البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٩

يقول الحق جل جلاله : (فَلا تَكُ) يا محمد (فِي مِرْيَةٍ). فى شك (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) المشركون ، أي : لا تشك فى فساد ما هم فيه ، بعد ما أنزل عليك من حال الناس ، وتبيين ما لأهل السعادة الموحدين ، مما لأهل الشقاء المشركين ، (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) ، وهو تعليل للنهى ، أي : ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم. أو ما يعبدون شيئا إلا مثل ما عبد آباؤهم من الأوثان ؛ تقليدا من غير برهان ، وقد بلغك ما لحق آباءهم من العذاب فسيلحقهم مثل ذلك ؛ لاتفاقهم فى سبب الهلاك. (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) حظهم من العذاب ، كآبائهم ، (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) من نصيبهم شىء. فالتوفية لا تقتضى التمام. تقول : وفيته حقه ، وتريد وفاء بعضه. والله تعالى أعلم.

الإشارة : فلا تكن أيها العارف فى مرية مما يعبد هؤلاء العوام ، من جمع الدنيا ، والتكاثر منها ، وصرف الهمة إلى تحصيلها ، واستعمال الفكر فى أسباب جمعها ، وانهماك النفس فى حظوظها وشهواتها. ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل ، ممن سلك هذا المسلك الذميم ، وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ، بانحطاط درجتهم عن درجة المقربين. قال بعض الحكماء : دار الدنيا كأحلام المنام ، وسرورها كظل الغمام ، وأحداثها كصوائب السهام ، وشهواتها : كمشرب الشمام ، وفتنتها كأمواج الطوام. ه.

ولما ذكر رسالة موسى عليه‌السلام ، وشأن فرعون ووبال من تبعه ، ذكر نزول التوراة عليه ، فقال :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١))

قلت : (وإنّ كلّا لما ليوفينهم) : إن : مخففة عاملة ، والتنوين فى (كلّا) عوض عن المضاف. و «ما» : موصولة ، واللام : لام الابتداء ، و (ليوفينهم) : جواب لقسم محذوف ، وجملة القسم وجوابه : صلة «ما» ، أي : وإن كان الفريقين للذين ، والله ، ليوفينهم ربك أعمالهم. ومن قرأ : «لمّا» ؛ بالتشديد ، فعلى أن (إن) نافية ، و «لما» بمعنى إلا ، وقيل : غير هذا.

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) : التوراة ، (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) ؛ فآمن به قوم وكفر به قوم ، كما اختلف هؤلاء فى القرآن ، (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهى : كلمة الإنظار إلى يوم القيامة ، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بإنزال ما يستحقه المبطل من الهلاك ، ونجاة المحق. (وَإِنَّهُمْ) أي : قوم موسى ، أو كفار قومك ، (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي : التوراة ، أو من القرآن ، (مُرِيبٍ) : موقع فى الريبة. (وَإِنَّ كُلًّا) من

٥٦١

الفريقين المختلفين ، المؤمنين والكافرين ، للذين (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ) جزاء أعمالهم ، ولا يهمل منه شيئا ـ (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فلا يفوته شىء منه وإن خفى.

الإشارة : الاختلاف على الأنبياء والأولياء سنة ماضية. ولو لا أن الله سبحانه حكم فى سابق علمه أنه لا يفضح الضمائر إلا يوم تبلى السرائر ، لفضح أسرار البطالين ، وأظهر منار الذاكرين من السائرين أو الواصلين. لكنه سبحانه أخر ذلك بحكمته وحلمه ، إلى يوم الدين. والله تعالى أعلم.

ثم بيّن أصل الأعمال وأفضلها ، وهى الاستقامة ، فقال :

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥))

قلت : (ومن تاب) : عطف على فاعل (استقم) ؛ للفصل ، (فتمسّكم) : جواب النهى. ويقال : ركن يركن : كعلم يعلم ، وركن يركن : كدخل يدخل. و (ثم لا تنصرون) : مستأنف لا معطوف ، و (طرفى) : منصوب على الظرفية. و (زلفا) : جمع زلفة ، كقربة ، أزلفه : قربه.

يقول الحق جل جلاله : (فَاسْتَقِمْ) يا محمد (كَما أُمِرْتَ) ، (وَ) ليستقم (مَنْ تابَ مَعَكَ) من الكفر وآمن بك. وهى شاملة للاستقامة فى العقائد ؛ كالتوسط بين التشبيه والتعطيل ، بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين ، وفى الأعمال ؛ من تبليغ الوحى ، وبيان الشرائع كما أنزل ، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط ولا إفراط. وهى فى غاية العسر. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «شيّبتنى هود» (١). قاله البيضاوي.

قال المحشى الفاسى : واللائق أن إشفاقه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أجل أمته لا من أجل نفسه ؛ لأجل عصمته ، وإنما أشفق عليهم لتوعد اللعين لهم بقوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (٢). ه. قلت : ولا يبعد

__________________

(١) الحديث كاملا : «شيبتنى هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت». أخرجه الترمذي وحسنه فى (كتاب التفسير ـ سورة الواقعة) والحاكم فى المستدرك (٢ / ٣٤٣) وصححه ووافقه الذهبي ، وأخرجه البيهقي فى الدلائل (١ / ٣٥٧) والبغوي فى شرح السنة (١٤ / ٣٧٢) وفى التفسير ، كلهم من حديث ابن عباس رضى الله عنه.

(٢) من الآية : ١٦ من سورة الأعراف.

٥٦٢

أن يكون أشفق ـ عليه الصلاة والسلام ـ من صعوبة استقامته التي تليق به ، فبقدر ما يعلو المقام يطلب بزيادة الأدب ، وبقدر ما يشتد القرب يتوجه العتاب. ولذلك كان الحق تعالى يعاتبه على ما لا يعاتب عليه غيره. وقد قالوا : حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد تقدم كلام الإحياء فى قوله : (أَلا بُعْداً لِعادٍ) (١).

ثم قال تعالى : (وَلا تَطْغَوْا) ؛ ولا تخرجوا عما حد لكم ، (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ، فيجازيكم على النقير والقطمير ، وهو تهديد لمن لم يستقم ، وتعليل للأمر والنهى. (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) : لا تميلوا إليهم أدنى ميل ، فإن الركون : هو الميل اليسير ، كالتزيى بزيهم ، وتعظيم ذكرهم ، وصحبتهم من غير تذكيرهم ووعظهم. (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) ؛ لركونهم إليهم. قال الأوزاعى : ما من شىء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملا (٢). ه. وقال سفيان : فى جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. ه. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دعا لظالم بالبقاء ـ أي : بأن قال : بارك الله فى عمرك ـ فقد أحبّ أن يعصى الله فى أرضه» (٣) وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك فى برية ، هل يسقى شربة ماء؟ فقال : لا. فقيل له : يموت؟! فقال : دعه يموت. ه. وهذا إغراق ، ولعله فى الكافر المحارب ، والله أعلم.

