مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-048-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٥

دلائل نفي الولد : نسبة الولد إلى الله سبحانه ، هي دون شك وليدة سذاجة فكرية ، قائمة على أساس مقارنة كل شيء بالوجود البشري المحدود. الإنسان يحتاج إلى الولد لأسباب عديدة : فهو من جانب ذو عمر محدود يحتاج إلى توليد المثل لاستمرار نسله.

ومن جهة اخرى هو ذو قوة محدودة تضعف بالتدريج ، ويحتاج لذلك ـ وخاصة في فترة الشيخوخة ـ إلى من يساعده في أعماله.

وهو أيضاً ينطوي على عواطف وحبّ للأنيس ، وذلك يتطلب وجود فرد أنيس في حياة الإنسان ، والولد يلبي هذه الحاجة.

واضح أنّ كل هذه الامور لا يمكن أن تجد لها مفهوماً بشأن الله سبحانه ، وهو خالق عالم الوجود والقادر على كل شيء ، وهوالأزلي الأبدي.

أضف إلى ذلك ، الولد يستلزم أن يكون الوالد جسماً والله منزّه عن ذلك.

(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْ لَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) (١١٩)

حجج اخرى : بمناسبة ذكر حجج اليهود في الآيات السابقة ، تتحدث الآية عن حجج مجموعة اخرى من المعاندين ويبدو أنّهم المشركون العرب فتقول : (وَقَالَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَاءَايَةٌ).

والقرآن يجيب على هذه الطلبات التافهة قائلاً : (كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

لو أنّ هؤلاء يستهدفون حقاً إدراك الحقيقة ، ففي هذه الآيات النازلة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دلالة واضحة بينة على صدق أقواله ، فما الداعي إلى نزول آية مستقلة على كل واحد من الأفراد؟! وما معنى الإصرار على أن يكلمهم الله مباشرة؟!

الآية التالية تخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتبين موقفه من الطلبات المذكورة وتقول : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا).

فمسؤولية الرّسول بيان الأحكام الإلهيّة ، وتقديم المعاجز ، وتوضيح الحقائق ، وهذه الدعوة ينبغي أن تقترن بتبشير المهتدين وإنذار العاصين وهذه مسؤوليتك أيّها الرسول ،

١٠١

وأمّا الفئة التي لا تذعن للحق بعد كل هذه الآيات فانت غير مسؤول عنها : (وَلَا تُسَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ).

(وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (١٢١)

أسباب النّزول

في تفسير الدرّ المنثور عن ابن عباس أنّ يهود المدينة ونصارى نجران ، كانوا يرجون أن يصلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قبلتهم ، فلمّا صرف الله القبلة إلى الكعبة شقّ ذلك عليهم وآيسو أن يوافقهم على دينهم فأنزل الله (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى) الآية لتعلن للنبي أنّه لا يرضي كل فرقة منهم إلّاأن يتبع ملّتهم أي : قبلتهم.

وبشأن نزول الآية الثانية وردت روايات مختلفة ، ففي تفسير مجمع البيان عن ابن عباس : نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة وكانوا أربعين رجلاً ، إثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام ، منهم بحيرا. وقيل : هم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام ، وشعبة بن عمرو ، وتمام بن يهودا ، وأسد واسيد إبني كعب وابن يامين.

التّفسير

إرضاء هذه المجموعة محال : الآية السابقة رفعت المسؤولية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إزاء الضالين المعاندين. والآية أعلاه تواصل الموضوع السابق وتخاطب الرسول بأن لا يحاول عبثاً في كسب رضا اليهود والنصارى لأنّه : (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).

واجبك أن تقول لهم : (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى). هدى الله هو الهدى البعيد عن الخرافات وعن الأفكار التافهة التي تفرزها عقول الجهّال.

ثم تقول الآية : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِى جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ).

١٠٢

وبعد أن ذمّ القرآن الفئة المذكورة من اليهود والنصارى ، أشاد باولئك الذين آمنوا من أهل الكتاب وانضموا تحت راية الرسالة الخاتمة : (الَّذِينَءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ [أي : بالتفكر والتدبر ثم العمل به] أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ). أي : يؤمنون بالرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

بحوث

١ ـ سؤال عن عصمة الأنبياء : العبارة القرآنية : «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أهوَاءَهُمْ» قد تثير سؤالاً بشأن عصمة الأنبياء ، فهل يمكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو معصوم ـ أن يتبع أهواء المنحرفين من اليهود والنصارى؟

في الجواب نقول : مثل هذه التعبيرات تكررت في القرآن الكريم ، ولا تتعارض مع مقام عصمة الأنبياء لأنّها ـ من جهة ـ جملة شرطية والجملة الشرطية لا تدل على تحقق الشرط.

ومن جهة اخرى ، عصمة الأنبياء لا تجعل الذنب على الأنبياء محالاً ، بل المعصوم له قدرة على إرتكاب الذنب ، ولم يسلب منه الإختيار ، ومع ذلك لم يتلوث بالذنوب.

من جهة ثالثة ، هذا الخطاب وإن اتّجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن قد يكون موجهاً إلى الناس جميعاً.

