البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٩

الإشارة : لا ينبغى للفقراء أن يتخلفوا عن أشياخهم إذا سافروا لحج أو غزو أو تذكير أو زيارة ، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، فيقعدون فى الراحة والدعة ؛ وشيخهم فى التعب والنصب ؛ لأن ما يصيبهم من مشاق السفر زيادة فى ترقيهم ومعرفتهم ، وتقوية لمعانيهم ، إلى غير ذلك من فوائد السفر ، فهو فى حق السائرين أمر مؤكد ، فكلما سار البدن فى عالم الشهادة سار القلب فى عالم الغيب ، كما هو مجرب. والله تعالى أعلم.

ولما ذمّ الله تعالى من تخلف عن تبوك ، ووسمه بالنفاق ، لم يقدر أحد بعد ذلك على التخلف ، فخفف عنهم بقوله :

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢))

يقول الحق جل جلاله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ) يستقيم لهم أن ينفروا (كَافَّةً) ؛ جميعا لنحو غزو ، أو طلب علم ، كما لا يستقيم لهم أن يقعدوا جميعا ، فإنه بخل ، ووهن للإسلام. قال ابن عباس : هذه الآية فى البعوث إلى الغزو والسرايا ، أي : لا ينبغى خروج جميع المؤمنين فى السرايا ، وإنما يجب ذلك إذا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه ، ولذلك عاتبهم فى الآية المتقدمة على التخلف عنه. فالآية الأولى فى الخروج معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه فى السرايا التي كان يبعثها ، وقيل : هى ناسخة لكل ما ورد من الأمر بخروج الجميع ، فهى دليل على أن الجهاد فرض كفاية.

(فَلَوْ لا) : فهلا (نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ) ؛ جماعة كبيرة ، كقبيلة أو بلدة ، (طائِفَةٌ) قليلة منها ؛ (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ، أما إذا خرجوا للغزو ؛ فإنه لا يخلو الجيش من عالم أو عارف يتفقهون ، مع أن مشاق السفر تشحذ الأذهان ، وترقق البشرية ، فتستفيد الروح حينئذ علوما لدنية ، وأسرارا ربانية ، من غير تعلم ، وهذا هو العلم الذي يصلح للإنذار.

قال فى الإحياء : التفقه : الفقه عن الله ؛ بإدراك جلاله وعظمته ، وهو العلم الذي يورث الخوف والخشية والهيبة والخشوع ، ويحمل على التقوى وملازمتها ، وهذا مقتضى الآية. فإن معرفة صفاته تعالى المخوفة والمرجوة هو الذي يحصل به الإنذار ، لا الفقه المصطلح عليه. ه. وأما إذا وقع الخروج لطلب العلم فالتفقه ظاهر.

ثم قال تعالى : (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) ، أي : وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من التفقه إرشاد القوم وإنذارهم. وتخصيصه بالذكر ؛ لأنه أهم ، وفيه دليل على أن التفقه والتذكير من فروض الكفاية ، وأنه ينبغى أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم ، لا الترفع على الناس والتبسط فى البلاد. قاله البيضاوي. وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ، أي : لعلهم يخافون مما حذروا منه.

٤٤١

قال البيضاوي : وقد قيل : للآية معنى آخر ، وهو أنه لما نزل فى المتخلفين ما نزل ؛ تسابق المؤمنون إلى النفير ، وانقطعوا عن التفقه ، فأمروا أن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد ، ويبقى أعقابهم يتفقهون ، حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، ؛ لأن الجدال بالحجة هو الأصل ، والمقصود من البعثة ، فيكون الضمير فى (لِيَتَفَقَّهُوا) ، و (لِيُنْذِرُوا) : للفرق البواقي بعد الطوائف النافرة للغزو ، وفى (رَجَعُوا) : للطوائف النافرة ، أي : ولينذروا البواقي من قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصّلوا أيام غيبتهم من العلوم. ه. وتقدير الآية على هذا : فلو لا نفر من كل فرقة طائفة ، وجلس طائفة ليتفقهوا فى الدين ، ولينذروا قومهم الخارجين للغزو إذا رجعوا إليهم من غزوهم. والله تعالى أعلم.

الإشارة : قال القشيري : لو اشتغل الكلّ بالتّفقّه فى الدّين لتعطّل عليهم المعاش ، ولمنعهم الكافر عن درك المطلوب ، فجعل ذلك فرضا على الكفاية. ويقال : المسلمون على مراتب : فعوامّهم كالرعية للملك ؛ وكتبة الحديث كخزنة الملك. وأهل القرآن كحفّاظ الدفاتر ونفائس الأموال. والفقهاء بمنزلة الوكلاء ؛ إذ الفقيه يوقع الحكم عن الله. وعلماء الأصول كالقوّاد وأمراء الجيوش. والأولياء كأركان الباب. وأرباب القلوب وأصحاب الصفاء كخواص الملك وجلسائه. فشغل قوما بحفظ أركان الشرع ، وآخرين بإمضاء الأحكام ، وآخرين بالردّ على المخالفين ، وآخرين بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وجعل قوما مفردين لحضور القلب ؛ وهم أصحاب الشهود ، ليس لهم شغل ، يراعون مع الله أنفاسهم ، وهم أصحاب الفراغ ، لا يستفزّهم طلب ، ولا يهزّهم أمر ، فهم بالله لله ، بمحو ما سوى الله ، وأمّا الذين يتفقهون فى الدّين فهم الداعون إلى الله ، وإنما يفهم الخلق عن الله بمن كان يفهم عن الله. ه.

قوله : وأما الذين يتفقهون .. إلخ ، الداعون إلى الله على الحقيقة هم العارفون بالله ، وهم أصحاب الشهود ، الذين وصفهم قبل ، وأما الفقهاء فى الدّين فإنما يدعون إلى أحكام الله ، وتعلم دينه دون معرفة ذاته وصفاته ؛ فدعواهم ضعيفة التأثير ، فلا ينهض على أيديهم ما ينهض على أيدى العارفين.

وقال الورتجبي ، فى قوله تعالى : (ليتفقهوا فى الدين) : قال المرتعش : السياحة والأسفار على ضربين : سياحة لتعلم أحكام الدين وأساس الشريعة ، وسياحة لآداب العبودية ورياضة الأنفس ، فمن رجع عن سياحة الأحكام قام بلسانه يدعو الخلق إلى ربه ، ومن رجع من سياحة الأدب والرياضة قام فى الخلق يهديهم لأخلاقه وشمائله. وسياحة هى سياحة الحق ، وهى رؤية أهل الحق والتأدب بآدابهم ، فهذا بركته تعم البلاد والعباد. ه.

٤٤٢

ثم أمر بجهاد الأقرب فالأقرب ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣))

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) ، أي : جاهدوا الأقرب فالأقرب بالتدريج ، كما أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنذار عشيرته الأقربين ، فإن الأقرب أحق بالشفقة والاستصلاح. وقيل : هم يهود حوالى المدينة ، كقريظه والنضير وخيبر ، وقيل : الروم بالشام ؛ وهو قريب من المدينة ، وكانت أرض العرب قد عمها الإسلام ، وكانت العراق حينئذ بعيدة. (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) ؛ شدة وصبرا على قتالهم ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالإعانة والنصر والحراسة.