قال البيضاوي : وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلما موجبا للنار ، فما ظنك بالركون إلى الظالمين الموسومين بالظلم ، ثم بالميل إليهم ، ثم بالظلم نفسه ، والانهماك فيه. ولعل الآية أبلغ ما يتصور فى النهى عن الظلم والتهديد عليه. وخطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المؤمنين بها ؛ للتثبيت على الاستقامة التي هى العدل ؛ فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفى إفراط أو تفريط ، ظلم على نفسه أو غيره ، بل ظلم فى نفسه. ه.

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) ؛ من أنصار يمنعون العذاب عنكم ، (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) : ثم لا ينصركم الله إن سبق فى حكمه أنه يعذبكم.

ولمّا كان الركون إلى الظلم ، أو إلى من تلبس به فتنة ، وهى تكفرها الصلاة ، كما فى الحديث (٤) ، أمر بها إثره ، فقال : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) غدوة وعشية ، (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) ؛ ساعات منه قريبة من النهار. والمراد بالصلاة المأمور بها : الصلوات الخمس. فالطرف الأول : الصبح ، والطرف الثاني : الظهر والعصر ، والزلف من الليل : المغرب ، والعشاء ، (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ؛ يكفرنها قال ابن عطية : لفظ الآية عام فى

__________________

(١) راجع إشارة الآيات : ٥٨ ـ ٦٠ من سورة نفسها.

(٢) المراد بالعامل هنا : الحاكم أو الوالي.

(٣) قال الحافظ العراقي فى المغني : لم أجده مرفوعا ، وإنما أورده ابن أبى الدنيا فى كتاب الصمت ، من قول الحسن البصري.

(٤) سيذكر الشيخ الحديث بعد قليل.

٥٦٣

الحسنات خاص فى السيئات ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما اجتنبت الكبائر» ، ثم قال : وروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الجمعة إلى الجمعة كفّارة ، والصّلوات الخمس ، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر» (١) انظر تمامه فى الحاشية.

قال ابن جزى : روى أن رجلا قبّل امرأة ، [قلت : هو نبهان التمار] ، فذكر ذلك للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلّى معه الصلاة ، فنزلت الآية ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أين السائل؟» فقال : ها أنا ذا ، فقال : «قد غفر الله لك بصلاتك معنا». فقال الرجل : ألى خاصّة ، أو للمسلمين عامّة؟ فقال : «للمسلمين عامّة» (٢). والآية على هذا مدنية. وقيل : إن الآية كانت قبل ذلك ، وذكرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرجل مستدلا بها. والآية على هذا مكية كسائر السورة ، وإنما تذهب الحسنات ـ عند الجمهور ـ الصغائر إذا اجتنبت الكبائر. ه. قلت : وقيل : تكفر مطلقا ؛ اجتنبت الكبائر أم لا ، وهو الظاهر ، لأنه إذا حصل اجتناب الكبائر كفرت بلا سبب ؛ لقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ....) (٣) الآية. وقوله عليه الصلاة والسلام : «ما اجتنبت الكبائر». معناه : أن الصلوات والجمعة مكفرة لما عدا الكبائر.

والحاصل : أن من اجتنب الكبائر كفرت عنه الصغائر بلا سبب ؛ لنص الآية. ومن ارتكب الكبائر والصغائر وصلى ، كفرت الصغائر دون الكبائر ، وبهذا تتفق الآية مع الحديث. والله تعالى أعلم.

قال ابن عطية فى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى ...) (٤) الآية : الشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد. وقد روى : «أن الله يتحمل عن الشهيد مظالم العباد ، ويجازيهم عنه». ختم الله لنا بالحسنى. انتهى.

(ذلِكَ) أي : ما تقدم من وعظ ووعد ووعيد ، وأمر الاستقامة ، أو القرآن كله ، (ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) : عظة للمتقين. وخص الذاكرين ؛ لمزيد انتفاعهم بالوعظ ، لصقالة قلوبهم. وفى الخبر : «لكل شىء مصقلة ، ومصقلة القلوب ذكر الله». (وَاصْبِرْ) على مشاق الاستقامة ، ودوامها (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وهم : أهل الاستقامة ظاهرا وباطنا.

الإشارة : الاستقامة على ثلاثة أقسام : استقامة الجوارح ، واستقامة القلوب ، واستقامة الأرواح والأسرار. أما استقامة الجوارح فتحصل بكمال التقوى ، وتحقيق المتابعة للسنة المحمدية. وأما استقامة القلوب

__________________

(١) أخرجه مسلم فى : (الطهارة ، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة .. مكفرات) عن أبى هريرة رضى الله عنه.

(٢) أخرجه بنحوه البخاري فى (التفسير ، سورة هود) ومسلم فى (التوبة ، باب قوله : إن الحسنات يذهبن السيئات) من حديث ابن مسعود ـ رضى الله عنه. أما قول المفسر : [هو نبهان التمار) فقد جاء فى سياق آخر ، للثعلبى فى تفسيره ، وقال الحافظ ابن حجر فى الفتح ٨ / ٢٠٧ : وهذا إن ثبت حمل على واقعة أخرى ، لما بين السياق من المغايرة.

(٣) من الآية : ٣١ من سورة النساء.

(٤) من الآية : ١١١ من سورة التوبة.

٥٦٤

فتحصل بتطهيرها من سائر العيوب ، كالكبر والعجب ، والرياء ، والسمعة ، والحقد والحسد ، وحب الجاه والمال ، وما يتفرع عن ذلك من العداوة والبغضاء ، وترك الثقة بمجىء الرزق ، وخوف سقوط المنزلة ، من قلوب الخلق ، والشح والبخل ، وطول الأمل ، والأشر والبطر ، والغل والمباهاة ، والتصنع والمداهنة ، والقسوة والفظاظة والغلظة ، والغفلة والجفاء ، والطيش ، والعجلة ، والحمية ، وضيق الصدر ، وقلة الرحمة. إلى غير ذلك من أنواع الرذائل.

فإذا تطهر القلب من هذه العيوب اتصف بأضدادها من الكمالات : كالتواضع لله ، والخشوع بين يديه ، والتعظيم لأمره ، والحفظ لحدوده ، والتذلل لربوبيته ، والإخلاص فى عبوديته ، والرضى بقضائه ، ورؤية المنة له فى منعه وعطائه. ويتصف فيما بين خلقه بالرأفة والرحمة ، واللين والرفق ، وسعة الصدر والحلم ، والاحتمال والصيانة ، والنزاهة والأمانة ، والثقة والتأنى ، والوقار ، والسخاء والجود ، والحياء ، والبشاشة والنصيحة. إلى غير ذلك من الكمالات.

