مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-048-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٥

عندما يعدّل الوصية المنحرفة وتقول : إنّ الله يعفو عن مثل هذا الخطأ.

بحثان

١ ـ فلسفة الوصية : الإرث يوزع حسب القانون الإسلامي بنسب معينة على عدد محدود من الأقارب ، وقد يكون بين الأقارب والأصدقاء والمعارف من له حاجة ماسة إلى المال ، ولكن لا سهم له في قانون الإرث ، وقد يكون بين الورثة من له حاجة أكبر إلى المال من بقية الورثة.

من هنا وضع الإسلام قانون الوصية إلى جانب قانون الإرث ، وأجاز للمسلم أن يتصرف في ثلث أمواله (بعد الوفاة) بالشكل الذي يرشد لملء هذا الفراغ.

أضف إلى ما سبق ، قد يرغب إنسان أن يعمل بعد مماته الخيرات التي ما اتيح له أن يعملها في حياته ، ومنطق العقل يفرض أن لا يحرم هذا الشخص من مثل هذا العمل الخيري.

النصوص الإسلامية أكدت على ضرورة الوصية كثيراً ، من ذلك ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما ينبغي لِامرى مسلم أن يبيت ليلة إلّاووصيته تحت رأسه» (١).

والمقصود بوضع الوصية تحت الرأس إعدادها وتهيئتها طبعاً.

وفي رواية اخرى : «من مات بغير وصية مات ميتة جاهليّة» (٢).

٢ ـ العدالة في الوصية : في الروايات الإسلامية تأكيد وافر على «عدم الجور» و «عدم الضرار» في الوصية ، يستفاد منها جميعاً أنّ تعدي الحدود الشرعية المنطقية في الوصية عمل مذموم ومن كبائر الذنوب.

روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام : «من عدل في وصيته كان كمن تصدق بها في حياته ومن جار في وصيته لقي الله عزوجل يوم القيامة وهو عنه معرض» (٣).

والجور في الوصية هو الوصية بأكثر من الثلث ، وحرمان الورثة من حقهم المشروع ، أو التمييز بين الورثة بسبب عواطف شخصية سطحية.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٣ / ٣٥٢.

(٢) وسائل الشيعة ١٣ / ٣٥٢.

(٣) وسائل الشيعة ١٣ / ٣٥٩.

١٤١

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٨٥)

الصوم مدرسة التقوى : في سياق طرح مجموعة من الأحكام الإسلامية ، تناولت هذه الآيات أحكام واحدة من أهم العبادات ، وهي عبادة الصوم ، وبلهجة مفعمة بالتأكيد قالت الآية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ).

ثم تذكر الآية مباشرة فلسفة هذه العبادة التربوية ، في عبارة قليلة الألفاظ ، عميقة المحتوى ، وتقول : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

الآية التالية تتجه أيضاً إلى التخفيف من تعب الصوم وتقول : (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) فالفريضة لا تحتل إلّامساحة صغيرة من أيّام السنة.

ثم تقول : (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). فالمريض والمسافر معفوان من الصوم ، وعليهما أن يقضيا صومهما في أيام اخرى.

ثم تصدر الآية عفواً عن الطاعنين في السنّ ، وعن المرضى الذين لا يرجى شفاؤهم ، وترفع عنهم فريضة الصوم ليدفعوا بدلها كفارة ، فتقول : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) (١).

__________________

(١) «يطيقونه» : من «الطوق» وهو الحلقة التي تلقى على العنق ، أو توجد عليه بشكل طبيعي (كطوق الحمام) ثم أطلقت الكلمة على نهاية الجهد والطاقة.

١٤٢

ثم يقول الآية : (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ). أي من تطوع للإطعام أكثر من ذلك فهو خير له.

وأخيراً تبين الآية حقيقة هي : (وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).

والآية يدل على تأكيد آخر على فلسفة الصوم ، وعلى أنّ هذه العبادة ـ كسائر العبادات ـ لا تزيد الله عظمة أو جلالاً ، بل تعود كل فوائدها على الناس.

آخر آية في بحثنا تتحدث عن زمان الصوم وبعض أحكامه ومعطياته تقول : «شَهْرُ رَمَضَانَ» هو الشهر الذي فرض فيه الصيام.

وهو (الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ). أي : معيار معرفة الحق والباطل.

ثم تؤكد ثانية حكم المسافر والمريض وتقول : (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

والقرآن بهذا التكرار يفهم المسلمين أنّ الصوم في حالة السلام والحضر حكم إلهي والإفطار في حال السفر والمرض حكم إلهي أيضاً لا تجوز مخالفته.

وفي آخر الآية إشارة اخرى إلى فلسفة تشريع الصوم ، تقول : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). فالصوم ـ وإن كان على الظاهر نوعاً من التضييق والتحديد ـ مؤدّاه راحة الإنسان ونفعه على الصعيدين المادي والمعنوى.

ثم تقول الآية : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ). أي : يلزم على كل إنسان سليم أن يصوم شهراً ، فذلك ضروري لتربية جسمه ونفسه ، لذلك وجب على المريض والمسافر أن يقضي ما فاته من شهر رمضان ليكمل العدة ، وحتى الحائض ـ التي اعفيت من قضاء الصلاة ـ غير معفوّة عن قضاء الصوم.

والعبارة الأخيرة من الآية تقول : (وَلِتُكَبّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَيكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). لتكبروه على ما وفّر لكم من سبل الهداية ، ولتشكروه على ما أنعم عليكم.

بحوث

١ ـ الآثار التربوية والإجتماعية والصحية للصوم : من فوائد الصوم الهامة «تلطيف» روح الإنسان و «تقوية» إرادته و «تعديل» غرائزه.

