البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٩

وتحريض للمؤمنين على التشبه بالملأ الأعلى ، ولذلك شرع السجود عند قراءتها. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قرأ ابن آدم السجدة ، فسجد ، أعتزل الشيطان يبكى ، يقول : يا ويله ؛ أمر هذا بالسّجود فسجد فله الجنّة ، وأمرت بالسّجود فعصيت فلى النار» (١).

الإشارة : اعلم أن الذكر على خمسة أقسام : ذكر اللسان فقط ؛ لعوام المسلمين ، وذكر اللسان مع القلب ؛ لخواص الصالحين وأول المتوجهين ، وذكر القلب فقط ؛ للأقوياء من السائرين ، وذكر الروح ؛ لخواص أهل الفناء من الموحدين ، وذكر السر ؛ لأهل الشهود والعيان من المتمكنين ، وفى قطع هذه المقامات يقع السير للسائرين ، فيترقى من مقام ، إلى مقام ، حتى يبلغ إلى ذكر السر ، فيكون ذكر اللسان فى حقه غفلة.

وفى هذا المقام قال الواسطي رضى الله عنه : الذاكرون فى حال ذكره أشد غفلة من التاركين لذكره ؛ لأن ذكره سواه.

وفيه أيضا قال الغزالي : ذكر اللسان يوجب كثرة الذنوب. وقال الشاعر :

ما إن ذكرتك إلّا همّ يلعننى

سرّى ، وقلبى ، وروحى ، عند ذكراك

حتّى كأنّ رقيبا منك يهتف بي :

إيّاك ، ويحك ، والتّذكار إياك

أما ترى الحقّ قد لاحت شواهده

وواصل الكلّ من معناه معناك

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) ... الآية ، قال القشيري : أثبت لهم عندية الكرامة ، وحفظ عليهم أحكام العبودية ؛ كى لا ينفك حال جمعهم عن نعت فرقهم ، وهذه سنّة الله تعالى مع خواص عباده ، يلقاهم بخصائص عين الجمع ، ويحفظ عليهم حقائق عين الفرق ، لئلا يخلّوا بآداب العبودية فى أوان وجود الحقيقة. ه.

__________________

(١) أخرجه مسلم فى (الإيمان ـ باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة) من حديث أبى هريرة ـ رضى الله عنه.

٣٠١
٣٠٢

سورة الأنفال

مدنية. وآياتها : ست وسبعون آية ، نزلت كلها فى غزوة بدر الكبرى ، حين اختلف الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ فى قسمة الغنائم ، وهى الأنفال. ووجه المناسبة لما قبلها : تحريض المؤمنين على الطاعة ، والانقياد في شأن الغنائم وغيرها حتى يتشبهوا بالملائكة فى سرعة الانقياد والخضوع لله تعالى ، فى قوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) الآية (١).

قال الحق جل جلاله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤))

يقول الحق جل جلاله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ) قسمة (الْأَنْفالِ) وهى الغنائم ، سميت الغنيمة نفلا لأنها عطية من الله تعالى ، وزيادة فضل ، كما يسمى ما يشترطه الإمام للشجاع المقتحم خطرا ، نفلا ؛ لأنه عطية له زيادة على سهمه ، وكما سمى يعقوب عليه‌السلام نافلة ؛ لأنه عطية زائدة على ولد إبراهيم عليه‌السلام ، حيث كان حفيده. ثم أجابهم الحق تعالى فقال : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي : أمرها إلى الله ورسوله ، يقسمها رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يأمره الله تعالى ، وفى الوضع الذي يعينه له.

وسبب نزولها : اختلاف المسلمين في غنائم بدر كيف تقسم ، هل فى المهاجرين لفقرهم ، أو فى الأنصار لنصرهم ، أو فيهما معا. قال ابن جزى : وذلك أنهم كانوا يوم بدر ثلاث فرق : فرقة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى العريش تحرسه وتؤنسه ، وفرقة اتبعوا المشركين فقتلوهم وأسروهم ، وفرقة أحاطوا بأسلاب العدو وعسكرهم لما انهزموا ، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس ، ورأت كل فرقة أنها أحق بالغنيمة من غيرها ، اختلفوا فيما بينهم. فنزلت الآية. ه.

__________________

(١) الآية : ٢٠٦ من سورة الأعراف.

٣٠٣

وقيل : شرط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن كان له غناء أن ينفله ، فتسارع شبابهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ، ثم طلبوا نفلهم ، وكان المال قليلا ، فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا ردءا لكم ، وفئة تنحازون إلينا ، فلا تختصوا بشيء دوننا ، فنزلت ، فقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم على السواء. ولهذا قيل : لا يلزم الإمام الوفاء بما وعد ، وهذا قول الشافعي رضى الله عنه.

وعن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال : لمّا كان يوم بدر قتل أخى عمير ، وقتلت سعيد بن العاص ، وأخذت سيفه ، وأتيت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستوهبته منه ، فقال : «ليس هذا لى ، ولكن ضعه فى القبض (١)» ، فطرحته ، وفى قلبى ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخى وأخذ سلبى ، فما جاوزتها إلّا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سألتنى السّيف وليس لى ، وإنّه قد صار لى فاذهب فخذه» (٢).

(فَاتَّقُوا اللهَ) فى المشاجرة والاختلاف ، (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي : أصلحوا الحال التي بينكم بالمواساة والمواددة وسلامة الصدور ، والمساعدة فيما رزقكم الله ، وتسليم أمره إلى الله تعالى ورسوله ، (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يأمركم به (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ؛ فإن الإيمان يقتضى الاستماع والاتباع ، أو إن كنتم كاملى الإيمان ؛ فإن كمال الإيمان يقتضي التمسك بهذه الخصال الثلاث : امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان.

ثم ذكر شروط كمال الإيمان ، فقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) الكاملون فى الإيمان : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ؛ خافت واقشعرت لذكره ؛ استعظاما له وهيبة من جلاله ، وقيل : هو الرجل يهم بالمعصية فيقال له : اتق الله ، فينزع عنها خوفا من عقابه ، (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ) القرآنية (زادَتْهُمْ إِيماناً) أي : يقينا وطمأنينة بتظاهر الأدلة التي اشتملت عليها ، أو بالعمل بموجبها. وهو دليل على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، بناء على أن العمل داخل فيه ، والتحقيق : أن العمل خارج عنه ، لكن نوره يتقوى به وينقص بنقصانه أو بالمعصية ، وسيأتى فى الإشارة الكلام عليه.