وأما استقامة الأرواح والأسرار ، فتحصل بعدم الوقوف مع شىء سوى الله تعالى ، وعدم الالتفات إلى غيره حالا كان أو مقاما أو كرامة ، أو غير ذلك : كما قال الششترى رضى الله عنه :

فلا تلتفت فى السّير غيرا ، وكلّ ما

سوى الله غير ، فاتخذ ذكره حصنا

وكلّ مقام لا تقم فيه إنّه

حجاب ، فجدّ السّير واستنجد العونا

ومهما ترى كلّ المراتب تجتلى

عليك فحل عنها ، فعن مثلها حلنا

وقل : ليس لى فى غير ذاتك مطلب

فلا صورة تجلى ولا طرفة تجنا

وقوله تعالى : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) : هو نهى عن صحبة الغافلين والميل إليهم. قال بعض الصوفية : قلت لبعض الأبدال : كيف الطريق إلى التحقيق ، والوصول إلى الحق؟ قال : لا تنظر إلى الخلق ؛ فإن النظر إليهم ظلمة ، قلت : لا بد لى ، قال : لا تسمع كلامهم ؛ فإن كلامهم قسوة ، قلت : لا بد لى ، قال : لا تعاملهم ؛ لأن معاملتهم خسران وحسرة ووحشة ، قلت : أنا بين أظهرهم لا بد لى من معاملتهم؟ قال : لا تسكن إليهم ؛ فإن السكون إليهم هلكة. قلت : هذا لعله يكون؟ قال : يا هذا ؛ أتنظر إلى اللاعبين ، وتسمع كلام الجاهلين ، وتعامل البطالين ، وتسكن إلى الهلكى ، وتريد أن تجد حلاوة الطاعة ، وقلبك مع غير الله عزوجل!! هيهات! هذا ما لا يكون أبدا. ه. ونقل الورتجبي عن جعفر الصادق : ولا تركنوا إلى نفوسكم فإنها ظلمة. ه.

٥٦٥

ثم ذكر سبب هلاك الأمم الماضية ، وهو فشو الظلم ، وعدم تغيير المنكر ، فقال :

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧))

قلت : (لو لا) ، تحضيضية ، ويقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف ، كقوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) (١) ، و «إلا قليلا» : منقطع ، ولا يصح اتصاله ، إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض. أي : ما كان فى القرون الماضية أولو بقية إلا قليل. يقال : فلان من بقية القوم ، أي : خيارهم ، وإنما قيل فيه «بقية» ؛ لأن الشرائع والدول تقوى أولا ثم تضعف. فمن ثبت فى وقت الضعف على ما كان فى أوله ، فهو بقية الصدر الأول. قاله ابن عطية. وقوله : «بظلم» : حال من «ربك» ؛ أي : ما كان ربك ليهلك القرى ظالما لهم ، أو متعلق بيهلك.

يقول الحق جل جلاله : (فَلَوْ لا) : فهلا (كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ) ؛ كقوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكرهم ، (أُولُوا بَقِيَّةٍ) من الرأى ، والعقل ينكرون عليهم ، أي : فهلا وجد فيهم من فيه بقية من العقل والحزم والثبوت ، (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) ، لكن قليلا ممن أنجينا منهم كانوا كذلك ، فأنكروا على أهل الفساد ، واعتزلوهم فى دينهم ؛ فأنجيناهم. وفى هذا تحريض على النهى عن المنكر والأمر بالمعروف ، وأنه سبب النجاة فى الدارين. (وَاتَّبَعَ) (الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) : ما أنعموا فيه من الشهوات ، واهتموا بتحصيل أسبابها ، وأعرضوا عما وراء ذلك ، (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) كافرين. قال البيضاوي : كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم الماضية ، وهو : فشو الظلم فيهم ، واتباع الهوى ، وترك النهى عن المنكرات مع الكفر. ه.

(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) أي : متلبسا بظلم ، (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) ، فيعذبهم بلا جرم ، أي : ما كان ليعذبهم ظالما لهم بلا سبب. أو ما كان ليهلك القرى بشرك وأهلها مصلحون فيما بينهم ، لا يضمون إلى شركهم فسادا وبغيا ، وذلك لفرط رحمته ومسامحته فى حقوقه. ومن ذلك قدّم الفقهاء ، عند تزاحم الحقوق ، حقوق العباد. وقال بعضهم : [الذنوب ثلاثة : ذنب لا يغفره الله ، وهو الشرك. وذنب لا يعبأ الله به ، وهو ما كان بينه وبين عباده ، وذنب لا يتركه الله ، وهو حقوق عباده]. وقالوا : قد يبقى الملك مع الشرك ولا يبقى مع الظلم.

الإشارة : أولو البقية الذين ينهون عن الفساد فى الأرض هم : أهل النور المخزون المستودع فى قلوبهم من نور الحق ، إذا قابلوا منكرا دمغوه بالحال أو المقال ، وإذا قابلوا فسادا أصلحوه ، وإذا قابلوا فتنة أطفأوها. وإذا قابلوا بدعة

__________________

(١) من الآية : ٣٠ من سورة يس.

٥٦٦

أخمدوها. وإذا واجهوا ضالا أرشدوه ، أو غافلا ذكروه ، أو طالبا للوصول وصلوه ، يمشون فى الأرض بالنصيحة ، لا يخافون فى الله لومة لائم. أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأقسمن لكم : إنّ أحبّ عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده ، ويحببون عباد الله إلى الله ، ويمشون فى الأرض بالنصيحة» أما كونهم يحببون الله إلى عباده ؛ فلأنهم يذكرون لهم آلاءه وإحسانه وبره. والنفس تحب بالطبع من أحسن إليها. وأما كونهم يحببون عباد الله إلى الله ؛ فلأنهم يردونهم عن غيهم وحظوظهم ، التي تبعدهم عن ربهم. فإذا رجعوا إليه أحبهم.

وسئل ذو النون المصري رضى الله عنه عن وصف الأبدال ، فقال : سألت عن دياجى الظلام ؛ لأكشف لك عنهم ، هم قوم ذكروا الله بقلوبهم ، تعظيما لربهم ؛ لمعرفتهم بجلاله ، فهم حجج الله تعالى على خلقه ، ألبسهم الله ـ تعالى ـ النور الساطع من محبته ، ورفع لهم أعلام الهداية إلى مواصلته ، وأقامهم مقام الأبطال لإرادته ، وأفرغ عليهم من مخافته ، وطهّر أبدانهم بمراقبته ، وطيبهم بطيب أهل معاملته ، وكساهم حللا من نسج مودته ، ووضع على رؤوسهم تيجان مبرته ، ثم أودع القلوب من ذخائر الغيوب ، فهى متعلقة بمواصلته ، فهممهم إليه ثائرة ، وأعينهم بالغيب ناظرة ، قد أقامهم على باب النظر من رؤيته ، وأجلسهم على كراسى أطباء أهل معرفته ، ثم قال لهم : إن أتاكم عليل من فقدى فداووه ، أو مريض من فراقى فعالجوه ، أو خائف منى فانصروه ، أو آمن منى فحذّروه ، أو راغب فى مواصلتى فمنّوه ، أو راحل نحوى فزودوه ، أو جبان فى متاجرتى فشجعوه ، أو آيس من فضلى فرجّوه ، أو راج لإحسانى فبشروه ، أو حسن الظن بي فباسطوه ، أو محب لى فواصلوه ، أو معظم لقدرتى فعظموه ، أو مسىء بعد إحسانى فعاتبوه ، أو مسترشد فأرشدوه. ه.