على الصائم أن يكف عن الطعام والشراب على الرغم من جوعه وعطشه وهكذا عليه أن يكف عن ممارسة العمل الجنسي ، ليثبت عملياً أنّه ليس بالحيوان الأسير بين المعلف

١٤٣

والمضجع ، وأنّه يستطيع أن يسيطر على نفسه الجامحة وعلى أهوائه وشهواته. الأثر الروحي والمعنوي للصوم يشكّل أعظم جانب من فلسفة هذه العبادة.

والصوم يرفع الإنسان من عالم البهيمة إلى عالم الملائكة وعبارة (لَعَلَّكُم تَتَّقُون) تشير إلى هذه الحقايق.

وهكذا الحديث المعروف : «الصوم جنّة من النار» (١) يشير إلى هذه الحقايق.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّ للجنة باباً يدّعى الرّيّان لا يدخل فيها إلّاالصّائمون» (٢). الأثر الإجتماعى للصوم لا يخفى على أحد. فالصوم درس المساواة بين أفراد المجتمع.

سأل الإمام الصادق عليه‌السلام عن علة الصيام ، فقال : «إنّما فرض الله الصّيام ليستوي به الغنيّ والفقير ؛ وذلك أنّ الغنيّ لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير لأنّ الغنيّ كلّما أراد شيئاً قدر عليه فأراد الله تعالى أن يسوّى بين خلقه وأن يذيق الغنيّ مسّ الجوع والألم ليرقّ على الضّعيف ويرحم الجائع» (٣).

الآثار الصحية للصوم : أهمية «الإمساك» في علاج الأمراض ثابتة في الطب القديم والحديث. لأنّ العامل في كثير من الأمراض الإسراف في تناول الأطعمة المختلفة. المواد الغذائيه الزائدة تتراكم في الجسم على شكل مواد دهنية وتدخل هي والمواد السكرية في الدم ، وهذه المواد الزائدة وسط صالح لتكاثر أنواع الميكروبات والأمراض ، وفي هذه الحالة يكون الإمساك أفضل طريق لمكافحة هذه الأمراض ، وللقضاء على هذه المزابل المتراكمة في الجسم.

الصوم يحرق الفضلات والقمامات المتراكمة في الجسم ، وهو في الواقع عملية تطهير شاملة للبدن ، اضافة إلى أنّه استراحة مناسبة لجهاز الهضم وتنظيف له.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «صوموا تصحّوا» (٤).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً «المعدة بيت كل داء والحمية رأس كل دواء» (٥).

٢ ـ الصوم في الامم السابقة : يظهر من النصوص الموجودة في التوراة والإنجيل ، أنّ

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٣ / ٢٥٦.

(٢) بحار الأنوار ٩٣ / ٢٥٢.

(٣) وسائل الشيعة ٧ / ٣ (أوّل كتاب الصوم).

(٤) بحار الأنوار ٩٣ / ٢٥٥.

(٥) بحار الأنوار ٥٩ / ٢٩٠.

١٤٤

الصوم كان موجوداً بين اليهود والنصارى ، وكانت الامم الاخرى تصوم في أحزانها ومآسيها.

ويظهر من التوراة أنّ موسى عليه‌السلام صام أربعين يوماً ، وكان اليهود يصومون لدى التوبة والتضرع إلى الله. السيد المسيح عليه‌السلام صام أيضاً أربعين يوماً كما يظهر من «الإنجيل».

بهذا نستطيع أن نجد في نصوص الكتب الدينية القديمة (حتى بعد تحريفها) شواهد على ما جاء في القرآن الكريم : (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ).

٣ ـ امتياز شهر رمضان : هذا الشهر ـ إنّما اختير شهراً للصوم ـ لأنّه يمتاز عن بقية الشهور. والقرآن الكريم بيّن مزية هذا الشهر في الآية الكريمة بأنّه (الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ).

وفي الروايات الإسلامية أنّ كل الكتب السماوية : «التوراة» و «الإنجيل» و «الزبور» و «الصحف» و «القرآن» نزلت في هذا الشهر ، فهو إذن شهر تربية وتعليم.

٤ ـ قاعدة «لا حرج» : آيات بحثنا فيها إشارة إلى أنّ الله يريد بالناس اليسر ولا يريد بهم العسر ، وهذه الإشارة تدور طبعاً هنا حول موضوع الصوم وفوائده وحكم المسافر والمريض ، لكن اسلوبها العام يجعلها قاعدة تشمل كل الأحكام الإسلامية ، ويصيّر منها سنداً لقاعدة «لا حرج» المعروفة.

هذه القاعدة تقول : لا تقوم قوانين الإسلام على المشقة ، وإن أدّى حكم إسلامي إلى حرج ومشقة ، فإنّه يرفع عنه مؤقتاً ، ولذلك أجاز الفقهاء التيمم لمن يشق عليه الوضوء ، والصلاة جلوساً لمن يشق عليه الوقوف.

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (١٨٦)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : إنّ سائلاً سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت الآية.

التّفسير

سلاح اسمه الدعاء : بعد أن ذكرت الآيات السابقة مجموعة هامة من الأحكام الإسلامية،

١٤٥

تناولت هذه الآية موضوع الدعاء باعتباره أحد وسائل الإرتباط بين العباد والمعبود سبحانه. هذه الآية تخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقول : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنّى فَإِنّى قَرِيبٌ).

إنّه أقرب مما تتصورون ، أقرب منكم إليكم ، بل (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١).

ثم تقول الآية : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ). إذن (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).

ويلفت النظر في الآية ، أنّ الله سبحانه أشار إلى ذاته المقدسة سبع مرات ، وأشار إلى عباده سبعاً! مجسداً بذلك غاية لطفه وقربه وإرتباطه بعباده.

الدعاء نوع من العبادة والخضوع والطاعة ، والإنسان ـ عن طريق الدعاء ـ يزداد إرتباطاً بالله تعالى ، وكما أنّ كل العبادات ذات أثر تربوي كذلك الدعاء له مثل هذا الأثر.