ومن أوصاف أهل الإيمان : التوكل على الله والاعتماد عليه ، كما قال : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) وقد تقدم فى «آل عمران» الكلام على التوكل (٣) ، ثم وصفهم بإقامة الدين فقال : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ

__________________

(١) القبض ـ بالتحريك : بمعنى المقبوض ، وهو ما جمع من الغنيمة قبل أن تقسم. انظر : النهاية (قبض).

(٢) أخرجه أحمد فى المسند ١ / ١٨٠ وابن أبى شيبة (١٢ / ٣٧٠) وسعيد بن منصور (٢٦٨٩) والطبرى فى التفسير ، وبنحوه أخرجه أبو داود فى (الجهاد ، باب فى النفل) والترمذى فى (التفسير ـ سورة الأنفال).

(٣) راجع إشارة الآية ١٥٩ من سورة آل عمران.

٣٠٤

يُنْفِقُونَ) فى الواجب والتطوع. (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) ؛ لأنّهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلب ، من الخشية والإخلاص والتوكل ، ومحاسن أعمال الجوارح التي هى العيار عليها ، كالصلاة والصدقة ، (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : كرامات وعلو منزلة ، أو درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم ، (وَمَغْفِرَةٌ) لما فرط من ذنوبهم ، (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أعده لهم فى الجنة ، لا ينقطع مدده ، ولا ينتهى أمده ، بمحض الفضل والكرم.

الإشارة : الأنفال الحقيقة هى المواهب التي ترد على القلوب ، من حضرة الغيوب ؛ من العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، لا تزال تتوالى على القلوب ، حتى تغيب عما سوى المحبوب ، فيستغنى غناء لا فقر معه أبدا ، وهذه غنائم خصوص الخصوص ، وغنائم الخصوص : هى القرب من الحبيب ، ومراقبة الرقيب ، بكمال الطاعة والجد والاجتهاد ، وهذه غنائم العباد والزهاد ، وغنائم عوام أهل اليمين : مغفرة الذنوب ، والستر على العيوب ، والنجاة من النار ، ومرافقة الأبرار ، وفى الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قال عند نومه : أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلّا هو الحىّ القيّوم وأتوب إليه ، غفر الله ذنوبه ، وإن كانت مثل زبد البحر ، وعدد الرمال وعدد أيّام الدّنيا» (١).

قال الشيخ زروق : وهذه هى الغنيمة الباردة ، وهذه الأمور بيد الله وبواسطة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو معنى قوله : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ، ثم دل على موجباتها فقال : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ...) الآية ، وقوله تعالى : (زادَتْهُمْ إِيماناً) : اعلم أن الإيمان على ثلاثة أقسام : إيمان لا يزيد ولا ينقص ، وهو إيمان الملائكة ، وإيمان يزيد وينقص ، وهو إيمان عامة المسلمين ، وإيمان يزيد ولا ينقص وهو إيمان الأنبياء والرسل ، ومن كان على قدمهم من العارفين الروحانيين الراسخين في علم اليقين ، ومن تعلق بهم من المريدين السائرين ، فهؤلاء إيمانهم دائما فى الزيادة ، وأرواحهم دائما فى الترقي فى المعرفة ، يزيدون بالطاعة والمعصية ؛ لتيقظهم وكمال توحيدهم ، وفى الحكم : «وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول». وقال أيضا : «معصية أورثت ذلا وافتقارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا» والله تعالى أعلم.

ثم تكلم على الخروج إلى غزوة بدر ، فقال :

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦))

__________________

(١) أخرجه الترمذي فى (الدعوات ـ باب ١٧) من حديث أبى سعيد رضى الله عنه.

٣٠٥

قلت : (كما أخرجك) : خبر عن مبتدأ محذوف ، أي : هذه الحال ، وهى عزلهم عن تولية الأنفال فى كراهتهم لها ، كحال إخراجك فى الحرب فى كراهتهم لها ، أو حالهم فى كراهية ما رأيت من تنفيلك للغزاة ، مثل حالهم فى كراهية خروجك ، أو صفة لمصدر الفعل المقدر فى قوله : (لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ، أي : الأنفال تثبت لله وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع كراهتهم ، ثباتا مثل ثبات إخراجك ربك من بيتك ، يعنى المدينة ؛ لأنها مسكنه أو بيته منها ، وجملة : (وإن فريقا) : حال من أخرجك ، أي : أخرجك فى حال كراهية فريق من المؤمنين.

يقول الحق جل جلاله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد كره أصحابك قسمتك للأنفال كما كرهوا إخراجك (رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) لقتال العدو ، والحال أن (فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) خروجك لذلك ، وتلك الكراهية من قبل النفس وطبع البشرية ، لا من قبل الإنكار فى قلوبهم لأمر الله ورسوله ، فإنهم راضون مستسلمون ، غير أن الطبع ينزع لحظه ، والعبد مأمور بمخالفته وجهاده.

وذلك الفريق الذي كره خروجك للقتال (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) أي : يخاصمونك فى إيثارك الجهاد لإظهار الحق ، حيث أرادوا الرجوع للمدينة ، وقالوا : إنا لم نخرج لقتال ، قالوا ذلك (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) لهم أنهم منصورون أينما توجهوا ، بإعلام الرسول لهم ، لكن الطبع البشري ينزع إلى مواطن السلامة ، (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي : يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت ، وهو يشاهد أسبابه ، وكان ذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم ، إذ روى أنهم كانوا رجّالة ، وما كان فيهم إلا فارسان ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يخرج لقصد الجهاد ، وإنما لملاقاة عير قريش ، لمّا سمع أنها قدمت من الشّام ، وفيها تجارة عظيمة ، ومعها أربعون راكبا ، فيهم أبو سفيان ، وعمرو بن العاص ، ومخرفة بن نوفل ، وعمرو بن هشام ، فأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتعرض لها ويأخذها غنيمة ، حيث أخبره جبريل بقدومها من الشام ، فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين ، فأعجبهم تلقيها ، لكثرة المال وقلة الرجال ، فلما خرجوا ، بلغ الخبر أبا سفيان ، فسلك بالعير طريق السّاحل ، واستأجر من يذهب إلى مكة يستنفرها ، فلما بلغهم خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعيرهم ، نادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكة ، النّجاء النجاء ، على كل صعب وذلول ، عيركم وأموالكم إن أصابها محمّد لن تفلحوا بعدها أبدا.