الإشارة : ينبغى لأهل الوعظ والتذكير أن يبدأوا بالأقرب فالأقرب على التدريج ، قال الرفاعي رضى الله عنه : إذا أراد الله أن يرقى عبدا إلى مقامات الرجال ؛ كلفه بأمر نفسه أولا ، فإذا أدب نفسه واستقامت معه ، كلفه بأهله ؛ فإن أحسن إليهم وساسهم ، كلفه بأهل بلده ، فإن أحسن إليهم وساسهم ، كلفه جهة من البلاد ، فإن هو نصحهم ، وساسهم ، وأصلح سريرته مع الله ، كلفه رتبة ما بين السماء والأرض ، فإن لله خلقا لا يعلمهم إلا الله ، ثم لا يزال يرتفع من سماء إلى سماء حتى يرتفع ويصل إلى محل القطب الغوث ، وهناك يطلعه الله على بعض غيبه. انتهى.

والغلظة التي تكون فى المذكر ، إذا رأى منكرا ، أو ذكر له وأراد النهى عنه. وأما فى الترغيب والإرشاد فينبغى أن يغلب جانب اللطافة واللين. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر حال المنافقين عند نزول الوحى ، لأن السورة جلها فى فضيحتهم ، فقال :

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧))

٤٤٣

يقول الحق جل جلاله : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) من القرآن ، (فَمِنْهُمْ) ؛ فمن المنافقين (مَنْ يَقُولُ) ؛ إنكارا واستهزاء : (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة (إِيماناً) ، كما يزعم أصحاب محمد : أن القرآن يزيدهم إيمانا ، فلا زيادة فيه ، ولا دليل أنه من عند الله. قال تعالى فى الرد عليهم : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) ؛ لتنوير قلوبهم ، وصفاء سرائرهم ، فتزيدهم إيمانا وعلما ؛ لما فيها من الإنذار والإخبار ، ولانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم ، (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) بنزولها ؛ لأنها سبب لزيادة إيمانهم ، وارتفاع درجاتهم ، بخلاف قلوب المنافقين ؛ فلظلمانيتها وخوضها لم تزدهم إلا خوضا ، كما قال تعالى :

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ؛ كفر وشك ، (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) أي : كفرا بها ، مضموما إلى الكفر بغيرها ، الذي كان حاصلا فيهم ، (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) أي : وتحكم ذلك فى قلوبهم حتى ماتوا عليه.

(أَوَلا يَرَوْنَ) أي : المنافقون ، (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) أي : يبتلون ويختبرون بأصناف البليات ، كالأمراض والجوع ، أو بالجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيعاينون ما يظهر عليه من الآيات ، أو يفضحون بكشف سرائرهم. يفعل ذلك بهم (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) : لا ينتهون من نفاقهم وكفرهم ، (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) ؛ يعتبرون.

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) ، يريدون الهرب ، يقولون : (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) إذا قمتم ، فإن لم يرهم أحد قاموا وانصرفوا. قال البيضاوي : تغامزوا بالعيوب ، إنكارا لها وسخرية ، أو غيظا ؛ لما فيها من عيوبهم. ه. قال ابن عطية : المعنى : إذا ما أنزلت سورة فيها فضيحتهم ، نظر بعضهم إلى بعض على جهة التقرير ، يفهم من تلك النظرة : التقرير : هل معكم من ينقل عنكم؟ هل يراكم من أحد حين تدبرون أمركم؟ وقوله : (ثُمَّ انْصَرَفُوا) ؛ أي : عن طريق الاهتداء ، وذلك أنهم حينما بيّن لهم كشف أسرارهم ، يقع لهم ـ لا محالة ـ تعجب وتوقف ونظر ، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة لهم ، فهم ، إذ يصممون على الكفر ، ويرتكبون فيه ، كأنهم انصرفوا عن تلك الحال ، التي كانت مظنة النظر الصحيح والاهتداء. ه.

والتحقيق : أن معنى (انْصَرَفُوا) : قاموا عن مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ مخالفة الفضيحة. (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الإيمان ؛ دعاء عليهم ، أو إخبار ، فيستوجبون ذلك ؛ (بِأَنَّهُمْ) ؛ بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) ؛ لا يفهمون عن الله ؛ ولا عن رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، أو لا يفقهون سوء فهمهم أو عدم تدبرهم.

الإشارة : زيادة الإيمان عند سماع القرآن يكون على حسب التصفية والتطهير من الأغيار ، فبقدر ما يصفو القلب من الأغيار يكشف له عن أسرار القرآن. قال بعضهم : كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة ، فجاهدت نفسى

٤٤٤

وطهرتها ، فصرت كأنى أسمعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يتلوه على أصحابه ، ثم رفعت إلى مقام فوقه ، فكنت أتلوه كأنى أسمعه من جبريل يلقيه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم منّ علىّ الله بمنزلة أخرى ، فأنا الآن أسمعه من المتكلم به ، فعندها وجدت له نعيما لا أصبر عليه. ه. بلفظه.

مثل هذا يزيده القرآن إيقانا ، ويستبشر قلبه عند سماعه ، وأما من كان مريض القلب بحب الدنيا ، مغمورا بالشكوى والأوهام والخواطر ، فلا يزيده القرآن إلا بعدا ؛ حيث لم يتدبر فيه ، ولم يعمل بمقتضاه ، وإذا حضر مثل هذا الغافل مجلس وعظ أو تذكير أو ذكر لم يطق الجلوس ، بل نظر : هل يراه من أحد؟ ثم انصرف ، صرف الله قلبه عن حضرة قدسه ؛ لعدم فهمه عن ربه. والله تعالى أعلم.

ثم ختم السورة بذكر محاسن نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ؛ لما ظهر عليه فى هذه السورة من الرحمة والرأفة بالمؤمنين ، ومن العفو والصفح عن المعتذرين ، فقال :

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))

قلت : «عزيز» : صفة «لرسول» ، و «ما عنتم» : فاعله ، و «ما» : مصدرية ، أي : عزيز عليه عنتكم ، أو عزيز : خبر مقدم ، و «ما عنتم» مبتدأ ، والعنت : المشقة والتعب.

يقول الحق جل جلاله ، مخاطبا العرب ، أو قريش ، أو جميع بنى آدم : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ؛ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : من قبيلتكم ، بحيث تعرفون حسبه وصدقه وأمانته ، وتفهمون خطابه ، أو من جنسكم من البشر. وقرأ ابن نشيط : بفتح الفاء ، أي من أشرافكم. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى بنى هاشم من قريش ، واصطفاني من بنى هاشم ، فأنا مصطفى من مصطفين».

