاط بهم العدو بسيوفهم. في هذه الكرة «حمزة» سيد الشهداء وطائفة من أصحاب النبي الشجعان ، وفر بعضهم خوفاً ، ولم يبق حول النبي سوى نفر قليل جداً يدافعون عنه ويردون عنه عادية الأعداء ، وكان أكثرهم دفاعاً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورداً لهجمات العدو ، وفداء بنفسه هو الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي كان يذب عن النبي الطاهر ببسالة منقطعة النظير ، حتى أنّه تكسر سيفه فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سيفه المسمى بذي الفقار ، ثم تترس النبي بمكان ، وبقي علي عليه‌السلام يدفع عنه فلم يزل عليّ عليه‌السلام يقاتلهم حتى أصابه في رأسه ووجهه ، ويديه وبطنه ورجليه سبعون جراحة. فقال جبرائيل : «إنّ هذه لهي المواساة يا محمّد». فقال محمّد : «إنّه منّي وأنا منه». فقال جبرائيل : «وأنا منكما».

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جبرائيل بين السماء والأرض على كرسي من ذهب ، وهو يقول : لا سيف إلّا ذوالفقار ولا فتى إلّاعليّ».

وفي هذه اللحظة صاح صائح : قتل محمّد.

يذهب بعض المؤرخين إلى أنّ «ابن قمئة» الذي قتل الجندي الإسلامي البطل «مصعب بن عمير» وهو يظن أنّه النبي ، هو الذي صاح «واللات والعزى : لقد قتل محمّد».

وهذه الشائعة كانت في صالح الإسلام والمسلمين لأنّها جعلت العدو يترك ساحة القتال ويتجه إلى مكة بظنّه أنّ النبي قد قتل وانتهى الأمر ، ولولا ذلك لكان جيش قريش الفاتح الغالب لا يترك المسلمين حتى يقتلوا رسول الله لأنّهم لم يجيئوا إلى «احد» إلّالهذه الغاية.

إلّا أنّ شائعة مقتل النبي أوجدت زلزالاً كبيراً في نفوس بعض المسلمين ، ولذلك فر هؤلاء من ساحة المعركة.

وأمّا من بقي من المسلمين في الساحة فقد عمدوا ـ بهدف الحفاظ على البقية من التفرق وإزالة الخوف والرعب عنهم ـ إلى أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الشعب من «احد» ليطلع المسلمون على وجوده الشريف ويطمئنّوا إلى حياته ، وهكذا كان ، فإنّهم لما عرفوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عاد الفارون وآب المنهزمون واجتمعوا حول الرسول ولامهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على فرارهم في تلك

٣١٧

الساعة الخطيرة ، فقالوا : يا رسول الله أتانا الخبر بأنّك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين. وهكذا لحقت بالمسلمين ـ في معركة أحد ـ خسائر كبيرة في الأموال والنفوس ، فقد قتل منهم في هذه الموقعة اثنان وسبعون من المسلمين في ميدان القتال ، كما جرح جماعة كبيرة ، ولكنهم أخذوا من هذه الهزيمة والنكسة درساً كبيراً ضمن انتصاراتهم في المعارك القادمة.

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ) (١٢٧)

فقد بدأت هذه الآيات بتذكير المسلمين بما تحقق لهم من نصر ساحق بتأييد الله لهم في «بدر» (١) إذ قال سبحانه : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ).

وقد كان الهدف من هذا التذكير هو شد عزائم المسلمين وزرع الثقة في نفوسهم والإطمئنان إلى قدراتهم ، والأمل بالمستقبل ، فقد نصرهم الله وهم على درجة كبيرة من الضعف ، وقلة العدد وضآلة العدة (حيث كان عددهم ٣١٣ مع إمكانيات بسيطة قليلة ، وكان عدد المشركين يفوق ألف مقاتل مع إمكانيات كبيرة).

فإذا كان الأمر كذلك فليتقوا الله وليجتنبوا مخالفة أوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليكونوا بذلك قد أدوا شكر المواهب الإلهية : (فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

ثم تتعرض الآية اللاحقة لذكر بعض التفاصيل حول ما جرى في بدر ، إذ قالت : (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلثَةِءَالفٍ مِّنَ الْمَلِكَةِ مُنْزَلِينَ). أي : اذكروا واذكر أيّها النبي يوم كنت تقول للمسلمين الضعفاء آنذاك اخرجوا وسيمدكم الله بالملائكة ألا

__________________

(١) «بدر» : سميت بدر لأنّ الماء كان لرجل من جهينة اسمه بدر (مجمع البحرين). وبدر من حيث اللغة يعني الممتلى الكامل. ولهذا سمي القمر إذا امتلأ : بدراً.