وقد رأت ، قبل ذلك بثلاث ليال ، عاتكة بنت المطلب ، رؤيا ؛ وهو أن رجلا تمثل على جبل قبيس فنادى : يا آل لكع ، اخرجوا إلى مصارعكم ، ثم تمثل على الكعبة ، فنادى مثل ذلك ، ثم أخذ حجرا فضرب به ، فلم يبق بيت فى مكة إلا دخله شىء من ذلك الحجر ، فحدثت بها العباس ، وبلغ ذلك أبا جهل ، فقال : أما ترضى رجالهم أن يتنبؤوا حتى تتنبأ نساؤهم؟ لنتربص ثلاثا ، فإن لم يظهر ما تقول لنكتبن عليكم يا بنى هاشم أنكم أكذب بيت فى العرب ، فلما مضت ثلاث ليال جاء رسول أبى سفيان ليستنفرهم.

٣٠٦

فخرج أبو جهل بجموع أهل مكة ، ومضى بهم إلى بدر ، وهو ماء كانت العرب تجتمع عليه لسوقهم يوما فى السنة ، وكان رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوادي ذفران ، فنزل عليه جبريل بالوعد بإحدى الطائفتين : إما العير وإما قريش ، فاستشار فيه أصحابه ، فقال بعضهم : ما خرجنا لقتال ولا تهيأنا له ، وردد عليهم وقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل ، فقالوا : يا رسول الله ، عليك بالعير ودع العدو ، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فقام أبو بكر وعمر فأحسنا ، ثم قام سعد بن عبادة فقال : انظر فى أمرك ، وامض ، فو الله لو سرت إلى عدن ما تخلّف رجل من الأنصار ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : امض يا رسول الله لما أمرك ربك ، فإنا معك حيثما أحببت ، لا نقول كما قالت بنو إسرائيل : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (١) ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أشيروا على أيها الناس ، يريد الأنصار ؛ لأنهم كانوا عددهم ، وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم برءاء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم ، فتخوف ألّا يروا نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة ، فقام سعد بن معاذ وقال : لكأنّك تريدنا يا رسول الله؟ فقال : أجل ، فقال : قد آمنّا بك وصدّقناك ، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ ، فأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السّمع والطّاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلّف منّا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا ، وإنا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللّقاء ، ولعلّ الله يريك منا ما تقرّ به عينك ، فسر بنا على بركة الله ، فنشّطه قوله ، ثم قال : «سيروا على بركة الله ، وأبشروا ؛ فإنّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأنّى أنظر إلى مصارع القوم».

ثم مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزل بأصحابه آخر مياه من مياه بدر ، فبنى له هناك عريش ، فجلس فيه هو وأبو بكر ، فلما انتشب القتال أخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوه القوم ، وقال : شاهت الوجوه ، فلم تبق عين من الكفار إلا وقع فيها شىء منها ، ونزلت الملائكة فى العنان ، أي : السماء ، فقتل منهم سبعون ، وأسر سبعون ، وقيل : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فرغ من غزوة بدر ، قيل له : عليك بالعير ، فقال العباس ـ وهو فى وثاقه : لا يصلح ، فقيل له : لم؟ فقال له : لأن الله وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك ، فكره بعضهم قوله ، ثم رجع صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة منصورا فرحا مسرورا ، وقد أنجزه الله ما وعده.

الإشارة : من حكمته تعالى الجارية فى عباده أن كل ما يثقل على النفوس ويشق عليها فى بدايته تكون عاقبته الفتح والنصر ، والهناء والسرور ، فكل ما تكرهه النفوس فغايته حضرة القدوس ، وما تحقق سير السائرين إلا

__________________

(١) الآية ٢٤ من سورة المائدة.

٣٠٧

بمحاربة نفوسهم ومخالفة عوائدهم. وفى الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال لابن عباس فى حديث طويل : «وفى الصّبر على ما تكره خير كثير». والله تعالى أعلم.

ثم ذكر بقية قصة بدر ، فقال :

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨))

قلت : (وإذ) : ظرف لا ذكر ، محذوفة ، و (أنها لكم) : بدل اشتمال من (إحدى الطائفتين) ، والشوكة : الحدة ، مستعارة من واحد الشوك ، وسميت الحرب شوكة لحدة سلاحها.

يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكروا (إِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) ؛ قريشا ، أو عيرهم ، وعدكم (أَنَّها لَكُمْ ، وَتَوَدُّونَ) ؛ وتتمنون (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) أي : ذات الحرب (تَكُونُ لَكُمْ) وهى العير ، فإنها لم يكن فيها إلا أربعون رجلا ، وتكرهون ملاقاة النفير لكثرة عددهم وعددهم ، (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) أي : يظهر الحق ، وهو الإسلام ، بقتل الكفار وهلاكهم فى تلك الغزوة ، (بِكَلِماتِهِ) أي : بإظهار كلماته العليا ، أو بكلماته التي أوحى بها فى هذه الحال ، أو بأوامره للملائكة بالإمداد ، أو بنفوذ كلماته الصادقة بهلاكهم ، (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي : يستأصلهم ويقطع شوكتهم.

ومعنى الآية : أنكم تريدون أن تصيبوا مالا ولا تلقوا مكروها ، والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق ، وما يحصل لكم من فوز الدارين. وإنما فعل ما فعل من سوقكم إلى القتال ؛ (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) أي : ليظهر الدين ويبطل الكفر.

قال البيضاوي : وليس بتكرار ؛ لأن الأول لبيان المراد ، وما بينه وبين مرادهم من التفاوت ، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اختيار ذات الشوكة وقصره عليها. ه. وقال ابن جزى : ليس تكرارا للأول ؛ لأن الأول مفعول يريد ، وهذا تعليل لفعل الله تعالى ، ويحتمل أن يريد بالحق الأول الوعد بالنصرة ، وبالحق الثاني الإسلام ، فيكون المعنى : أنه نصرهم ليظهر الإسلام ، ويؤيد هذا قوله : (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) أي : يبطل الكفر ، (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ذلك ، فإن الله لا بد أن يظهر دينه على الدين كله ، ولو كره الكافرون.

٣٠٨

الإشارة : وعد الله المتوجهين إليه بالوصول إلى سر الخصوصية ، وهى الولاية ، لكن بعد المجاهدة والمحاربة للنفوس ؛ لأن الحضرة لا يدخلها إلا أهل التهذيب والتدريب ، وترى كثيرا من الناس يتمنون أن تكون لهم من غير حرب ولا قتال ، ويريد الله أن يحق الحق بكشف الحجب عن القلوب ، حتى لا يشاهدوا إلا الحق ، ويبطل الباطل ، وهو السّوى ، ولا يكون فى العادة إلا بعد موت النفوس وتهذيبها وتطهيرها بالرياضة على شيخ عارف. قال الششترى مترجما عن لسان الحقيقة :

إن ترد وصلنا فموتك شرط

لا ينال الوصال من فيه فضله

ثم ذكر إمدادهم بالملائكة ، فقال :

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠))

قلت : (إذ) : بدل من (إذ يعدكم) ، أو متعلق بقوله : (ليحق الحق) ، أو باذكر.