(عَزِيزٌ عَلَيْهِ) ، أي : شديد شاق عليه (ما عَنِتُّمْ) أي : عنتكم ومشقتكم ولقاؤكم المكروه فى دينكم ودنياكم. (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي : على إيمانكم وسعادتكم وصلاح شأنكم ، (بِالْمُؤْمِنِينَ) منكم ومن غيركم (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي : شفيق بهم ، قدّم الأبلغ منهما ؛ لأن الرأفة شدة الرحمة ؛ للفاصلة. وسمى رسوله هنا باسمين من أسمائه تعالى.

٤٤٥

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإيمان بك ، بعد هذه الحالة المشهورة ، التي منّ الله عليهم بها ، (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) أي : كافينى أمركم ، فإن قلت ذلك ؛ فإنه يكفيك شأنهم ويعينك عليهم ، أو فإن أعرضوا فاستعن بالله وتوكل عليه ، فإنه كافيك ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ؛ فلا يتوكل إلا عليه ، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) ؛ فلا أرجو ولا أخاف إلا منه ، (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) ، أي : الملك العظيم ، أو الجسم الأعظم المحيط ، الذي تنزل منه الأحكام والمقادير.

وعن أبى : آخر ما نزل هاتان الآيتان. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما نزل القرآن علىّ إلّا آية آية ، وحرفا حرفا ، ما خلا سورة براءة ، و (قل هو الله أحد) فإنهما أنزلتا علىّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة» (١) قاله البيضاوي. وهاتان الآيتان أيضا مما وجدتا عند خزيمة بن ثابت ، بعد جمع المصحف ، فألحقتا فى المصحف ، بعد تذكر الصحابة لهما وإجماعهم عليهما. والله تعالى أعلم.

الإشارة : ينبغى لورثته ـ عليه الصلاة والسلام ـ الداعين إلى الله ، أن يتخلقوا بأخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيشق عليهم ما ينزل بالمؤمنين من المشاق والمكاره ، وييسرون ولا يعسرون عليهم ، ويحرصون على الخير للناس كافة ، ويبذلون جهدهم فى إيصاله إليهم ، ويرحمونهم ويشفقون عليهم ، فإن أدبروا عنهم استغنوا بالله وتوكلوا عليه ، وفوضوا أمرهم إليه ، من غير أسف ولا حزن.

وقال الورتجبي : قوله تعالى : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) ، اشتد عليه مخالفتنا مع الحق ، ومتابعتنا هوانا واحتجابنا عن الحق. قال بعضهم : شق عليه ركوبكم مراكب الخلاف. قال سهل : شديد عليه غفلتكم عن الله ولو طرفة عين. ثم قال فى قوله تعالى : (فإن تولوا فقل حسبى الله ...) الآية : سلى قلبه بإعراضهم عن متابعته ، مع كونه حريصا على هدايتهم ، أي : ففى الله كفاية عن كل غير وسوى.

قال القشيري : أمره أن يدعو الخلق إلى التوحيد ، ثم قال له : فإن أعرضوا عن الإجابة فكن بنا ، بنعت التجريد. ويقال : قال له : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) ، ثم أمره أن يقول : حسبى الله. قوله تعالى : (حَسْبُكَ) : عين الجمع ، وقوله : (حَسْبِيَ اللهُ) فرق ، بل هو الجمع ، أي : قل ، ولكن بنا تقول ، فنحن المتولون عنك وأنت مستهلك فى عين التوحيد ؛ فأنت بنا ، ومحو عن غيرنا. ه

وبالله التوفيق. ولاحول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم

__________________

(١) عزاه فى الفتح السماوي ، للثعلبى ، من حديث السيدة عائشة ، وقال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف : (إسناده واه) ، وقال الولي العراقي : هو منكر جدا. وقال التفتازانيّ فى حاشيته على الكشاف : هذا يخالف ما ثبت فى أحاديث صحيحة وردت فى أسباب نزول كثير من الآيات ، فإنها نزلت منفردة. وذلك يدل على أن السورة لم تنزل جملة ، ولو لم لم تكن إلا آية : «وعلى الثلاثة الذين خلفوا ..» لكفى. ه. راجع الفتح السماوي (٢ / ٧١١)

٤٤٦

سورة يونس

مكية. وهى مائة وتسع آيات. ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (١) مع قوله : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) ، فقد تعجبوا منه مع كونهم يعرفون أمانته وصدقه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢))

قلت : (عجبا) خبر كان ، واسمها : (أن أوحينا) ، ومن قرأ بالرفع فالأمر بالعكس ، أو كان تامة ، واللام متعلقة بعجبا ، وهو مصدر للدلالة على أنهم جعلوه أعجوبة لهم ، يتوجهون نحوه بإنكارهم واستهزائهم.

قال في المغني : المصدر الذي ليس فى تقدير حرف الموصول وصلته لا يمنع التقديم عليه ، على أن السعد قال فى المطوّل : إن معمول المصدر إذا كان ظرفا أو شبهه ، الأظهر أنه جائز التقديم ، قال تعالى : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) (٢) ، (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) (٣) ومثل هذا كثير فى الكلام ، وليس كل ما أول بشىء حكمه حكم ما أول به ، مع أن الظرف مما يكيفه رائحة الفعل ؛ لأن له شأنا ليس لغيره ؛ لتنزله من الشيء منزلة نفسه ؛ لوقوعه فيه وعدم انفكاكه عنه ، ولهذا اتسع فى الظروف ما لم يتسع فى غيرها. ه.

يقول الحق جل جلاله : أيها الرسول المجتبى المختار (تِلْكَ) الآيات التي تنزل عليك هى (آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) ، الذي اشتمل على الحكم الباهرة والعبر الظاهرة ، أو المحكم الذي لم ينسخ منه شىء بكتاب آخر بعده ، أو كلام حكيم. (أَكانَ لِلنَّاسِ) أي : كفار قريش وغيرهم (عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) ولم يكن من عظمائهم؟ والاستفهام للإنكار ، والرد على من استبعد النبوة ، أو تعجب من أن يبعث الله رجلا من وسط الناس.

__________________

(١) الآية ١٢٨ من سورة التوبة.

(٢) من الآية ١٠٢ من سورة الصافات.

(٣) من الآية ٢ من سورة النور.

٤٤٧

قيل : كانوا يقولون : العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبى طالب. وهذا من فرط حماقتهم ، وقصور نظرهم على الأمور العاجلة ، وجهلهم بحقيقة الوحى والنبوة.

هذا .. وأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يكن يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه ، إلا فى المال ، وخفة الحال أعون شىء فى هذا الباب ، ولذلك كان أكثر الأنبياء قبله كذلك ـ أي : خفافا من المال ـ وقيل : تعجبوا من أنه بعث بشرا رسولا ، كما سبق فى سورة الأنعام. قاله البيضاوي.

ثم فسّر الوحى المذكور فقال : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أي : أوحينا إليه بأن أنذر الناس أي : خوفهم من غضب ربهم ، (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) ، عمم الإنذار ، إذ ليس من أحد إلا وفيه ما ينبغى أن ينذر منه ، وخصص البشارة إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به ، قاله البيضاوي.