٢ ـ للإسترضاء حدود : صحيح أنّ الإنسان الرّسالي يجب أن يسعى بأخلاقه إلى جذب الأعداء إلى صفوف الدعوة ، لكن مثل هذا الموقف يجب أن يكون تجاه المخالفين الذين يتحركون في مخالفتهم من موقع الغفلة والمرونة ، أمّا الموقف تجاه المعاندين المتصلبين فينبغي أن يكون غير ذلك ، ولا يجوز إهدار الوقت مع هؤلاء ، بل لابدّ من الإعراض عنهم وتركهم.

٣ ـ حق التلاوة : عبّر القرآن عن الفئة المهتدية من أهل الكتاب بأنّهم «يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ» ، وهو تعبير عميق.

في تفسير الميزان عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام في تفسير هذه الآية : «يرتّلون آياته ، ويتفقّهون به ، ويعملون بأحكامه ، ويرجون وعده ، ويخافون وعيده ، ويعتبرون بقصصه ، ويأتمرون بأوامره ، وينتهون بنواهيه ، ما هو والله حفظ آياته ودرس حروفه ، وتلاوة سوره ودرس أعشاره وأخماسه (١) ، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده ، وإنّما هو تدبّر آياته والعمل بأحكامه ، قال الله تعالى : (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُواءَايَاتِهِ).

__________________

(١) المقصود من الأعشار والأخماس تقسيمات القرآن.

١٠٣

(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) (١٢٣)

مرّة اخرى يتّجه الخطاب الإلهي إلى بني إسرائيل ليذكرهم بالنعم التي احيطوا بها ، فتقول الآية : (يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ). أي : على كل من كان يعيش في ذلك الزمان.

كل نعمة تقترن بمسؤولية ، وتقترن بالتزام وتكليف إلهي جديد ، ولذلك قال سبحانه في الآية التالية : (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّاتَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَّفْسٍ شَيًا). (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ). أي : غرامة أو فدية ، (وَلَا تَنْفَعُهَا شَفعَةٌ) إلّابإذن الله ، ولا يستطيع أحد غير الله أن يساعد أحداً (وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ).

(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١٢٤)

الإمامة قمة مفاخر إبراهيم عليه‌السلام : هذه الآية وما بعدها تتحدث عن بطل التوحيد نبيّ الله الكبير إبراهيم عليه‌السلام وعن بناء الكعبة وأهمّية هذه القاعدة التوحيدية العبادية.

والهدف من هذه الآيات ـ وعددها ثماني عشرة آية ـ ثلاثة امور :

أوّلاً : أن تكون مقدمة لمسألة تغيير القبلة التي ستطرح بعد ذلك.

ثانياً : لفضح إدّعاءات اليهود والنصارى بشأن انتسابهم لإبراهيم.

ثالثاً : لتفهيم مشركي العرب أيضاً ببعدهم عن منهج النبي الكبير محطم الأصنام ، والرّد على ما كانوا يتصوّرونه من إرتباط بينهم وبين إبراهيم.

الآية الكريمة تقول أوّلاً : (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ). وبعد أن اجتاز هذه الاختبارات بنجاح استحق أن يمنحه الله الوسام الكبير : (قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا).

وهنا تمنّى إبراهيم عليه‌السلام أن يستمر خط الإمامة من بعده ، وأن لا يبقى محصوراً بشخصه «قَالَ وَمِنْ ذُرّيَّتِى». لكنّ الله أجابه : (قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ).

١٠٤

وقد استجيب طلب إبراهيم عليه‌السلام في استمرار خط الإمامة في ذريّته ، لكن هذا المقام لا يناله إلّاالطاهرون المعصومون من ذرّيّته لا غيرهم.

بحوث

١ ـ المقصود من «الكلمات» : من دراسة آيات القرآن الكريم بشأن إبراهيم عليه‌السلام نفهم أنّ المقصود من الكلمات هو مجموعة المسؤوليات والمهام الثقيلة الصعبة التي وضعها الله على عاتق إبراهيم عليه‌السلام وهي عبارة عن :

أخذ ولده إلى المذبح والاستعداد التام لذبحه ، إطاعة لأمر الله سبحانه.

إسكان الزوج والولد في واد غير ذي زرع بمكة ، حيث لم يسكن فيه إنسان.

النهوض بوجه عَبَدة الأصنام وتحطيم الأصنام ، والوقوف ببطولة في تلك المحاكمة التاريخية ، ثم إلقاؤه في وسط النيران ، وثباته ورباطة جأشه في كل هذه المراحل.

الهجرة من أرض عبدة الأصنام والإبتعاد عن الوطن ، والإتجاه نحو أصقاع نائية لأداء رسالته ... وأمثالها (١).

كان كل واحد من هذه الاختبارات ثقيلاً وصعباً حقّاً ، لكنّه بقوّة إيمانه نجح فيها جميعاً ، وأثبت لياقته لمقام «الإمامة».

٢ ـ من هو الإمام؟ يتبيّن من الآية الكريمة التي نحن بصددها ، أنّ منزلة الإمامة الممنوحة لإبراهيم عليه‌السلام بعد كل هذه الاختبارات ، تفوق منزلة النبوّة والرسالة.

روي في الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام يقول : «إنّ الله تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبيّاً ، وإنّ الله اتّخذه نبيّاً قبل أن يتخذه رسولاً ، وإنّ الله اتّخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً ، وإنّ الله اتّخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً ، فلما جمع له الأشياء ، قال : «إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» قال : فمن عظمها في عين إبراهيم قال : (وَمِنْ ذُرّيَّتِى قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ) قال : لا يكون السفيه إمام التقي».