والقائلون أنّ الدعاء تدخّل في أمر الله وأنّ الله يفعل ما يشاء ، لا يفهمون أنّ المواهب الإلهية تغدق على الإنسان حسب استعداده وكفاءته ولياقته ، وكلما ازداد استعداده ازداد ما يناله من مواهب.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ عند الله عزوجل منزلة لا تنال إلّابمسألة».

ويقول أحد العلماء : «حينما ندعو فإنّنا نربط أنفسنا بقوّة لا متناهية تربط جميع الكائنات مع بعضها» (٢).

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١٨٧)

__________________

(١) سورة ق / ١٦.

(٢) آئين زندگي (فارسي) / ١٥٦.

١٤٦

سبب النّزول

روي في تفسير مجمع البيان أنّ الأكل كان محرّماً في شهر رمضان بالليل بعد النوم ، وكان النكاح حراماً بالليل والنهار في شهر رمضان ، وكان رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقال له مطعم بن جيبر ... شيخاً ضعيفاً ، وكان صائماً ، فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر ، فلمّا انتبه قال لأهله : قد حُرّم عليّ الأكل في هذه الليلة. فلمّا أصبح حضر حفر الخندق فاغمي عليه ، فرآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فرقّ له.

وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرّاً في شهر رمضان ، فأنزل الله هذه الآية فأحلّ النكاح بالليل في شهر رمضان ، والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر.

التّفسير

رخصة في أحكام الصوم : مر بنا في سبب نزول الآية أنّ النكاح كان محرماً في ليالي شهر رمضان إضافة إلى نهاره ، وأنّ الأكل والشرب كانا محرمين في الليل أيضاً بعد النوم ، ولعل ذلك كان اختباراً للجيل الإسلامي الأول وإعداداً له كي يتقبل أحكام الصوم الثابتة. الآية الكريمة تتضمن أربعة أحكام إسلامية في حقل الصوم والإعتكاف. تقول أوّلاً : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) (١).

ثم تذكر الآية سبب الحكم فتقول : (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ).

واللباس يحفظ الجسم من الحر والبرد وأنواع الأخطار من جهة ، ويستر عيوب الجسم من جهة اخرى ، أضف إلى أنّه زينة للإنسان ، وتشبيه الزوج باللباس يشمل كل هذه الجوانب.

ثم يبين القرآن سبب تغيير هذا القانون الإلهي ويقول : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ). فالله سبحانه وسّع عليكم الأمر وخففه ، وجعل فيه رخصة بلطفه ورحمته ، كي لا تتلوثوا بالذنوب.

(فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ).

ثم تبين الآية الحكم الثاني وتقول : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).

وتبين الآية الحكم الثالث : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصّيَامَ إِلَى الَّيلِ).

__________________

(١) «الرفث» : هو الحديث المكشوف عن المسائل الجنسية ، واستعير لمعنى الجماع كما في الآية.

١٤٧

هذه الجملة تأكيد على حظر الأكل والشرب والنكاح في أيام شهر رمضان للصائمين ، وتشير إلى أنّ الحظر يبدأ من طلوع الفجر وينتهي عند الليل.

تطرح الآية بعد ذلك الحكم الرابع وتقول : (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِى الْمَسَاجِدِ). هذا الحكم يرتبط بالاعتكاف ، وهو شبيه بالاستثناء من الحكم السابق ، ففي الاعتكاف الذي لا تقلّ مدته عن ثلاثة أيام ، لا يحق للمعتكف الصائم أن يباشر زوجته لا في الليل ولا في النهار.

في ختام الآية عبارة تشير إلى كل ما ورد فيها من أحكام تقول : «تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا». لأنّ الإقتراب من الحدود يبعث على الوسوسة ، وقد يدفع الإنسان إلى تجاوز الحدود والوقوع في الذنب.

نعم ، (كَذلِكَ يُبَيّنُ اللهُءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

التقوى هي الأوّل والآخر : في أول آية ترتبط بأحكام الصوم ورد ذكر التقوى على أنّها الهدف النهائي للصوم ، وفي آخر آية أيضاً وردت عبارة (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) وهذا يؤكد أنّ كل مناهج الإسلام وسيلة لتربية الروح والتقوى والفضيلة والإرادة والإحساس بالمسؤولية.

(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٨٨)

المباديء الأوّلية للإقتصاد الإسلامي : هذه الآية الكريمة تشير إلى أحد الاصول المهمة والكلية للاقتصاد الإسلامي الحاكمة على مجمل المسائل الاقتصادية ، بل يمكن القول إنّ جميع أبواب الفقه الإسلامي في دائرة الاقتصاد تدخل تحت هذه القاعدة وهو قوله تعالى : (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ).

إنّ مفهوم الآية عام يستوعب كل تصرف في أموال الآخرين من غير الطريق المشروع مشمولاً لهذا النهي الإلهي ، وكذلك فإنّ جميع المعاملات التي لا تتضمن هدفاً سليماً ولا ترتكز على أساس عقلائي فهي مشمولة لهذه الآية.

والملفت للنظر أنّ بعض المفسرين قالوا : إنّ جعل هذه الآية مورد البحث بعد آيات الصوم (آيات ١٨٢ ـ ١٨٧) علامة على وجود نوع من الإرتباط بينهما ، فهناك نهي عن الأكل والشرب من أجل أداء عبادة إلهيّة ، وهنا نهي عن أكل أموال الناس بالباطل الذي يعتبر أيضاً نوع من الصوم ورياضة للنفوس ، فهما في الواقع فرعان لأصل التقوى. تلك

١٤٨

التقوى التي وردت في الآية بعنوان الهدف النهائي للصوم (١).