وهذا بقدر الله ومشيئته ، كما قال تعالى :

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩))

قلت : الاستثناء من ضمير «يزالون».

يقول الحق جل جلاله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) ، متفقين على الإيمان ، أو الكفران ، لكن مقتضى الحكمة وجود الاختلاف ؛ ليظهر مقتضيات الأسماء فى عالم الشهادة ؛ فاسمه : الرحيم والكريم يقتضى وجود من يستحق الكرم والرحمة ، وهم : أهل الإيمان. واسمه : المنتقم والقهار يقتضى وجود من يستحق الانتقام

٥٦٧

والقهرية ، وهم أهل الكفر والعصيان. قال البيضاوي : وفيه دليل ظاهر على أن الأمر غير الإرادة ، وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد ، وأن ما أراد يجب وقوعه. ه.

(وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) ؛ بعضهم على الحق ، وهم أهل الرحمة والكرم ، وبعضهم على الباطل ، وهم أهل القهرية والانتقام. أو مختلفين فى الأديان والملل والمذاهب ، (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) ؛ إلا ناسا هداهم الله من فضله ، فاتفقوا على ما هو أصل الدين والعمدة فيه ، كالتوحيد والإيمان بجميع الرسل وبما جاءوا به ، وهم المؤمنون.

وقوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) ؛ إن كان الضمير للناس ، فالإشارة إلى الاختلاف ، واللام للعاقبة ، أي : ولتكون عاقبتهم الاختلاف خلقهم ، وإن كان الضمير يعود على «من» ، فالإشارة إلى الرحمة ، أي : إلا من رحم ربك وللرحمة خلقه. (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) الأزلية على ما سبق له الشقاء ، أي : نفذ قضاؤه ووعيده فى أهل الشقاء ، أو هى قوله للملائكة : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ؛ أي : من أهل العصيان منهما ، لا من جميعهما.

الإشارة : الاختلاف بين الناس حكم أزلى ، لا محيد عنه. وقد وقع بين أهل الحق وبين أهل الباطل. فقد اختلفت هذه الأمة فى الأصول والفروع. أما الأصول فأهل توحيد الدليل وقع بينهم تخالف فى صفات الحق ، كالمعتزلة والقدرية والجهمية والجبرية مع أهل السنة. وأما الفروع فالاختلاف بينهم شهير. فقد كان فى أول الإسلام اثنا عشر مذهبا. ولا تجد علما من علم الفروع إلا وبين أهله اختلاف ، إلا أهل التوحيد الخاص ، وهم : المحققون من الصوفية ، فكلهم متفقون فى الأذواق والوجدان ، وإن اختلفت طرقهم ، وكيفية سيرهم. فهم متفقون فى النهايات ، التي هى معرفة الشهود والعيان ، على طريق الذوق والوجدان ، وفى ذلك يقول ابن البنا ـ رحمه‌الله ـ :

مذاهب الناس على اختلاف

ومذهب القوم على ائتلاف

وأما قول من قال : [ما زالت الصوفية بخير ما اختلفوا ، فإذا اتفقوا فلا خير فيهم] ، فالمراد بالاختلاف : تغيير بعضهم على بعض ، عند ظهور نقص أو عيب أو ذنب. فإذا اتفقوا وسكت بعضهم عن بعض فلا خير فيهم. وقوله عليه الصلاة والسلام : «خلاف أمتى رحمة». المراد : الاختلاف فى الفروع كاختلاف المذاهب ؛ ففى ذلك رخصة لأهل الاضطرار ؛ لأن من قلد عالما لقى الله سالما. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر حكمة سرد قصص الأنبياء ، فقال :

قلت : «وكلّا» مفعول «نقص» ، و «ما نثبت به» : بدل ، أو «ما» مفعول «نقصّ» ، و «كلّا» : مصدر. أي : ونقص

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠))

٥٦٨

عليك كلّا من الاقتصاص ما نثبت به فؤادك.

يقول الحق جل جلاله : وكل نبأ (نَقُصُّ عَلَيْكَ) من أخبار الرسل ، ونخبرك به (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) ، ليزيدك يقينا وطمأنينة وثباتا بما تسمع من أخبارهم ، وما جرى لهم مع قومهم ، وما لقوا من الأذى منهم ، فتتسلى بهم ، وتثبت على أداء الرسالة ، واحتمال أذى الكفار. (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) السورة ، أو الأنباء المقتصة عليك ، (الْحَقُ) أي : ما هو حق ، (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) ، فيتحملون ، ويصبرون لما يواجههم من الأذى والإنكار.

الإشارة : ذكر أحوال الصالحين ، وسيرهم وكراماتهم ؛ جند من جنود القلب ، وذكر أشعارهم ومواجيدهم جند من جنود الروح ، وقد ورد : أن عند ذكرهم تنزل الرحمة ، أي : رحمة القلوب باليقين والطمأنينة. والله تعالى أعلم.

ثم أمره بتهديد من خالفه ، فقال :

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

يقول الحق جل جلاله : (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) : حالكم (إِنَّا عامِلُونَ) على حالنا ، (وَانْتَظِرُوا) وقوع ما نزل بمن قبلكم ممن خالف رسوله ؛ فإنه نازل بكم ، (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ما وعدنا ربنا من النصر والعز.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا يعلمه غيره ؛ فلا يعلم غيب العواقب ، ووقت وقوع المواعد إلا هو. (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) فيرجع لا محالة أمرهم وأمرك إليه ، (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) ؛ فإنه كافيك أمرهم وأمر غيرهم. وفى تقديم العبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع التوكل العابد دون البطال. (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أنت وهم ، فيجازى كلّا ما يستحقه. أو عما يعمل الكافرون ، فيمهلهم ولا يهملهم.

الإشارة : (فاعبده وتوكل عليه) : يقول تعالى : يا عبدى ؛ قم بخدمتي أقم لك بقسمتي ، قف ببابي وانتسب لجنابى ؛ أكفك شئونك ، وتكن من أحبابى. أأدعوك لدارى ، وأمنعك من وجود إبرارى ، أأكلفك بخدمتي ، ولا أقوم لك بقسمتي ، فثق بي كفيلا ، واتخذني وكيلا ، أعطك عطاء جزيلا ، وأمنحك فخرا جليلا. قال القشيري : ويقال : إن التوكل : سكون القلب بضمان الربّ. ويقال : سكون الجأش فى طلب المعاش ، ويقال : الاكتفاء بوعده عند عدم نقده ، أو الاكتفاء بالوعد عند فقد النقد. وسيأتى تمامه فى سورة الفرقان ، إن شاء الله. وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما.