٣ ـ الفرق بين النبوة والإمامة والرسالة : يفهم من الآيات الكريمة والمأثور عن المعصومين ، أنّ حملة المهمات من قبل الله تعالى لهم منازل مختلفة :

__________________

(١) روى عن ابن عباس أنه استخرج اختبارات إبراهيم من أربع سور قرآنية فكانت ثلاثين موضعاً (تفسير المنار ، ذيل الآية مورد البحث) ، وخلاصتها ما ذكرناه.

١٠٥

أ) منزلة النبوة : أي إستلام الوحي من الله ، فالنبي هو الذي ينزل عليه الوحي ، ومايستلمه من الوحي يعطيه للناس إن طلبوا منه ذلك.

ب) منزلة الرسالة : وهي منزلة إبلاغ الوحي ، ونشر أحكام الله ، وتربية الأفراد عن طريق التعليم والتوعية. فالرّسول إذن هو المكلف بالسعي في دائرة مهمته لدعوة الناس إلى الله وتبليغ رسالته ، وبذل الجهد لتغيير فكري عقائدي في مجتمعه.

ج) منزلة الإمامة : وهي منزلة قيادة البشرية ، فالإمام يسعى إلى تطبيق أحكام الله عملياً عن طريق إقامة حكومة إلهية وإستلام مقاليد الأمور اللازمة.

بعبارة اخرى ، مهمة الإمام تنفيذ الأوامر الإلهية ، بينما تقتصر مهمة الرسول على تبليغ هذه الأوامر.

٤ ـ مَن الظالم؟ المقصود من «الظلم» في التعبير القرآني : (لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ) لا يقتصر على ظلم الآخرين ، بل الظلم (مقابل العدل) ، وقد استعمل هنا بالمعنى الواسع للكلمة ، ويقع في النقطة المقابلة للعدل : وهو وضع الشيء في محله.

فالظلم إذن وضع الشخص أو العمل أو الشيء في غير مكانه المناسب.

ولمّا كانت منزلة الإمامة والقيادة الظاهرية والباطنية للبشرية منزلة ذات مسؤوليات جسيمة هائلة عظيمة ، فإنّ لحظة من الذنب والمعصية خلال العمر تسبب سلب لياقة هذه المنزلة عن الشخص. لذلك نرى أئمّة آل البيت عليهم‌السلام يثبتون بهذه الآية تعيّن الخلافة بعد النبي مباشرة لعلي عليه‌السلام وإنحصارها به ، مشيرين إلى أنّ الآخرين عبدوا الأصنام في الجاهلية ، وعلي عليه‌السلام وحده لم يسجد لصنم. وأيّ ظلم أكبر من عبادة الأصنام؟ ألم يقل لقمان لابنه : (يَا بُنَىَّ لَاتُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١).

٥ ـ تعيين الإمام من قبل الله : من الآية مورد البحث نفهم ضمنياً أنّ الإمام (القائد المعصوم لكل جوانب المجتمع) يجب أن يكون معيناً من قبل الله سبحانه ، لما يلي :

أوّلاً : الإمامة ميثاق إلهي ، وطبيعي أن يكون التعيين من قبل الله ، لأنّه طرف هذا الميثاق.

ثانياً : الأفراد الذين تلبسوا بعنوان الظلم ، ومارسوا في حياتهم لحظة ظلم بحق أنفسهم أو بحق الآخرين ، كأن تكون لحظة شرك مثلاً ، لا يليقون للإمامة ، فالإمام يجب أن يكون طيلة عمره معصوماً.

__________________

(١) سورة لقمان / ١٣.

١٠٦

وهل يعلم ذلك في نفوس الأفراد إلّاالله؟

ولو أردنا بهذا المعيار أن نعيّن خليفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يمكن أن يكون غير علي عليه‌السلام.

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (١٢٥)

عظمة بيت الله : بعد الإشارة إلى مكانة إبراهيم عليه‌السلام في الآية السابقة ، تناولت هذه الآية موضوع عظمة الكعبة التي وضع قواعدها إبراهيم عليه‌السلام فهي تبدأ بالتذكير بعبارة «وَإذ» أي : اذكروا : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا).

«المثابة» : من الثوب ، أي عودة الشيء إلى حالته الاولى ، ولما كانت الكعبة مركزاً يتجه إليه الموحدون كل عام ، فهي محل لعودة جسمية وروحية إلى التوحيد والفطرة الاولى ، ومن هنا كانت مثابة.

الكعبة ـ طبقاً للآية أعلاه ـ ملاذ وبيت آمن ، والإسلام وضع الأحكام المشددة بشأن إبعاد هذه الأرض المقدسة عن كل نزاع واشتباك وحرب وإراقة دماء ، وليس أفراد البشر آمنين هناك فحسب ، بل الحيوانات والطيور آمنة أيضاً في هذه البقعة ، ولا يحق لأحد أن يمصها بسوء.

وهذه الصفة للبيت هي استجابة لأحد مطاليب إبراهيم عليه‌السلام من ربّه.

ثم تضيف الآية : (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرهِيمَ مُصَلًّى).