إنّ التعبير ب (الأكل) يعطي معنىً واسعاً حيث يشمل كل أنواع التصرفات ، أي أنّه تعبير كنائي عن أنواع التصرّفات ، و (الأكل) هو أحد المصاديق البارزة له.

ثم يشير في ذيل الآية إلى نموذج بارز لأكل المال بالباطل والذي يتصور بعض الناس أنّه حق وصحيح لأنّهم أخذوه بحكم الحاكم فيقول : (وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ).

وباء الرشوة : من الأوبئة الاجتماعية التي ابتلي بها البشر منذ أقدم العصور وباء الإرتشاء ، وكانت هذه الظاهرة المرضيّة دوماً من موانع إقامة العدالة الاجتماعية ومن عوامل جرّ القوانين لصالح الطبقات المقتدرة ، بينما سُنت القوانين لصيانة مصالح الفئات الضعيفة من تطاول الفئات القوية عليهم.

ولهذا شدد الإسلام على مسألة الرشوة وأدانها وقبّحها واعتبرها من الكبائر.

جدير بالذكر أنّ قبح الرشوة قد يدفع بالراشين إلى أن يغطّوا رشوتهم بقناع من الأسماء الاخرى كالهدية ونظائرها ، ولكن هذه التغطية لا تغيّر من ماهية العمل شيئاً ، والأموال المستحصلة عن هذا الطريق محرمة غير مشروعة.

وهذا «الأشعث بن قيس» يتوسل بهذه الطريقة ، فيبعث حلوى لذيذة إلى بيت أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أملاً في أن يستعطف الإمام تجاه قضيةٍ رفعها إليه ، ويسمي ما قدّمه هدية ، فيأتيه جواب الإمام صارماً قاطعاً ، قال عليه‌السلام : «هبلتك الهبول ، أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ ... والله لو اعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعليّ ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى» (٢).

ذم الإسلام الرشوة حتى أنّ أحد الولاة تسلم بعنوان هدية فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هلا جلست في دارك لتأتيك هدية»؟ (٣)

أين المسلمين اليوم من هذه التعاليم الدقيقة الصارمة الهادفة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بشكل حقيقي عملي في الحياة؟!

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ١ / ٢٥٢.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٤.

(٣) الإمام علي عليه‌السلام صوت العدالة الإنسانية ١ / ١٨٤.

١٤٩

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٨٩)

سبب النّزول

روي في تفسير مجمع البيان أنّ معاذ بن جبل قال : يا رسول الله! إنّ اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلّة. فأنزل الله تعالى هذه الآية ، لتقول إنّ للأهلّة فوائد مادية ومعنوية في نظام الحياة الإنسانية.

التّفسير

كما اتضح من سبب نزول هذه الآية الشريفة من أنّ جماعة سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الهلال وما يحصل عليه من تغييرات متدرجة وعن أسبابها ونتائجها ، فيجيب القرآن الكريم على سؤالهم بقوله : (يَسَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ). «أهلّة» : جمع «هلال» ويعني القمر في الليلة الاولى والثانية من الشهر.

ثم تقول الآية : (قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجّ).

فما يحصل عليها من تغييرات منتظمة تدريجية ، يجعل منها تقويماً طبيعياً يساعد الناس على تنظيم امورهم الحَيَويّة القائمة على التوقيت وتحديد الزمن ، وكذلك على تنظيم امور عباداتهم المحددة بزمان معين كالحج والصوم ، والهلال هو المرجع في تعيين هذا الزمان ، وبالاستهلال ينظّم الناس امور عبادتهم وشؤون دنياهم.

من امتيازات قوانين الإسلام أنّ أحكامه قائمة عادةً على المقاييس الطبيعية لأنّ هذه المقاييس متوفرة لدى جميع الناس ، ولا يؤثر عليها مرور الزمان شيئاً.

ثم إنّ القرآن أشار في ذيل هذه الآية وبمناسبة الحديث عن الحج وتعيين موسمه بواسطة الهلال الذي ورد في أول الآية ، إلى إحدى عادات الجاهليين الخرافية في مورد الحج ونهت الآية الناس عن ذلك ، حيث تقول : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وهذه الآية لها معنىً أوسع وأشمل ، وذلك أنّ الإنسان عندما يقدم على أي عمل من

١٥٠

الأعمال سواء كان دينياً أو دنيوياً لابد له من أن يرده من طريق صحيح لا من الطرق المنحرفة ، فالعبادة في الحج أيضاً لابد أن يبتدأ الإنسان بها في الوقت المقرر وتعيينه بواسطة الهلال.

جملة (وَلَيْسَ الْبِرُّ) يمكنها أن تكون إشارة إلى نكتة لطيفة اخرى أيضاً وهي أنّ سؤالكم عن الأهلّة بدل سؤالكم عن المعارف الدينية بمثابة مَن يترك الدخول إلى داره من الباب الأصلي ثم يرده من ظهر البيت فهو عمل مستقبح ومستهجن.

أسئلة مختلفة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وردت في (١٥) مورد من الآيات القرآنية جملة «يسئلونك» وهذه علامة على أنّ الناس يسألون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مسائل مختلفة كراراً ومراراً ، والملفت للنظر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مضافاً إلى أنّه لا ينزعج من هذه الأسئلة ، فإنّه يستقبلهم بصدر رحب ، ويجيب على أسئلتهم من خلال الآيات القرآنية.

إنّ السؤال هو أحد حقوق الناس في مقابل القادة ، وهذا الحق مشروع حتى للأعداء أيضاً ، فبإمكانهم طرح اسئلتهم بشكل معقول. فالسؤال مفتاح حل المشكلات. والسؤال بوّابة العلوم. والسؤال وسيلة انتقال المعارف المختلفة.