٣١٨

يكفيكم ذلك لتحقيق النصر الساحق على جحافل المشركين المدججين بالسلاح؟

نعم ، أيّها المسلمون لقد تحقق لكم ذلك في بدر نتيجة صبركم واستقامتكم ، واليوم يتحقق لكم ذلك أيضاً إذا أطعتم أوامر النبي ، وسرتم وفق تعليماته وصبرتم : (بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِءَالفٍ مِّنَ الْمَلِكَةِ مُسَوّمِينَ) (١).

على أنّ نزول الملائكة هذا لن يكون هو العامل الأساسي لتحقيق هذا الإنتصار لكم بل النصر من عند الله ، وليس نزول الملائكة إلّالتطمئن قلوبكم (وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) فهو العالم بسبل النصر ومفاتيح الظفر ، وهو القادر على تحقيقه.

ثم إنّه سبحانه عقب هذه الآيات بقوله : (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ).

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (١٢٨)

وقع بين المفسرين في تفسير هذه الآية كلام كثير ، إلّاأنّ ما هو مسلّم تقريباً هو أنّ الآية الحاضرة نزلت بعد معركة احد وهي ترتبط بأحداث تلك المعركة ، والآيات السابقة تؤيد هذه الحقيقة أيضاً.

يكون معنى الآية كالتالي : ليس لك حول مصيرهم شيء ، فإنّهم قد استحقوا العذاب بما فعلوه ، بل ذلك إلى الله ، يعفو عنهم إن شاء أو يأخذهم بظلمهم.

ولقد نقلت في تفسير الدر المنثور : إنّ هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أحد وقد جرح في وجهه وأصيب بعض رباعيته وفوق حاجبه فقال ـ وسالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه ـ : «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربّهم». فأنزل الله الآية وأخبره تعالى فيها أنّه ليس إليه إلّاما امر به من تبليغ الرسالة ودعائهم إلى الهدى ، فهو ليس مسؤولاً عن هدايتهم إن لم يهتدوا ولم يستجيبوا لندائه.

(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٢٩)

__________________

(١) «الفور» : السرعة التي تقلب المعادلات كما يفور القدر وتتقلب محتوياتها بسرعة.

٣١٩

هذه الآية تأكيد لمفاد الآية السابقة ، فيكون المعنى هو : أنّ العفو أو المجازاة ليس بيد النبي ، بل هو لله الذي بيده كل ما في السماوات وكل ما في الأرض ، فهو الحاكم المطلق لأنّه هو الخالق ، فله الملك وله التدبير ، وعلى هذا الأساس فإنّ له أن يغفر لمن يشاء من المذنبين ، أو يعذّب ، حسب ما تقتضيه الحكمة ، لأنّ مشيئته تطابق الحكمة.

ثم إنّه سبحانه يختم الآية بقوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). تنبيهاً إلى أنّه وإن كان شديد العذاب ، إلّاأنّ رحمته سبقت غضبه ، فهو غفور رحيم قبل أن يكون شديد العقاب والعذاب.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٣٢)

هذه الآيات الثلاث ، والآيات الست اللاحقة بها تحتوي على سلسلة من البرامج الاقتصادية ، والاجتماعية ، والتربوية ، ثم يستأنف القرآن بعد هذه الآيات التسع ، حديثه حول معركة «احد» ووقائعها.

إنّنا نعلم أيضاً أنّ المجتمع العربي في العهد الجاهلي كان مصاباً ـ بشدة ـ بداء الربا ، حيث كانت الساحة العربية (وخاصة مكة) مسرحاً للمرابين ، وقد كان هذا الأمر مبعثاً للكثير من المآسي الاجتماعية ، ولهذا استخدم القرآن في تحريم هذه الفعلة النكراء اسلوب المراحل ، فحرم الربا في مراحل أربع :

١ ـ يكتفي في الآية (٣٩) من سورة الروم بتوجيه نصح أخلاقي حول الربا.

٢ ـ يشير في الآية (١٦١) من سورة النساء ـ ضمن إنتقاد عادات اليهود وتقاليدهم الخاطئة الفاسدة ـ إلى الربا كعادة سيئة من تلك العادات.

٣ ـ يذكر في الآية الحاضرة حكم التحريم بصراحة ، ولكنّه يشير إلى نوع واحد من أنواع الربا ، وهو النوع الشديد والفاحش منه فقط.

٤ ـ وأخيراً أعلن في الآيات (٢٧٥ ـ ٢٧٩) من سورة البقرة عن المنع الشامل والشديد عن جميع أنواع الربا ، واعتباره بمنزلة إعلان الحرب على الله سبحانه.

قلنا إنّ الآية الحاضرة إشارة إلى الربا الفاحش معبرة عن ذلك بقوله : (أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً).

٣٢٠