ثم تشير الآية إلى المسؤولية المعهودة إلى إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما‌السلام بشأن تطهير البيت للطائفين والمجاورين والمصلين : (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ أَنْ طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

والتطهير : تعني تطهير هذا البيت ظاهرياً ومعنوياً من كل تلويث.

بيت الله : وصفت الكعبة بأنّها بيت الله ، وعبّرت الآية عن الكعبة ب «بيتى» ، وواضح أنّ الله ليس بجسم ، ولا يحده بيت ، ولا يحتاج إلى ذلك ، وهذه الإضافة هي «إضافة تشريفية» تبين قدسية الشيء الذي ينسب إلى الله ، ولذلك كان شهر رمضان «شهر الله» وكانت الكعبة «بيت الله».

١٠٧

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٢٦)

إبراهيم يدعو ربّه : في هذه الآية توجه إبراهيم إلى ربّه بطلبين هامين لسكنة هذه الأرض المقدسة ، أشرنا إلى أحدهما في الآية السابقة. القرآن يذكّر بما قاله إبراهيم : (وَإِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هذَا بَلَدًاءَامِنًا).

والطلب الآخر هو : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْءَامَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ).

وهكذا يطلب إبراهيم «الأمن» أوّلاً ، ثم «المواهب الاقتصادية» ، إشارة إلى أنّ الاقتصاد السالم لا يتحقق إلّابعد الأمن الكامل.

والله سبحانه استجاب لإبراهيم طلبه الثاني أيضاً ، ولكنّه (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَليِلاً) في الدّنيا ، (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) في الحياة الآخرة.

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٢٩)

إبراهيم يبني الكعبة : نفهم بوضوح من خلال آيات الذكر الحكيم أنّ بيت الكعبة كان موجوداً قبل إبراهيم ، وكان قائماً منذ زمن آدم. وهذه الآية تدلّ على أنّ بيت الكعبة كان له نوع من الوجود حين جاء إبراهيم مع زوجه وابنه الرضيع إلى مكّة. وتقول الآية ٩٦ من سورة آل عمران : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا). ومن المؤكّد أنّ عبادة الله وإقامة أماكن العبادة لم تبدأ في زمن إبراهيم ، بل كانتا منذ أن خلق الإنسان على ظهر هذه الأرض.

١٠٨

عبارة الآية الاولى من الآيات محل البحث تؤكد هذا المعنى ، إذ تقول : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

فإبراهيم وإسماعيل قد رفعا قواعد البيت التي كانت موجودة.

في الآيتين التاليتين يتضرع إبراهيم وإسماعيل إلى ربّ العالمين بخمسة طلبات هامة. قالا أوّلاً : (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ).

ثم أضافا : (وَمِنْ ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ).

وطلبا تفهم طريق العبادة : (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) ، ليعبدا الله حق عبادته.

ثم طلبا التوبة : (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

الآية الأخيرة تضمنت الطلب الخامس ، وهو هداية الذريّة : (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْءَايَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

ولعل التفاوت بين «الكتاب» و «الحكمة» في أنّ الكتاب يعني الكتب السماوية ، والحكمة تعني العلوم والأسرار والعلل والنتائج الموجودة في الأحكام ، وهي التي يعلمها النبي أيضاً.

بحوث

١ ـ هدف بعثة الأنبياء : في الآيات أعلاه ، بعد أن يطلب إبراهيم وإسماعيل من الله ظهور نبي الإسلام ، يذكران ثلاثة أهداف لبعثة :

الأوّل : تلاوة آيات الله على الناس ، أى إيقاظ الأفكار والأرواح في ظل الآيات الإلهية المبشرة والمنذرة.

«يتلو» من تلا ، أي اتبع الشيء بالشيء ، وسميت «التلاوة» كذلك لأنّها قراءة وفق تتبع ونظم. هي مقدمة لليقظة والإعداد والتعليم والتربية.

الثاني : «تعليم الكتاب والحكمة» ولا تتحقق التربية إلّابالتعليم.

ولعل التفاوت بين «الكتاب» و «الحكمة» في أنّ الكتاب يعني الكتب السماوية ، والحكمة تعني العلوم والأسرار والعلل والنتائج الموجودة في الأحكام ، وهي التي يعلمها النبي أيضاً.

الثالث : «التزكية» وهو الهدف الأخير.

«التزكية» : في اللغة هي الإنماء ، وهي التطهير أيضاً.

وبذلك يتلخص الهدف النهائي من بعثة الأنبياء في دفع الإنسان على مسيرة التكامل «العلمي» و «العملي».

١٠٩

٢ ـ هل «التعليم» مقدم أم «التربية»؟ في أربعة مواضع ذكر القرآن مسألة التربية والتعليم باعتبارهما هدف الأنبياء ، وفي ثلاثة مواضع منها قُدمت «التربية» على «التعليم» (البقرة ، ١٥١ ـ آل عمران ، ١٦٤ ـ الجمعة ، ٢). وفي موضع واحد تقدم التعليم على التربية (آية بحثنا). ونعلم أنّ التربية لا تتم إلّابالتعليم. لذلك حين يتقدم التعليم على التربية في الآية فإنّما ذلك بيان للتسلسل المنطقي الطبيعي لهما ، وفي المواضع التي تقدمت فيها التربية ، فقد يكون ذلك إشارة إلى أنّها الهدف ، لأنّ الهدف الأصلي هو التربية ، وما عداها مقدمة لها.