أي : بشر المؤمنين بأنّ (لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : سابقة ومنزلة رفيعة ، سميت قدما لأن السبق يكون بها ، كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد ، وأضيفت إلى الصدق لتحققها وللتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية. قال ابن جزي : أي : عمل صالح قدموه ، وقال ابن عباس : السعادة السابقة لهم فى اللوح المحفوظ. ه وقال ابن عطية : والصدق فى هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول : رجل صدق ورجل سوء. ه.

(قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا) الكتاب ، أو ما جاء به الرسول ، (لَسِحْرٌ) (١) (مُبِينٌ) أي : بيّن ظاهر ، وقرأ ابن كثير والكوفيون : (لَساحِرٌ) ، على أن الإشارة إلى الرسول ، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول أمورا خارقة للعادة ، معجزة لهم عن المعارضة ، وكلامهم هذا يحتمل أن يكون تفسيرا لما ذكره قبل من تعجبهم ، أو يكون مستأنفا.

الإشارة : تعجب الناس من أهل الخصوصية سنة ماضية ، فكما خفى عن أعين الكفار سر النبوة ، خفى عن أعين الخفافيش سر الخصوصية ، فلا يطلع عليها إلا من سبق له قدم صدق عند ربه ، فسبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية ؛ فلم يدل عليها إلا من أراد أن يوصله إلى مشاهدة عظمة الربوبية.

قال فى لطائف المنن : فأولياء الله أهل كهف الإيواء ، فقليل من يعرفهم ، وسمعت الشيخ أبا العباس رضى الله عنه يقول : معرفة الولي أصعب من معرفة الله ، فإنّ الله تعالى معروف بكماله وجماله ، ومتى تعرف مخلوقا مثلك يأكل كما تأكل ، ويشرب كما تشرب؟ ، وإذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته ، وأشهدك وجود خصوصيته. ه.

__________________

(١) قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي «لساحر» بالألف وكسر الحاء. وقرأ الباقون «لسحر» بغير ألف ، إشارة إلى الوحى ـ انظر الإتحاف (٢ / ١٠٤).

٤٤٨

ثم فسر عظمة ربوبيته ، فقال :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ رَبَّكُمُ) الذي يستحق العبادة وحده هو (اللهُ) الذي أظهر الكائنات من العدم إلى الوجود ، وبه رد على من أنكر النبوة ، كأنه يقول : إنما أدعوكم إلى عبادة الله الذي خلق الأشياء ، فكيف تنكرون ذلك وهو الحق المبين؟ ثم فصّل ذلك فقال : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) التي هى أصول الكائنات ، (فِي) مقدار (سِتَّةِ أَيَّامٍ) من أيام الدنيا ، ولم يكن حينئذ ليل ولا نهار ، والجمهور : أن ابتداء الخلق يوم الأحد. وفى حديث مسلم : يوم السبت ، وأنه خلق الأرض ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) استواء يليق به ، كاستواء الملك على سريره ليدبر أمر مملكته ، ولذلك رتب عليه : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ، وقد تقدم الكلام عليه فى الأعراف (١).

قال البيضاوي : يدبر أمر الكائنات على ما تقتضيه حكمته ، وسبقت به كلمته ، بتحريك أفلاكها ، وتهيىء أسبابها ، والتدبير : النظر فى عواقب الأمور لتجىء محمودة العاقبة. ه.

(ما مِنْ شَفِيعٍ) تقبل شفاعته (إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) له فى الشفاعة ، وهو تقرير لعظمته وعزة جلاله ، ورد على من يزعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله ، وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له ، كالأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء. (ذلِكُمُ اللهُ) أي : الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية هو (اللهُ رَبُّكُمْ) لا غير ؛ إذ لا يشاركه أحد فى شىء من ذلك ، (فَاعْبُدُوهُ) : أفردوه بالعبادة (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي : تتفكرون أدنى تفكر ، فتعرفون أنه المستحق للربوبية والعبادة ، لا ما تعبدونه من الأصنام.

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) بالبعث (جَمِيعاً) فيجازيكم على أعمالكم ، ويعاقبكم على شرككم ، (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) : مصدر مؤكد لنفسه ؛ لأن قوله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) وعد من الله. (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) بإظهاره فى الدنيا (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد إهلاكه فى الآخرة. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ، تعليل للعودة ؛ وهى البعثة ،

__________________

(١) راجع تفسير الآية : ٥٤ من سورة الأعراف.

٤٤٩

وقوله : (بِالْقِسْطِ) أي : بالعدل ؛ بأن يعدل فى جزائهم ، فلا يظلم مثقال ذرة ، أو بعدلهم وقيامهم على العمل فى أمورهم ، أو بإيمانهم ؛ لأنه العدل القويم ، كما أن الشرك ظلم عظيم. وهو الأوجه لمقابلة قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ) بسبب كفرهم وشركهم ـ الذي هو الظلم العظيم ـ لكنه غيّر النظم للمبالغة فى استحقاقهم العذاب والتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة ، وأما العقاب فإنما هو واقع بالعرض ، وأنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه ، ولذلك لم يعينه ، وأما عقاب الكفرة فإنه إنما ساقه إليهم سوء اعتقادهم وشؤم أفعالهم.

والآية كالدليل لقوله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) ، فإنه لمّا كان المقصود من الإبداء والإعادة مجازاة الله المكلفين على أعمالهم ، كان مرجع الجميع إليه لا محالة ، ويؤيده قراءة من قرأ : «أنه يبدأ» بالفتح ، أي : لأنه ، ويجوز أن يكون منصوبا بما نصب «وعد الله». قاله البيضاوي.

الإشارة : تقدم بعض إشارة هذه الآية فى الأعراف ، وقال الورتجبي هنا : جعل العرش مرآت تجلى قدسه ومأوى أرواح أحبابه لقوله : (ثُمَّ اسْتَوى ...) الآية ، ثم قال : ثم دعاهم إلى عبادته بعد معرفته بقوله : (فَاعْبُدُوهُ). وقال القشيري : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) تعريف ، وقوله : (فَاعْبُدُوهُ) تكليف ، فحصول التعريف بتحقيقه ، والوصول إلى ما ورد به التكليف بتوفيقه. ه. وقال فى قوله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) : الرجوع يقتضى ابتداء ، والأرواح قبل حصولها فى الأشباح كان لها فى مواطن التسبيح والتقديس إقامة ، والغائب إذا رجع إلى وطنه من سفره فلقدومه أثر عند محبّيه وذويه ، وأنشدوا :

أيا قادما من سفرة الهجر مرحبا

أنا ذاك لا أنساك ما هبّت الصّبا. ه.

