البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٩

الإشارة : لا عبرة بالأحوال الظلمانية وإن كثرت ، وإنما العبرة بالأحوال الصافية ولو قلّت ، صاحب الأحوال الصافية موصول ، وصاحب الأحوال الظلمانية مقطوع ، ما لم يتب عنها ، قال بعض الحكماء : (كما لا يصح دفن الزرع فى أرض ردية ، لا يجوز الخمول بحال غير مرضية).

والمراد بالأحوال الصافية : هى التي توافق مراسم الشريعة ؛ بحيث لا يكون عليها من الشارع اعتراض ، بأن تكون مباحة فى أصل الشريعة ، ولو أخلت بالمروءة عند العوام ، إذ المروءة إنما هى التقوى عند الخواص ، والمراد بالأحوال ، كل ما يثقل على النفس وتموت به سريعا ، كالمشى بالحفا وتعرية الرأس ، والأكل فى السوق ، والسؤال ، وغير ذلك من خرق عوائدها ، التي هى شرط فى حصول خصوصيتها ، وفى الحكم : «كيف تخرق لك العوائد؟ وأنت لم تخرق من نفسك العوائد». وبالله التوفيق

ومن جملة الأحوال الرديئة : كثرة الخوض فيما لا يعنى ، التي أشار إليه بقوله :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢))

قلت : الجملة الشرطية صفة لأشياء ، وأشياء اسم جمع لشىء ، أصله عند سيبويه : شيئاء ، مثل فعلاء ، قلبت إلى لفعاء ، أي : قلبت لامه إلى فائه ، لثقل اجتماع الهمزتين ، وقال أبو حاتم : أشياء وزنها أفعال ، وهو جمع شىء ، وترك العرف فيه سماع ، وقال الكسائي : لم ينصرف أشياء ، لشبه آخره بآخر حمراء ، انظر ابن عطية. وجملة (عفا الله عنها) : صفة أخرى لأشياء ، أي : عن أشياء عفا الله عنها ، ولم يكلف بها.

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) ليس لكم فيها نفع ، (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أي : إن تظهر لكم وتجابوا عنها تسؤكم ؛ بالأخبار بما لا يعجيكم وبما يشق عليكم ، قيل : سبب نزول الآية : كثرة سؤال الناس له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأعراب والمنافقين والجهال ، فكان الرجل يقول للنبى ـ عليه الصلاة السلام ـ؟ أين ناقتى؟ وآخر يقول : ماذا ألقى فى سفرى؟ ونحو هذا من التعنيت ، حتى صعد المنبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم مغضبا ، فقال : «لا تسألونى اليوم عن شىء إلا أخبرتكم به». فقام رجل فقال : أين أنا؟ فقال : فى النار ، وقام عبد الله بن حذافة ـ وكان يطعن فى نسبه فقال : من أبى؟ فقال : «أبوك حذافة» ، وقال آخر : من أبى؟ قال : «أبوك سالم مولى شيبة» ، فقام عمر بن الخطاب ، فجثا على ركبتيه ، فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا نعوذ بالله من الفتن. فنزلت هذه الآية (١).

__________________

(١) أخرج بعضه البخاري فى : (مواقيت الصلاة ، باب وقت الظهر عند الزوال) عن أنس ، وأخرجه مختصرا فى (التفسير ـ سورة المائدة) عن ابن عباس ، وانظر فتح الباري (ح ٢٦٢١) والفتح السماوي (٢ / ٥٩٤ ـ ٥٩٥)

٨١

وقيل : سبب نزولها : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب فقال : «أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا ، فقالوا : يا رسول الله ، أفي كل عام؟ فسكت ، فأعادوا ، فقال : لا ، لو قلت : نعم ، لو جبت ، ولو وجبت لم تطيقوه ، ولو تركتموه لهلكتم ، فاتركونى ما تركتكم» (١) ، قال أبو ثعلبة الخشني رضى الله عنه : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وعفا ـ من غير نسيان ـ عن أشياء ، فلا تبحثوا عنها.

ثم قال تعالى : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) أي زمنه (تُبْدَ لَكُمْ) أي : تظهر لكم ، وفيه معنى الوعيد على السؤال ، كأنه قال : لا تسألوا ، وإن سألتم أبدى لكم ما يسؤكم. والمراد بحين ينزل القرآن : زمان الوحى. فلا تسألوا عن أشياء قد (عَفَا اللهُ عَنْها) ولم يكلف بها أو عفا الله عما سلف من سؤالكم ، فلا تعودوا إلى مثلها ، (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بعقوبة ما فرط منكم ويعفو عن كثير. (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) ؛ حيث لم يأتمروا بما سألوا ، وجحدوا ، وذلك أن بنى إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء ؛ فإذا أمروا بها تركوها ، فهلكوا. فالكفر هنا عبارة عن ترك ما أمروا به. وقال الطبري : كقوم صالح فى سؤالهم الناقة ، وكبنى إسرائيل فى سؤالهم المائدة. زاد الشلبي : وكقريش فى سؤالهم أن يجعل الله الصفا ذهبا. ه. وكسؤالهم انشقاق القمر ، وغير ذلك من تعنيتاتهم. والله تعالى أعلم.

الإشارة : مذهب الصوفية مبنى على السكوت والتسليم والصدق والتصديق ، مجلسهم مجلس حلم وعلم وسكينة ووقار ، إن تكلم كبيرهم أنصتوا ، كأن على رءوسهم الطير ، كما كان الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ ، ولذلك قالوا : من قال لشيخه : (لم) لم يفلح أبدا. وقال الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه : إذا جلست مع الكبراء فدع ما تعلم وما لا تعلم ؛ لتفوز بالسر المكنون. ه.

وفى الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله ينهاكم عن قيل وقال ، وكثرة السّؤال ، وإضاعة المال» (٢). وقال الورتجبي : فى الآية تحذير المريدين عن كثرة سؤالهم فى البداية عن حالات المشايخ. ه. قلت : وعلة النهى : لعله يطلع ، بكثرة البحث عن حالهم ، على أمور توجب له نفرة أو غضا من مرتبتهم قبل تربية يقينه ، فالصواب : السكوت عن أحوالهم ، واعتقاد الكمال فيهم ، وكذلك يجب عليه ترك السؤال عن أحوال الناس ، والغيبة عما هم فيه ؛ شغلا بما هو متوجه إليه ، وإلا ضاع وقته ، وتشتت قلبه ، ولله در القائل :

ولست بسائل ما دمت حيّا

أسار الجيش أم ركب الأمير؟

والله تعالى أعلم.

__________________

(١) أخرجه أحمد فى المسند ٢ / ٥٠٨ ومسلم فى (الحج ، باب فرض الحج فى العمر) عن أبى هريرة رضى الله عنه.

(٢) أخرجه البخاري فى (الأدب ، باب عقوق الوالدين من الكبائر) ومسلم فى (الأقضية ، باب النهى عن كثرة المسائل من غير حاجة ..) عن حديث أبى هريرة رضى الله عنه.