وأساساً فإنّ طرح الأسئلة المختلفة في كل مجتمع علامة على التحرك الفكري والحضاري والثقافي للناس ، ووجود كل هذه الأسئلة في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو علامة على تحرك أفكار الناس في ذلك المحيط ضمن تعليمات القرآن الكريم والدين الإسلامي.

(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (١٩٣)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : هذه أوّل آية نزلت في القتال ، فلمّا نزلت كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقاتل من قاتله ويكفّ عمّن كفّ عنه حتى نزلت «اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» الذي أجاز جهاد وقتال جميع المشركين.

١٥١

التّفسير

القرآن أمر في هذه الآية الكريمة بمقاتلة الذين يشهرون السلاح بوجه المسلمين. تقول الآية : (وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم).

عبارة (فِى سَبِيلِ اللهِ) توضّح الهدف الأساسي من الحرب في المفهوم الإسلامي ، فالحرب ليست للإنتقام ولا للعلو في الأرض والتزعم ، ولا للاستيلاء على الأراضي ، ولا للحصول على الغنائم ، وهذا الهدف المقدس يضع بصماته على جميع أبعاد الحرب في الإسلام ويصبغ كيفيّة الحرب وكميّتها ونوع السلاح والتعامل مع الأسرى وأمثال ذلك بصبغة «في سبيل الله».

ثم توصي الآية الشريفة بضرورة رعاية العدالة حتى في ميدان القتال وفي مقابل الأعداء وتقول : (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَايُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

أجل ، فالحرب في الإسلام لله وفي سبيل الله ، ولا يجوز أن يكون في سبيل الله اعتداء ولا عدوان ، لذلك يوصي الإسلام برعاية كثير من الاصول الخلقية في الحرب ، وهو ما تفتقر إليه حروب عصرنا أشد الإفتقار.

الإمام عليّ عليه‌السلام يقول لأفراد جيشه وذلك قبل شروع القتال في صفين : «لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم فإنّكم بحمد الله على حجة ، وترككم إياهم حتى يبدؤوكم حجة اخرى لكم عليهم. فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تُصيبوا مُعوراً ولا تجهزوا على جريح ، ولا تهيجوا النّساء بأذًى وإن شتمن أعراضكم وسببن امراءكم» (١).

في الآية التالية التي تعتبر مكملة للأمر الصادر في الآية السابقة تتحدث هذه الآية بصراحة أكثر وتقول : إنّ هؤلاء المشركين هم الذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وصبّوا عليهم ألوان الأذى والعذاب ، فيجب على المسلمين أن يقتلوهم أينما وجدوهم ، وأنّ هذا الحكم هو بمثابة دفاع عادل ومقابلة بالمثل ، لأنّهم قاتلوكم وأخرجوكم من مكة) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ).

ثم يضيف الله تعالى : (وَالفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ).

«الفتنة» : من «فَتْن» تعني وضع الذهب في النار للكشف عن درجة جودته وإصالته،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ١٤.

١٥٢

فلهذا استعملت في كل مورد يكون فيه نوع من الشدة ، مثل الامتحان الذي يقترن عادةً بالشدة ويتزامن مع المشكلات ، والعذاب أيضاً نوع آخر من الشدة ، وكذلك المكر والخديعة التي تُتّخذ عادةً بسبب أنواع الضغوط والشدائد ، وكذلك الشرك وإيجاد المانع في طريق إيمان الناس حيث يتضمن كل ذلك نوع من الشدة والضغط.

وأنّ عبادة الأوثان وما يتولد منها من أنواع الفساد الفردي والاجتماعي كانت سائدة في أرض مكة المكرمة حيث لوّثت بذلك الحرم الإلهي الآمن ، فكان فسادها أشد من القتل فلذلك تقول هذه الآية مورد البحث مخاطبةً المسلمين : لا ينبغي لكم ترك قتال المشركين خوفاً من سفك الدماء فإنّ عبادة الأوثان أشد من القتل.

ثم تشير الآية إلى مسألة اخرى في هذا الصدد فتقول : إنّ على المسلمين أن يحترموا المسجد الحرام دائماً وأبداً ، ولذلك لا ينبغي قتال الكفار عند المسجد الحرام ، إلّاأن يبدؤكم بالقتال (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ).

(فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ). لأنّهم عندما كسروا حرمة هذا الحرم الإلهي الآمن فلا معنى للسكوت حينئذ ويجب مقابلتهم بشدة لكي لا يسيئوا الاستفادة من قداسة الحرم وإحترامه.

ولكن بما أنّ الإسلام في منهجه التربوي للناس يقرن دائماً الإنذار بالبشارة معاً ، والثواب والعقاب كذلك ، لكي يؤثر في المسلمين تأثيراً سليماً ، فلذلك فسح المجال في الآية التالية للعودة والتوبة فقال : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

الآية التالية تشير إلى هدف الجهاد في الإسلام وتقول : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَاتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ لِلَّهِ).

ثم تضيف : فإن ترك هؤلاء المشركون عقائدهم الباطلة وأعمالهم الفاسدة فلا تتعرضوا لهم (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).

وحسب الظاهر ذُكر في هذه الآية ثلاثة أهداف للجهاد وهي :

١ ـ إزالة الفتنة.

٢ ـ محو الشرك وعبادة الأوثان.

٣ ـ التصدّي للظلم والعدوان.

مسألة الجهاد في الإسلام : إنّ الحكّام الطواغيت والفراعنة وأمثالهم من النمروديين

١٥٣

والقارونيين الذين يعترضون دائماً على دعوة الأنبياء الإصلاحية ويقفون بوجهها ولا يرضون إلّابإزالة الدين الإلهي من الوجود يتضح أنّ على المؤمنين والمتدينين في الوقت الّذي يعتمدون على العقل والمنطق والأخلاق في تفاعلهم الإجتماعي مع الآخرين عليهم أن يتصدّوا لهؤلاء الظالمين والطّواغيت ويشقّوا طريقهم بالجهاد وتحطيم هذه الموانع والعوائق التي يقيمها حكّام الجور في طريقهم.