وفى الإحياء : كل من نسى الله أنساه ـ لا محالة ـ نفسه ، ونزل إلى رتبة البهائم ، وترك الترقي إلى أفق الملأ الأعلى ، وخان فى الأمانة التي أودعها له تعالى ، وأنعم بها عليه ، وكان كافرا لنعمته ، ومتعرضا لنقمته ؛ فإن البهيمة تتخلص بالموت ، وأما هذا فعنده أمانة سترجع ـ لا محالة ـ إلى مودعها ، فإليه مرجع الأمانة ومصيرها ، وتلك الأمانة كالشمس الزاهرة ، وإنما هبطت إلى هذا القالب الفاني وغربت فيه ، وستطلع هذه الشمس عند خراب هذا القالب من مغربها ، وتعود إلى بارئها وخالقها ، إما مظلمة منكسة ، وإما زاهرة مشرقة ، والزاهرة المشرقة غير محجوبة عن حضرة الربوبية ، والمظلمة أيضا راجعة إلى الحضرة ؛ إذ المرجع ومصير الكل إليه ، إلّا أنها ناكسة رؤوسها عن جهة أعلى عليين ، إلى جهة أسفل سافلين ، ولذلك قال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (١) فبيّن أنهم عند ربهم منكسون منحوسون ، قد انقلبت وجوههم إلى أقفيتهم ، وانتكست رؤوسهم عن جهة فوق إلى جهة أسفل ، وذلك حكم الله تعالى فيمن حرمه توفيقه ، ولم يهده طريقه ، فنعوذ بالله من الضلال والنزول فى منازل الجهال. ه.

__________________

(١) من الآية ١٢ من سورة السجدة.

٤٥٠

قلت : ظاهر كلامه : أن الروح لا ترجع إلى وطنها وتتصل بحضرة ربها إلا بعد خراب هذا البدن ، والحق أنها ترجع لأصلها ، وتتصل بحضرة ربها مع قيام هذا البدن ؛ إذا كمل تطهيرها وتمت تصفيتها من بقايا الحس ، وانقطع عنها علائق هذا العالم الجسماني ، فتتصل حينئذ بالعالم الروحاني ، مع قيام العالم الجسماني ، كما هو مقرر عند أهل التحقيق ، والله تعالى أعلم.

ثم ذكر حكمة إيجاد النيرين ، فقال :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨))

قلت : «ضياء» : مفعول ثان ، أي : ذات ضياء ، وهو مصدر كقيام ، أو جمع ضوء كسياط ، والياء منقلبة عن الواو ، وفى رواية عن ابن كثير بهمزتين فى كل القرآن على القلب ، بتقديم اللام على العين ، والضمير فى «قدره» للشمس والقمر ، كقوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (١) ، أو للقمر فقط.

يقول الحق جل جلاله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) أي : ذات ضوء وإشراق أصلى ، (وَالْقَمَرَ نُوراً) أي : ذا نور عارض ، مقتبس من نور الشمس عند مقابلته إياها ، ولذلك يزيد نوره وينقص ، فقد نبه سبحانه بذلك على أنه خلق الشمس نيرة فى ذاتها ، والقمر نورا بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها ، فالنور أعم من الضياء ، والضياء أعظم من النور. (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) أي : قدر سير كل واحد منهما منازل ، أو القمر فقط ، وخصصه بالذكر لسرعة سيره ، ومعاينة منازله ، وإناطة أحكام الشرع به. ولذلك علله بقوله : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي : حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالى فى معاملتكم وتصرفاتكم :

(ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ) الذي تقدم من أنواع المخلوقات (إِلَّا بِالْحَقِ) أي : ملتبسا بالحق ، مراعيا فيه مقتضى الحكمة البالغة ، لا عبثا عاريا عن الحكمة ، أو ما خلق ذلك إلا ليعرف فيها ، فما نصبت الكائنات لتراها ، بل لترى

__________________

(١) من الآية ٦٢ من سورة التوبة.

٤٥١

فيها مولاها. وقال الشيخ أبو العباس المرسى رضى الله عنه : الحق الذي خلق الله به كل شىء كلمة «كن». قال سبحانه : (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ) (١). ه. وهو بعيد هنا.

(يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٢) فإنهم المنتفعون بالنظر فيها والاعتبار بها.

ثم بيّن وجه الاعتبار فقال : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : تعاقبهما بالذهاب والمجيء ، أو بالزيادة والنقصان ، (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من أنواع الكائنات وضروب المخلوقات ، (لَآياتٍ) دالة على وجود الصانع ووحدته ، وكمال علمه وقدرته ، (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) الله ، ويخشون العواقب ، فإن ذلك يحملهم على التفكر والتدبر ، بخلاف المنهمكين فى الغفلة والمعاصي ، الذين أشار إليهم بقوله :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي : لا يتوقعونه ، أو : لا يخافون بأسه لإنكارهم البعث ، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها ، (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) : قنعوا بها بدلا من الآخرة لغفلتهم عنها ، (وَاطْمَأَنُّوا بِها) أي : سكنوا إليها مقصرين هممهم على لذائذها وزخارفها ، وسكنوا فيها سكون من يظن أنه لا ينزعج عنها. (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا) المتقدمة الدالة على كمال قدرتنا ، (غافِلُونَ) : لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون ؛ لانهماكهم فى الغفلة والذنوب.

قال البيضاوي : والعطف إما لتغاير الوصفين ، والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا ، والانهماك فى الشهوات ، بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلا ، وإما لتغاير الفريقين ، والمراد بالأولين : من أنكر البعث ولم يرد إلّا الحياة الدنيا ، وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل فى الآجل والإعداد له. ه.

(أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي : بما واظبوا عليه وتمرنوا به من المعاصي. قال ابن عطية : وفى هذه اللفظة رد على الجبرية ، ونص على تعلق العقاب بالتكسب. ه.

الإشارة : هو الذي جعل شمس العيان مشرقة فى قلوب أهل العرفان ، لا غروب لها مدى الأزمان ، وجعل قمر توحيد الدليل والبرهان نورا يهتدى به إلى طريق الوصول إلى العيان ، وقدّر السير به منازل ـ وهى مقامات اليقين ومنازل السائرين ـ ينزلون فيها مقاما إلى صريح المعرفة ، وهى التوبة والخوف ، والرجاء والورع ، والزهد والصبر ، والشكر والرضى والتسليم والمحبة ، والمراقبة والمشاهدة. ما خلق الله ذلك إلا بالحق ، ليتوصل به إلى الحق. إن فى اختلاف ليل القبض ونهار البسط على قلب المريد لآيات دالة له على السير ، لقوم يتقون السّوى ، أو شواغل الحس.

__________________

(١) من الآية ٧٣ من سورة الأنعام.

(٢) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص ويعقوب بياء الغيب (يفصل). والباقون بنون العظمة (نفصل) انظر الإتحاف (٢ / ١٠٤).

٤٥٢

إن الذين لا يرجون الوصول إلينا لقصر همتهم ، ورضوا بالحياة الدنيا وشهواتها ، واطمأنوا بها ولم يرحلوا عنها ، إذ لا يتحقق سير السائرين إلا بمجاهدة تركها والرحيل بالقلب عنها ، والذين هم عن آياتنا غافلون ؛ لانهماكهم فى الهوى والحظوظ ، أولئك مأواهم نار القطيعة وغم الحجاب ، بما كانوا يكسبون من الاشتغال بالحظوظ والشهوات. وبالله التوفيق.