٨٢

ومن جملة ما وقع السؤال عنه : البحيرة وما معها ، فأجابهم الحق ـ تعالى ـ بقوله :

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤))

قلت : البحيرة : فعلية بمعنى مفعولة ، من بحر ، إذا شق ، وذلك أن الناقة كانت إذا ولدت عندهم فى الجاهلية عشرة أبطن ، شقوا أذنها ، وتركوها ترعى ، ولا ينتفع بها ، وأما السائبة فكان الرجل يقول : إذا قدمت من سفرى ، أو برئت من مرضى ، فناقتى سائبة ، فإذا قدم أو برىء سيّبها لآلهتهم ، فلا تحلب ، ولا تركب ، ولا تمنع من شجر ، وقد يسيّبون غير الناقة ، فإذا سيّبوا العبد فلا يكون عليه ولاء لأحد ، وإن قال ذلك ، اليوم ، فحمله على العتق ، وولاؤه للمسلمين ، وفعل ذلك ـ اليوم ـ فى الحيوان حرام ، كما يفعله جهلة النساء فى الديك الأبيض ؛ يحرر حتى يموت ، فإذا فعل ذلك ذبح وأكل.

وأما الوصيلة : فكانوا إذا ولدت الناقة ذكرا وأنثى متصلين ، قالوا : وصلت الناقة أخاها ، فلم يذبحوها ، وأما الحام : فكانوا إذا نتج من الجمل عشرة أبطن ، قالوا : قد حمى ظهره ، فلا يركب ولا يحمل عليه.

يقول الحق جل جلاله فى إبطال هذه الأشياء : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) أي : ما شرع الله شيئا من ذلك ، ولا أمر به ، (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بتحريم ذلك ، ونسبته إليه ، (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ، أي : جلهم لا عقل لهم ، بل هم مقلدون غيرهم فى تحريم ذلك ، وتقليد الآباء والرؤساء فى تحريم ما أحل الله ـ تعالى ـ شرك ؛ لأنهم نزلوا غير الله منزلته فى التحريم والتحليل ، وهو كفر ، (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) من الحلال والحرام ، (قالُوا حَسْبُنا) أي : يكفينا (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ، وهذا بيان لقصور عقولهم وانهماكهم فى التقليد ، قال تعالى : أيتبعونهم (وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) سبيلا.

قال البيضاوي : الواو للحال ، والهمزة دخلت عليها ؛ لإنكار الفعل على هذه الحال ، أي : أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالين؟ والمعنى : أن الاقتداء إنما يصح لمن علم أنه عالم مهتد ، وذلك لا يعرف إلا بالحجة ، فلا يكفى التقليد. ه.

الإشارة : قد نفى الله تعالى الخصوصية عن أربعة أنفس من أنفس المدعين ، منها : نفس دخلت بحر الحقيقة بالعلم ، وتبحرت فى علمها دون الحال والذوق ، وأهملت مراسم الشريعة حتى سقطت هيبتها من قلبها ، فانسل منها الإيمان والإسلام انسلال الشعرة من العجين. ومنها نفس سائبة أهملت المجاهدة وانسابت فى الغفلة ، وأخذت

٨٣

الولاية بالوراثة من أسلافها ، دعوى ، أو ظهرت عليها خوارق ، استدارجا ، مع إصرارها على كبائر العيوب ، ومنها : نفس وصلت إلى الأولياء وصحبتهم ، وخرجت عنهم قبل كمال التربية ، وتصدرت للشيخوخة قبل إبانها ، ومنها : نفس حمت ظهرها من التجريد ، ووفرت جاهها مع العبيد ، وادعت كمال التوحيد وأسرار التفريد ، لمجرد مطالعة الأوراق ، من غير صحبة أهل الأذواق ، وهؤلاء بعداء من حيث يظنون القرب ، مردودون من حيث يظنون القبول ، والعياذ بالله من الدعوى وغلبة الهوى ، فإذا قيل لهؤلاء : تعالوا إلى من يعرفكم بربكم ، ويخرجكم من سجن نفوسكم ، قالوا : نتبع ما وجدنا عليه أسلافنا ، فيقال لهم : أتتبعونهم ولو كانوا جاهلين بالله؟

ثم نهى الله تعالى أهل التحقيق عن التعرض لمثل هؤلاء بعد نصحهم ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

قلت : (عليكم) : اسم فعل ، وفاعله مستتر فيه وجوبا ، و (أنفسكم) : مفعول به على حذف مضاف ؛ أي : الزموا شأن أنفسكم. قاله الأزهرى.

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) : احفظوها والزموا صلاحها ، (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) أنتم ، أي : لا يضركم ضلال غيركم إذا كنتم مهتدين ؛ ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رأى منكم منكرا ، واستطاع أن يغيره بيده ، فليغير ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه». والآية نزلت حيث كان المؤمنون يحرصون على الكفرة ، ويتمنون إيمانهم ، وقيل : كان الرجل إذا أسلم قالوا له : سفهت آباءك ، فلاموه ، فنزلت.

وعن أبى ثعلبة الخشني قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ)؟

فقال : «ائتمروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ، فإذا رأيت دنيا مؤثرة ، وشحا مطاعا ، وإعجاب كلّ ذى رأى برأيه ، فعليك بخويصة نفسك ، وذر عوامهم ؛ فإنّ وراءكم أيّاما ، العامل فيها كأجر خمسين منكم» (١).

وعن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه بلغه أن بعض الناس تأول الآية على أنه لا يلزم معها أمر ولا نهى ، فصعد المنبر ، فقال : (يا أيها الناس : لا تغتروا بقول الله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) فيقول أحدكم : علىّ نفسى ، والله لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فليسومنكم سوء العذاب). وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال : (ليس هذا بزمان هذه الآية ، قولوا الحق ما قبل منكم ، فإذا ردّ عليكم فعليكم أنفسكم).

__________________

(١) أخرجه الترمذي فى : (التفسير ، باب : ومن سورة المائدة) وابن ماجه فى (الفتن ، باب قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) وأبو داود فى (الملاحم باب الأمر والنهى) وصححه الحاكم فى المستدرك ٤ / ٣٢٢ ووافقه الذهبي.

٨٤

قال ابن عطية : وجملة ما عليه أهل العلم فى هذا : أن الأمر بالمعروف متعين متى رجى القبول ، أو رجى رد المظالم ، ولو بعنف ، ما لم يخف الآمر ضررا يلحقه فى خاصته ، أو فتنة يدخلها على المسلمين ، إما بشق عصا ، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس ، فإذا خيف هذا فعليكم أنفسكم ، حكم واجب أن يوقف عنده. ه.

ثم هدد من لم ينته ، فقال : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وفيه تنبيه على أن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره ، وتسلية عن أمور الدنيا ؛ مكروهها ومحبوبها ، بذكر الحشر وما بعده ، وعن بعض الصالحين أنه قال : ما من يوم إلا يجييئنى الشيطان فيقول : ما تأكل؟ وما تلبس؟ وأين تسكن؟ فأقول له : آكل الموت ، وألبس الكفن ، وأسكن القبور. ه.

الإشارة : فى الآية إغراء وتحضيض على الاعتناء بإصلاح النفوس وتطهيرها من الرذائل ، وتحليتها بالفضائل ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) عليكم بإصلاح أنفسكم أولا ، فإذا صلحت فأصلحوا غيركم ، فعلى العبد أن يشتغل بشأن نفسه ولا يلتفت إلى غيره ، حتى إذا كمل تطهيرها ، وفرغ من تأديبها ، فإن أمره الحق ـ جل جلاله ـ بإصلاح غيره على لسان شيخ كامل ، أو هاتف حقيقى ، فليتقدم لذلك ، فإنه حينئذ محمول محفوظ مأذون ، وإلا فعليه بخاصة نفسه ، كما تقدم. والله ـ تعالى ـ أعلم.