يقول الحق جل جلاله : واذكروا حين كنتم (تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) وتدعون بالغوث والنصر ، وذلك أن الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ لمّا علموا ألّا محيص لهم عن القتال أخذوا يقولون : ربنا انصرنا على عدوك ، يا غياث المستغيثين أغثنا.

وعن عمر : رضى الله عنه (أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر إلى المشركين وهم ألف ، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ، فاستقبل القبلة ومدّ يديه يدعوه : «اللهم أنجز لى ما وعدتني ، اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لم تعبد فى الأرض» ، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه ، فقال أبو بكر : يا نبىّ الله ، كفاك مناشدتك ربّك ، فإنه سينجز لك ما وعدك) (١). وقد تقدم أن الأنبياء وكبراء الأولياء لا يقفون مع ظاهر الوعد والوعيد ، لسعة دائرة علمهم ، بل لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير الله قرارهم ، ولعل ذلك الوعد يكون متوقفا على شروط أخفاها الحق تعالى ؛ لتظهر قهريته وانفراده بالعلم المحيط.

ولما استغاثوا بالله وأظهروا الحاجة إليه أجابهم فقال : (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ) ؛ مقويكم ومكثركم (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) يتبع بعضهم بعضا ، ويتبع المؤمنين ، فكانوا خلفهم ردءا لهم ، فمن قرأ بفتح الدال

__________________

(١) أخرجه مسلم فى (الجهاد ـ باب الإمداد بالملائكة فى غزوة بدر).

٣٠٩

فهو اسم مفعول ، ومن قرأه بالكسر فاسم فاعل ، وصح معنى القراءتين ، لأن الملائكة المنزلين يتبع بعضهم بعضا ، فمنهم تابعون ومتبوعون ، ومن قرأ بالفتح فالمراد مردفين بالمؤمنين ، فكانوا مقدمة الجيش ، ومن قرأ بالكسر فالمراد مردفين للمؤمنين تابعين لهم ، فكانوا ساقة للجيش.

ثم ذكر حكمة الإمداد بقوله : (وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي : الإمداد ، (إِلَّا بُشْرى) أي : بشارة بالنصر ، (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) فيزول ما بها من الوجل لقلتكم ، (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) ؛ لا يتوقف على سبب ، (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يغلب ، (حَكِيمٌ) فى تدبير الأسباب وترتيبها رداء للقدرة الأزلية ، فإمداد الملائكة ، وكثرة العدد ، والتأهب ، وسائط ، لا تأثير لها ، فلا تحسبوا النصر منها ، ولا تيأسوا منه بفقدها ، فحكم الأزل جلّ أن يضاف إلى العلل.

الإشارة : إظهار الفاقة والابتهال لا يقدح فى صحة التوكل على الكبير المتعال ، بل هو شرف للإنسان ، وتقريب من الكريم المنان ، بل من شأن العارف الكامل الرجوع إلى الله فى كل شيء ، والتعلق به فى كل حال ، ولو وعده بالنصر أو الإجابة ، لا يقطع عنه السؤال ، عبودية وتملقا بين يدى الحبيب.

وقد اختلف الصوفية : أي الحالين أشرف : هل الدعاء والتضرع؟ أو السكوت والرضى تحت مجارى الأقدار؟ وقال بعضهم : يجب أن يكون العبد صاحب دعاء بلسانه ، صاحب رضى بقلبه ، ليجمع بين الأمرين. قال القشيري : والأولى أن يقال : إن الأوقات مختلفة ، ففى بعض الأحوال الدعاء أفضل ، وفى بعض الأحوال السكوت أفضل ، وإنما يعرف ذلك فى الوقت ؛ لأن علم الوقت يحصل فى الوقت ، فإذا وجد فى قلبه إشارة إلى الدعاء ؛ فالدعاء منه أولى ، وإذا وجد إشارة إلى السكوت فالسكوت أتم. ه. وقد تقدم فى آل عمران إشارة الإمداد (١). وبالله التوفيق.

ثم ذكر تأمينهم ، فقال :

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢))

__________________

(١) راجع إشارة الآية ١٢٥ من سورة آل عمران.

٣١٠

قلت : (إذ) : بدل ثان من (إذ يعدكم) ، أو متعلق بالنصر ، لما فى (عند الله) من معنى الفعل ، أو بإضمار اذكروا. ومن قرأ بضم الياء ، فهو من أغشى ، أي : غطى ، ومن قرأ بالتشديد ، فهو من غشى المضعف ، وكلاهما يتعدى إلى مفعولين ، الكاف الأول والنعاس الثاني ، ومن قرأ بالفتح والتخفيف ، فهو من غشى يغشى ؛ المتعدى إلى واحد ، و (أمنة) : مفعول من أجله.

يقول الحق جل جلاله : واذكروا (إِذْ يُغَشِّيكُمُ) ، أي : حين كان يغشيكم (النُّعاسَ) وأنتم فى القتال ، حين ينزل عليكم الأمن من العدو بعد شدة الخوف ، وذلك لأجل الأمن الذي نزل من الله عليكم بعد شدة خوفكم. قال ابن مسعود رضى الله عنه : النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو.

ثم ذكّرهم بمنة أخرى ، فقال : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) من الحدث والجنابة ، (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) أي : وسوسته وتخويفه إياهم من العطش ، روى أنهم نزلوا فى كثيب رمل دهس ، تسوخ فيه الأقدام ، على ماء قليل ، وناموا فاحتلم أكثرهم ، فوسوس إليهم الشيطان ، وقال : كيف تنصرون وأنتم تصلون محدثين مجنبين ، وتزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله؟ ، فأشفقوا ، فأنزل الله المطر ، فمطروا ليلا حتى جرى الوادي ، فاتخذوا الحياض على عدوته ، وسقوا الركاب ، واغتسلوا وتوضؤوا ، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو ، حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الدهوسة ، وهذا معنى قوله : (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) أي : وليربط على قلوبكم بالوثوق على لطف الله وزوال ما وسوس إليهم الشيطان ، وذهاب الكسل عنها. (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) حتى لا تسوخ فى الرمل ، أو بالربط على القلوب حتى تثبت فى مداخص الحرب.