ثم ذكر أضدادهم ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠))

قلت : (تجرى) : جملة استئنافية ، أو خبر ثان لإنّ ، أو حال من الضمير المنصوب فى (يَهْدِيهِمْ). و (دعواهم) : مبتدأ ، و (سبحانك) : مقول للخبر ـ أي : قولهم سبحانك. والتحية مأخوذة من تمنى الحياة والدعاء بها ، يقال : حياه تحية ، ويقال للوجه : محيا لوقوع التحية عند رؤيته ، و (آخر) : مبتدأ ، و (أن الحمد لله) : خبر ، وأن مخففة.

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) أي : يسددهم (بِإِيمانِهِمْ) ؛ بسبب إيمانهم إلى الاستقامة والنظر ، أو إلى سلوك سبيل يؤدى إلى الجنة ، أو إلى إدراك الحقائق العرفانية ، كما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم» ، أو لما يشتهونه فى الجنة ، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) الأربعة ، (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ، (دَعْواهُمْ فِيها) أي : دعاؤهم فيها : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) أي : اللهم إنا نسبحك تسبيحا. وروى : أن هذه الكلمة هى ثمر أهل الجنة ، فإذا اشتهى أحدهم شيئا قال : سبحانك اللهم ، فينزل بين يديه. رواه ابن جريج وسفيان بن عيينة.

(وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي : ما يحيى به بعضهم بعضا ، أو تحية الملائكة إياهم ، أو تسليم الله تعالى عليهم فيها سلام ، (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : وخاتمة دعائهم فى كل موطن حمده تعالى وشكره. والمعنى : أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمته وكبرياءه مجّدوه ونعتوه بنعوت الجلال ، وقدّسوه عند مشاهدته عن كل تماثيل وخيال ، فحيّاهم بسلام من عنده ، وعند ما منحهم سلامه وأحلّ عليهم رضوانه ، وأدام لهم كرامته وجواره ، وأراهم وجهه ، حمدوه بما حمد به نفسه ، فكانت بدايتهم بالتنزيه والتعظيم ، وخاتمة دعائهم فى كل موطن حمده وشكره على ما مكنهم فيه ، من رؤية وجهه الكريم ، ودوام النعيم المقيم ، وسمى دعاء لأنه يستدعى المزيد من فضله. قاله المحشى.

٤٥٣

الإشارة : إن الذين استكملوا الإيمان ، وأخلصوا الأعمال ، يهديهم ربهم إلى من يوصلهم إلى جنة حضرته ، ببركة إيمانهم ، تجرى من تحت أفكارهم أنهار العلوم ، فى جنات مشاهدة طلعته ، والتنعم بأنوار معرفته ، فإذا عاينوا ذلك أدهشتهم الأنوار ، فبادروا إلى التنزيه والتقديس ، فيجيبهم الحق تعالى بإقباله عليهم بأنوار وجهه ، وأسرار ذاته ، فيحمدونه ويشكرونه على ما أولاهم من سوابغ نعمته ، والسكون فى جوار حضرته ، منحنا الله من ذلك الحظ الأوفر ، آمين.

ولمّا تعجب الكفار من بعث الرسول منهم ، وكفروا به ، استعجلوا ما خوفهم به من العذاب ، فأنزل الله جوابا لهم :

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١))

قلت : (استعجالهم) : نصب على المصدر ، أي : استعجالا مثل استعجالهم بالخير. قال البيضاوي : وضع موضع تعجيله لهم بالخير إشعارا بسرعة إجابته لهم فى الخير ، حتى كأن استعجالهم به تعجيل لهم. ه. (فنذر) : عطف على فعل محذوف دلت عليه الشرطية ، كأنه قيل : ولكن لا نعجل ولا نقضى بل نمهلهم فنذر .. إلخ.

يقول الحق جل جلاله : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) حيث يطلبونه ، كقولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١) ، (ائْتِنا بِما تَعِدُنا) (٢) (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) ؛ كما يعجل الله لهم الخير حين يسألونه (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي : لأميتوا وأهلكوا من ساعتهم ، وقرأ ابن عباس ويعقوب : «لقضى» بالبناء للفاعل ، أي : لقضى الله إليهم أجلهم ، ولكن من حلمه تعالى وكرمه يمهلهم إلى تمام أجلهم ، (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) استدراجا وإمهالا (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) : يتحيرون. والعمه : الخبط فى الضلال ، وهذا التفسير أليق بمناسبة الكلام. وقيل : نزلت فى دعاء الإنسان على نفسه وماله وولده بالشر ، أي : لو عجل الله للناس الشر كما يحبون تعجيل الخير لهلكوا سريعا ، فهو كقوله (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) (٣) ويكون قوله : (فَنَذَرُ ....) إلخ استئنافا. والله تعالى أعلم.

الإشارة : من حلمه تعالى وسعة جوده أنه لا يعامل عبده بما يستحقه من العقاب ، ولا يعاجله بما يطلبه إن لم يكن فيه سداد وصواب ، حكى أن رجلا قال لبعض الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ : قل لربى : كم أعصيه وأخالفه ولم يعاقبنى ، فأوحى الله إلى ذلك النبي : ليعلم أنى أنا وأنت أنت. ه. بل من عظيم كرمه تعالى أنه قد يعامل

__________________

(١) الآية ٣٢ من سورة الأنفال.

(٢) من الآية ٧٧ من سورة الإسراء.

(٣) من الآية ١١ من سورة الإسراء.

٤٥٤

السائرين بعكس ما يستحقونه فى جانب المخالفة ؛ فقد تهوى بهم أنفسهم إلى مقام الخفض فيرتفعون ، وإلى مقام البعد فيقتربون ، وهذا فى قوم سبقت لهم العناية ، فلم تضرهم الجناية ، وحفت بهم الرعاية ، فلم تستهوهم الغواية ، إذا صدرت منهم المخالفة ندموا وانكسروا. والغالب فيمن كان تحت جناح الأولياء الكبار أن يسلك به هذا المسلك العظيم وما ذلك على الله بعزيز.

وإذا كان الحق تعالى يعجل الخير ويمهل الشر ، كان الواجب على العبد شكره على الدوام ، لا الإعراض عنه ونسيانه ، كما نبه عليه تعالى بقوله :

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢))

قلت : (لجنبه) : متعلق بحال محذوفة ، أي : مضطجعا لجنبه ، و (كأن) مخففة

يقول الحق جل جلاله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ) فى بدنه أو ماله أو أحبابه ، (دَعانا) لإزالته مخلصا فيه ، وتضرع إلينا حال كونه مضطجعا (لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) ، وفائدة الترديد تقسيم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف المضار ، (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ) أي : مضى على طريقه واستمر على كفره ، ولم يشكر الله على دفعه ، أو مرّ عن موقف الدعاء ، ولم يرجع إليه. (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا) أي : كأنه لم يدعنا (إِلى) كشف (ضُرٍّ مَسَّهُ) قط (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) (١) (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ) أي : مثل هذا التزيين زين للمسرفين (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الانهماك فى الشهوات ، والإعراض عن شكر المنعم عند المسرات وذهاب العاهات.