ولما جرى ذكر المرجع وما بعده ، ولا يكون إلا بالموت ، ناسب أن يذكر الوصية ، التي من شأنها أن تكون عندها ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨))

قلت : (شهادة) : مبتدأ ، وخبره : (اثنان) ، أي : مقيم شهادة بينكم اثنان ، أو حذف الخبر ، أي : فيما أمرتكم شهادة بينكم ، و (اثنان) على هذا : فاعل شهادة ، و (إذا) : ظرف لشهادة ، و (حين الوصية) : بدل منه ، ويجوز أن يكون (إذا) : شرطية حذف جوابها ، أي : إذا حضر الموت فينبغى أن يشهد حين الوصية اثنان ، و (ذوا عدل) : صفة

٨٥

لاثنان ، أو (آخران) : عطف على (اثنان) ، (إن أنتم) : شرط حذف جوابه ، دل عليه ما تقدم ، أي : إن سافرتم ، فأصابتكم مصيبة الموت فى السفر ، فشهادة بينكم اثنان.

و (تحبسونهما) : قال أبو على الفارسي : هو صفة لآخران ، واعترض بين الصفة والموصوف قوله : (إن أنتم) إلى قوله : (الموت) ، ليفيدا العد ، لأن (آخران) من غير الملة ، إنما يجوز لضرورة الضرب فى الأرض وحلول الموت فى السفر. وقال الزمخشري : هو استئناف كلام ، (إن ارتبتم) : شرطية ، وجوابها محذوف ، دلّ عليه (يقسمان) ، و (لا نشترى) هو المقسم عليه ، وجملة الشرط معترضة بين القسم والمقسم عليه ، والتقدير : إن ارتبتم فى صدقهما فأقسما بالله لا نشترى به ، أي : بالقسم ، ثمنا قليلا من الدنيا ، و (الأوليان) : خبر ، فيمن قرأ بالبناء للمفعول ، أو فاعل ، فيمن قرأ بالبناء للفاعل ، ومن قرأ (الأولين) ـ تثنية أول ـ فبدل من الذين ، أو صفة له. قال مكى : (هذه الآية أشكل آية فى القرآن ؛ إعرابا ومعنى).

وسبب نزولها : أن تميما الدّارىّ وعدي بن بداء ـ وكانا أخوين ـ ، خرجا إلى الشام للتجارة ـ وهما حينئذ نصرانيّان ـ ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص ، وكان مسلما ، فلمّا قدما الشام مرض بديل ، فدون ما معه فى صحيفة ، وطرحها فى متاعه ، وشدّ عليها ، ولم يخبرهما بها ، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ، ومات ، ففتّشاه ، وأخذا منه إناء من فضّة ، قيمته : ثلاثمائة مثقال ، منقوشا بالذهب ، فجنباه ودفعا المتاع إلى أهله ، فأصابوا الصحيفة ، فطالبوهما بالإناء ، فجحدا ، فترافعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) إلى قوله : (لَمِنَ الْآثِمِينَ) فحلّفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد صلاة العصر ، عند المنبر ، وخلا سبيلهما ، ثم عثر بعد مدة على الإناء بمكة ، فقيل لمن وجد عنده : من أين لك هذا؟ قال : اشتريته من تميم الداري وعدىّ بن بداء ، فرفع بنو سهم الأمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) ، فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبى وداعة السهميان ، فحلفا واستحقا الإناء (١).

ومعنى الآية : يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، مما نأمركم به : أن تقع (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ، وأراد الوصية فيحضر عدلان منكم ، فإن كنتم فى سفر وتعذر العدلان منكم ، فليشهد (آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) ممن ليس على دينكم ، ثم إن وقع ارتياب فى شهادتهما ، (تَحْبِسُونَهُما) بعد صلاة العصر (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) ما كتمنا ، ولا خنّا ، ولا نشترى بالقسم أو بالله عرضا قليلا من الدنيا ، ولو كان المحلوف له قريبا منا ، (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً) ، إن كتمنا ، (لَمِنَ الْآثِمِينَ).

__________________

(١) أخرجه الترمذي فى : (التفسير ، سورة المائدة) عن ابن عباس عن تميم الداري ، وقال الترمذي : ليس إسناده بصحيحه. وأخرجه مختصرا البخاري فى (الوصايا ، باب قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ)) عن ابن عباس قال : خرج رجل من بنى سهم مع تميم الداري وعدى بن بداء. وذكره مختصرا.

٨٦

فإذا حلفا خلى سبيلهما ، (فَإِنْ عُثِرَ) بعد ذلك (عَلى) كذبهما و (أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) بسبب كذبهما ، (فَآخَرانِ) من رهط الميت (يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) المال المسروق ، اللذان هم (الْأَوْلَيانِ) أي : الأحقان بالشهادة ، (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) فيقولان : والله (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) ، وأصدق ، وأولى بأن تقبل ، (وَمَا اعْتَدَيْنا) : وما تجاوزنا فيها الحق ، (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) ، فإن حلفا غرم الشاهدان ما ظهر عليهما ، وتحليف الشهود منسوخ ، وهذا الحكم خاص بهذه القضية.

قال البيضاوي : الحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين ، فإنه لا يحلف الشاهد ، ولا تعارض يمينه يمين الوارث ، وثابت إن كانا وصيين. ه. وكذا شهادة غير أهل الملة منسوخة أيضا ، واعتبار صلاة العصر للتغليظ ، وتخصيص الحلف فى الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة. قاله السيوطي.

قال تعالى : (ذلِكَ) أي : تحليف الشهود ، (أَدْنى) أي : أقرب (أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) كما تحملوها من غير تحريف ولا خيانة فيها ، (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أي : أو أقرب لأن يخافوا أن ترد اليمين على المدعين بعد أيمانهم ، فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة ، وإنما جمع الضمير ، لأنه حكم يعم الشهود كلهم ، (وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا) ما توصون به ، فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم قوما فاسقين ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي : لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة.

الإشارة : أمر الحق ـ جل جلاله ـ فى الآية المتقدمة ، بالاعتناء بشأن الأنفس ، بتزكيتها وتحليتها ؛ وأمر فى هذه الآية بالاعتناء بشأن الأموال ؛ بحفظها ، والأمر بالإيصاء عليها ودفعها لمستحقها ؛ إذ كلاهما يقربان إلى رضوان الله ، ويوصلان إلى حضرته ، وقد كان فى الصحابة من قربه ماله ، وفيهم من قربه فقره ، وكذلك الأولياء ، منهم من نال الولاية من جهة المال أنفقه على شيخه فوصله من حينه ، ومنهم من نال من جهة فقره أنفق نفسه فى خدمة شيخه ، وقد روى أن سيدى يوسف الفاسى أنفق على شيخه قناطير من المال ، قيل : أربعين ، وقيل : أقل. والله تعالى أعلم.

ولما أمرهم بالتقوى ، ذكر اليوم الذي تجنى فيه ثمراتها ، فقال :

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩))

قلت : (يوم) : بدل من (الله) ، بدل اشتمال ، أي : اتقوا يوم الجمع ، أو ظرف لاذكر ، و (ماذا) : منصوب على المصدر ، أي : أىّ إجابة أجبتم.