واذكروا أيضا : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) أي : أثبت أقدامكم حين أوحي إلى الملائكة أنى معكم فى نصر المؤمنين وتثبيتهم ، (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) بتكثير عددهم ، أو بالبشارة لهم ، أو بمحاربة أعدائهم ، على قول من قال : إنهم باشروا القتال. (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) والجزع ، حتى لا يثبتوا لقتالكم ، يحتمل أن يكون من خطاب الله للملائكة ، أو استئناف ؛ إخبارا للمؤمنين عما يفعله بعدوهم عاجلا وآجلا. ثم قال للملائكة أو للمؤمنين : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) أي : أعاليها التي هى المذابح والرؤوس ، (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) أي : أصابعهم ، أي : جزوا رقابهم واقطعوا أطرافهم.

الإشارة : كان شيخ شيخنا يشير على الفقراء ، إذا كثرت عليهم الخواطر والهواجس ، بالنوم ، ويقول : من تشوش خاطره فليرقد حتى يشبع من النعاس ، فإنه يجد قلبه ؛ لأن النعاس أمنة من الله يذهب به رجز الشيطان وثقله ، ويربط على القلوب فى الحضرة ؛ لأنه زوال ، وإذا زال العبد ظهر الحق وزهق الباطل.

٣١١

وقوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) : هو ماء الغيب الذي يطهر القلوب من شهود السّوى ، ويذهب به رجز الشيطان ، وهى ظلمة الأكوان ، التي تنعقد فى القلب من حب الهوى الذي هو من تزيين الشيطان ، ويثبت به الأقدام ، حتى تثبت عند مصادمة أنوار الحضرة ، التي هى تجلى الذات ، فلا يثبت لها إلا الشجعان والأبطال وأكابر الرجال. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر علة أمرهم بقتل الكفار ، فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤))

قلت : (ذلكم) : مبتدأ حذف خبره ، أي : ذلكم العقاب أو العذاب ، أو خبر ، أي : الأمر ذلكم ، أو منصوب بمضمر يفسره فذوقوه ، و (أن للكافرين) : عطف على (ذلكم) ، أو نصب على المفعول معه ، وقرىء بالكسر ؛ استئنافا.

يقول الحق جل جلاله : (ذلِكَ) الضرب لأعناق الكفار ، أو الأمر به (بِأَنَّهُمْ) ؛ بسبب أنهم (شَاقُّوا) أي : خالفوا (اللهَ وَرَسُولَهُ) ، وصاروا كأنهم فى شق وهو فى شق ؛ مبالغة فى المخالفة والمباعدة ، (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ) ويبعد عنهما (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لكل من خالفه أو خالف رسوله ، وهو تقرير للتعليل ، أو وعيد بما أعد الله لهم فى الآخرة بعد ما حاق بهم فى الدنيا ، (ذلِكُمْ) العذاب (فَذُوقُوهُ) وباشروا مرارته ، (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) ، والمعنى : ذوقوا ما عجل لكم من النقمة فى الدنيا مع ما يحل عليكم فى الآخرة من عذاب النار ، ووضع الظاهر موضع المضمر ؛ للدلالة على أن الكفر سبب العذاب العاجل والآجل.

الإشارة : مخالفة الله ورسوله توجب الطرد والبعاد ، وموافقة الله ورسوله توجب القرية والوداد ، وهذه الموافقة التي توجب للعبد المحبة والوداد تحصل بخمسة أشياء : امتثال أمره ، واجتناب نهيه ، والإكثار من ذكره ، والاستسلام لقهره ، والاقتداء بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتأدب بآدابه ، والتخلق بأخلاقه ، وبأضداد هذه الأشياء يحصل للعبد المخالفة التي توجب طرده وبعده ، وهي مخالفة أمره ، وارتكاب نهيه ، والغفلة عن ذكره ، والتسخط عند نزول قهره ، وعدم الاقتداء بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ بارتكاب البدع المحرمة والمكروهة ، حتى يفضى به الحال إلى المشاققة والمباعدة ، (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). وبالله التوفيق.

٣١٢

ثم نهى عن الفرار فى الحرب ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦))

قلت : (زحفا) : مصدر ، وزحف الصبى إذا دب على مقعده قليلا قليلا ، سمى به الجيش المقابل للقتال ؛ لأنه يندفع للقتال شيئا فشيئا ، ونصبه على الحال من فاعل «لقيتم» ، أو «من الذين كفروا» ، و (متحرفا) و (متحيزا) : حالان ، و (إلا) ملغاة ، ووزن متحيز : متفيعل ، لا متفعل ، وإلا لكان متحوزا ؛ لأنه من حاز يحوز.

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) زاحفين لهم ، تدبون إليهم ويدبون إليكم ، تريدون قتالهم متوجهين إليهم ، (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) بالانهزام عنهم ، فإنه حرام ، وهو من الكبائر ، ويفيد بألا يكون الكفار أكثر من ثلثى المسلمين ، فإن زادوا على ثلثى المسلمين حلّ الفرار ، وأن يكون المسلمون مسلحين ، وإلا جاز الفرار ممن هو بالسلاح دونه ، (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) ، وهو أن يكرّ راجعا أمام العدو ليرى عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه ، وهو من مكائد الحرب ، (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) أي : منحازا إلى جماعة من المسلمين ليستعين بهم ، فإن كانت الجماعة حاضرة فى الحرب ، أو قريبة ، فالتحيز إليها جائز باتفاق ، واختلف فى التحيز إلى المدينة والإمام والجماعة إذا لم يكن شىء من ذلك حاضرا.

ويروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال : أنا فئة لكل مسلم. وروى عن ابن عمر : أنه كان فى سرية بعثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففرّوا إلى المدينة ، فقلت : يا رسول الله ، نحن الفرّارون ، فقال : «أنتم الكرّارون ، وأنا فئتكم» (١).

فمن فرّ من الجهاد بالشرط المتقدم (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ، ومن هذا يفهم أنه من الكبائر. قال البيضاوي : وهذا إذا لم يزد العدو على الضعف ، لقوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ...) (٢) الآية ، وقيل : الآية مخصوصة بأهل بيته والحاضرين معه فى الحرب. ه.

الإشارة : يقول الحق جل جلاله للمتوجهين إليه بالمجاهدة والمكابدة : إذا لقيتم أعداءكم من القواطع ؛ كالحظوظ ، والشهوات ، وسائر العلائق ، فاثبتوا حتى تظفروا ، ولا ترجعوا وتولوهم الأدبار فيظفروا بكم ، إلا متحرفا

__________________

(١) أخرجه أحمد فى المسند (٢ / ٧٠) وأبو داود فى (الجهاد ـ باب فى التولي يوم الزحف) والترمذي وحسنه فى (الجهاد ـ باب ما جاء فى الفرار يوم الزحف).

(٢) الآية ٦٦ من سورة الأنفال.