وفى الآية تهديد لمن تشبه بهذه الحالة ، بل الواجب على العبد دوام التجائه إلى ربه ، والشكر له عند ظهور إجابته وإسدال عافيته.

الإشارة : من حسن الأدب ؛ السكون تحت مجارى الأقدار ، والتسليم لأحكام الواحد القهار ، «فليس الشأن أن ترزق الطلب ، إنما الشأن أن تزرق حسن الأدب» ، وحسن الأدب : هو الفهم عن الله ؛ فإذا شرح صدرك للدعاء ، فادع ولا تكثر ، فإن المدعو قريب ، ليس بغافل فينبه ، ولا ببعيد فتنادى عليه ، فإذا دعوته وأجابك فاشكره ، وإن أخّر عنك

__________________

(١) الآية ٨ من سورة الزمر.

٤٥٥

الإجابة فاصبر ؛ فقد ضمن الإجابة فيما يريد ، لا فيما تريد ، وفى الوقت الذي يريد لا فى الوقت الذي تريد. والله تعالى أعلم.

ثم هدد من أساء الأدب ، فقال :

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤))

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يا أهل مكة ، (لَمَّا ظَلَمُوا) بالكفر وتكذيب الرسل ، (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) : بالمعجزات الواضحات ، الدالة على صدقهم ، (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي : ما استقام لهم أن يؤمنوا ، لما سبق لهم من الشقاء ولفساد استعدادهم ، أو ما كانوا ليؤمنوا بعد أن هلكوا لفوات محله ، (كَذلِكَ) أي : مثل ذلك الجزاء ـ وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم الرسل وإصرارهم عليه ، بحيث تحقق أنه لا فائدة فى إمهالهم ـ (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي : نجزى كل مجرم ، أو نجزيهم ، ووضع المظهر موضع المضمر ؛ للدلالة على كمال جرمهم ، وأنهم أعلام فيه. قاله البيضاوي.

(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ) يا أمة محمد (خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد إهلاكهم ، فقد استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها ، استخلاف من يختبر (لِنَنْظُرَ) أي : لنظهر ما سبق به العلم ، فيتبين فى الوجود ، (كَيْفَ تَعْمَلُونَ) ، أخيرا أم شرا؟ فنعاملكم على مقتضى أعمالكم.

وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول : «إنما جعلنا خلفا لينظر كيف عملنا ، فأروا الله حسن أعمالكم فى السر والعلانية ، وكان أيضا يقول : (قد استخلفت يا ابن الخطاب ، فانظر كيف تعمل).

الإشارة : ما هلك من هلك إلا لإخلاله بالشرائع أو بالحقائق ، فالشرائع ، صيانة للأشباح ، والحقائق صيانة للأرواح ، فمن قام بالشرائع كما ينبغى صان نفسه من الآفات الدنيوية والأخروية ، ومن قام بالحقائق على ما ينبغى ، صان روحه من الجهل بالله فى هذه الدار ، وفى تلك الدار ، ومن قام بهما معا صان جسمه وروحه ، وكان من المقربين ، ومن قام بالشرائع دون الحقائق صان جسمه وترك روحه معذبة فى هذه الدار بالخواطر والوساوس والأوهام ، وفى تلك الدار بالبعد والمقام مع العوام. ومن قام بالحقائق دون الشرائع فإن كان دعوى عذب جسمه وروحه لزندقته ، وإن كان حقا عذب جسمه هنا بالقتل ، كما فعل بالحلاج ، والتحق بالمقربين فى تلك الدار.

٤٥٦

ويقال لأهل كل عصر : ولقد أهلكنا القرون من قبلكم بالبعد وغم الحجاب ، لما ظلموا بالوقوف مع الحظوظ والشهوات ، وجاءتهم رسلهم التي توصلهم إلى ربهم ـ وهم أولياء زمانهم ـ بالآيات الواضحة على صدقهم ، ولو لم يكن إلا هداية الخلق على يديهم ـ فأنكروهم ، وما كانوا ليؤمنوا بهم لما سبق لهم من البعد ، ثم جعلناكم خلائف فى الأرض من بعدهم ، لننظر كيف تعملون مع شيوخ التربية فى زمانكم ، هل تنكرونهم أو تقرونهم. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر حال أهل الإنكار ، فقال :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦))

يقول الحق جل جلاله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) يعنى كفار قريش (آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) من المشركين (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) أي : بكتاب آخر ليس فيه ما نستبعده من البعث والحساب ، والعقاب بعد الموت ، أو ما ذكره من سب آلهتنا ، وعيب ديننا ، أو اجعل هذا الكلام الذي من قبلك على اختيارنا ، فأحل ما حرمته ، وحرم ما أحللته ؛ ليكون أمرنا واحدا وكلمتنا متصلة ، (أَوْ بَدِّلْهُ) بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى.

(قُلْ) لهم يا محمد : (ما يَكُونُ) : ما يصح (لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) : من قبل نفسى ، وإنما اكتفى بالجواب المذكور عن التبديل ؛ لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر ، قل لهم : (أَنْ) أي : ما (أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) ، لا أقدر أن أقول شيئا من عندى. قال البيضاوي : هو تعليل لما يكون ، فإن المتبع لغيره فى أمر لم يستبد بالتصرف فيه بوجه ، وجواب للنقض بنسخ بعض الآيات لبعض ، ورد لما عرّضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه واختراعه ، ولذلك قيد التبديل فى الجواب وسماه عصيانا فقال : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يوم القيامة ، وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح. ه.

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما) أرسلنى إليكم ، ولا (تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ، وَلا أَدْراكُمْ) أي : أعلمكم (بِهِ) على لسانى. وفى قراءة ابن كثير : «ولأدراكم» ، بلام التأكيد ، أي : لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيرى.

٤٥٧

والمعنى أنه الحق لا شك فيه ، لو لم أرسل به أنا لأرسل به غيرى. وحاصل المعنى : أن الأمر بمشيئة الله لا بمشيئتى ، حتى أجعله على نحو ما تشتهون. ثم قرر ذلك بقوله : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً) منذ أربعين سنة (مِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل نزول هذا القرآن ، لا أتلوه ولا أعلم منه شيئا ، وفيه إشارة إلى أن القرآن معجز خارق للعادة ، فإن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يدرس فيها علما ، ولا يشاهد عالما ، ولم ينشد قريضا ـ أي شعرا ـ ولا خطبة ، ثم قرأ عليهم كتابا أعجزت فصاحته كل منطيق ، وفاق كل منظوم ومنثور ، واحتوى على قواعد علمى الأصول والفروع ، وأعرب عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين على ما هى عليه ، علم أنه معلم به من عند الله. قاله البيضاوي.

فكل من له عقل سليم أدرك حقّيته ، ولذلك قرعهم بقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي : أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر ، فتعلموا أنه ليس من طوق البشر ، بل هو من عند الحكيم العليم الواحد القهار.