يقول الحق جل جلاله : واذكر (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) والأمم يوم القيامة (فَيَقُولُ) للرسل : (ما ذا أُجِبْتُمْ)؟ أي : ما الذي أجابكم به قومكم ، هل هو كفر أو إيمان ، طاعة أو عصيان؟ والمراد بهذا السؤال توبيخ من

٨٧

كفر من الأمم ، وإقامة الحجة عليهم ، فيقولون له فى الجواب : (لا عِلْمَ لَنا) مع علمك ، تأدبوا فوكلوا العلم إليه ، أو علمنا ساقط فى جنب علمك ؛ (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ؛ لأن من علم الخفيات لا تخفى عليه الظواهر والبواطن ، وقرىء بنصب علام ، على أن الكلام قد تم بقوله : (إِنَّكَ أَنْتَ) أي : إنك الموصوف بصفاتك المعروفة ، وعلام نصب على الاختصاص أو النداء. قاله البيضاوي.

الإشارة : من حجة الله على عباده ، أن بعث فى كل أمه نذيرا يدعو إلى الله ، إما عارفا يعرف بالله ، أو عالما يعلم أحكام الله ، ثم يجمعهم يوم القيامة فيسألهم : ماذا أجيبوا ، وهل قوبلوا بالتصديق والإقرار ، أو قوبلوا بالتكذيب والإنكار؟ فتقوم الحجة على العوام بالعلماء ، وعلى الخواص بالعارفين الكبراء ، أهل التربية النبوية ، فلا ينجو من العتاب إلا من ارتفع عنه الحجاب ، بصحبة العارفين وتعظيمهم وخدمتهم ، إذ لا يتخلص من العيوب إلا من صحبهم وأحبهم وملك نفسه إليهم. والله تعالى أعلم.

ثم خص عيسى عليه‌السلام بتذكير النعم يوم الجمع توطئة لتوبيخ من عبده من دون الله ، فقال :

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١))

قلت : (إذ) : بدل من (يوم يجمع) ، أو باذكر ، وجملة (تكلم) : حال من مفعول (أيدتك).

يقول الحق جل جلاله : واذكر (إِذْ) يقول الله ـ جل وعز ـ يوم القيامة : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) بالنبوة والرسالة ، وعلى أمك بالاصطفائية والصديقية ، وذلك حين (أَيَّدْتُكَ) أي : قويتك (بِرُوحِ الْقُدُسِ) ، وهو جبريل عليه‌السلام كان لا يفارقك فى سفر ولا حضر ، أو بالكلام الذي تحيا به الأنفس والأرواح ، الحياة الأبدية. كنت (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي : كائنا فى المهد (وَكَهْلاً) أي : تكلم فى الطفولة والكهولة بكلام يكون سببا فى حياة القلوب ، وبه استدل أنه ينزل ، لأنه رفع قبل أن يكتهل ، (وَ) اذكر (إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) أي : الكتابة ،

٨٨

(وَالْحِكْمَةَ) : النبوة (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ، وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ، وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ، وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) وتقدم تفسيرها فى آل عمران. (١)

وكرر (بِإِذْنِي) مع كل معجزة ؛ إبطالا لدعوى الربوبية فيه ، إذ قد عزله عن قدرته ومشيئته مع كل معجزة. قال ابن جزى : الضمير المؤنث ـ يعنى فى «فيها» ـ يعود على الكاف ، لأنها صفة الهيئة ، وكذلك المذكور فى آل عمران. (فَأَنْفُخُ فِيهِ) يعود على الكاف ؛ لأنها بمعنى مثل ، وإن شئت قلت : هو فى الموضعين يعود على الموصوف المحذوف الذي وصف به كهيئة ، فتقديره فى التأنيث : صورة ، وفى التذكير : شخصا ، أو خلقا وشبه ذلك. ه.

(وَ) اذكر أيضا (إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) حين هموا بقتلك ، (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي : ما هذا الذي جئتنا به إلا سحرا ، أو : قالوا فى شأنك حين جئتهم : ما هذا إلا ساحر مبين ، (وَ) اذكر أيضا (إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) أي : ألهمتهم ، أو أمرتهم بأن (آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) عيسى ، فامتثلوا ، و (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) أي : منقادون ومخلصون.

الإشارة : قال الورتجبي : من تمام نعمة الله ـ تعالى ـ عليه صيرورة جسمه بنعت روحه فى المهد على شبابه بالقوة الإلهية ، بأن نطق بوصف تنزيه الله وقدسه وجلاله ، وربويته وفناء العبودية فيه ، وبقيت تلك القدرة فيه إلى كهولته ، حتى عرّف عباد الله تنزيه الله وقدس صفات الله وحسن جلال الله ، وهذا معنى قوله تعالى : (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) ، وزاد فى وصفه بقوله : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) ، تجلى بقدرته بيده حتى يخط بغير تعلم. ه. فانظره ، مع ما ورد فى التاريخ أنه كان يذهب مع الصبيان للمكتب.

ثم ذكر معجزة المائدة ، فقال :

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

__________________

(١) راجع تفسير الآية ٤٩ من سورة آل عمران.

٨٩

قلت : (يا عيسى ابن مريم) : ابن هنا بدل ، ولذلك كتب بالألف ، و (أن ينزل) : مفعول (يستطيع) ، ومن قرأ بالخطاب ، فمفعول بالمصدر المقدر ، أي : سؤال ربك إنزال مائدة ، و (لأولنا وآخرنا) : بدل كل ، من ضمير (لنا) ، لإفادته الإحاطة والشمول كالتوكيد ، و (ذلك) : شرط إبدال الظاهر من ضمير الحاضر ، وأعيدت اللام مع البدل للفصل ، وضمير (لا أعذبه): ، نائب عن المصدر ، أي : لا أعذب ذلك التعذيب أحدا.

يقول الحق جل جلاله : واذكر (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) أي : هل يطيعك ربك فى هذا الأمر ، أم لا؟ فالاستفهام عن الإسعاف فى القدرة ، فهو كقول بعض الصحابة لعبد الله بن زيد : هل تستطيع أن ترينا كيف كان يتوضا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ مع جزمهم بأن عبد الله كان قادرا على تعليمهم الوضوء. فالحواريون جازمون بأن الله ـ تعالى ـ قادر على إنزال المائدة ، لكنهم شكوا فى إسعافه على ذلك.

قال ابن عباس : كان الحواريون أعلم بالله من أن يشكوا أن الله تعالى يقدر على ذلك ، وإنما معناه ، هل يستطيع لك ؛ أي : هل يطيعك ، ومثله عن عائشة ، وقد أثنى الله ـ تعالى ـ على الحواريين ، فى مواضع من كتابه ، فدل أنهم مؤمنون كاملون فى الإيمان.

قال لهم عيسى عليه‌السلام : (اتَّقُوا اللهَ) من أمثال هذا السؤال واقتراح الآيات ، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بكمال قدرته وصحة نبوتى ، فإنّ كمال الإيمان يوجب الحياء من طلب المعجزة ، (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) أكلا نتشرف به بين الناس ، وليس مرادهم شهوة البطن ، (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال ، أي : نعاين الآية ضرورة ومشاهدة ، فلا تعرض لنا الشكوك التي فى الاستدلال ، (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) علما ضروريا لا يختلجه وهم ولا شك ، (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي : نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس ، أو من الشاهدين للعين ، دون السامعين للخبر ، وليس الخبر كالعيان ، والحاصل : أنهم أرادوا الترقي إلى عين اليقين ، دون الاكتفاء بعلم اليقين.