٣١٣

لقتال ؛ بإيثار بعض الرخص ، ليقوى على ما هو أشد منها مشقة عليها ، أو متحيزا إلى جماعة من أكابر العارفين ، فإنهم يغنونه بالمشاهدة عن المجاهدة ، إذا ملكهم زمام نفسه ، وفعل كل ما يشيرون به عليه ، فإن ذلك يفضى به إلى الراحة بعد التعب ، والمشاهدة بعد المجاهدة ، إذ لا تجتمع المجاهدة فى الظاهر مع مشاهدة الباطن عند أهل الذوق.

قال القشيري ـ بعد كلامه على الآية : فالأقوياء من الأغنياء ينفقون على خدمهم من نعمهم ، والأصفياء من الأولياء ينفقون على مريديهم من هممهم ؛ يجبرون كسرهم وينوبون عنهم ، ويساعدونهم بحسن إرشادهم ، ومن أهمل مريدا وهو يعرف صدقه ، أو خالف شيخا وهو يعرف فضله وحقّه ، فقد باء من الله بسخط ، والله تعالى حسيبه فى مكافأته على ما حصل من قبيح وصفه. ه.

ثم عزلهم عن الحول والقوة ، فقال :

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨))

يقول الحق جل جلاله : فلم تقتلوا الكفار بحولكم وقوتكم وذلتكم ، وقلة عدتكم وعددكم ، وكثرة عدد عدوكم وعدتهم ، (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) بواسطة مباشرتكم ، حيث أيدكم وسلطكم عليهم ، وإمداد الملائكة لكم ، وإلقاء الرعب فى قلوب عدوكم.

قال البيضاوي : روى أنه لما أطلّت قريش من العقنقل ـ اسم جبل ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها ، يكذّبون رسولك ، اللهمّ إنّى أسألك ما وعدتني» ، فأتاه جبريل ، وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلمّا التقى الجمعان تناول كفا من الحصباء فرمى بها فى وجوههم ، وقال : «شاهت الوجوه» ، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه ، فانهزموا. وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر ، فيقول الرجل : قتلت وأسرت ، فنزلت الآية ، وإلغاء جواب شرط محذوف ، تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ، ولكن الله قتلهم ، (وَما رَمَيْتَ) يا محمد رميا توصلها إلى أعينهم ، ولم تقدر عليه (إِذْ رَمَيْتَ) أي : حين ألقيت صورة الرمي ، (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) ، أتى بما هو غاية الرمي ، فأوصلها إلى أعينهم جميعا ، حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم. ه. فالرمى ، حقيقة ، إنما وقع من الله تعالى ، وإن ظهر حسا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣١٤

وإنما فعل ذلك ليقطع طرفا من الكفار ، ويحد شوكتهم ، (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أي : ليختبر المؤمنين منه اختبارا حسنا ، ليظهر شكرهم على هذه النعمة ، أو لينعم عليهم نعمة عظيمة ؛ بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات ، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لاستغائتهم ودعائهم ، (عَلِيمٌ) بنياتهم وأحوالهم. (ذلِكُمْ) أي : البلاء الحسن ، أو القتل ، أو الرمي ، واقع لا محالة ، أو الأمر ذلكم ، (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) أي : مضعف كيد الكافرين ، ومبطل حيلهم ، أي : المقصود بذلك القتل أو الرمي إبلاء المؤمنين ، وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم.

الإشارة : يقول الحق جل جلاله للمريدين المتوجهين لحضرة محبوبهم : فلم تقتلوا نفوسكم بمجاهدتكم ؛ إذ لا طاقة لكم عليها ، ولكن الله قتلها بالنصر والتأييد ، حتى حييت بمعرفته ، ويقول للشيخ : وما رميت القلوب بمحبتى ومعرفتى ، ولكن الله رمى تلك القلوب بشىء من ذلك ، وإنما أنت واسطة وسبب من الأسباب العادية ، لا تأثير لك فى شىء من ذلك.

حكى أن الحلاج ، لما كان محبوسا للقتل ، سأله الشبلي عن المحبة ، فقال : الغيبة عما سوى المحبوب ، ثم قال : يا شبلى ، ألست تقرأ كتاب الله؟ فقال الشبلي : بلى ، فقال : قد قال الله لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) ، يا شبلى ؛ إذا رمى الله قلب عبده بحبّة من حبّه ، نادى عليه مدى الأزمان بلسان العتاب. ه. والمقصود بذلك : تخصيص أوليائه المقربين بالمحبة والمعرفة والتمكين ، وتوهين كيد الغافلين المنكرين لخصوصية المقربين. والله تعالى أعلم.

ولما أرادت قريش الخروج إلى غزوة بدر ، تعلقوا بأستار الكعبة ، وطلبوا الفتح ، وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين ، وأهدى الفئتين ، وأكرم الحزبين ، كما أشار إلى ذلك الحق تعالى بقوله :

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩))

يقول الحق جل جلاله لكفار مكة على جهة التهكم : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) أي : تطلبوا الفتح ، أي : الحكم على أهدى الفئتين وأعلى الجندين وأكرم الحزبين ، (فَقَدْ جاءَكُمُ) الحكم كما طلبتم ، فقد نصر الله أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحزبه ، (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عن الكفر ومعاداة الرسول ، (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ؛ لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلين ، (وَإِنْ تَعُودُوا) لمحاربته (نَعُدْ) لنصره ، (وَلَنْ تُغْنِيَ) ؛ تدفع (عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ) ؛ جماعتكم (شَيْئاً) من المضار (وَلَوْ كَثُرَتْ) فئتكم ، إذ العبرة بالنصرة لا بالكثرة ، (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصر والمعونة.

٣١٥

ومن قرأ بالفتح ؛ فعلى حذف الجار ، أي : ولأن الله مع المؤمنين ، وقيل : الخطاب للمؤمنين ، والمعنى : إن تستنصروا فقد جاءكم النصر ، وإن تنتهوا عن التكاسل فى القتال ، والرغبة عما يختاره الرسول ، فهو خير لكم ، وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار ، أو تهييج العدو ، ولن تغنى ، حينئذ ، عنكم كثرتكم ؛ إذ لم يكن الله معكم بالنصر ، فإنه مع الكاملين فى إيمانهم. قاله البيضاوي.

الإشارة : إن تستفتحوا أيها المتوجهون ، أي : تطلبوا الفتح من الله فى معرفته ، فقد جاءكم الفتح ، حيث صح توجهكم وتركتم حظوظكم وعلائقكم ، لأن البدايات مجلاة النهايات ، من وجد ثمرة عمله عاجلا فهو علامة القبول آجلا ، وإن تنتهوا عن حظوظكم وعوائقكم فهو خير لكم ، وبه يقرب فتحكم ، وإن تعودوا إليها نعد إليكم بالتأديب والإبعاد ، ولن تغنى عنكم جماعتكم شيئا فى دفع التأديب ، أو البعد ، ولو كثرت ، وأن الله مع المؤمنين الكاملين فى الإيمان ؛ بالنصر والرعاية.