وأساساً فإنّ الجهاد هو قانون عام في عالم الأحياء ، فجميع الكائنات الحية تجاهد عوامل الفناء من أجل بقائها.

وإنّ من افتخاراتنا نحن المسلمين أنّ ديننا يقرن المسائل الدينية بالحكومة ويعتمد على الجهاد كأحد أركان المنظومة العقائدية لهذا الدين ، غاية الأمر يجب ملاحظة أهداف هذا الجهاد الإسلامي ، وهذا هو الذي يفصل بيننا وبين الآخرين.

وكما تقدم في الآيات أعلاه أنّ الجهاد في الإسلام يتعقب عدة أهداف مباحة :

١ ـ الجهاد من أجل إطفاء الفتن : وبعبارة اخرى الجهاد الابتدائي من أجل التحرير ، فنحن نعلم أنّ الله عزوجل قد أنزل على البشرية شرائع وبرامج لسعادة البشر وتحريرهم وتكاملهم وإيصالهم إلى السعادة والرفاه ، وأوجب على الأنبياء عليهم‌السلام أن يبلّغوا هذه الشرائع والإرشادات إلى الناس ، فلو تصور أحد الأفراد أو طائفة من الناس أنّ إبلاغ هذه الشرائع للناس سوف يعيقه عن نيل منافعه الشخصية وسعى لإيجاد الموانع ووضع العصي في عجلات الدعوة الإلهية ، فللأنبياء الحق في إزالة هذه الموانع بطريقة المسالمة أوّلاً وإلّا فعليهم استخدام القوة في إزالة هذه الموانع عن طريق الدعوة لنيل الحرية في التبليغ وليحرر الناس من قيود الأسر والعبودية الفكرية والاجتماعية.

٢ ـ الجهاد الدفاعي : إنّ جميع القوانين السماوية والبشرية تبيح للفرد أو الجماعة الدفاع عن النفس والاستفادة مما وسعهم من قوة في هذا السبيل ، ويسمى مثل هذا الجهاد ب (الجهاد الدفاعي) ومن ذلك غزوة الأحزاب واحد ومؤتة وتبوك وحنين ونظائرها من الحروب الإسلامية التي لها جنبة دفاعية.

٣ ـ الجهاد لحماية المظلومين : إنّ حماية المظلومين في مقابل عدوان الظالمين هو أصل في الإسلام يجب مراعاته ، حتى لو أدّى الأمر إلى الجهاد واستخدام القوة ، فالإسلام لا يرضى للمسلمين الوقوف متفرجين على ما يرد على المظلومين في العالم ، وهذا الأمر من الأوامر المهمة في الشريعة الإسلامية المقدسة التي تحكي عن حقانية هذا الدين.

١٥٤

٤ ـ الجهاد من أجل دحر الشرك وعبادة الأوثان : الإسلام يدعوا البشرية إلى اعتناق الدين الخاتم الأكمل وهو يحترم مع ذلك حرية العقيدة ، وبذلك يُعطي أهل الكتاب الفرصة الكافية للتفكير في أمر إعتناق الرسالة الخاتمة ، فإن لم يقبلوا بذلك فإنّه يعاملهم معاملة الأقلية المعاهدة (أهل الذمة) ويتعايش معهم تعايشاً سلميّاً ضمن شروط خاصة بسيطة وميسورة ، لكن الشرك والوثنية ليسا بدين ولا عقيدة ولا يستحقان الإحترام ، بل هما نوع من الخرافة والحمق والانحراف ونوع من المرض الفكري والأخلاقي الذي ينبغي أن يستأصل مهما كلّف الثمن.

ومما تقدم من ذكر أهداف الجهاد يتضح أنّ الإسلام أقام الجهاد على اسس منطقية وعقلية ، ولكننا نعلم أنّ أعداء الإسلام وخاصة القائمون على الكنيسة والمستشرقين المغرضين سعوا كثيراً لتحريف الحقائق ضد مسألة الجهاد الإسلامي ، واتّهموا الإسلام باستعمال الشدة والقوة والسيف من أجل تحميل الإيمان به وتهجمّوا كثيراً على هذا القانون الإسلامي.

والظاهر أنّ خوفهم وهلعهم إنّما هو من تقدم الإسلام المضطرد في العالم بسبب معارفه السّامية وبرنامجه السليم ، ولهذا سعوا لإعطاء الإسلام صبغة موحشة كيما يتمكنوا من الوقوف أمام انتشار الإسلام.

(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٩٤)

احترام الأشهر الحُرم والمقابلة بالمثل : كان المشركون على علم بأنّ الإسلام يحضر الحرب في الأشهر الحرم (ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ورجب) لذلك أرادوا أن يشنّوا هجوماً مباغتاً على المسلمين في هذه الأشهر الحُرم متجاهلين حرمتها ظانين أنّ المسلمين ممنوعون من المواجهة. الآية الكريمة تكشف مؤامرة المشركين وتحمّل المسلمين مسؤولية مواجهة العدوان حتى في الأشهر الحُرم فتقول الآية : (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ). أي : أنّ الأعداء لو كسروا حرمة واحترام هذه الأشهر الحُرم وقاتلوكم فيها فلكم الحق أيضاً في المقابلة بالمثل ، لأنّ (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ).

١٥٥

«حُرُمات» : جمع «حُرمة» وتعني الشيء الذي يجب حفظه واحترامه ، وقيل للحرم : حرم لأنّه مكان محترم ولا يجوز هتكه ، ويقال الأعمال الممنوعة والقبيحة حرام لهذا السبب ، كي لا تخامر أذهان المشركين فكرة انتهاك حرمة هذه الشهور.