الإشارة : إذا ظهر أهل التربية الداعون إلى الله بطريق صعبة على النفوس ، يسيرون الناس عليها ، كخرق العوائد وتخريب الظواهر والتجريد ، قال من لا يرجو الوصول إلى الله ـ لغلبة الهوى عليه : ائتونا بطريق غير هذا لنتبعكم عليه ، يكون سهلا على النفوس ، موافقا لعوائدنا ، أو بدلوا هذا بطريق أسهل ، وأما هذا الذي أتيتم به ، فلا نقدر عليه ، وربما رموه بالبدعة ، فيقولون لهم : ما يكون لنا أن نبدله من تلقاء أنفسنا ، إن نتبع إلا ما سلك عليه أشياخنا وأشياخهم ، فما ربّونا به نربّى به من تبعنا ، فإن خالفنا طريقهم خفنا من عقاب الله ، حيث غششنا من اتبعنا ، وقد مكثنا معكم قبل صحبة أشياخنا سنين ، فلم تروا علينا شيئا من ذلك حتى صحبناهم ، فدل ذلك على أنه موروث عن أشياخهم وأشياخ أشياخهم ، أفلا تعقلون؟.

ثم سجل بالظلم على من كذب أو كذّب ، فقال :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨))

يقول الحق جل جلاله : (فَمَنْ أَظْلَمُ) لا أحد أظلم (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن تقوّل على الله ما لم يقل ، وهذا بيان لبراءته مما اتهموه به من اختراعه القرآن ، وإشارة إلى كذبهم على الله فى نسبة الشركاء له

٤٥٨

والولد ، (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) فكفر بها ، فلا أظلم منه (إِنَّهُ) أي : الأمر والشأن (لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) أي : لا يظفرون ببغيتهم ، ولا تنجح مساعيهم ؛ لاشراكهم بالله. كما قال تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) من الجمادات التي لا تقدر على ضر ولا نفع ، والمعبود ينبغى أن يكون مثيبا ومعاقبا حتى تكون عبادته لجلب نفع أو دفع ضر. (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ) الأوثان (شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا ، أو فى الآخرة إن يكن بعث ، وكأنهم كانوا شاكين فيه ، وهذا من فرط جهالتهم ، حيث تركوا عبادة الموجد للأشياء ، الضار النافع ، إلى عبادة ما يعلم قطعا أنه لا يضر ولا ينفع. (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ) أتخبرونه (بِما لا يَعْلَمُ) وجوده (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) وهو أن له شريكا فيهما يستحق أن يعبد. وفيه تقريع وتهكم بهم.

قال ابن جزى : هو رد عليهم فى قولهم بشفاعة الأصنام ، والمعنى : أن شفاعة الأصنام ليست بمعلومة لله الذي هو عالم بما فى السموات والأرض ، وكل ما ليس بمعلوم له فهو عدم محض ، ليس بشىء ، فقوله : (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ) تقرير لهم على وجه التوبيخ والتهكم ، أي : كيف تعلمون الله بما لا يعلم. ه. قال ابن عطية : وفى التوقيف على هذا أعظم غلبة لهم ، إذ لا يمكنهم إلا أن يقولوا : لا نفعل ولا نقدر أن نخبر الله بما لا يعلم.

ثم نزّه نفسه عن ذلك فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى) أي : تنزيها له وتعاظم (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : إشراكهم ، أو عن الشركاء الذين يشركونهم معه. وقرأ الأخوان : بالتاء ، أي : عما تشركون أيها الكفار.

الإشارة : فى هذه الآية زجر كبير لأهل الدعوى ، الذين ادعوا الخصوصية افتراء ، ولأهل الإنكار الذين كذبوا من ثبتت خصوصيته ، وتسجيل عليهم بالإجرام ، وبعدم النجاح والفلاح ، وفيها أيضا : زجر لمن اعتمد على مخلوق فى جلب نفع أو دفع ضر ، أو اغتر بصحبة ولى يظن أنه يشفع له مع إصراره وعظيم أوزاره. والله تعالى أعلم.

ثم إن اختلاف الناس على الأنبياء وتكذيبهم وإشراكهم ؛ إنما هو أمر عارض ، حصل لهم باندراس العلم وقلة الإنذار ، كما قال تعالى :

(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩))

يقول الحق جل جلاله : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) موحّدين ، على الفطرة الأصلية ، أو متفقين على الحق ، وذلك فى عهد آدم ، إلى أن قتل قابيل أخاه هابيل ، أو بعد الطوفان إلى زمان اختلافهم ، أو الأرواح

٤٥٩

حيث استخرجهم واستشهدهم ، فاتفقوا على الإقرار ، ثم اختلفوا فى عالم الأشباح باتباع الهوى والأباطيل ، أو ببعثة الرسل فتبعتهم طائفة وكفرت أخرى. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) فى اللوح المحفوظ ، بتأخير الحكم ، أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة ، فإنه يوم الفصل والجزاء ، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) عاجلا (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بإهلاك المبطل وإبقاء المحق.

الإشارة : اختلاف الناس على الأولياء كاختلافهم على الأنبياء ، أمر سبق به الحكم الأزلى لا محيد عنه ، فمن طلب اتفاقهم عليه فهو جاهل بالله وبطريق أهل الله. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر اقتراحهم الآيات ، فقال :

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠))

يقول الحق جل جلاله : (وَيَقُولُونَ) ؛ يقول الكفار : (لَوْ لا) ؛ هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) ظاهرة (مِنْ رَبِّهِ) تدل على صدقه ، يعاينها الناس كلهم ، فتلجئهم إلى الإيمان به ، وهذا الأمر على هذا الوجه لم يكن لنبى قط ، إنما كانت الآية تظهر معرّضة للنظر ، فيهتدى بها قوم ، ويكفر بها آخرون ، (فَقُلْ) لهم : (إِنَّمَا) علم (الْغَيْبُ لِلَّهِ) مختص به ، فلم أطّلع عليه حتى أعلم وقت نزولها ، ولعله علم ما فى نزولها من الضرر لكم فصرفها عنكم ، (فَانْتَظِرُوا) نزول ما اقترحتموه ، (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لذلك ، وهذا وعد قد صدقه الله بنصرته ـ عليه الصلاة السلام ـ وأخذهم ببدر وغيره ، أو من المنتظرين لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات.

الإشارة : ما زالت العامة تطلب من مشايخ التربية الكرامات ، فجوابهم ما قال تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قل إنما الغيب لله) فانتظروا ما يظهر على أيديهم من الهداية والإرشاد ، وإحياء البلاد والعباد بذكر الله ، وهذا أعظم الكرامة ، فإن إخراج الناس عن عوائدهم وعن دنياهم خارق للعادة ، سيما فى هذا الزمان الذي احتوت فيه الدنيا على القلوب ، فلا ترى عالما ولا صالحا ولا منتسبا إلا وهو مغروق فى بحر ظلماتها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم ذكر جزئيات من الآيات لمن فهم واعتبر ، فقال :

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ

٤٦٠