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) مسعفا لهم لما رأى لهم غرضا صحيحا فى ذلك ، روى أنه لبس جبّة شعر ، ورداء شعر ، وقام يصلى ويدعو ويبكى ، وقال : (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) أي : لمتقدمنا ومتأخرنا ، يعود علينا وقت نزولها كل عام بالفرح والسرور ، فنتخذه عيدا نحن ومن يأتى بعدنا ، (وَ) يكون نزولها (آيَةً مِنْكَ) على كمال قدرتك وصحة نبوتى ، (وَارْزُقْنا) المائدة والشكر عليها ، (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي : خير من يرزق ؛ لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض ، ونسبة الرزق إلى غيره مجاز. (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) كما طلبتم ، (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي : من عالمى زمانهم ، أو مطلقا.

٩٠

قال ابن عمر : (أشد الناس عذابا يوم القيامة : من كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون ، والمنافقون.) روى أنها نزلت سفرة حمراء بين غمامتين ، وهم ينظرون إليها ، حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى وقال : اللهم اجعلنى من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمة ، ولا تجعلها مثلة وعقوبة ، ثم قام وتوضأ وصلّى وبكى ، ثم كشف المنديل ، وقال : بسم الله خير الرازقين ، فإذا سمكة مشوية ، تسيل دسما وعند ذنبها خل ، وحولها من أنواع البقول ما خلا الكراث ، وخمسة أرغفة ، على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد. قال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ قال : ليس منهما ، ولكنه اخترعه الله بقدرته ، كلوا ما سألتم ، واشكروا الله يمددكم ويزدكم من فضله ، فقالوا : يا روح الله ، لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى ، فقال : يا سمكة ؛ : احيى بإذن الله ، فاضطربت ، ثم قال لها : عودى ، فعادت كما كانت ، فعادت مشوية ، ثم طارت المائدة ، ثم عصوا بعدها فمسخوا.

وقيل : كانت تأتيهم أربعين يوما ، غبّا (١) ، يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار ، يأكلون ، فإذا فرغوا ، طارت وهم ينظرون فى ظلها ، ولم يأكل منها فقير إلا غنى مدة عمره ، ولا مريض إلا برىء ولم يمرض أبدا ، ثم أوحى الله إلى عيسى : أن اجعل مائدتى فى الفقراء والمرضى دون الأغنياء والأصحاء ، فاضطرب الناس ، فمسخ منهم ثلاثة وثمانون. وقيل : لما وعد الله إنزالها بهذه الشريطة ، استغفروا وقالوا : لا نريد ، فلم تنزل. قلت : المشهور أنها نزلت ، ويحكى أن أرجلها باقية بجزيرة الأندلس. والله تعالى أعلم.

الإشارة : فى سؤال الحواريين لسيدنا عيسى عليه‌السلام قلة أدب من وجهين : أحدهما : خطابه بقوله : (يا عيسى ابن مريم) ؛ وقد كانت هذه الأمة المحمدية تخاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا رسول الله ، يا نبى الله ، لكمال أدبها ، وبذلك شرفت وعظم قدرها ، فالأدب عند الصوفية ركن عظيم ، بل هو روح التصوف وقطب دائرته ، قال بعضهم : (اجعل عملك ملحا ، وأدبك دقيقا) ، والكلام فيه عندهم طويل شهير.

والوجه الثاني : ما فى قولهم : (هل يستطيع ربك) من بشاعة التعبير ، وسوء اللفظ ، حتى اتهموا بالكفر من أجله. وقد تقدم تأويله ، وأما سؤالهم المائدة ، فقال بعض الصوفية : هى عبارة عن المعارف والأسرار الربانية التي هى قوت الأرواح السماوية ، فقوت الأشباح الأرضية ما يخرج من الأرض من الأقوات الحسية ، وقوت الأرواح السماوية ما ينزل من السماء من العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، ينزل على قلوب العارفين ، ثم يبرز منها إلى قلوب عائلة المستمعين ، ولما طلبوها قبل إبانها وقبل الاستعداد لها ، قال لهم : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، فلما ألحوا فى

__________________

(١) أي : يوما بعد يوم ، ليكون أشهى وأحب ـ انظر حاشية الشهاب ٣ / ٣٠٢.

٩١

السؤال ، بيّن الحق لهم أن إنزالها سهل على قدرته ، لكن فيه خطر وسوء عاقبة ، لأن الحقائق قد تضر بالمريد إذا لم يكمل أدبه واستعداده ، فلما بينوا مرادهم من كمال الطمأنية واليقين ؛ دعا الله ـ تعالى ـ فوعدهم بالإنزال مع دوام الإيمان وكمال الإيقان ، فمن كفر بها ، ولم يعرف قدرها ، عذب بعذاب لم يعذبه أحد من العالمين ، وهو الطرد والبعد من ساحة حضرة رب العالمين. والله تعالى أعلم.

ثم وبخ من عبد عيسى من الكفرة ، فقال :

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

قلت : (من دون الله) : صفة لإلاهين ، أو صلة (اتخذوني) ، و (أن اعبدوا) : تفسيرية للمأمور به ، أو بدل من ضمير به ، وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقا ؛ لئلا يلزم منه بقاء الموصول بلا راجع ، أو عطف بيان له ، أو خبر عن مضمر ، أي : هو ، أو مفعول به ، أي : أعنى ، ولا يجوز إبداله من (ما) ؛ لأن المصدر لا يكون مفعولا للقول ؛ لأنه مفرد ، والقول لا يعمل إلا فى الجمل أو ما فى معناه.

(يوم ينفع) ؛ من نصب جعله ظرفا لقال ، أو ظرف ، مستقر خبر (هذا) والمعنى : هذا الذي مرّ من كلام عيسى ، واقع يوم ينفع ، إلخ ، وأجاز ابن مالك أن يكون مبنيا ، قال فى ألفيته :

وقبل فعل معرب أو مبتدا

أعرب ، ومن بنا فلن يفندا (١)

ومن رفع ، فخبر ، وهو ظرف متصرف.

__________________

(١) أنظر الألفية ، باب الإضافة.

٩٢

يقول الحق جل جلاله : واذكر (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى) بعد رفعه إلى السماء ، أو يقوله له يوم القيامة ، وهو الصحيح ، بدليل قوله : (قالَ اللهُ هذا) إلخ ، فإن اليوم الذي (يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) هو يوم القيامة ، فيقول له حينئذ : (أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) يريد به توبيخ الكفار الذين عبدوه وتبكيتهم ، وفيه تنبيه على أن من عبد مع الله غيره فكأنه لم يعبد الله قط ، إذ لا عبرة بعبادة من أشرك معه غيره.

(قالَ) عيسى عليه‌السلام مبرءا نفسه من ذلك وقد أرعد من الهيبة : (سُبْحانَكَ) أي : تنزيها لك من أن يكون لك شريك ، (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) أي : ما ينبغى لى أن أقول ما لا يجوز لى أن أقوله ، (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) ، وكل العلم إلى الله لتظهر براءته ؛ لأن الله علم أنه لم يقل ذلك ، (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي : تعلم ما أخفيته فى نفسى ، كما تعلم ما أعلنته ، ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك ، سلك فى اللفظ مسلك المشاكلة ، فعبّر بالنفس عن الذات. (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) لا يخفى عليك شىء من الأقوال والأفعال.

(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) وهو عبادة الله وحده ، فقلت لهم : (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي : رقيبا عليهم ، أمنعهم أن يقولوا ذلك أو يعتقدوه. (ما دُمْتُ فِيهِمْ ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) بالرفع إلى السماء ، أي : توفيت أجلى من الأرض. والتوفى أخذ الشيء وافيا ، فلما رفعتنى إلى السماء (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أي : المراقب لأحوالهم (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) : مطلع عليه مراقب له.