ثم تشرّع الآية حكماً عاماً يشمل ما نحن فيه وتقول : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

فالإسلام ـ وخلافاً للمسيحية الحالية التي تقول (إذا لطمك شخص على خدّك الأيمن فأدِر له الأيسر) (١) ـ لا يقول بمثل هذا الحكم المنحرف الذي يبعث على جرأة المعتدي وتطاول الظالم ، وحتّى المسيحيين في هذا الزمان لا يلتزمون مطلقاً بهذا الحكم أيضاً ، ويردون على كل عدوان مهما كان قليلاً بعدوان أشد ، وهذا أيضاً مخالف لدستور الإسلام في الرّد ، فالإسلام يقول : يجب التصدّي للظالم والمعتدي ، ويُعطي الحق للمظلوم والمُعتدى عليه المقابلة بالمثل ، فالاستسلام في منطق الإسلام يعني الموت ، والمقاومة والتصدّي هي الحياة.

وقوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) إشارة إلى أنّ الله لا يهمل المتقي في خِضمّ المشكلات ، بل يعينه ويرعاه.

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٩٥)

هذه الآية تكمّل ما مرّ من آيات الجهاد فكما أنّ الجهاد بحاجة إلى الرجال المخلصين والمجرّبين كذلك بحاجة إلى المال والثروة أي بحاجة إلى الاستعداد البدني والمعنوي والمعدّات الحربية ، صحيح أنّ العامل الحاسم في تقرير مصير الحرب هو الرجال بالدرجة الاولى ، ولكن الجندي بحاجة إلى أدوات الحرب (أعم من السلاح والأدوات ووسائل النقل والغذاء والوسائل الصحية) فإنّه بدونها لا يمكنه أن يفعل شيئاً. من هنا أوجب الإسلام تأمين وسائل الجهاد مع الأعداء ، ومن ذلك ما ورد في الآية أعلاه حيث تأمر بصراحة : (وَأَنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

وهذا المعنى يتأكد خاصة في عصر نزول هذه الآيات حيث كان المسلمون في شوق شديد إلى الجهاد كما يحدّثنا القرآن عن اولئك الّذين أتوا النبي يطلبون منه السلاح ليشاركوا

__________________

(١) انجيل متّى ، الباب ٥ ، الرقم ٣٩ ـ ٤٢.

١٥٦

في ساحة الجهاد وإذ لم يجدوا ذلك عادوا مهمومين محزونين (تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ) (١).

فعبارة (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بالرغم من أنّها واردة في ترك الإنفاق في الجهاد الإسلامي ، ولكن مفهومها واسع يشمل موارد اخرى كثيرة ، منها أنّ الإنسان ليس له الحق في اتخاذ الطرق الخطرة للسفر (سواء من الناحية الأمنية أو بسبب العوامل الجوية أو غير ذلك) دون أن يتخذ لنفسه الاحتياطات اللازمة لذلك ، كما لا يجوز له تناول الغذاء الذي يحتمل قوياً أن يكون مسموماً وحتى أن يرد ميدان القتال والجهاد دون تخطيط مدروس ، ففي جميع هذه الموارد الإنسان مسؤول عن نفسه فيما لو ألقى بها في الخطر بدون عذر مقبول.

وتصور بعض الجهلاء من أنّ كل ألوان الجهاد الابتدائي هو إلقاء النفس في التهلكة وحتى أنّهم أحياناً يعتبرون قيام سيد الشهداء الإمام الحسين عليه‌السلام في كربلاء مصداق لهذه الآية ، وهذا ناشىء من الجهل المطبق وعدم درك مفهوم الآية الشريفة ، لأنّ إلقاء النفس بالتهلكة يتعلق بالموارد التي لا يكون فيها الهدف أثمن من النفس وإلّا فلابد من التضحية بالنفس حفاظاً على ذلك الهدف المقدس كما صنع الإمام الحسين عليه‌السلام وجميع الشهداء في سبيل الله كذلك.

وفي آخر الآية أمر بالإحسان ويقول : (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

أمّا ما هو المراد بالإحسان هنا؟ فهناك عدة احتمالات في كلمات المفسرين ، منها : أنّ المراد هو حسن الظن بالله (فلا تظنّوا أنّ إنفاقكم هذا يؤدي إلى الاختلال في معاشكم) ، والآخر هو الاقتصاد والاعتدال في مسألة الإنفاق ، واحتمال ثالث هو دمج الإنفاق مع حسن الخلق للمحتاجين بحيث يتزامن مع البشاشة وإظهار المحبة وتجنّب أي لون من ألوان المنة والأذى للشخص المحتاج ، ولا مانع من أن يكون المراد في مفهوم الآية جميع هذه المعاني الثلاث.

الإنفاق مانع عن انهيار المجتمع : إنّ هذه الآية بالرغم من أنّها وردت في ذيل آيات الجهاد ، ولكنها تبين حقيقة كلية واجتماعية ، وهي أنّ الإنفاق بشكل عام سبب لنزاهة المجتمع من المفاسد المدمّرة ، لأنّه حينما يترك أفراد المجتمع الإنفاق وتتراكم الثروة في أحد أقطاب

__________________

(١) سورة التوبة / ٩٢.

١٥٧

المجتمع تنشأ طبقة محرومة بائسة ، ولا يلبث أن يحدث انفجار عظيم فيه يحرق الأثرياء وثروتهم ويتضح من ذلك إرتباط الإنفاق بابعاد التهلكة.

ومن هنا فالإنفاق يعود بالخير على الأثرياء قبل أن يصيب خيره المحرومين ، لأنّ تعديل الثروة يصون الثروة كما قال الإمام علي عليه‌السلام : «حصّنوا أموالكم بالزّكاة» (١).