٥٦٩
٥٧٠

سورة يوسف

مكية. وهى مائة وإحدى عشرة آية. وكأنها تتميم لما ذكر قبلها من قصص الأنبياء ، فهى من جملة ما يثبّت به الفؤاد ، ويقع به التسلية ، مما يواجه به العبد من الأنكاد. وإنما أفردت بالسورة ، لمزيد شرح وطول.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣))

قلت : (قرآنا) : حال ، و (عربيا) : نعت له. و (لعلكم) : يتعلق بأنزلناه أو بعربيا. و (أحسن) : مفعول (نقصّ) ، و (بما أوحينا) : مصدرية ، ويجوز أن يكون (هذا القرآن) : مفعول (نقصّ) ، و (أحسن القصص) : مصدر.

يقول الحق جل جلاله : أيها الرسول المجتبى ، والمحبوب المنتقى ، (تِلْكَ) الآيات التي تتلى عليك هى (آياتُ الْكِتابِ) المنزل عليك من حضرة قدسنا ، (الْمُبِينِ) أي : الظاهر صدقه ، الشهير شأنه. أو الظاهر أمره فى الإعجاز والبلاغة ، الواضح معانيه فى الفصاحة ، والبراعة. أو المبين للأحكام الظاهرة والباطنة. أو البين لمن تدبره أنه من عند الله. أو المبين لمن سأل تعنّتا من أحبار اليهود سؤالهم ؛ إذ روى أنهم قالوا لكبراء المشركين : سلوا محمدا : لم انتقل يعقوب من الشام؟ وعن قصة يوسف. فنزلت السورة.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي : الكتاب ، (قُرْآناً) أي : مقروءا ، أو مجموعا ، (عَرَبِيًّا) بلغة العرب (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي : أنزلناه بلغتكم كى تفهموه وتستعملوا عقولكم فى معانيه ؛ فتعلموا أن اقتصاصه كذلك ممن لم يتعلم القصص ، ولم يخالط من يعلم ذلك ، معجز ؛ إذ لا يتصور إلا بالإيحاء.

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ؛ أحسن الاقتصاص ؛ لأنه اقتص على أبدع الأساليب ، أو أحسن ما يقص ؛ لاشتماله على العجائب والحكم والآيات والعبر ، (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) مشتملا على هذه السورة التي فيها قصة يوسف ، التي هى من أبدع القصص ، (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) عن هذه

٥٧١

القصة ، لم تخطر ببالك ، ولم تقرع سمعك. قال البيضاوي : وهو تعليل لكونه موحىّ ، و «إن» هذه : مخففة ، واللام هى الفارقة. ه.

الإشارة : ما نزل القرآن بلسان عربى مبين إلا لنعقل عظمة ربنا ونعرفه ، وذلك لا يكون إلا بعد استعمال العقول الصافية ، والأفكار المنورة ، فى الغوص على درر معانيه. فحينئذ تطلع على أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، وعلى أنوار الصفات ، وأسرار الذات ، وعلى توحيد الأفعال وتوحيد الصفات وتوحيد الذات. قال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (١) ، لكن لا يحيط بهذا إلا أهل التجريد ، الذين صفت عقولهم من الأكدار ، وتطهرت من الأغيار ، وملئت بالمعارف والأسرار. قال تعالى : (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢). وهم : أهل العقول الصافية المتفرغة من شواغل الحس. والله تعالى أعلم.

ثم شرع فى ذكر القصة ، فقال :

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦))

قلت : (إذ قال) : معمول لا ذكر ، أو بدل من (أحسن القصص) ؛ إن جعل مفعولا ، بدل اشتمال ، و (يا أبت) : أصله : يا أبى ، عوض من الياء تاء التأنيث ؛ لتناسبهما فى الزيادة ، ولذلك قلبت فى الوقف هاء ، فى قراءة ابن كثير وأبى عمر ويعقوب. وإنما أعاد العامل فى «رأيتهم» ؛ لطول الكلام ، وجمع الشمس والقمر والكواكب جمع العقلاء ؛ لوصفهم بصفاتهم.

يقول الحق جل جلاله : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) يعقوب بن اسحق بن ابراهيم : (يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ) فى النوم (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ). وقد ذكر البيضاوي حديثا فى تفسير هذه الكواكب فانظره. قيل : إن يوسف عليه‌السلام كان نائما فى حجر أبيه ، فنظر فيه ، وقال فى نفسه : أترى هذا الوجه

__________________

(١) من الآية ٣٨ من سورة الأنعام.

(٢) من الآية ٢٩ من سورة ص.

٥٧٢

أحسن أم الشمس أم القمر؟ فإذا بيوسف قد انتبه من نومه ، وقال : (يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ...) إلخ ، فلما قص الرؤيا على أبيه بكى ، فقال يوسف : لم تبكى يا أبتى؟ قال : يا بنى لم يسجد مخلوق لمخلوق إلا عند المحنة ، والبلاء ، ألا ترى الملائكة لما أسجدهم الله لآدم ، كيف ابتلى بالخروج من الجنة؟ ثم قال له : يا بنى ؛ الشمس والقمر أنا وخالتك ـ وكانت أمه قد ماتت ـ والإحدى عشر كوكبا إخوتك. ه.

(قالَ يا بُنَيَ) ، وهو تصغير ابن ، صغر للشفقة أو لصغر السن ، وكان ابن ثنتى عشرة سنة ، (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) ؛ فيحتالوا لإهلاكك حيلة. فهم يعقوب عليه‌السلام من رؤياه أن الله يصطفيه لرسالته ، ويفوقه على إخوته ، فخاف عليه حسدهم. ومن خاف من شىء سلط عليه.

والرؤيا تختص بالنوم ، والرؤية ، بالتاء بالبصر. قال البيضاوي : وهى انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك ، والمصادفة منها إنما يكون باتصال النفس بالملكوت ؛ لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ. انظر تمامه فيه. وأخرج الحاكم فى المستدرك ، والطبراني فى الأوسط ، عن ابن عمر قال : لقى عمر عليّا ـ رضى الله عنهما ـ فقال : يا أبا الحسن ، الرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق ، ومنها ما يكذب ، قال : نعم. سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلى نوما إلا عرج بروحه إلى السماء. فالتى لا تستيقظ إلا عند العرش فتلك الرؤيا التي تصدق ، والتي تستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تكذب» (١). ه. فمنها ما تكون واضحة المعنى لا تحتاج إلى تعبير ، ومنها ما تكون خفية تحتاج إلى تعبير. والمعبر يحتاج إلى علم وفراسة وزيادة إلهام ، فعلم التعبير علم مستقل ، قد أعطى الله منه ليوسف عليه‌السلام حظا وافرا.