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) وأنت مالك لهم ، ولا اعتراض على المالك فى ملكه ، وفيه تنبيه على أنهم استحقوا العذاب ، أي : لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك ، (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، فلا عجز ولا استقباح ، فإنك القادر والقوى على الثواب والعقاب بلا سبب ، ولا تعاقب إلا عن حكمة وصواب ، فإن عذبت فعدل ، وإن غفرت ففضل ، وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد ، فلا امتناع فيه لذاته ليمتنع الترديد والتعليق بإن. قاله البيضاوي.

وقال ابن جزى : فيه سؤالان : الأول : كيف قال : (إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) وهم كفار ، والكفار لا يغفر لهم؟ فالجواب : أن المعنى تسليم الأمر إلى الله ، وإنه إن عذب أو غفر فلا اعتراض عليه ؛ لأن الخلق عباده ، والمالك يفعل ما يشاء ، ولا يلزم من هذا وقوع المغفرة للكفار ، وإنما يقتضى جوازها فى حكمة الله وعزته ، وفرق بين الجواز والوقوع ، وأما على قول من قال : إن هذا الخطاب وقع لعيسى عليه‌السلام حين رفعه الله إلى السماء فلا إشكال ، لأن المعنى : إن تغفر لهم بالتوبة ، وكانوا حينئذ أحياء ، وكل حيى معرض للتوبة.

السؤال الثاني : ما مناسبة قوله : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لقوله : (إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) ، والأليق إن قال : فإنك أنت الغفور الرحيم؟ فالجواب : أنه لما قصد التسليم له والتعظيم ، كان قوله : (فإنك أنت العزيز الحكيم) أليق ، فإن الحكمة

٩٣

تقتضى التسليم ، والعزة تقتضى التعظيم ، فإن العزيز هو الذي يفعل ما يريد ، ولا يغلبه غيره ، ولا يمتنع عليه شىء أراده ، فاقتضى الكلام تفويض الأمر إلى الله فى المغفرة لهم أو عدمها ؛ لأنه قادر على كلا الأمرين لعزته ، وأيهما فعل فهو جميل لحكمته. وقال أبو جعفر بن الزبير : إنما لم يقل الغفور الرحيم ؛ لئلا يكون شفيعا لهم بطلب المغفرة ، فاقتصر على التسليم والتفويض ، دون الطلب ، إذ لا نصيب فى المغفرة للكفار. أنظر بقية كلامه.

قال التفتازانيّ : ذكر المغفرة ، يوهم أن الفاصلة : (الغفور الرحيم) ، لكن يعرف بعد التأمل أن الواجب هو العزيز الحكيم ؛ لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه ، وهو العزيز ، أي : الغالب ، ثم وجب أن يوصف بالحكمة على سبيل الاحتراس ؛ لئلا يتوهم أنه خارج عن الحكمة. ه.

قال الله تعالى : (هذا) أي : يوم القيامة (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) أي : هنا ينتفع الصادقون فى الدنيا بصدقهم ، ويفتضح الكاذبون على الله بكذبهم. والمراد بالصادقين ؛ أهل التوحيد ، الذين نزهوا الله تعالى عما لا يليق بجلاله وجماله ، فصدقوا فيما وصفوا به ربهم.

ثم ذكر ما وعدهم به ، فقال : (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) حيث رضوا بأحكامه القهرية والتكليفية ، (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وهذا تنبيه على تكذيب النصارى ، وفساد دعواهم فى المسيح وأمه ، وإنما لم يقل : ومن فيهن ، تغليبا لغير العقلاء ، وإنما غلب غير أولى العقل للإعلام بأنهم فى غاية القصور عن معنى الربوبية ، وإهانة لهم وتنبيها على أنهم جنس واحد ، فمن يعقل منهم لقصور عقله ونظره كمن لا يعقل ، فيبعد استحقاقهم للألوهية التي تنبىء عن تمام الحكمة وإحاطة العلم. والله تعالى أعلم.

الإشارة : كل من صدّر نفسه للشيخوخة من غير إذن ، وأشار إلى تعظيمه بلسان الحال أو المقال يلحقه العتاب يوم القيامة فيقال له : أأنت قلت للناس عظمونى من دون الله؟ فإن كان مقصوده بالأمر بالتعظيم الوصول إلى تعظيم الحق تعالى ، والأدب معه فى الحضرة دون الوقوف مع الواسطة ، وبذل جهده فى توصيل المريدين إلى هذا المقام ، يقول : سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق ، إلى تمام ما قال السيد عيسى عليه‌السلام ، فيقال له : (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم). وإن كان مقصوده بالتصدر للتعظيم والأمر به ، حظ نفسه ، وفرح بتربية جاهه والإقبال عليه ، افتضح وأهين بما افتضح به الكاذبون المدعون. نسأل الله تعالى الحفظ والرعاية بمنّه وكرمه ، وسيدنا محمد رسوله ونبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى آله وصحبه وسلم ـ.

٩٤

سورة الأنعام

مكية غير ست آيات أو ثلاث ، وقال الكلبي : الأنعام كلها مكية إلّا آيتين نزلتا بالمدينة فى فنحاص اليهودي ، وهى : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) (١) مع ما يرتبط بهذه الآية.

وهى مائة وخمس وستون آية ، قاله البيضاوي. قال ابن عباس : (نزلت سورة الأنعام وحولها سبعون ألف ملك ، لهم زجل (٢) يجأرون بالتسبيح). وقال كعب : (فاتحة الأنعام هى فاتحة التوراة ؛ (الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) إلى (... يَعْدِلُونَ) ، وخاتمة التوراة خاتمة هود ؛ (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٣)). وقيل : خاتمتها : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ...) (٤) إلى (... تَكْبِيراً). وقال سيدنا على ـ كرم الله وجهه ـ : (من قرأ سورة الأنعام فقد انتهى فى رضا ربه). قاله ابن عطية.

ومناسبتها لما قبلها : الاستدلال على قدرته تعالى التي ختم بها ما قبلها ، ومضمنها : التعريف بالذات المقدسة ، دلالة وعيانا ، والاستدلال على وحدانيتها وما يجب لها من صفات الكمال ، والرد على طوائف المشركين ، وذم أحوالهم وأفعالهم ، ومدح أهل التوحيد من العارفين أو المؤمنين ، قال الشيخ زرّوق رضى الله عنه فى شرح الرسالة : ما ذكره الشيخ ابن أبى زيد ، فى عقائد رسالته ، هو ما تضمنته سورة الأنعام. ه. بالمعنى.

قال جل جلاله :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١))

قلت : (ثم الذين كفروا) : عطف على جملة الحمد ؛ على معنى : أن الله حقيق بالحمد على ما خلقه ، نعمة على العباد ، ثم الذين كفروا بربهم الذي ربّاهم بهذه النعم ، يعدلون به سواه من الأصنام ، يقال : عدلت فلانا بفلان ؛ جعلته نظيره. أو عطف على «خلق ، وجعل» : على معنى أنه خلق وقدّر ما لا يقدر عليه غيره ، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شىء. ومعنى (ثم) : استبعاد عدولهم بعد هذا البيان. والباء فى «بربهم» متعلقة بكفروا ، على الأول ، وبيعدلون على الثاني. قاله البيضاوي.