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (١٩٦)

بعض أحكام الحج المهمة : في هذه الآية ذُكرت أحكام كثيرة :

١ ـ في مطلع الآية تأكيداً على أنّ أعمال العمرة والحج ينبغي أن تكون لله وطلب مرضاته فقط «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ». من هنا لا ينبغي أن يشوب أعمال الحج نيّة اخرى غير الدافع الإلهي وكذلك الإتيان بالعمل العبادي هذا كاملاً وتاماً بمقتضى جملة «وَأَتِمُّوا».

٢ ـ ثم إنّ الآية تشير إلى الأشخاص الذين لا يحالفهم التوفيق لأداء مناسك الحج والعمرة بعد لبس ثياب الإحرام بسبب المرض الشديد أو خوف العدو وأمثال ذلك ، فتقول : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ). فمثل هذا الشخص عليه أن يذبح ما تيّسر له من الهدي ويخرج بذلك من إحرامه.

٣ ـ ثم إنّ الآية الشريفة تشير إلى أمر آخر من مناسك الحج فتقول : (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُم حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ).

٤ ـ ثم تقول الآية : (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).

«نُسُك» : في الأصل جمع «نسيكة» بمعنى حيوان مذبوح ، وهذه المفردة جاءت بمعنى

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ١٤٦.

١٥٨

العبادة أيضاً. هذا الاصطلاح يأتي في أعمال الحج و «نسيكة» بمعنى «ذبيحة».

إنّ مثل هذا الشخص مخيّراً بين ثلاث امور (الصوم والصدقة أو ذبح شاة).

٥ ـ ثم تضيف الآية : (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ).

وهذه إشارة إلى أنّه يجب الذبح في حج التمتع ولا فرق في هذا الهدي بين أن يكون من الإبل أو من البقر أو من الضّأن دون أن يخرج من الإحرام.

٦ ـ ثم إنّ الآية تبيّن حكم الأشخاص غير القادرين على ذبح الهدي في حج التمتع فتقول : (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ). فعلى هذا فلو لم يجد الإنسان أضحيةً أو أنّ وضعه المالي لا يطيق ذلك فيجب عليه جبران ذلك بصيام عشرة أيام.

إنّ التعبير بكلمة (كاملة) إشارة إلى أنّ صوم الأيام العشرة يحلّ محل الهدي بشكل كامل ، ولهذا ينبغي للحجاج أن يطمأنّوا لذلك وأنّ جميع ما يترتب على الأضحية من ثواب وبركة سوف يكون من نصيبهم أيضاً.

٧ ـ ثم إنّ الآية الشريفة تتعرض إلى بيان حكم آخر وتقول : (ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). فعلى هذا لا يكون لأهل مكة أو الساكنين في أطرافها حج التمتع ، فوظيفته حج القِران أو الإفراد (وتفصيل هذا الموضوع مذكور في الكتب الفقهية).

وبعد بيان هذه الأحكام السبعة تأمر الآية في ختامها بالتقوى وتقول : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). ولعل هذا التأكيد يعود إلى أنّ الحج عبادة إسلامية هامة ولا ينبغي للمسلمين التساهل في أداء مناسكه وأنّ ذلك سيؤدّي إلى اضرار كثيرة ، وأحياناً يسبّب فساد الحج وزوال بركاته المهمة.

بحثان

١ ـ أهمية الحج بين الواجبات الإسلامية : يُعتبر الحج من أهم العبادات التي شُرّعت في الإسلام ولها آثار وبركات كثيرة جدّاً ، فهو مصدر عظمة الإسلام وقوّة الدين واتحاد المسلمين ، والحج هو الشعيرة العبادية التي ترعب الأعداء وتضخ في كل عام دماً جديداً في شرايين المسلمين.

والحج هو تلك العبادة التي أسماها أمير المؤمنين عليه‌السلام ب (علم الإسلام وشعاره) وقال عنها في وصيته في الساعات الأخيرة من حياته : «الله الله في بيت ربّكم لا تُخَلّوه ما بقيتم فإنّه إن

١٥٩

تُرك لم تُناظَروا» (١). أي أنّ البلاء الإلهي سيشملكم دون إمهال.

٢ ـ أقسام الحج : لقد قسّم الفقهاء العظام وبإلهام من الآيات والأحاديث الشريفة عن النبي وآله : الحج إلى ثلاثة أقسام : حج التمتع ، حج القِران ، وحج الإفراد.

أمّا حج التمتع فيختص بمن كان على مسافة ٤٨ ميلاً فصاعداً من مكة (١٦ فرسخ وما يعادل ٩٦ كيلومتر تقريباً) ، وأمّا حج القِران والإفراد فيتعلقان بمن كان أدنى من هذه الفاصلة. ففي حج التمتع يأتي الحاج بالعمرة أوّلاً ، ثم يحلّ من إحرامه وبعد ذلك يأتي بمراسم الحج في أيامه المخصوصة ، ولكن في حج القِران والإفراد يبدأ أوّلاً بأداء مراسم الحج ، ثم بعد الانتهاء منها يشرع بمناسك العمرة مع تفاوت أنّ الحاج في حج القِران يأتي ومعه هديه ، أمّا في حج الإفراد فلا هدي فيه.

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٩٩)

تواصل هذه الآيات الشريفة بيان أحكام الحج وزيارة بيت الله الحرام وتقرر طائفة من التشريعات الجديدة :

١ ـ تقول الآية : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ).

والمراد بهذه الأشهر : هي شوال ، ذي القعدة ، ذي الحجة.

٢ ـ ثم تأمر الآية الكريمة فيمن أحرم إلى الحج وشرع بأداء مناسك الحج وتقول : (فَمَن فَرَضَ فِيْهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجّ).

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ٤٧ ، (وصيّة الإمام لابنيه الحسن والحسين عليهما‌السلام).

١٦٠