ولما قال يعقوب لابنه : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) قال : يا أبت ، الأنبياء لا يكيدون ، قال له : (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ؛ ظاهر العداوة ؛ لأجل ما فعل بآدم وحواء ، فلا يألوا جهدا فى تسويلهم ، وإثارة الحسد فيهم ، حتى يحملهم على الكيد. قيل : لم يسمع كلام يوسف فى رؤياه إلا خالته ـ أم شمعون ـ فقالت لإخوته : التعب عليكم ، والإقبال على يوسف. فحركهم ذلك حتى فعلوا ما فعلوا. وقيل : أخبرت بذلك ولدها شمعون ، فأخبر شمعون إخوته ؛ فخلوا به وقالوا له : إنك لم تكذب قط. فأخبرنا بما رأيت فى نومك ، فأبى. فأقسموا عليه ، فأخبرهم. فوقعوا فيما فعلوا به.

ثم قال له : (وَكَذلِكَ) أي : وكما اجتباك لهذه الرؤيا الدالة على شرف وعز وكمال نفس ، (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) للنبوة والملك ، أو لأمور عظام ، (وَيُعَلِّمُكَ) أي : وهو يعلمك (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) ؛ من تعبير

__________________

(١) أخرجه الحاكم فى المستدرك (٤ / ٣٩٦ و ٣٩٧).

٥٧٣

الرؤيا ؛ لأنها أحاديث الملك إن كانت صادقة ، وأحاديث الشيطان إن كانت كاذبة. أو يعلمك من تأويل غوامض علوم كتب الله ، وسنن الأنبياء وحكم الحكماء. (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بالنبوة ، أو بأن يجمع لك بين نعمة الدنيا ، ونعمة الآخرة ، (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) يريد : سائر بنيه. ولعله استدل على نبوتهم بضوء الكواكب ، (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ) ؛ من قبلك ، أو من قبل هذا الوقت. فأتمها على إبراهيم بالرسالة والخلة والإنجاء من النار ، وإسحاق بالرسالة والإنقاذ من الذبح (١) ، وهم : (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) ، فهما عطف بيان لأبويك ، (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ) بمن يستحق الاجتباء ، (حَكِيمٌ) لا يخلو فعله من حكمة ، نعمة كانت أو نقمة.

الإشارة : البداية مجلاة النهاية ، يوسف عليه‌السلام نزلت له أعلام النهاية فى أول البداية. وكذلك كل من سبق له شىء من العناية ، لا بد تظهر أعلامه فى أول البداية ؛ «من أشرقت بدايته أشرقت نهايته». من كانت بالله بدايته كانت إليه نهايته.

وأوصاف النهاية تأتى على ضد أوصاف البداية ؛ فكمال العز فى النهاية لا يأتى إلا بعد كمال الذل فى البداية.

وتأمل قول الشاعر :

تذلّل لمن تهوى لتكسب عزّة

فكم عزّة قد نالها المرء بالذّلّ

وتأمل قضية سيدنا يوسف عليه‌السلام ؛ ما نال العز والملك حتى تحقق بالذل ، والملك وكمال الغنى فى النهاية لا يأتى إلا بعد كمال الفقر فى البداية ، وكمال العلم لا يأتى إلا بعد إظهار كمال الجهل ، وكمال القوة لا يأتى إلا بعد كمال الضعف .. وهكذا جعل الله تعالى بحكمته الأشياء كامنة فى أضدادها ؛ «تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه». فالاجتباء يكون بعد الابتلاء ، وإتمام النعم يكون بعد تقديم النقم ، وذلك لتكون أحلى وأشهى ، فيعرف قدرها ويتحقق منه شكرها ، وهذا السر فى تقديم أهوال يوم القيامة على دخول الجنة ؛ ليقع نعيمها فى النفس كل موقع. ولا فرق بين جنة الزخارف ، وجنة المعارف. (حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات). والله تعالى أعلم.

ثم قال تعالى :

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨))

__________________

(١) الثابت أن الذبيح هو سيدنا إسماعيل عليه‌السلام. راجع التعليق على تفسير الآية ١٢٤ من سورة البقرة.

٥٧٤

قلت : (يوسف) : عجمى ، وفى سينه ثلاث لغات : الضم ـ وهو الأشهر ـ والفتح ، والكسر.

يقول الحق جل جلاله : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) أي : فى قصصهم (آياتٌ) ؛ دلائل قدرة الله وحكمته ، وعلامة نبوتك ، حيث أخبرت بها من غير تعلم. ففى ذلك آيات (لِلسَّائِلِينَ) أي : لمن سأل عن قصتهم. والمراد بإخوته : علاته العشرة ، والعلات : أبناء أمهات لأب واحد ، فكانوا إخوته لأبيه ، وهم : يهوذا ، وروبيل ، وشمعون ، ولاوى ، وريالون ، ويشجر ، ودنية من بنت خالته ليّا ، تزوجها يعقوب أولا ، فلما توفيت تزوج راحيل ، فولدت له بنيامين ، ويوسف. وقيل : جمع بينهما ، ولم يكن الجمع حينئذ محرما. وأربعة آخرون من سريتين ، وهم : دان ، وتفثالى ، وجاد ، وآشر.

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) بنيامين ، وخص بالإضافة ؛ لأنه شقيقه ، (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي : والحال أنا جماعة أقوياء ، فنحن أحق بالمحبة ؛ لأنهما لا كفاءة فيهما. والعصبة : العشرة ففوق. (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ) ؛ خطأ (مُبِينٍ) ؛ ظاهر ؛ لتفضيل المفضول. روى أنه كان أحب إليه ؛ لما كان يرى فيه من مخايل الخير ، وكان إخوته يحسدونه ، فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة ، بحيث لم يصبر عنه ، فتناهى حسدهم حتى حملهم على التعرض لقتله. وهكذا شأن الحسد يبلغ بصاحبه أمرا عظيما.

الإشارة : كان يعقوب عليه‌السلام لا يفارق يوسف ليلا ولا نهارا. وهكذا شأن المحبين. وأنشدوا :

ولى كبد يسرى إليهم سلامه

بجمر تلظّى ، والفؤاد ضرامه

وأجفان عين لا تملّ من البكا

وصبّ تشكّى للحبيب غرامه

فأنتم سرورى ، أنتم غاية المنى

وقلبى إليكم والغرام زمامه

فو الله ما أحببت ما عشت غيركم

لأن اشتياقى لا يحل اكتتامه. ه.

قال الجنيد ، رضى الله عنه : رأيت غلاما حسن الوجه يعنف كهلا حسنا ، فقلت : يا غلام ، لم تفعل هذا؟ قال : لأنه يدعى أنه يهوانى ، ومنذ ثلاث ما رآنى ، قال : فوقعت مغشيا على ، فلما أفقت ما قدرت على النهوض ، فقيل لى فى ذلك ، فقلت : ينبغى للمحب ألا يفارق باب محبوبه على أي حال. وأنشدوا :

لازم الباب إن عشقت الجمالا

واهجر النّوم إن أردت الوصالا

واجعل الروح منك أوّل نقد

لحبيب أنواره تتلالا

٥٧٥

قلت : فالحبيب غيور ؛ لا يحب أن يرى فى قلب حبيبه غيره. فإذا رأى فيه شيئا أخرجه منه ، وفرق بينه وبينه ؛ غيرة منه واعتناء به ، وهو السر فى افتراق يوسف من أبيه. والله تعالى أعلم.