يقول الحق جل جلاله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : جميع المحامد إنما يستحقها الله ، إذ ما بكم من نعمة فمن الله. (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) التي تظلّكم ، مشتملة على الأنوار التي تضىء عليكم ، ومحلا لنزول الرحمات والأمطار

__________________

(١) الآية ٩١ من سورة الأنعام.

(٢) زجل ، أي : صوت رفيع عال.

(٣) الآية ١٢٣ من سورة هود.

(٤) الآية ١١١ من سورة الإسراء.

٩٥

عليكم ، (وَ) خلق (الْأَرْضَ) التي تقلّكم ، وفيها نبات معاشكم فى العادة ، وفيها قراركم فى حياتكم وبعد مماتكم ، مشتملة على بحار وأنهار ، وفواكه وثمار ، وبهجة أزهار ونوار ، (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ) التي تستركم ، راحة لأبدانكم وقلوبكم ، كظلمات الليل الذي هو محل السكون. (وَ) جعل (النُّورَ) الذي فيه معاشكم وقوام أبدانكم وأنعامكم. (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعد هذا كله ، (يَعْدِلُونَ) عنه إلى غيره ، أو يعدلون به سواه ، فيسوونه فى العبادة معه.

قال البيضاوي : وجمع السموات دون الأرض وهى مثلهن ؛ لأن طبقاتها مختلفة بالذات ، متفاوتة الآثار والحركات ، وقدّمها ؛ لشرفها وعلو مكانها. ثم قال أيضا : وجمع الظلمات ؛ لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها ، أو لأن المراد بالظلمة : الضلال ، وبالنور : الهدى. والهدى واحد والضلال متعدد. وتقديمها لتقدم الإعدام على الملكة. ومن زعم أن الظلمة عرض يضاد النور احتج بهذه الآية ، ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل. ه.

الإشارة : أثنى الحق ـ جل جلاله ـ على نفسه بإنشاء هذه العوالم ، التي هى محل ظهور عظمته وجلاله وجماله وبهائه. فأنشأ سموات الأرواح ، التي هى مظهر لشروق أنوار ذاته وصفاته ، ومحل لظهور عظمة ربوبيته ، وأنشأ أرض النفوس ، التي هى مظهر لتصرف أقداره ، ومحل لظهور آداب عبوديته ، وتجلى بين الضدين ؛ بين الظلمات والنور ، ليقع الخفاء فى الظهور ، كما قال بعض الشعراء :

... لقد تكاملت الأضداد فى كامل البها

ثم بعد هذا الظهور التام ، عدل عن معرفته جل الأنام ، إلا من سبقت له العناية من الملك العلام. وبالله التوفيق.

ثم برهن على كمال قدرته ، فقال :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢))

قلت : (أجل) : مبتدأ. و (مسمى) : صفته. و (عنده) : خبر ، وتخصيصه بالصفة أغنى عن تقديم الخبر.

يقول الحق جل جلاله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أي : ابتدأ خلقكم منه ، وهو آدم ، لأنه المادة الأولى ، وهو أصل البشر. (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) تنتهون فى حياتكم إليه ، وهو الموت. (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) معيّن للبعث ، لا يقبل التغيير ، ولا يتقدم ولا يتأخر ، (عِنْدَهُ) استأثر بعلمه ، لا مدخل لغيره فيه بعلم ولا قدرة ، وهو المقصود بالبيان ، (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) أي : تشكّون فى هذا الأجل المسمى الذي هو البعث.

و (ثُمَ) : لاستبعاد امترائهم بعد ما ثبت عنه أنه خالقهم ، وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم ، فإن من قدر على خلق المواد وجمعها ، وإيداع الحياة فيها وإبقائها ما شاء ، كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانيا. قاله البيضاوي.

٩٦

الإشارة : القوالب من الطين ، والأرواح من نور رب العالمين ، فالطينية ظرف لنور الربوبية ، الذي هو الروح ؛ لأن الروح نور من أنوار القدس ، وسر من أسرار الله ، فمن نظّف طينته ولطّفها ظهرت عليها أسرار الربوبية والعلوم اللدنية ، وكشف للروح عن أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، وانخنست الطينية ، واستولت عليها الروح النورانية ، ومن لطّخ طينته بالمعاصي وكثّفها باتباع الشهوات ، انحجبت الأنوار واستترت ، واستولت الطينية الظّلمانية على الروح النّورانية ، وحجبتها عن العلوم اللدنية والأسرار القدسية ، بحكمته تعالى وعدله وظهور قهره. وبالله التوفيق.

ثم برهن على وحدانيته الخاصة ، فقال :

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣))

قلت : (هو) : مبتدأ ، و (الله) : خبره. و (فى السموات) : خبر ثان ، أي : وهو الله كائن أو موجود فى السموات وفى الأرض بنوره وعلمه. قال تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١). و (يعلم سركم وجهركم) : تقرير له.

يقول الحق جل جلاله : هذا الذي اختص بالحمد وأبدع الكائنات كلها ـ (هُوَ اللهُ) ظاهر (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) بنوره وقدرته وعلمه وإحاطته ، فلا شريك معه (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) من خير أو شر ، فيثيب عليه ويعاقب ، ولعله أراد بالسر والجهر ما يظهر من أحوال النفس ، وبالمكتسب أعمال الجوارح. فالآية الأولى دليل القدرة التي ختم بها السورة ، والآية الثانية دليل البعث ، والآية الثالثة دليل الوحدة.

الإشارة : قال بعض العارفين : الحق تعالى منزّه عن الأين والجهة ، والكيف ، والمادة ، والصورة ، ومع ذلك لا يخلو منه أين ، ولا مكان ، ولا كم ، ولا كيف ، ولا جسم ، ولا جوهر ، ولا عرض. لأنه للطفه سار فى كل شىء ، ولنوريته ظاهر فى كل شىء ، ولإطلاقه وإحاطته متكيف بكل كيف ، غير متقيد بذلك ، فمن لم يعرف هذا ولم يذقه ولم يشهده ، فهو أعمى البصيرة ، محروم من مشاهدة الحق تعالى. ولابن وفا :

هو الحقّ المحيط بكلّ شىء

هو الرحمن ذو العرش المجيد

هو المشهود فى الأشهاد يبدو

فيخفيه الشهود عن الشّهيد

هو العين العيان لكلّ غيب

هو المقصود من بيت القصيد

جميع العالمين له ظلال

سجود فى القريب وفى البعيد

وهذا القدر فى التّحقيق كاف

فكفّ النّفس عن طلب المزيد

__________________

(١) من الآية : ٣٥ من سورة النور.

٩٧

ثم ذم من أعرض عن دلائل توحيده ، فقال :

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥))

قلت : (من) الأولى : مزيدة للاستغراق ، والثانية للتبعيض.

يقول الحق جل جلاله : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) دالّة على توحيد الله وكمال صفاته ، إلا أعرضوا عنها ، أي : الكفار ، أو : ما تأتيهم معجزة من المعجزات الدالة على قدرة الله وصدق رسوله ، أو : ما تأتيهم آية من آيات القرآن تدل على وحدانيته وكمال ذاته ، (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) ؛ تاركين للنظر فيها ، غير ملتفتين إليها.

(فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) وهو القرآن (لَمَّا جاءَهُمْ) ، وهو كالدليل لما قبله ، لأنهم لمّا كذبوا بالقرآن ـ وهو أعظم الآيات ـ فكيف لا يعرضون عن غيره من الآيات؟ ثم هدّدهم بقوله : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ) أي : أخبار (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : سيظهر لهم ، عند نزول العذاب بهم فى الدنيا والآخرة ، ما كانوا يستهزئون به من البعث والحساب ، أو عند ظهور الإسلام وارتفاعه.