ثم أمر بالسمع والطاعة ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١))

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) فيما أمركم به ونهاكم عنه ، (وَرَسُولَهُ) فيما ندبكم إليه ، من الجهاد وغيره ، (وَلا تَوَلَّوْا) أي : تعرضوا عن الرسول (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) القرآن يأمركم بالتمسك به ، والاقتداء بهديه. والمراد بالآية : النهى عن الإعراض عن الرسول. وذكر طاعة الله إما هو للتوطئة والتنبيه على أن طاعة الله فى طاعة الرسول ، لقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (١) ، ثم أكد النهى بقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) بآذاننا ، كالكفرة والمنافقين ، ادّعوا السماع ، (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماعا ينتفعون به ، فكأنهم لا يسمعون رأسا.

الإشارة : لما غاب عليه الصلاة والسلام بقي خلفاؤه فى الظاهر والباطن ؛ وهم العلماء الأتقياء ، والعارفون الأصفياء. فمن تمسك بهم ، واستمع لقولهم ، فقد تمسك بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن أعرض عنهم فقد أعرض عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن تمسك بما جاءت به العلماء ، فاز بالشريعة المحمدية ، وكان من الناجين الفائزين. ومن تمسك بالأولياء العارفين ، واستمع لهم ، وتبع إرشادهم ، فاز بالحقيقة الربانية ، وكان من المقربين. ومن سمع منهم الوعظ والتذكير ،

__________________

(١) من الآية ٨٠ من سورة النساء.

٣١٦

ثم صرفه عن نفسه إلى غيره ، يصدق عليه قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) وكان من شر الدواب التي أشار إليهم تعالى بقوله :

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) ؛ وهو كل من يدب على وجه الأرض ، (الصُّمُ) عن سماع الحق ، (الْبُكْمُ) عن النطق به ، (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) الحق ولا يعرفونه ، عدهم من البهائم ثم جعلهم شرها ؛ لإبطالهم ما ميزوا به وفضلوا لأجله ، وهو استعمال العقل فيما ينفعهم من التفكر والاعتبار. قال ابن قتيبة : نزلت هذه الآية فى بنى عبد الدار ، فإنهم جدوا فى القتال مع المشركين ، يعنى يوم بدر ، وحكمها عام.

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً) ؛ سعادة كتبت لهم ، أو انتفاعا بالآيات ، (لَأَسْمَعَهُمْ) سماع تفهم ، (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) ، مع كونه قد علم الأخير فيهم ، (لَتَوَلَّوْا) عنه ، ولم ينتفعوا به ، وارتدوا بعد التصديق والقبول ، (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عنه ، لعنادهم ، وقيل : إنهم طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحيي لهم قصى بن كلاب ، ويشهد له بالرسالة ، حتى يسمعوا منه ذلك ، فأنزل الله : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) كلامه بعد إحيائه ، (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) ، لسبق الشقاوة فى حقهم.

الإشارة : اعلم أن الأمر الذي شرف به الآدمي وفضل غيره هو معرفة خالقه ، واستعمال العقل فيما يقربه إليه ، وسماع الوعظ الذي يزجره عن غيه ، فإذا فقد هذا كان كالبهائم أو أضل ، ولله در ابن البنا ، حيث يقول فى مباحثه :

واعلم أنّ عصبة الجهّال

بهائم فى صور الرّجال

واعلم أيضا أن بعض القلوب لا تقبل علم الحقائق ، فأشغلها بعلم الشرائع ، ولو علم فيها خيرا لأسمعها تلك الأسرار ، ولو أسمعها ، مع علمه بعدم قبولها ، لتولت عنها وأعرضت ؛ لضيق صدرها وعدم التفرغ لها.

ثم دل على ما فيه حياة القلوب ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤))

٣١٧

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ) أي : أجيبوه فيما دعاكم إليه ، (وَلِلرَّسُولِ) فيما دلكم عليه من الطاعة والإحسان ، (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) من العلوم الدينية ؛ فإنها حياة القلب ، كما أن الجهل موته ، أو (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) الحياة الأبدية ، فى النعيم الدائم ، من العقائد والأعمال ، أو من الجهاد ، فإنه سبب بقائكم ؛ إذ لو تركتموه لغلبكم العدو وقتلكم ، أو الشهادة ، لقوله تعالى : (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١) ، ووحد الضمير فى قوله : (إِذا دَعاكُمْ) باعتبار ما ذكر ، أو لأن دعوة الله تسمع من الرسول.

وفى البخاري : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا أبىّ بن كعب ، وهو فى الصّلاة ، فلم يجب ، فلما فرغ أجاب ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما منعك أن تجيبنى؟ فقال : كنت أصلى ، فقال : ألم تسمع قوله : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)(٢) فاختلف فيه العلماء ، فقيل لأن إجابته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تقطع الصلاة ، فيجيب ، ويبقى على صلاته ، وقيل : إن دعاءه كان لأمر لا يقبل التأخير ، وللمصلى أن يقطع الصلاة لمثله ، كإنقاذ أعمى وشبهه.

ثم قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) ؛ فينقله من الإيمان إلى الكفر ، ومن الكفر إلى الإيمان ، ومن اليقين إلى الشك ، ومن الشك إلى اليقين ، ومن الصفاء إلى الكدر ، ومن الكدر إلى الصفاء. قال البيضاوي : هو تمثيل لغاية قربه من العبد ؛ كقوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٣) ، وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب ، مما عسى أن يغفل عنها صاحبها ، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها ، قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره ، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه ؛ فيفسخ عزائمه ، ويغير مقاصده ، ويحول بينه وبين الكفر ، إن أراد سعادته ، وبينه وبين الإيمان ، إن قضى شقاوته. ه. (وَ) اعلموا أيضا (أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ؛ فيجازيكم بأعمالكم وعقائدكم.

الإشارة : قد جعل الله ، من فضله ورحمته ، فى كل زمان وعصر ، دعاة يدعون الناس إلى ما تحيا به قلوبهم ، حتى تصلح لدخول حضرة محبوبهم ، فهم خلفاء عن الله ورسوله ، فمن استجاب لهم وصحبهم حيى قلبه ، وتطهر سره ولبه ، ومن تنكب عنهم ماتت روحه فى أودية الخواطر والأوهام.

__________________

(١) من الآية ١٦٩ من سورة آل عمران.