٣ ـ النبي من الناس : تعبير «منهم» في الآية (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ) يشير إلى أنّ القادة البشرية ينبغي أن يكونوا بشراً بنفس صفات البشر الغريزية ، كي يكونوا القدوة اللائقة في الجوانب العملية ، ومن الطبيعي أنّهم ـ لو كانوا من غير البشر ـ ما استطاعوا إدراك حاجات الناس والمشكلات العويصة الكامنة لهم في حياتهم ، ولا أمكنهم أن يكونوا قدوة واسوة لهم.

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٣٢)

إبراهيم الإنسان النموذج : الآيات السابقة ألقت الضوء على جوانب من شخصية إبراهيم عليه‌السلام فتحدثت عن بعض خدماته وطلباته الشاملة للجوانب المادية والمعنوية. من مجموع ما مر نفهم أنّ الله سبحانه شاء أن يكون هذا النبي ، شيخ الموحدين وقدوة الرساليين ، على مر العصور. لذلك تقول الآية الاولى من آيات بحثنا هذا : (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ). أليس من السفاهة أن يعرض الإنسان عن مدرسة الطهر والنقاء والفطرة والعقل وسعادة الدنيا والآخرة ، ويتجه إلى طريق الشرك والكفر والفساد وضياع العقل والانحراف عن الفطرة وفقدان الدين والدنيا؟

ثم تضيف الآية : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الْأَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).

الآية التالية تؤكد على صفة اخرى من صفات إبراهيم التي هي في الواقع أساس بقية

١١٠

صفاته العظيمة وتقول : (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ).

ووصية إبراهيم بنيه في أواخر أيام حياته تجسيد آخر لهذه الحياة الشامخة : (وَوَصَّى بِهَا إِبْرهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ). فكل من إبراهيم ويعقوب وصّيا أبناءهما بالقول : (يَا بَنِىَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).

لعل القرآن الكريم ، بنقله وصية إبراهيم ، يريد أن يقول للإنسان إنّه مسؤول عن مستقبل أبنائه ، عليه أن يهتم بمستقبلهم المعنوي قبل أن يهتم بمستقبلهم المادي.

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (١٣٤)

سبب النّزول

في تفسير الصافي : إنّ اليهود قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألست تعلم أنّ يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات؟ فنزلت.

التّفسير

كما رأينا في سبب النزول ، وظاهر الآية يدل على ذلك أيضاً ، كان جمع من منكري الإسلام ينسبون ما لا ينبغي نسبته إلى النبي يعقوب ، والقرآن يردّ عليهم بالقول : (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ). هذا الذي نسبوه إليه ليس بصحيح ، بل الذي حدث آنذاك (إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى).

في الجواب : (قَالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَءَابَائِكَ إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ وَإِسْحقَ إِلهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

آخر آية في بحثنا ، تجيب على توهّم آخر من توهمات اليهود ، فكثير من هؤلاء كانوا يستندون إلى مفاخر الآباء والأجداد وقرب منزلة أسلافهم من الله تعالى ، فلا يرون بأساً في انحرافهم هم ظانين أنّهم ناجون بوسيلة اولئك الأسلاف. يقول القرآن : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

١١١

وبذلك أرادت الآية أن توجه أنظار هؤلاء إلى أعمالهم وسلوكهم وأفكارهم ، وتصرفهم عن الإنغماس في الإفتخار بالماضين.

(وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٣٧)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس : إنّ عبد الله بن صوريا وكعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وجماعة من اليهود ونصارى أهل نجران خاصموا أهل الإسلام. كل فرقة تزعم أحق بدين الله من غيرها ، فقالت اليهود : نبيّنا موسى أفضل الأنبياء ، وكتابنا التوراة أفضل الكتب. وقالت النصارى : نبيّنا عيسى أفضل الأنبياء ، وكتابنا أفضل الكتب ، وكل فريق منهما قال للمؤمنين : كونوا على ديننا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

التّفسير

نحن على حق لا غيرنا : التمحور والإنغماس في الذاتية يؤدي إلى أن يحتكر الإنسان الحق لنفسه ، ويعتبر الآخرين على باطل ، ويسعى إلى أن يجرهم إلى معتقداته. الآية الاولى تتحدث عن مجموعة من أهل الكتاب يحملون مثل هذه النظرة الضيقة ، ونقلت عنهم القول : (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا). فيرد عليهم القرآن مؤكداً أنّ الأديان المحرفة لا تستطيع إطلاقاً أن تهدي الإنسان : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

الآية التالية تأمر المسلمين أن (قُولُواءَامَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ لَا نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

لا يجوز أن ننطلق من محور الذاتية في الحكم على هذا النبي أو ذاك ، بل يجب أن ننظر إلى

١١٢

الأنبياء بمنظار رسالي ، ونعتبرهم جميعاً رسل ربّ العالمين ومعلمي البشرية ، قد أدى كل منهم دوره في مرحلة تاريخية معينة ، وكان هدفهم واحداً ، وهو هداية الناس في ظل التوحيد الخالص والحق والعدالة.

ثم يضيف القرآن قائلاً : (فَإِنْءَامَنُوا بِمِثْلِ مَاءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ).