الإشارة : من سبق له الخذلان لا تنفعه الأدلة وتواتر البرهان ، ولا تزيده ظهور المعجزات أو الكرامات إلا التحاسد وظهور العداوات ، ولا يزيده الدعاء إلى الله والتناد ، إلّا الإعراض عنه والبعاد ، نعود بالله من الشقاء وسوء القضاء. ثم أمر أهل الإنكار بالنظر والاعتبار ، فقال :

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦))

قلت : (كم) : خبرية ، مفعول «أهلكنا» ، أي : كثيرا أهلكنا من القرون ، والقرن ؛ مدة من الزمان تهلك أشياخها وتقوم أطفالها ، واختلف فى حدّها ، قيل : مائة ، وقيل : سبعون ، وقيل : ثمانون ، وقيل : القرن : أهل زمان فيه نبى أو فائق فى العلم ، قلّت المدة أو كثرت ، مشتق من قرين الرجل. والمطر المدرار هو الغزير ، وهى من أمثلة المبالغة ، كمذكار وميناث.

يقول الحق جل جلاله : (أَلَمْ يَرَوْا) ببصائرهم رؤية اعتبار ، (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ) من أهل عصر (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : جعلناهم متمكنين فيها بالقرار والسكنى والطمأنينة فيها ، أو أعطيناهم من القوة والآلات

٩٨

ما تمكّنوا بها من أنواع التصرف فيها ؛ فقد (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) يا أهل مكة ، فقد جعلنا لهم من السعة وطول المقام ما لم نجعله لكم ، أو أعطيناهم من القوة والسّعة فى المال والاستظهار على الناس بالعدّة والعدد وتهيّؤ الأسباب ما لم نجعله لكم ،.

(وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ) أي : المطر أو السحاب (عَلَيْهِمْ مِدْراراً) أي : مغزارا على قدر المنفعة بحسب الحاجة ، (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أي : أجرينا الأودية من تحت ديارهم وأراضيهم ، فعاشوا فى الخصب والريف ، بين الأنهار والثمار ، فعصوا وطغوا وبطروا النعمة ، فلم يغن ذلك عنهم شيئا. (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا) أي : أحدثنا ، (مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) بدلا منهم. والمعنى : أنه تعالى كما قدّر أن يهلك من تقدم من القرون ، بعد أن مكّنهم فى البلاد واستظهروا على العباد ، كعاد وثمود ، وأنشأ بعدهم آخرين عمّر بهم بلاده ، يقدر أن يفعل ذلك بكم يا معشر الكفار المعاصرين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الإشارة : النظر والاعتبار يوجب للقلب الرقّة والانكسار. وهى عبادة كبرى عند العباد والزهاد ، أولى العزم والاجتهاد. وفوقها : فكرة الشهود والعيان ، وهى الفكرة التي تطوى وجود الأكوان ، وتغيب الأوانى بظهور المعاني ، أو تريها حاملة لها قائمة بها ، فالأولى فكرة تصديق وإيمان ، والثانية فكرة شهود وعيان. وبالله التوفيق.

ثم ذكر عنادهم ، وأنهم لا تنفع فيهم المعجزة ، فقال :

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩))

يقول الحق جل جلاله : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ) يا محمد (كِتاباً) مكتوبا (فِي قِرْطاسٍ) أي : رقّ ، فرأوه بأعينهم ، ولمسوه بأيديهم ، حتى لا يبقى فيه تزوير ، لعاندوا ، و (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) منهم بعد ذلك : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ؛ تعنتا وعنادا ، وتخصيص اللمس ؛ لأن التزوير لا يقع فيه ، فلا يمكنهم أن يقولوا : (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) ، وتقييده بالأيدى لدفع التجوز ، فإنه قد يتجوز فيه فيطلق على الفحص كقوله : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) (١).

ثم اقترحوا معجزة أخرى ، (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) يكلمنا أنه نبى ، (فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) أو شهيدا له بالرسالة ، روى أن العاص بن وائل والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود هم الذين سألوا ذلك. قال تعالى :

__________________

(١) من الآية ٨ من سورة الجن.

٩٩

(وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) ، كما طلبوا (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) بهلاكهم ، فإنّ سنة الله جرت بذلك فيمن قبلهم ؛ مهما اقترحوا آية ، فظهرت ثم كفروا ، عجّل الله هلاكهم ، (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي : لا يمهلون بعد نزولها ساعة.

وعلى تقدير لو أنزلنا عليهم الملك ـ كما اقترحوا ـ فلا يمكن أن يظهر إلا على صورة البشر ليطيقوا رؤيته ، (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) ليتمكنوا من رؤيته ، كما مثّل جبريل فى صورة دحية ، فإن القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملائكة. وإنما رأوهم كذلك الأفراد من الأنبياء ، لامتلاء أسرارهم بالأنوار القدسية ، فإذا ظهر على صورة البشر التبس الأمر عليهم فقالوا : إنما هو بشر لا ملك. فهذا معنى قوله : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي : لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضعفائهم ، أو لفعلنا لهم فى ذلك فعلا ملبسا يطرق لهم إلى أن يلبسوا به على أنفسهم وضعفائهم ؛ فإن عادة الله فى إظهار قدرته أن تكون مرتدية برداء حكمته ؛ ليبقى سر الربوبية مصونا ، فمن سبقت له العناية خلق الله فى قلبه التصديق بها ، حتى علمها ضرورة ، وغيره يلبس الأمر عليه فيها. وبالله التوفيق.

الإشارة : كرامات الأولياء كمعجزات الأنبياء ، لا تظهر إلّا لأهل الصدق والتصديق ، ولا يتحقق بولايتهم إلّا من سبق له الوصول إلى عين التحقيق. «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه» ، فأهل الإنكار عليهم لا يرون إلا ما يقتضى البعد عنهم. وأهل الإقرار لا يرون إلا ما يقتضى القرب منهم والمحبة فيهم. والله تعالى أعلم.

ثم سلّى رسوله ـ عليه الصلاة السلام ـ فقال :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

قلت : حاق يحيق حيقا ، أي : نزل وأحاط ، و (منهم) : يتعلق بسخروا ، و (ما كانوا) : الموصول اسمى أو حرفى.

يقول الحق جل جلاله فى تسلية رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ) كثير (مِنْ قَبْلِكَ) فصبروا على أذى قومهم حتى أهلكهم الله ، (فَحاقَ) أي : أحاط (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزءون به ويستبعدونه ، أو : نزل بهم وبال استهزائهم وهو الهلاك.

الإشارة : كل ما سليّت به الرسل تسلّى به الأولياء ، فما من ولى صدّيق إلا ابتلاه الله بتسليط الخلق عليه ؛ حتى ترحل روحه عن هذا العالم لضيقه عليها ، وتتمكن من شهود عالم الملكوت ، فإذا طهرت منه البقايا ، وكملت فيه المزايا ، ردّه إليهم غنيّا عنهم ، وغائبا عنهم ، جسمه مع الخلق وقلبه مع الحق. هذه سنة الله فى أوليائه ، فكل ولىّ يتسلى بمن قبله فى إيذاء الخلق له. غير أن أولياء هذه الأمة إذا كمل مقامهم صاروا على قدم نبيهم ، يكونون رحمة

١٠٠