(٢) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الأنفال ـ باب قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ..) وفيه أن المدعو هو «أبو سعيد المعلى» وليس «أبى» أما حديث أبى فأخرجه الترمذي فى : (فضائل القرآن ـ باب ما جاء فى فضل فاتحة الكتاب) وأحمد فى المسند ٥ / ١١٤ والدارمي فى (فضائل القرآن ـ باب فضل فاتحة الكتاب) والحاكم فى المستدرك (١ / ٥٥٨) وصححه ووافقه الذهبي. وقال الحافظ ابن حجر : وجمع البيهقي بأن القصة وقعت لأبى بن كعب ولأبى سعيد بن المعلى. راجع الفتح ٨ / ١٥٨.

(٣) الآية ١٦ من سورة ق.

٣١٨

وقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) ؛ حيلولة الحق تعالى بين المرء وقلبه هو تغطيته وحجبه عن شهود أسرار ذاته وأنوار صفاته ، بالوقوف مع الحس ، وشهود الفرق بلا جمع ، ويعبر عنه أهل الفن بفقد القلب ، فإذا قال أحدهم : فقدت قلبى ، فمعناه : أنه رجع لشهود حسه ووجود نفسه ، ووجدان القلب هو احتضاره بشهود معانى أسرار الذات وأنوار الصفات ، فيغيب عن نفسه وحسه ، وعن سائر الأكوان الحسية ، وفقدان القلب يكون بسبب سوء الأدب ، وقد يكون بلا سبب ؛ اختبارا من الحق تعالى ، هل يفزع إليه فى فقده أو يبقى مع حاله.

وقد تكلم الغزالي على القلب فقال ، فى أول شرح عجائب القلب من الإحياء : إن المطيع بالحقيقة لله هو القلب ، وهو العالم بالله ، والعامل لله ، وهو الساعي إلى الله ، والمتقرب إليه ، المكاشف بما عند الله ولديه ، وإنما الجوارح أتباع ، والقلب هو المقبول عند الله ، إذا سلّم من غير الله ، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقا فى غير الله ، وهو المطالب والمخاطب ، وهو المعاتب والمعاقب ، وهو الذي يسعد بالقرب من الله ، فيفلح إذا زكاه ، ويخيب ويشقى إذا دنسه ودساه. ثم قال : وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه ، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه ، وإذا جهله فقد جهل نفسه ، وإذا جهل نفسه ، جهل ربه ، ومن جهل قلبه فهو لغيره أجهل ، وأكثر الناس جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وقد حيل بينهم وبين أنفسهم ، فإن الله يحول بين المرء وقلبه ، وحيلولته بأن يمنعه عن مشاهدته ومراقبته ، ومعرفة صفاته ، وكيفية تقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن ، إلى أعلى عليين ، ويرتقى إلى عالم الملائكة المقربين ، ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه ، ويترصد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه ، فهو ممن قال الله تعالى فيهم : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (١) الآية. ه.

وقد أنشد من وجد قلبه ، وعرف ربه ، وغنى بما وجد ، فقال :

أنا القرآن والسّبع المثاني

وروح الرّوح لا روح الأوانى

فؤادى عند معلوم مقيم

تناجيه وعندكم لسانى

فلا تنظر بطرفك نحو جسمى

وعد عن التنعم بالأوانى

فأسرارى تراءت مبهمات

مستّرة بأنوار المعاني

فمن فهم الإشارة فليصنها

وإلّا سوف يقتل بالسنان

كحلّاج المحبة إذ تبدّت

له شمس الحقيقة بالتدانى

__________________

(١) الآية ١٩ من سورة الحشر.

٣١٩

ومن أسباب تشتت القلب وفقده دخول الفتنة عليه ، الذي أشار إليه بقوله :

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥))

قلت : دخلت النون فى (لا تصيبن) ؛ لأنه فى معنى النهى ، على حد قوله : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ) (١). انظر البيضاوي.

يقول الحق جل جلاله : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) ، إن نزلت ، (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) ، بل تعم الظالم وغيره ، ثم يبعث الناس على نيتهم ، وذلك كإقرار المنكر بين أظهركم ، والمداهنة فى الأمر بالمعروف ، واقتراف الكبائر ، وظهور البدع ، والتكاسل فى الجهاد ، وعن الفرائض ، وغير ذلك من أنواع الذنوب ، وفى الحديث : «لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ، أو ليعمّنّكم الله بعذابه» (٢). أو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قالت عائشة رضى الله عنه : أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : «نعم ، إذا كثر الخبث» (٣).

قال القشيري ، فى معنى الآية : احذروا أن ترتكبوا زلّة توجب لكم عقوبة لا تخص مرتكبها ، بل يعمّ شؤمها من تعاطاها ومن لم يتعاطاها. وغير المجرم لا يؤخذ بجرم من أذنب ، ولكن قد ينفرد واحد بجرم فيحمل أقوام من المختصين بفاعل هذا الجرم ، كأن يتعصبوا له إذا أخذ بحكم ذلك الجرم ، فبعد ألا يكونوا ظالمين يصيرون ظالمين بمعاونتهم وتعصبهم لهذا الظالم ؛ فتكون فتنة لا تختص بمن كان ظالما فى الحال ، بل تصيب أيضا ظالما فى المستقبل ؛ بسبب تعصبه لهذا الظالم ، ورضاه به. ه. وسيأتى تمامه فى الإشارة.

وحكى الطبري أنها نزلت فى على بن أبى طالب وعمار بن ياسر وطلحة والزبير ، وأن الفتنة ما جرى لهم يوم الجمل. ه. قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن ارتكب معاصيه وتسبب فى فتنة غيره.

الإشارة : فى القشيري ، لما تكلم على تفسير الظاهر ، قال : وأما من جهة الإشارة فإن العبد إذا باشر زلّة بنفسه عادت إلى القلب منها الفتنة ، وهى العقوبة المعجلة ، ونصيب النفس من الفتنة العقوبة ، والقلب إذا حصلت

__________________

(١) من الآية ١٨ من سورة النمل.

(٢) أخرجه بلفظ مقارب الإمام أحمد فى المسند (٥ / ٣٨٨). والترمذي فى (الفتن ـ باب ما جاء فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) وحسنه. من حديث حذيفة بن اليمان. ولفظ الترمذي : «والذي نفسى بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم».

(٣) أخرجه البخاري فى (المناقب ، باب علامات النبوة فى الإسلام) عن أم المؤمنين زينب بنت جحش مطولا. وفيه السائلة : زينب ، وليست عائشة ـ رضى الله عن أزواجه نبينا الطاهرات.

٣٢٠