ولو تخلى هؤلاء عن عنصرية وذاتياتهم ، وآمنوا بجميع أنبياء الله فقد اهتدوا أيضاً ، وإلّا فقد ضلوا سواء السبيل.

ثم تثبت الآية على قلوب المؤمنين وتبعث فيهم الثقة والطمأنينة بالقول : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بمؤامراتهم.

(صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤١)

التخلي عن غير صبغة الله : بعد الدعوة التي وجهتها الآيات السابقة لإتباع الأديان بشأن إنتهاج طريق جميع الأنبياء ، أول آية في بحثنا تأمرهم جميعاً بترك كل صبغة ، أي دين ، غير «صِبْغَةَ اللهِ». ثم تضيف الآية : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً). أي : لا أحسن من الله صبغة ، «وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ» في إتباع ملة إبراهيم التي هي صبغة الله.

ذكر المفسرون أنّ النصارى دأبوا على غسل أبنائهم بعد ولادتهم في ماء أصفر اللون ، ويسمونه غسل التعميد ، ويجعلون ذلك تطهيراً للمولود من الذنب الذاتي الموروث من آدم! القرآن يرفض هذا المنطق الخاوي ويقول : من الأفضل أن تتركوا هذه الصبغات الظاهرية الخرافية المفرقة وتصطبغوا بصبغة الله لتطهر روحكم.

كان اليهود وغيرهم يحاجّون المسلمين بصور شتى ، كانوا يقولون : إنّ جميع الأنبياء

١١٣

مبعوثون منا ، وإنّ ديننا أقدم الأديان ، وكتابنا أعرق الكتب السماوية.

القرآن يردّ على كل هذه الأقاويل ويقول : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِى اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ).

واعلموا أيضاً أن لا امتياز لأحد على غيره إلّابالأعمال ، وكل شخص رهن أعماله (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ).

مع فارق ، هو إنّ كثيراً منكم يشركون في توحيدهم : (وَنَحْنُ لَهْ مُخْلِصُونَ).

الآية التالية تجيب على واحد آخر من هذه الإدعاءات الفارغة وتقول : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى).

ثم تجيب الآية عن هذا الإدعاء بشكل رائع فتقول : (قُلْءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ).

فالله أعلم أنّهم ما كانوا يهوداً ولا نصارى.

وقد تعلمون أنتم وإن كنتم لا تعلمون فاطلاق مثل هذه الأقوال بدون علم وتثبيت تهمة وذنب ، وكتمان للحقيقة (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللهِ).

اعلموا أنّه (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْلَمُونَ).

في آخر آية من الآيات التي نحن بصددها يقول سبحانه لهؤلاء القوم العنودين الجدليين : افترضوا أنّ إدعاءاتكم صحيحة ، فهذا لا يعود عليكم بالنفع لأنّه (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

تغيير القبلة : هذه الآية وآيات تالية تتحدث عن حادث مهم من حوادث التاريخ الإسلامي ، كان له آثاره الكبيرة في المجتمع آنذاك. رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى صوب (بيت المقدس) بأمر ربّه مدة ثلاثة عشر عاماً بعد البعثة في مكة ، وبضعة أشهر في المدينة بعد الهجرة. ثم تغيّرت القبلة ، وأمر الله المسلمين أن يصلّوا تجاه (الكعبة).

لم يكفّ اليهود بعد هذا التغيير عن اعتراضاتهم ، بل واصلوا حربهم الإعلامية بشكل آخر ، بدأوا يلقون التشكيكات بشأن هذا التغيير ، والقرآن الكريم يتحدث عن هذه الإعتراضات : (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا) (١).

__________________

(١) «السفهاء» : جمع «سفيه» أطلقت في الأصل على من خفّت حركة جسمه ، وقيل : زمام سفيه ، أي كثير الإضطراب خفيف الوزن. ثم استعملت الكلمة في خفة النفس لنقصان العقل في الامور الدينية والدنيوية.

١١٤

بدأوا يرددون : لو كانت القبلة الاولى هي الصحيحة فلِمَ هذا التغيير؟

الله سبحانه يجيب على هذا الإعتراض ، فأمر رسوله أن (قُلْ لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).

فليس للمكان قداسة ذاتية ، إنّما يكتسب قداسته بإذن الله ، وكل مكان ملك لله ، والمهم هو الطاعة والإستسلام لربّ العالمين. تغيير القبلة في الواقع مرحلة من مراحل الاختبار الإلهي ، وكل مرحلة خطوة على الصراط المستقيم نحو الهداية الإلهيّة.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) (١٤٣)

الامة الوسط : هذه الآية تشير إلى جانب من أسباب تغيير القبلة ، تقول أوّلاً : (وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا). أي كما جعلنا القبلة وسطا ، كذلك جعلناكم امة في حالة اعتدال.

أما سبب كون قبلة المسلمين قبلة وسطاً ، فلأنّ النصارى ـ الذين يعيش معظمهم في غرب الكرة الأرضية ـ يولون وجوههم صوب الشرق تقريباً حين يتجهون إلى قبلتهم في بيت المقدس حيث مسقط رأس السيد المسيح ، واليهود ـ الذين يتواجدون غالباً في الشامات وبابل ـ يتجهون نحو الغرب تقريباً حين يقفون تجاه بيت المقدس.