ثم تعرضوا ليوسف ، فقالوا :

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠))

يقول الحق جل جلاله : قال إخوة يوسف لما حركهم الحسد : (اقْتُلُوا يُوسُفَ) ؛ قيل : إنما قاله شمعون ودان ، ورضى به الآخرون ، (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) ؛ أي : فى أرض بعيدة يأكله السباع ، أو يلتقطه أحد ، فإن فعلتم (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) أي : يصف إليكم وجه أبيكم ؛ فيقبل بكليته عليكم ، ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ، ولا ينازعكم فى محبته أحد ، (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ) ؛ من بعد يوسف ، أو الفراغ من أمره ، أو قتله ، أو طرحه ، (قَوْماً صالِحِينَ) تائبين إلى الله عما جنيتم ، مع محبة أبيكم. أو صالحين فى أمور دنياكم ، فإنها تنتظم لكم بخلو وجه أبيكم لكم ، (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) هو يهوذا ، وكان أحسنهم فيه رأيا ، وقيل : روبيل : (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) ؛ فإن القتل عظيم ، (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ) (١) (الْجُبِ) : فى قعره ، سمى به لغيبته عن أعين الناظرين. ومن قرأ بالجمع ، فكان بتلك الجب غيابات ، (يَلْتَقِطْهُ) : يأخذه (بَعْضُ السَّيَّارَةِ) أي : الذين يسيرون فى الأرض ، (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ما يفرق بينه وبين أبيه ولا بد ، أو كنتم فاعلين بمشورتى.

الإشارة : إن أردت أن يخلو لك وجه قلبك فيخلو لك وجه حبيبك ، حتى تشاهده عيانا وتعرفه إيقانا ، فاقتل كل ما يميل إليه قلبك ويعشقه من الهوى ، واطرح عن عين بصيرتك رؤية السّوى ، ترى من أنوار وجهه وأسرار محاسنه ، ما تبتهج به القلوب والأسرار ، وتتنزه فى رياض محاسنه البصائر والأبصار. وأنشدوا :

إن تلاشى الكون عن عين كشفى

شاهد القلب غيبه فى بيان

فاطرح الكون عن عيانك وامح

نقطة الغين إن أردت ترانى

__________________

(١) قرأ الجمهور «غيابة» بالإفراد هنا وفى الموضع التالي فى الآية (١٨) وقرأ نافع «غيابات» بالجمع فى الموضوعين ، وقد سار المفسر هنا على قراءة الجمهور ، وسار فى الموضع التالي على قراءة نافع.

٥٧٦

ثم احتالوا على أبيهم فى إرسال يوسف معهم ، كما قال تعالى :

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤))

قلت : (تأمننا) : اجتمع نونان ، فيجوز الإدغام ، وبه قرأ أبو جعفر ، وقرأ الجماعة بالإشمام. وقوله : (يرتع ويلعب) : جواب الأمر ، فمن قرأ بكسر العين فجزمه بحذف الياء ، وهو من رعى الإبل ، ومن قرأ بالإسكان فهو من الرتع ، وهى الإقامة فى الخصب والتنعم ، والتاء على هذا أصلية. ووزن الفعل : يفعل ، ووزنه على الأول يفتعل ، قال ابن عطية : فيرتع على قراءة نافع من رعى الإبل ، أي : يتدرب فى رعى الإبل وحفظ المال. قال أبو على : وقراءة ابن كثير : (نرتع) بالنون (ويلعب) بالياء ، فنزعها حسن ؛ لإسناد النظر فى المال والرعاية إليهم ، واللعب إلى يوسف لصباه ، وقرأ أبو عمر وابن عامر : (نرتع ونلعب) ؛ بالنون فيهما ، وإسكان العين والباء ، من الرتوع ، وهو : الإقامة فى الخصب والمرعى فى أكل وشرب ، وقرأ عاصم والأخوان : (يرتع ويلعب) بإسناد ذلك كله إلى يوسف. ه. قلت : وكذا قرأ نافع ، غير أنه يكسر العين وهم يسكنون.

(ونحن عصبة) : حال ، والرابط الواو ، والعصبة : الجماعة من العشرة إلى فوق.

يقول الحق جل جلاله : قال إخوة يوسف لأبيهم : (يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) أي : لم تخافنا عليه؟ (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) نشفق عليه ، ونريد له الخير. أرادوا أن يستنزلوه عن رأيه فى حفظه منهم لما تنسم من حسدهم. قلت : قد نصحوه فى الحقيقة حيث تسببوا فى ملكه وعزه. روى أنهم لما قالوا له : (مالك ....) إلخ ، اهتزت أركانه ، واصفر لونه ، واصطكت أسنانه ، وتحركت جوانبه ، كأنه علم بما فى قلوبهم بالفراسة. ثم قالوا : (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ) : يتسع فى أكل الفواكه ونحوها. أو يتعلم الرعاية ، (وَيَلْعَبْ) بالاستباق والإنتضال ، (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أن يناله مكروه.

(قالَ) يعقوب : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) لشدة مفارقته علىّ ، وقلة صبرى عنه ، (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) : لاشتغالكم بالرتع واللعب ، أو لقلة اهتمامكم به ، وإنما خاف عليه من الذيب ؛

٥٧٧

لأن الأرض كانت مذأبة ، وقيل : رأى فى المنام أن الذئاب أحدقت بيوسف فكان يخافه ، وإنما كان تأويلها : إحداق إخوته به حين أرادوا قتله. (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) : جماعة ، (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) : مغبونون من القوة والحزم ، أو مستحقون بأن يدعى عليهم بالخسارة.

الإشارة : لم يسمح يعقوب عليه‌السلام بفراق حبيبه ساعة ، وكذلك العبد لا ينبغى أن يغفل عن سيده لحظة ؛ لأن الغفلة فراق ، والذكر انجماع ، والعبد لا صبر له عن سيده. وأنشدوا :

فلأبكين على الفراق كما بكى

سفا لفرقة يوسف يعقوب

ولأدعونك فى الظلام كما دعا

عند البلية ربّه أيوب

وأنشدوا أيضا فى ذم الغفلة :

غفلت عن الأيّام يا أخى فانتبه

وشمّر فإن الموت لا شك واقع

على أي شىء هو حزنك قائم

جنود المنايا تأتيك فانهض وسارع

قيل : إن بعض الصالحين رأى أستاذه فى المنام ، فقال له : يا أستاذ ، أي الحسرات عندكم أعظم؟ قال : حسرة الغافلين. وأنشدوا :

تيقظ إلى التّذكار فالعمر قد مضى

وحتى متى ذا السكر من غفلة الهوى

ورأى ذو النون المصري بعض الصالحين فى المنام ، فقال له : ما فعل الله بك؟ قال : أوقفنى بين يديه ، وقال : يا مدعى ، ادعيت محبتى ثم غفلت عنى. وأنشدوا :

تغافلت عن فهم الحقيقة بالهوى

فلا أذن تصغى ولا عين تذرف

ضعفت ولكن فى أمانيك قوة

فيا تابع اللذات كم تتخلف

ورأى عبد الله بن مسلمة والده فى النوم ، فقال له : يا أبت ، كيف ترى حالك؟ فقال له : يا ولدي عشنا غافلين. وأنشدوا :

غفلت وحادى الموت يحدوك للبلا

وجسمك يا مغرور أصبح معتلا

وحتى متى يا صاح بابك مغلق

أتاك نذير الموت والعمر قد ولّى

٥٧٨

قيل : ما أصاب يعقوب ما أصابه فى ولده إلا من أجل خوفه عليه ، وغفلته عن استيداعه ربه ، ولو استودعه ربه لحفظه ، لكن لا ينفع حذر من قدر. (وكان أمر الله قدرا مقدورا).