أمّا «الكعبة» فكانت بالنسبة للمسلمين في المدينة تجاه الجنوب ، وبين المشرق والمغرب ، وفي خط وسط.

والهدف من ذلك : (لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).

و «شهادة» الامّة المسلمة على الناس ، و «شهادة» النبي على المسلمين ، قد تكون إشارة إلى الاسوة والقُدوَة ، لأنّ الشاهد ينتخب من بين أزكى الناس وأمثلهم.

فيكون معنى هذا التعبير القرآني أنّ الامة المسلمة نموذجية بما عندها من عقيدة ومنهج ، كما أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فرد نموذجي بين أبناء الامّة.

١١٥

ثم تشير الآية إلى سرّ آخر من أسرار تغيير القبلة فتقول : (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ).

ثم تضيف الآية : (وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ).

لولا الهداية الإلهيّة ، لما وجدت في نفس الإنسان روح التسليم المطلق أمام أوامر الله.

وأمام وسوسة الأعداء المضللين والأصدقاء الجاهلين ، الذين راحوا يشككون في صحة ما سبق من العبادات قبل تغيير القبلة ، تقول الآية : (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ).

أسرار تغيير القبلة : لما كانت الكعبة في بداية البعثة المباركة بيتاً لأصنام المشركين ، فقد امر المسلمون مؤقتاً بالصلاة تجاه بيت المقدس ، ليتحقق الإنفصال التام بين الجبهة الإسلامية وجبهة المشركين.

وبعد الهجرة وإقامة الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي ، حدث الإنفصال الكامل بين الجبهتين ، ولم تعد هناك ضرورة لاستمرار وضع القبلة ، حينئذ عاد المسلمون إلى الكعبة أقدم قاعدة توحيدية ، وأعرق مركز للأنبياء.

ومن الطبيعي أن يستثقل الصلاة نحو بيت المقدس اولئك الذين كانوا يعتبرون الكعبة الرصيد المعنوي لقوميتهم ، وأن يستثقلوا أيضاً العودة إلى الكعبة بعد أن اعتادوا على قبلتهم الاولى (بيت المقدس).

المسلمون بهذا التحول وُضعوا في بوتقة الاختبار ، لتخليصهم مما علق في نفوسهم من آثار الشرك ، ولتنقطع كل انشداداتهم بماضيهم المشرك ، ولتنمو في وجودهم روح التسليم المطلق أمام أوامر الله سبحانه.

(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (١٤٤)

كل الوجوه شطر الكعبة : هذه الآية تشير إلى الأمر الإلهي بتغيير القبلة وتقول : (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَيهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

١١٦

ذكرت الرواية أنّ هذا الأمر الإلهي نزل في لحظة حساسة ملفتة للأنظار ، حين كان الرسول والمسلمون يؤدون صلاة الظهر. فأخذ جبرائيل بذراع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأدار وجهه نحو الكعبة. وتذكر الرواية أنّ صفوف المسلمين تغيرت على أثر ذلك ، وترك النساء مكانهن للرجال وبالعكس.

إنّ تغيير القبلة من علامات نبيّ الخاتم المذكورة في الكتب السابقة ، فقد كان أهل الكتاب على علم بأنّ النبي المبعوث «يصلّي إلى القبلتين». لذلك تضيف الآية : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ).

ثم تقول الآية : (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ). فهؤلاء الذين يكتمون ما جاء في كتبهم بشأن تغيير قبلة نبيّ الخاتم ، ويستغلون هذه الحادثة لإثارة ضجة بوجه المسلمين ، بدل أن يتخذوها دليلاً على صدق دعوى النبي ، سيلاقون جزاء أعمالهم ، والله ليس بغافل عن أعمالهم ونياتهم.

إنّ ضرورة إتجاه المسلمين شطر المسجدالحرام كان باعثاً على تطور علم الهيئة وعلم الجغرافيا والفلك عند المسلمين بسرعة مدهشة خلال العصور الإسلامية الاولى ، لأنّ معرفة جهة القبلة في مختلف بقاع الأرض ما كانت متيسرة من دون معرفة بهذه العلوم.

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١٤٥)

لا يرضون بأي ثمن : مر بنا في تفسير الآية السابقة أنّ تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لا يمكن أن يثير شبهة حول النبي ، بل إنّه من دلائل صحة دعواه ، فأهل الكتاب قد قرأوا عن صلاة النبي الموعود إلى قبلتين ، لكن تعصبهم منعهم من قبول الحق. لذلك تقول الآية : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلّءَايَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ).

ثم تضيف الآية : (وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ). أي : إنّ هؤلاء لا يستطيعون مهما افتعلوا من ضجيج ، أن يغيروا مرة اخرى قبلة المسلمين ، فهذه هي القبلة الثابتة النهائية.

ثم تقول الآية : (وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ).

لا النصارى بتابعين قبلة اليهود ، ولا اليهود بتابعين قبلة النصارى.

١١٧

ولمزيد من التأكيد والحسم ينذر القرآن النبي ويقول : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ).

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١٤٧)

يعرفون حق المعرفة ولكن ... : استمراراً لحديث القرآن عن تعصب مجموعة من أهل الكتاب ولجاجهم ، تقول الآية : (الَّذِينَءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ).

إنّهم يعرفون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واسمه وعلاماته من خلال كتبهم الدينية ، (وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

وهناك طبعاً فريق سارع لاعتناق الإسلام بعد أن رأى هذه الصفات والعلامات في نبيّ الأكرم ، مثل عبدالله بن سلام وهو من علماء اليهود ، ونقل عنه بعد إسلامه قوله «أنا أعلم به منّي بابني».

ثم تؤكد الآية ما سبق أن طرحته بشأن تغيير القبلة ، أو بشأن أحكام الإسلام بشكل عام : (الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ). أي المترددين.

وبهذه العبارة تثبّت الآية فؤاد النبي ، وتنهاه عن أي ترديد أمام افتراءات الأعداء بشأن تغيير القبلة وغيرها ، وإن جنّد هؤلاء الأعداء كل طاقاتهم للمحاربة.

المخاطب في الآية وإن كان شخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن الهدف هو تربية البشرية كما ذكرنا من قبل ، فمن المؤكد أنّ النبي المتصل بالوحي الإلهي لا يعتريه تردد ، لأنّ الوحي بالنسبة له ذو جانب حسي وعين اليقين.

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٤٨)

لكل امة قبلة : هذه الآية الكريمة تردّ على الضجة التي أثارها اليهود حول تغيير القبلة وتقول : (وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا).

كان للأنبياء على مرّ التاريخ وجهات عديدة يولّونها ، وليست القبلة كاصول الدين لا تقبل التغيير ، فلا تطيلوا الحديث في أمر القبلة ، وبدل ذلك (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) لأنّ معيار القيمة الوجودية للإنسان هي أعمال البرّ والخير.

١١٨

ثم تتغير لهجة الآية إلى نوع من التحذير والتهديد لُاولئك المفترين ، والتشجيع للمحسنين فتقول : (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا) في تلك المحكمة الكبرى حيث يتلقى كل جزاء عمله.

وقد يخال بعض أنّ جمع الناس لمثل هذا اليوم عجيب ، فكيف تجتمع ذرات التراب المتناثرة لترتدي ثانية حلّة الحياة؟! لذلك تجيب الآية بالقول : (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٠)

الخوف من الله فقط : هذه الآيات تتابع الحديث عن مسألة تغيير القبلة ونتائجها. الآية الاولى تأمر النبي عليه‌السلام وتقول : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) من أية مدينة ، وأية ديار (فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).

ولمزيد من التأكيد تقول الآية : (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَّبّكَ).

وتنتهي الآية بتهديد المتآمرين : (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

الآية التالية كررت الحكم العام بشأن التوجه إلى المسجد الحرام في أي مكان : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).

صحيح أنّ هذه العبارة القرآنية تخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكنّها تقصد دون شك مخاطبة عامة المسلمين ، ولمزيد من التأكيد تخاطب الجملة التالية المسلمين وتقول : (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

ثم تشير الآية إلى ثلاث مسائل هامة :

١ ـ إلجام المعارضين ـ تقول الآية : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ).

قبل تغيير القبلة كانت ألسنة المعارضين من اليهود والمشركين تقذف المسلمين بالتهم

١١٩

والحجج ، اليهود يعترضون قائلين : إنّ النبي الموعود يصلي إلى قبلتين ، وهذه العلامة غير متوفرة في محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والمشركون يعترضون على النبي قائلين : كيف ترك محمّد الكعبة وهو يدعي أنّه بعث لإحياء ملة إبراهيم. هذا التغيير أنهى كل هذه الإعتراضات. لكن هذا لا يمنع الأفراد اللجوجين المعاندين أن يصروا على مواقفهم ، وأن يرفضوا كل منطق ، لذلك تقول الآية : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ).

٢ ـ عندما وصفت الآية هؤلاء المعاندين أنّهم ظالمون ، فقد يثير هذا الوصف خوفاً في نفوس البعض لذلك قالت الآية : (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى).

وهذه الفقرة من الآية تطرح أصلاً عاماً أساسياً من اصول التربية التوحيدية الإسلامية ، هو عدم الخوف من أي شيء سوى الله.

٣ ـ وآخر هدف ذكر لتغيير القبلة هو إتمام النعمة : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (١٥٢)

مهمة رسول الله : ذكرت الفقرة الأخيرة من الآية السابقة أنّ أحد أسباب تغيير القبلة هو إتمام النعمة على الناس وهدايتهم ، والآية أعلاه ابتدأت بكلمة «كما» إشارة إلى أنّ تغيير القبلة ليس هو النعمة الوحيدة التي أنعمها الله عليكم ، بل منّ عليكم بنعم كثيرة (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ).

وكلمة «منكم» قد تعني أنّ الرسول بشر مثلكم ، والإنسان وحده هو القادر على أن يكون مربي البشر وقدوتهم وأن يتحسس آمالهم وآلامهم ، وتلك نعمة كبرى أن يكون الرسول بشراً «منكم».

بعد ذكر هذه النعمة يشير القرآن إلى أربع نِعَم عادت على المسلمين ببركة هذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ١ ـ (يَتْلُوا عَلَيْكُمْءَايَاتِنَا). «يتلو» : من «التلاوة» أي من إتيان الشيء متوالياً ، والإتيان بالعبارات المتوالية (وبنظام صحيح) هي التلاوة. النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذن يقرأ عليكم آيات

١٢٠