ثم ذكر انصرافهم بيوسف ، وما كان من شأنه ، فقال :

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))

قلت : (لمّا) حرف وجود لوجود ، يطلب الشرط والجواب ، وجوابها هنا محذوف ، أي : فعلوا به ما فعلوا. وقيل : جوابها : (أجمعوا) ، وقيل : (أوحينا) ؛ على زيادة الواو فيهما. وجملة : (وهم لا يشعرون) : حال من (تنبئنهم) ، فيكون خطابا ليوسف عليه‌السلام ، أو من (أوحينا) ؛ أي : وهم لا يشعرون حين أوحينا إليه. فيكون حينئذ الخطاب لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. و (صبر جميل) : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : مثل. أو : خبر عن مبتدأ ، أي : أمرى صبر جميل. و (على قميصه) : فى موضع نصب على الظرف ، أي : فوق قميصه. أو : حال من الدم ؛ إن جوز تقديمها على المجرور.

يقول الحق جل جلاله : (فَلَمَّا ذَهَبُوا) بيوسف معهم (وَأَجْمَعُوا) أي : عزموا (أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ) (١) (الْجُبِ) ؛ وهو بئر بأرض الأردن ، أو بين مصر ومدين ، أو على ثلاثة فراسخ من مقام يعقوب.

قال الفراء : كان حفره شداد بن عاد. فانظره. قال السدى : ذهبوا بيوسف وبه عليهم كرامة ، فلما برزوا فى البرية أظهروا له العداوة ، وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه ، فجعل لا يرى منهم رحيما. فضربوه حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح : يا أبتاه يا يعقوب ، لو تعلم ما صنع بابنك بنو الإماء. ه. وكان إخوته سبعة من خالته الحرة ، والباقون من سريتين له ، كما تقدم.

وقال ابن عباس رضى الله عنه : كان يعقوب عليه‌السلام ينظر إلى يوسف عليه‌السلام حتى غاب عنه ، وعن نظره ، فلما علموا أنهم غيبوه عنه ، وضعوه فى الأرض وجروه عليها ، ولطموا خده ، فجرد شمعون سكينه وأراد ذبحه ، فتعلق بذيل

__________________

(١) راجع التعليق على تفسير الآية «٩» من نفس السورة.

٥٧٩

روبيل وضربه ، وكذلك جميع إخوته ؛ إذا لجأ لواحد منهم طرده ، فضحك عند ذلك يوسف عليه‌السلام ، فقال له يهوذا : ليس هذا موضع الضحك يا يوسف ، فقال : من تعزز بغير الله ذل ، ظننت أنه لا يصيبنى وأنا بينكم مكروه لما رأيت من قوتكم وشدتكم ، فسلطكم الله على بشؤم تلك الفكرة ؛ حتى لا يكون التوكل إلا عليه والتعزز إلا به. ه. بالمعنى.

وقال الفراء : كانت زينب بنت يعقوب عليه‌السلام ـ أخت يوسف ـ وكانت رأت فى منامها كأن يوسف وضع بين الذئاب وهم ينهشون ، فانتبهت فازعة ، ومضت إلى أبيها باكية ، فقالت يا أبت ، أين أخى يوسف؟ قال : أسلمته إلى إخوته ، فمضت خلفه حتى لحقت به ، فأمسكته ، وتعلقت بذيله ، وقالت : لا أفارقك اليوم يا أخى أبدا ، فقال لها إخوتها : يا زينب ، أرسليه من يدك ، فقالت : لا أفعل ذلك أبدا ؛ لأنى لا أطيق فراق أخى ، فقالوا : بالعشي نرده إليك ويأتيك. ثم أقبل يوسف عليه‌السلام يقبل رأسها ويديها ، ويقول لها : يا أختاه دعينى أسير مع إخوتى أرتع وألعب ، فذهب ، وجلست تشيعه بعينها ، ودموعها تتناثر مما رأت ؛ خوفا عليه. ه.

فلما غابوا به عنها فعلوا به ما تقدم ، وهموا بقتله ، فقال لهم يهوذا : أما عاهدتمونى ألا تقتلوه ؛ فأتوا به إلى البئر فدلوه فيها فتعلق بشفيرها ، فربطوا يده ، ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم ، ويحتالوا به على أبيهم ، فقال : يا إخوتاه ردّوا علىّ قميصى أتوارى به ، فقالوا : ادع الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر يلبسوك ويؤنسوك. فلما بلغ نصفها ألقوه ، وكان فيها ماء ، فسقط ، ثم آوى إلى صخرة كانت فيها فقام عليها يبكى ، فجاءه جبريل بالوحى ، كما قال : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ ...) إلخ. وكان ابن سبع عشرة سنة ، وقيل : كان مراهقا. وقال ابن عطية : كان ابن سبع سنين ، أوحى إليه فى صغره كما أوحى إلى يحيى وعيسى ـ عليهما‌السلام ـ.

وفى القصص : أن ابراهيم عليه‌السلام ، حين ألقى فى النار ، جرد من ثيابه ، فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ، فدفعه إبراهيم إلى إسحق ، وإسحق إلى يعقوب ، فجعله فى تميمة علقها على يوسف ، فأخرجه جبريل وألبسه يوسف.

ثم قال له فيما أوحى إليه : (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ) أي : لتحدثنهم (بِأَمْرِهِمْ هذا) ؛ بما فعلوا بك ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنك يوسف ، لعلو شأنك وبعده عن أوهامهم ، وطول العهد المغير للحال والهيئات. وذلك إشارة إلى ما قال لهم بمصر ، حين دخلوا عليه ممتارين ، فعرفهم وهم له منكرون ، إلى أن قال لهم : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) (١) وفى رواية : أوحى إليه : يا يوسف لا تحزن على ما أصابك ، فإنك تصل إلى ملك كبير ، ويقف إخوتك بين يديك. بشره بما يؤول إليه أمره ، إيناسا وتطبيبا لقلبه. وقيل : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) متصل بقوله : (وَأَوْحَيْنا) أي : آنسناه بالوحى وهم لا يشعرون ذلك.

__________________

(١) الآية ٨٩ من سورة يوسف.

٥٨٠